وأوى (السيّد) إلى "الغار" في أسفلِ المسجدِ، بعد أن سقى المؤمنين الصامدين، كما المجاهدين المدافعين عن ثغور الأمّةِ، جرعةً روحيّة عاشوا فيها المعنى الحقيقيّ للارتباط بالله، ولامسوا فيها الأجواء التي أرادت أن تخذّل المؤمنين مع النبيّ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[1].
الجمعة 14 تمّوز: "الغارُ" والسكينةُ
وهنا محوريّة المسجد، وتحديداً بإمامة (السيّد)؛ تتنزّل آياتُ القرآن على منبرِهِ، لتقيمَ جسراً بين الحياة الآنَ وتلك التي عاشها المسلمون الأوائل، ولتربط بين حركة المجاهدين الآنَ وحركتهم في مراحل الرسالة الأولى، مع رسولِ اللهِ؛ إذ لا فضلَ سوى السبقِ إلى الإيمان، طالما أنّ منطلقات الحركة واحدة، وساحات الجهاد متّصلة.
كانَ دويُّ الطائرات لا يتوقّفُ، وقصفُ المباني السكنيّة لا يهدأ في الشوارع المحيطةِ بالمسجدِ في حارة حريك، وكلّما سقطَ مبنىً أو استُهدفُ موقعٌ بالقصفِ الجوّي، هرع الشبابُ إلى (السيّد) ليجدوه مستغرقاً في الكتابةِ، حتّى إذا رآهُم خائفينَ عليهِ بالدرجة الأولى، ارتسمت على وجهه ابتسامةُ المستخبرِ عمّا يجري في الخارجِ؛ وكأنّه في عالمٍ آخرَ!
هكذا يصفُ من مع (السيّد) طمأنينتَهُ في ذلك الوقتِ، تمثّلتْ معها أمامهم صورة من سكينةِ رسولِ الله {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة: 40].
تعودُ الذكرياتُ بأحدهم أكثر من ثلاثين سنةً إلى الوراء، حيثُ ألقى بعضُ العابثين قنبلةً صوتيّة في احتفالٍ يتحدّثُ فيه (السيّد) ليُسكتوهُ وليخرّبوا على الناس احتفالَهُم، وسادَ الهرجُ والمرجُ في القاعةِ و(السيّد) على المنبرِ يهدّئ من روعِ الحاضرينَ، حتّى إذا توازنت القاعةُ وسادَ شيءٌ من الطمأنينةِ، أكملَ (السيّدُ) خطابَهُ وكأنَّ الذي حصلَ طنينُ ذبابةٍ!
ويحلو لآخر أن يروي أيّامَ محاولاتِ الاغتيالِ التي كان يتعرّضُ لها (السيّد