مختارات
18/09/2013

الاعتصامُ بحبلِ الله.. مبدأٌ وآليّات

الاعتصامُ بحبلِ الله.. مبدأٌ وآليّات

يمثّل الاعتصامُ بحبلِ الله عنوان الأمر الإلهيّ الدّائم للمؤمنين على امتداد العصور. يقول تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[آل عمران: 103]، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[آل عمران: 105].

ولكنَّنا نحتاجُ هنا إلى أن ننزلَ من العنوان والشّعارِ إلى الواقع العمليّ؛ لأنَّ العناوين العامَّة، والشّعارات الكلّية، لا تكفي وحدَها في تحديد خطوط السّير على ضوء ما أمرَ اللهُ تعالى به ونهى عنه؛ بل قد تعيشُ تلك العناوين والشّعارات نوعاً من الضبابيّة في التّطبيق، تبعاً لكثير من الأهواء، أو الأفهام الخاطئة، الّتي قد يقعُ فيها المُسلمُ، بما قد يؤدّي به إلى أن يعطّل الآية الكريمة الآمرة بالاعتصام بحبل الله، فلا يجد لها تطبيقاً في واقعٍ يضخّ للمسلمين كلّ ما يبعثُ على التفرّق والتمزّق؛ بل ويدفع باتّجاه هتك الأعراض وسفك الدّماء ـ والعياذُ بالله!ـ.

وفي ما يلي، نطرح عدّة نقاطٍ للتأمّل، لعلّنا نستطيع من خلالها أن نوضحَ بعضاً من تلك الخطوط:

أوّلاً: التّعبير بحبل الله فيه إشارةٌ لطيفةٌ إلى كلّ ما يصلُ الإنسان بالله تعالى، ويجعله في ثباتٍ من الاهتزاز والفتن؛ لأنَّ الله تعالى هو محورُ الثّبات في هذا الوجودِ، ولا شكّ في أنّ القرآن الكريم هو المصداق الحقيقيّ لهذا الحبل، وهو ما نطق به الحديث المرويّ عن النبيّ الأكرم محمّدٍ(ص): "إنّي تاركٌ فيكم الثّقلين؛ أحدهما أكبرُ من الآخر: كتاب الله؛ حبلٌ ممدودٌ من السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي..." الحديث.

وممّا لا شكّ فيه، أنّ الاعتصامَ يفترضُ أن يكون لدينا وضوحٌ في المدلول القرآني، وهو الأمر الّذي يحصل بانكباب المسلمين على تفسير القرآن والتعمّق في فهمه. وبحمدِ الله، فإنَّ المكتبةَ الإسلاميَّة زاخرةٌ بألوان التَّفاسير، على امتداد العصور والأزمنة، وهو ما يعكسُ غنىً كبيراً في هذا المجال.

إلا أنّنا قد نصطدمُ هنا باختلاف الاجتهادات في فهم الآيات، سواء كان ذلك ناشئاً من التَّفسير بالمأثور الّذي قد يُصحِّحُ فيه مجتهدٌ روايةً لا يراها الآخر صحيحةً، أو كان ناشئاً من الفهم الاجتهاديّ للآية، بحيث قد يفهم منها مجتهدٌ مفسّرٌ ما لا يفهمُهُ آخرُ.

ولكنَّنا نحسبُ أنّنا إذا فرَّقنا هنا بين مستويين، فإنَّ بإمكاننا أن نتجاوز هذه المسألة عمليّاً؛ لأنّ اختلاف التّفاسير في فهم آيةٍ هنا أو هناك، غالباً ما يحتفظُ بقدرٍ مشتركٍ يمثّل الدّرس العمليّ للآية لحياتنا، بما قد يتَّصل بمفرداتٍ اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو أمنيّة أو فكريّة على مستوى المنهج أو ما إلى ذلك، بحيث يجعل التّطبيق واحداً على صعيد الواقع، وبذلك يمثّل عنصر التقاءٍ بين المسلمين. هذا، مع أنَّ ذلك لا يرقى إلى أن يمثّل نسبةً كبيرةً في هذا المجال.

ولو تأمّلنا في ما روي من مناسبات النزول، لوجدنا أنّ الاختلاف يصلُ فيها إلى حدّ التباين أحياناً في تحديد مناسبةٍ للنزول، ويكونُ لدينا في المقام أكثر من احتمالٍ، ولكنّ هذا لا يؤثّر في التطبيق العمليّ للآية إذا أردناها أن تحكم خطّاً عمليّاً من خطوط الواقع الّذي نعيشُ فيه.

ويبقى أن نُشير إلى ضرورة التّدقيق في مناسبات النزول المرويّة؛ لأنّ بعضَها قد يكون اجتهادات في تطبيق الآية أو الآيات، ولا يعكس الظّرف الحقيقيّ الّذي نزل فيه القرآن؛ كما أنّ المناسبة لا تجعل مدلول الآية محصوراً في ظرفها، بل إنّما يشكّل الظّرفُ مناسبةً للنزول، لكي تنطلق الآية من واقعٍ معيّن يشتملُ على عناصر أساسيّة تتضمّنها الآية أو الآيات، ليأخذ مداه التّطبيقيّ في مصاديقَ متنوّعة في مدى الزّمن، تجمعها مضامين الآية وعناصرها الّتي تشير إليها.

ثانياً: ينبغي أن يُحرّم المسلمون على أنفسهم أن يتراشقوا ـ نتيجة الاحتقان المذهبيّ ـ بالرّوايات الّتي تناقلتها كتب الحديث لديهم، حول نقصان القرآن أو تحريفه أو ما أشبه ذلك، بما يؤدّي إلى التّشكيك العامّ في سلامة النصّ القرآني. والحالُ، أنّ المسلمين جميعاً، سنّةً وشيعة وغيرهم، مُجمِعون على أنّ ما بين أيدي المسلمين جميعاً هو كتابُ الله المنزل على رسولِه، والّذي تكفّل الله بحفظه، حيث قال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، لم يُزدْ فيه ولم يُنقصْ، وما سوى ذلك شاذٌّ من القولِ لم يعبأ به الأعمّ السّاحقُ من أهل العلمِ.

إنّ التّراشق الجاري في الإعلام وعلى مواقع التّواصل الاجتماعي والإنترنت عموماً، والّذي يعتمدُ أسلوب تسجيل النّقاط حتّى بما لا يلتزم به الخصمُ، له مفاعيلُ سلبيّةٌ كبيرةٌ على الذّهنيّة العامّة للنّاشئة، الّتي تترسَّبُ لديها الشّكوك، وإن لم تطفُ الآن بقوّة على السّطح نتيجة أكثر من عاملٍ، حول سلامة القرآن نفسه؛ الأمر الّذي قد يُفقد المسلمين الأرض الصّلبة المشتركة التي تمثّل القاعدة الفكريّة والإيمانيّة والحضاريّة الّتي تضبطُ حركتهم.

وممّا لا شكّ فيه، أنّ لادّعاءات نقص القرآن، مؤشّراتٍ في بعض كتب الحديث لدى الفريقين، ففي كتب الحديث الّتي يرويها المحدّثون الشّيعة، بعضُ الروايات التي تتحدّث عن بعضِ سورٍ محذوفة، كما يُسمّى بسورة الولاية مثلاً، وفي كتب الحديث الّتي يرويها المحدّثون السنّة، بعضُ الروايات التي تتحدّث عن نقصان بعض السّور، كالأحزابِ، أو بعض الآيات كآيةِ الرّجمِ؛ وما إلى ذلك؛ مع أنّ اللافت أنّ أحداً من هؤلاء وأولئك، حتّى أصحاب المجاميع الحديثيّة أنفسهم، لم يتجرّأ على أن يكتبَ له قرآناً يُثبتُ فيه ما يرويه، ما يدلُّ على أنّ إيراد الرّواية ناشئٌ من اعتبارات مرتبطة بمنهجيّة تصنيف كتب الحديث، أو بذهنيّةٍ لها علاقة بالنّقلِ، أكثر من ارتباطها بتبنّي الرأي في هذا المجال.

لن أطيلَ في التّحليل، حتّى لا ننزلقَ إلى ما حذّرنا منه، ولكنّنا نقول: أصبحنا في عصرٍ مفتوحٍ، لا يجوز لأحدٍ أن يتذرّع بالأفكار المسبقة الّتي تتناقلها المذاهب والفرقُ عن بعضها البعض، لكي يُمارسَ دور الجاهل أو التّجهيل، وخصوصاً تجاه قضايا حسّاسة وخطيرة، كسلامة النّصّ القرآنيّ، بل بإمكان الجميع الاطّلاع ـ بإنصافٍ ـ على ما عند الجميع، وأن يدفعنا الإخلاص للقرآن الكريم، إلى التنبيه على الأخطاء الّتي يقع فيها أيٌّ منّا في مقاربة هذه المسألة الّتي دخلَ فيها كثيرٌ من عناصر العصبيّة المذهبيّة، بما يؤدّي إلى الوضوح لدى الجميع في الالتزام بالقرآن، بدلاً من اتّباع الهوى الّذي يريد أن يسجّل نقطةً لحسابه على الآخر، بما يؤدِّي إلى إخراجه من الدّين حتّى وهو لا يلتزمُ بما نسجّل عليه فيه.

ثالثاً: نستطيع أن نخلصَ إلى أنّ الاعتصام بحبل الله ـ مع اختلاف الاجتهادات التّفسيريّة في فهم الدّلالات القرآنيّة ـ يمثّل العودة إلى المشتركات الّتي يتّفق عليها المسلمون، أمّا الأمور الّتي يُختلف عليها، فيُمكن أن تكون جزءاً من الحوار العلميّ والنّقاش الموضوعيّ الّذي يمكنه الانتظار ريثما تتقارب وجهات النّظر؛ بل يُمكن أن نتحمّل فيه أن لا تتقارب، على طريقة ما ذكره الله تعالى: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾[هود: 118].

أمّا أن نجمّد كلّ الواقع الّذي نعيش فيه حتّى نوحّد رؤانا الفكريّة، أو اجتهاداتنا النظريّة، فهذا خلافُ سنّة الله في خلقه، وهو الفسادُ بعينه، وإقحامٌ للواقع في آليّات الإلغاء والتّكفير الّذي هو مدخلٌ من مداخل الشّيطان.

وفي هذا المجال نقول، إنّ مبدأ "الوحدة الإسلاميّة" لا يعني أن يتنازل أهل كلّ مذهبٍ عن قناعاتهم لمصلحة الطّرف الآخر، بل يعني أن نعزِّز حضور المشتركات في واقعنا، وأن نتحاور فيما نختلف فيه، كجزءٍ من الحركة الفكريّة والثقافيّة الّتي تغتني بالفكر الآخر في رحلة البحث عن الحقيقة.

هذا فضلاً عن أنّ روحيّة المسلم الحقيقيّ هي روحيّة الدّاعية الّتي تحثّه على إدارة الحوار الهادئ والموضوعيّ مع الطّرف الآخر، إذا كان يرى أنّه على ضلالٍ؛ وبهذا ينفتح المجال الإسلاميّ على تلاقح الأفكار، وشيئاً فشيئاً، تضيق المسافات الّتي غذّاها الجهل المشترك والدّعاية الإعلاميّة بين أصحاب المذاهب الإسلاميّة المتنوّعة.

رابعاً: من الآليّات الّتي ترتبط بالجانب المعرفي الّذي يؤثّر في الجانب العمليّ، ضرورة عرض الأحاديث والمرويّات على كتاب الله؛ لأنَّ الرّسولَ لا يخالفُ الكتابَ؛ وهذا ما يجعلنا نضبط كثيراً من المكذوبات والموضوعات من الرّوايات، أو يجعلنا نضبطُ إطار الدّلالة الواردة في الرّوايات انطلاقاً من دلالات القرآن الكريم؛ لأنّنا قد نجد ـ بكلّ أسفٍ ـ أنّنا جميعاً قد ننزلق إلى إطلاقاتٍ وردت في السنّة الشّريفة، فنكفّر على أساسها فرقاً ومذاهب بأسرها، في حين لو عرضنا ذلك على كتاب الله، فإنّنا قد نخلص إلى أنّها مقيّدات بظروفها، أو أنّها تفسّر تفسيراً آخر؛ لأنّ ما يرد في الحديث لا ينبغي أن يناقض ما يردُ في القرآن.

إنّ ذهنيّتنا، سنّةً وشيعة، تكاد تكون روائيّة أخباريّة أكثرَ منها قرآنيّة، وخصوصاً فيما يرتبط بواقع العلاقات بين النّاس، أو ينسجمُ مع واقع العصبيّات الّتي توارثناها من كلّ تاريخنا المأزوم. ولا يبعد أنّنا نعيش نوعاً من التّقصير تجاه القرآن في هذا المجال، مع أنّنا نُدركُ أنَّ فهم السنَّة في منطلقاتها وقواعدها يمرّ من خلال فهم القرآن، الّذي يمثّل التّأسيس النّظريّ لحركة الرّسول، ومعه جيل الرّسالة الأوّل من آل البيت والأصحاب، ولا يمكن فهم التّطبيقات إلا من خلال ردّها إلى قواعدها.

أخيراً: من أهمِّ الأمور الّتي ينبغي أن يرجع فيها المسلمون إلى القرآن الكريم، والّتي تمثِّل ـ بلا شكّ ـ مشتركاً واضحاً بينهم، هي آليَّة التَّعامل مع التّاريخ؛ ذلك أنّ القرآن الكريم حدّدها في آيتين: الأولى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[البقرة: 134] ؛ والثّانية: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾[يوسف: 111]، لنخلص منهما إلى أنَّ مسؤوليّتنا هي صناعة حاضرنا، وصوغه على ضوء تعاليم الله ورسوله، وأنَّ علاقتنا مع التّاريخ هي علاقة العبرة الّتي قد تطلّ على القدوةِ فيمن يُقتدى به، وعلى التّطبيقات السلبيّة في النّماذج السيّئة.

وهبْ أنّنا نختلفُ كمسلمين على تقويمنا لبعض الشخصيّات الرساليّة التاريخيّة، وربّما لن يقنعَ بعضُنا بعضاً بوجهة نظره لأسبابٍ وعوامل عديدة، ولكنَّنا إذا طبّقنا المنهج القرآنيّ، اعتبرنا أنّ أيّاً منّا سيأخذ من الشخصيّة المقدَّسة عنده العناصر القيميّة التي تمثّل تطبيقاً لآية كريمةٍ أو لسنّةٍ شريفةٍ، بما يفيده في التّعامل مع واقعه المعاصر، استناداً إلى انتمائه إلى الإسلام وإلى قيمه وأخلاقه.

وهبْ أنّ بعضَنا قد يُناقشُ في المرويّات الّتي تنقل فضائلَ هذه الشخصيّة أو تلك، ممّا ينبغي أن يخضع للمنهج العلميّ في قبول الرّوايات ورفضها...

إلا أنّنا نقول: إنّ أيّ شخصيّة إسلاميّة تاريخيّة يعتبرُها أتباعُ هذا المذهب أو ذاك شخصيّة رمزيّة بالنّسبة إليه، فالمبرّر لاعتبارها رمزاً أنّها تجسّد قيم الإسلام في هذا الموقف أو ذاك السّلوك أو ذلك المجال، فيعمد إلى استحضارها من أجل أن يتمثّل القيمة متجسِّدة في سلوك الرّمز، ليتّخذه قدوةً له في حياته المعاصرة في تعامله مع النّاس الّذين يريد أن يتَّخذ منهم موقفاً، أو يسلك معهم مسلكاً أو ما إلى ذلك.

ولكنّنا، مع كلّ الأسف، قد نجد أنَّنا لا نعيشُ ذرّة في الأخلاق الإسلاميّة في تعاملنا مع بعضِنا البعضِ، باسم الرّموز الّذين نعتبر أنّ حياتهم كانت زاخرةً بالانفتاح على الآخرين الّذين يختلفون في الرّأي، وكانت غفراناً لأخطائهم، وإقالةً لعثراتهم، ورحمةً بضعفهم، وما إلى ذلك؛ وهذا يعني أنّ الذهنيّة العصبيَّة قد عمدت إلى تفريغ الشخصيَّة الرمزيَّة من أيّ قيمةٍ إسلاميَّة، وحوّلناها إلى ما يُشبه الأصنام، نعبُدها من دون الله، بدلاً من أن تكون قاعدةً لعبادة الله وحده لا شريك له، وللالتزام بخطّ الله وتعاليمه.

لقد استند الخلاف المذهبيّ إلى الاختلاف حول مسألة الخلافة، وتلك مسألةٌ مفتوحةٌ على المزيد من الخلاف النّظريّ الاجتهاديّ بين المسلمين؛ ولكنّ جزءاً أساسيّاً ممّا يعنينا من استعادة تلك المرحلة الزمنيّة من تاريخ الإسلام الأوّل، هو كيف أدار المسلمون، وعلى رأسهم عليّ بن أبي طالب وأبو بكرٍ وعمر وغيرهم، تلك المرحلة؟ وكيفَ رفضَ عليٌّ نُصرة أبي سفيان عندما جاء عارضاً عليه أن يملأها عليهم خيلاً ورجلاً؟ وكيف تصرّف الإمام عليّ ـ وهو صاحبُ الحقّ في الخلافةِ ـ عندما رأى "راجعة النَّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محقِ دينِ محمّد (ص)"؟ ثمّ كيف تعاون مع الخلفاء الّذين بايعهم النّاسُ لحفظ الإسلام عقيدةً وشريعةً وخطّاً وكياناً؟ وكيف اعترفَ الخلفاءُ لعليٍّ بعلمِهِ ومعرفته بالإسلام، فقال عمرُ: "لولا عليّ لهلك عمرُ"...

من منَّا اليومَ يعترفُ للآخر بإيجابيَّةٍ؟! أو بموقفٍ صائبٍ؟! أو بأحقيَّة مسارٍ؟! حتَّى إنَّ البعضَ يُعلنُ استعدادَهُ عن التَّنازل عن أقدسِ قضيَّة إسلاميَّة، وهي فلسطين، إذا كانت ستتحرّرُ على أيدي أتباع هذا المذهب أو ذاك! وبعضُنا تاه عن أصل القضيّة باعتبار أنَّ أصحابها هم من أهل المذهب الآخر!.

إنّ القرآن هو أوّل قاعدةٍ لتصالح المسلمين على تاريخهم؛ لأنّ الوجهة إذا كانت عبادة الله وحدَه، وإتّباع سنّة رسول الله، فإنّ كلّ الشخصيّات الرّمزيّة لا بدَّ من أن تكون الطّريق إلى ذلك، وما لا يوافق ذلك من مواقفها أو أقوالها أو مسالكها، كيفَ يُمكن الأخذ به بحجّة انتمائه إلى المذهب؟!.

هذه بعضُ أفكارٍ نرجو أن تفتح نافذةً للتَّفكير المشترك، لعلَّنا نضيء شمعةً بدلاً من لغة اللَّعن للظَّلام الّتي أدمنَّاها، والّتي تفوِّت علينا فرصة رؤية نقاط الضَّوء الّتي تتجمَّع كالنّجوم في سواد السَّماء، ريثما يطلع الفجر على اسم الله وهديه؛ والله من وراء القصد.

المصدر: مجلَّة الوحدة الإسلاميَّة


يمثّل الاعتصامُ بحبلِ الله عنوان الأمر الإلهيّ الدّائم للمؤمنين على امتداد العصور. يقول تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[آل عمران: 103]، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[آل عمران: 105].

ولكنَّنا نحتاجُ هنا إلى أن ننزلَ من العنوان والشّعارِ إلى الواقع العمليّ؛ لأنَّ العناوين العامَّة، والشّعارات الكلّية، لا تكفي وحدَها في تحديد خطوط السّير على ضوء ما أمرَ اللهُ تعالى به ونهى عنه؛ بل قد تعيشُ تلك العناوين والشّعارات نوعاً من الضبابيّة في التّطبيق، تبعاً لكثير من الأهواء، أو الأفهام الخاطئة، الّتي قد يقعُ فيها المُسلمُ، بما قد يؤدّي به إلى أن يعطّل الآية الكريمة الآمرة بالاعتصام بحبل الله، فلا يجد لها تطبيقاً في واقعٍ يضخّ للمسلمين كلّ ما يبعثُ على التفرّق والتمزّق؛ بل ويدفع باتّجاه هتك الأعراض وسفك الدّماء ـ والعياذُ بالله!ـ.

وفي ما يلي، نطرح عدّة نقاطٍ للتأمّل، لعلّنا نستطيع من خلالها أن نوضحَ بعضاً من تلك الخطوط:

أوّلاً: التّعبير بحبل الله فيه إشارةٌ لطيفةٌ إلى كلّ ما يصلُ الإنسان بالله تعالى، ويجعله في ثباتٍ من الاهتزاز والفتن؛ لأنَّ الله تعالى هو محورُ الثّبات في هذا الوجودِ، ولا شكّ في أنّ القرآن الكريم هو المصداق الحقيقيّ لهذا الحبل، وهو ما نطق به الحديث المرويّ عن النبيّ الأكرم محمّدٍ(ص): "إنّي تاركٌ فيكم الثّقلين؛ أحدهما أكبرُ من الآخر: كتاب الله؛ حبلٌ ممدودٌ من السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي..." الحديث.

وممّا لا شكّ فيه، أنّ الاعتصامَ يفترضُ أن يكون لدينا وضوحٌ في المدلول القرآني، وهو الأمر الّذي يحصل بانكباب المسلمين على تفسير القرآن والتعمّق في فهمه. وبحمدِ الله، فإنَّ المكتبةَ الإسلاميَّة زاخرةٌ بألوان التَّفاسير، على امتداد العصور والأزمنة، وهو ما يعكسُ غنىً كبيراً في هذا المجال.

إلا أنّنا قد نصطدمُ هنا باختلاف الاجتهادات في فهم الآيات، سواء كان ذلك ناشئاً من التَّفسير بالمأثور الّذي قد يُصحِّحُ فيه مجتهدٌ روايةً لا يراها الآخر صحيحةً، أو كان ناشئاً من الفهم الاجتهاديّ للآية، بحيث قد يفهم منها مجتهدٌ مفسّرٌ ما لا يفهمُهُ آخرُ.

ولكنَّنا نحسبُ أنّنا إذا فرَّقنا هنا بين مستويين، فإنَّ بإمكاننا أن نتجاوز هذه المسألة عمليّاً؛ لأنّ اختلاف التّفاسير في فهم آيةٍ هنا أو هناك، غالباً ما يحتفظُ بقدرٍ مشتركٍ يمثّل الدّرس العمليّ للآية لحياتنا، بما قد يتَّصل بمفرداتٍ اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو أمنيّة أو فكريّة على مستوى المنهج أو ما إلى ذلك، بحيث يجعل التّطبيق واحداً على صعيد الواقع، وبذلك يمثّل عنصر التقاءٍ بين المسلمين. هذا، مع أنَّ ذلك لا يرقى إلى أن يمثّل نسبةً كبيرةً في هذا المجال.

ولو تأمّلنا في ما روي من مناسبات النزول، لوجدنا أنّ الاختلاف يصلُ فيها إلى حدّ التباين أحياناً في تحديد مناسبةٍ للنزول، ويكونُ لدينا في المقام أكثر من احتمالٍ، ولكنّ هذا لا يؤثّر في التطبيق العمليّ للآية إذا أردناها أن تحكم خطّاً عمليّاً من خطوط الواقع الّذي نعيشُ فيه.

ويبقى أن نُشير إلى ضرورة التّدقيق في مناسبات النزول المرويّة؛ لأنّ بعضَها قد يكون اجتهادات في تطبيق الآية أو الآيات، ولا يعكس الظّرف الحقيقيّ الّذي نزل فيه القرآن؛ كما أنّ المناسبة لا تجعل مدلول الآية محصوراً في ظرفها، بل إنّما يشكّل الظّرفُ مناسبةً للنزول، لكي تنطلق الآية من واقعٍ معيّن يشتملُ على عناصر أساسيّة تتضمّنها الآية أو الآيات، ليأخذ مداه التّطبيقيّ في مصاديقَ متنوّعة في مدى الزّمن، تجمعها مضامين الآية وعناصرها الّتي تشير إليها.

ثانياً: ينبغي أن يُحرّم المسلمون على أنفسهم أن يتراشقوا ـ نتيجة الاحتقان المذهبيّ ـ بالرّوايات الّتي تناقلتها كتب الحديث لديهم، حول نقصان القرآن أو تحريفه أو ما أشبه ذلك، بما يؤدّي إلى التّشكيك العامّ في سلامة النصّ القرآني. والحالُ، أنّ المسلمين جميعاً، سنّةً وشيعة وغيرهم، مُجمِعون على أنّ ما بين أيدي المسلمين جميعاً هو كتابُ الله المنزل على رسولِه، والّذي تكفّل الله بحفظه، حيث قال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، لم يُزدْ فيه ولم يُنقصْ، وما سوى ذلك شاذٌّ من القولِ لم يعبأ به الأعمّ السّاحقُ من أهل العلمِ.

إنّ التّراشق الجاري في الإعلام وعلى مواقع التّواصل الاجتماعي والإنترنت عموماً، والّذي يعتمدُ أسلوب تسجيل النّقاط حتّى بما لا يلتزم به الخصمُ، له مفاعيلُ سلبيّةٌ كبيرةٌ على الذّهنيّة العامّة للنّاشئة، الّتي تترسَّبُ لديها الشّكوك، وإن لم تطفُ الآن بقوّة على السّطح نتيجة أكثر من عاملٍ، حول سلامة القرآن نفسه؛ الأمر الّذي قد يُفقد المسلمين الأرض الصّلبة المشتركة التي تمثّل القاعدة الفكريّة والإيمانيّة والحضاريّة الّتي تضبطُ حركتهم.

وممّا لا شكّ فيه، أنّ لادّعاءات نقص القرآن، مؤشّراتٍ في بعض كتب الحديث لدى الفريقين، ففي كتب الحديث الّتي يرويها المحدّثون الشّيعة، بعضُ الروايات التي تتحدّث عن بعضِ سورٍ محذوفة، كما يُسمّى بسورة الولاية مثلاً، وفي كتب الحديث الّتي يرويها المحدّثون السنّة، بعضُ الروايات التي تتحدّث عن نقصان بعض السّور، كالأحزابِ، أو بعض الآيات كآيةِ الرّجمِ؛ وما إلى ذلك؛ مع أنّ اللافت أنّ أحداً من هؤلاء وأولئك، حتّى أصحاب المجاميع الحديثيّة أنفسهم، لم يتجرّأ على أن يكتبَ له قرآناً يُثبتُ فيه ما يرويه، ما يدلُّ على أنّ إيراد الرّواية ناشئٌ من اعتبارات مرتبطة بمنهجيّة تصنيف كتب الحديث، أو بذهنيّةٍ لها علاقة بالنّقلِ، أكثر من ارتباطها بتبنّي الرأي في هذا المجال.

لن أطيلَ في التّحليل، حتّى لا ننزلقَ إلى ما حذّرنا منه، ولكنّنا نقول: أصبحنا في عصرٍ مفتوحٍ، لا يجوز لأحدٍ أن يتذرّع بالأفكار المسبقة الّتي تتناقلها المذاهب والفرقُ عن بعضها البعض، لكي يُمارسَ دور الجاهل أو التّجهيل، وخصوصاً تجاه قضايا حسّاسة وخطيرة، كسلامة النّصّ القرآنيّ، بل بإمكان الجميع الاطّلاع ـ بإنصافٍ ـ على ما عند الجميع، وأن يدفعنا الإخلاص للقرآن الكريم، إلى التنبيه على الأخطاء الّتي يقع فيها أيٌّ منّا في مقاربة هذه المسألة الّتي دخلَ فيها كثيرٌ من عناصر العصبيّة المذهبيّة، بما يؤدّي إلى الوضوح لدى الجميع في الالتزام بالقرآن، بدلاً من اتّباع الهوى الّذي يريد أن يسجّل نقطةً لحسابه على الآخر، بما يؤدِّي إلى إخراجه من الدّين حتّى وهو لا يلتزمُ بما نسجّل عليه فيه.

ثالثاً: نستطيع أن نخلصَ إلى أنّ الاعتصام بحبل الله ـ مع اختلاف الاجتهادات التّفسيريّة في فهم الدّلالات القرآنيّة ـ يمثّل العودة إلى المشتركات الّتي يتّفق عليها المسلمون، أمّا الأمور الّتي يُختلف عليها، فيُمكن أن تكون جزءاً من الحوار العلميّ والنّقاش الموضوعيّ الّذي يمكنه الانتظار ريثما تتقارب وجهات النّظر؛ بل يُمكن أن نتحمّل فيه أن لا تتقارب، على طريقة ما ذكره الله تعالى: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾[هود: 118].

أمّا أن نجمّد كلّ الواقع الّذي نعيش فيه حتّى نوحّد رؤانا الفكريّة، أو اجتهاداتنا النظريّة، فهذا خلافُ سنّة الله في خلقه، وهو الفسادُ بعينه، وإقحامٌ للواقع في آليّات الإلغاء والتّكفير الّذي هو مدخلٌ من مداخل الشّيطان.

وفي هذا المجال نقول، إنّ مبدأ "الوحدة الإسلاميّة" لا يعني أن يتنازل أهل كلّ مذهبٍ عن قناعاتهم لمصلحة الطّرف الآخر، بل يعني أن نعزِّز حضور المشتركات في واقعنا، وأن نتحاور فيما نختلف فيه، كجزءٍ من الحركة الفكريّة والثقافيّة الّتي تغتني بالفكر الآخر في رحلة البحث عن الحقيقة.

هذا فضلاً عن أنّ روحيّة المسلم الحقيقيّ هي روحيّة الدّاعية الّتي تحثّه على إدارة الحوار الهادئ والموضوعيّ مع الطّرف الآخر، إذا كان يرى أنّه على ضلالٍ؛ وبهذا ينفتح المجال الإسلاميّ على تلاقح الأفكار، وشيئاً فشيئاً، تضيق المسافات الّتي غذّاها الجهل المشترك والدّعاية الإعلاميّة بين أصحاب المذاهب الإسلاميّة المتنوّعة.

رابعاً: من الآليّات الّتي ترتبط بالجانب المعرفي الّذي يؤثّر في الجانب العمليّ، ضرورة عرض الأحاديث والمرويّات على كتاب الله؛ لأنَّ الرّسولَ لا يخالفُ الكتابَ؛ وهذا ما يجعلنا نضبط كثيراً من المكذوبات والموضوعات من الرّوايات، أو يجعلنا نضبطُ إطار الدّلالة الواردة في الرّوايات انطلاقاً من دلالات القرآن الكريم؛ لأنّنا قد نجد ـ بكلّ أسفٍ ـ أنّنا جميعاً قد ننزلق إلى إطلاقاتٍ وردت في السنّة الشّريفة، فنكفّر على أساسها فرقاً ومذاهب بأسرها، في حين لو عرضنا ذلك على كتاب الله، فإنّنا قد نخلص إلى أنّها مقيّدات بظروفها، أو أنّها تفسّر تفسيراً آخر؛ لأنّ ما يرد في الحديث لا ينبغي أن يناقض ما يردُ في القرآن.

إنّ ذهنيّتنا، سنّةً وشيعة، تكاد تكون روائيّة أخباريّة أكثرَ منها قرآنيّة، وخصوصاً فيما يرتبط بواقع العلاقات بين النّاس، أو ينسجمُ مع واقع العصبيّات الّتي توارثناها من كلّ تاريخنا المأزوم. ولا يبعد أنّنا نعيش نوعاً من التّقصير تجاه القرآن في هذا المجال، مع أنّنا نُدركُ أنَّ فهم السنَّة في منطلقاتها وقواعدها يمرّ من خلال فهم القرآن، الّذي يمثّل التّأسيس النّظريّ لحركة الرّسول، ومعه جيل الرّسالة الأوّل من آل البيت والأصحاب، ولا يمكن فهم التّطبيقات إلا من خلال ردّها إلى قواعدها.

أخيراً: من أهمِّ الأمور الّتي ينبغي أن يرجع فيها المسلمون إلى القرآن الكريم، والّتي تمثِّل ـ بلا شكّ ـ مشتركاً واضحاً بينهم، هي آليَّة التَّعامل مع التّاريخ؛ ذلك أنّ القرآن الكريم حدّدها في آيتين: الأولى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[البقرة: 134] ؛ والثّانية: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾[يوسف: 111]، لنخلص منهما إلى أنَّ مسؤوليّتنا هي صناعة حاضرنا، وصوغه على ضوء تعاليم الله ورسوله، وأنَّ علاقتنا مع التّاريخ هي علاقة العبرة الّتي قد تطلّ على القدوةِ فيمن يُقتدى به، وعلى التّطبيقات السلبيّة في النّماذج السيّئة.

وهبْ أنّنا نختلفُ كمسلمين على تقويمنا لبعض الشخصيّات الرساليّة التاريخيّة، وربّما لن يقنعَ بعضُنا بعضاً بوجهة نظره لأسبابٍ وعوامل عديدة، ولكنَّنا إذا طبّقنا المنهج القرآنيّ، اعتبرنا أنّ أيّاً منّا سيأخذ من الشخصيّة المقدَّسة عنده العناصر القيميّة التي تمثّل تطبيقاً لآية كريمةٍ أو لسنّةٍ شريفةٍ، بما يفيده في التّعامل مع واقعه المعاصر، استناداً إلى انتمائه إلى الإسلام وإلى قيمه وأخلاقه.

وهبْ أنّ بعضَنا قد يُناقشُ في المرويّات الّتي تنقل فضائلَ هذه الشخصيّة أو تلك، ممّا ينبغي أن يخضع للمنهج العلميّ في قبول الرّوايات ورفضها...

إلا أنّنا نقول: إنّ أيّ شخصيّة إسلاميّة تاريخيّة يعتبرُها أتباعُ هذا المذهب أو ذاك شخصيّة رمزيّة بالنّسبة إليه، فالمبرّر لاعتبارها رمزاً أنّها تجسّد قيم الإسلام في هذا الموقف أو ذاك السّلوك أو ذلك المجال، فيعمد إلى استحضارها من أجل أن يتمثّل القيمة متجسِّدة في سلوك الرّمز، ليتّخذه قدوةً له في حياته المعاصرة في تعامله مع النّاس الّذين يريد أن يتَّخذ منهم موقفاً، أو يسلك معهم مسلكاً أو ما إلى ذلك.

ولكنّنا، مع كلّ الأسف، قد نجد أنَّنا لا نعيشُ ذرّة في الأخلاق الإسلاميّة في تعاملنا مع بعضِنا البعضِ، باسم الرّموز الّذين نعتبر أنّ حياتهم كانت زاخرةً بالانفتاح على الآخرين الّذين يختلفون في الرّأي، وكانت غفراناً لأخطائهم، وإقالةً لعثراتهم، ورحمةً بضعفهم، وما إلى ذلك؛ وهذا يعني أنّ الذهنيّة العصبيَّة قد عمدت إلى تفريغ الشخصيَّة الرمزيَّة من أيّ قيمةٍ إسلاميَّة، وحوّلناها إلى ما يُشبه الأصنام، نعبُدها من دون الله، بدلاً من أن تكون قاعدةً لعبادة الله وحده لا شريك له، وللالتزام بخطّ الله وتعاليمه.

لقد استند الخلاف المذهبيّ إلى الاختلاف حول مسألة الخلافة، وتلك مسألةٌ مفتوحةٌ على المزيد من الخلاف النّظريّ الاجتهاديّ بين المسلمين؛ ولكنّ جزءاً أساسيّاً ممّا يعنينا من استعادة تلك المرحلة الزمنيّة من تاريخ الإسلام الأوّل، هو كيف أدار المسلمون، وعلى رأسهم عليّ بن أبي طالب وأبو بكرٍ وعمر وغيرهم، تلك المرحلة؟ وكيفَ رفضَ عليٌّ نُصرة أبي سفيان عندما جاء عارضاً عليه أن يملأها عليهم خيلاً ورجلاً؟ وكيف تصرّف الإمام عليّ ـ وهو صاحبُ الحقّ في الخلافةِ ـ عندما رأى "راجعة النَّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محقِ دينِ محمّد (ص)"؟ ثمّ كيف تعاون مع الخلفاء الّذين بايعهم النّاسُ لحفظ الإسلام عقيدةً وشريعةً وخطّاً وكياناً؟ وكيف اعترفَ الخلفاءُ لعليٍّ بعلمِهِ ومعرفته بالإسلام، فقال عمرُ: "لولا عليّ لهلك عمرُ"...

من منَّا اليومَ يعترفُ للآخر بإيجابيَّةٍ؟! أو بموقفٍ صائبٍ؟! أو بأحقيَّة مسارٍ؟! حتَّى إنَّ البعضَ يُعلنُ استعدادَهُ عن التَّنازل عن أقدسِ قضيَّة إسلاميَّة، وهي فلسطين، إذا كانت ستتحرّرُ على أيدي أتباع هذا المذهب أو ذاك! وبعضُنا تاه عن أصل القضيّة باعتبار أنَّ أصحابها هم من أهل المذهب الآخر!.

إنّ القرآن هو أوّل قاعدةٍ لتصالح المسلمين على تاريخهم؛ لأنّ الوجهة إذا كانت عبادة الله وحدَه، وإتّباع سنّة رسول الله، فإنّ كلّ الشخصيّات الرّمزيّة لا بدَّ من أن تكون الطّريق إلى ذلك، وما لا يوافق ذلك من مواقفها أو أقوالها أو مسالكها، كيفَ يُمكن الأخذ به بحجّة انتمائه إلى المذهب؟!.

هذه بعضُ أفكارٍ نرجو أن تفتح نافذةً للتَّفكير المشترك، لعلَّنا نضيء شمعةً بدلاً من لغة اللَّعن للظَّلام الّتي أدمنَّاها، والّتي تفوِّت علينا فرصة رؤية نقاط الضَّوء الّتي تتجمَّع كالنّجوم في سواد السَّماء، ريثما يطلع الفجر على اسم الله وهديه؛ والله من وراء القصد.

المصدر: مجلَّة الوحدة الإسلاميَّة


اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية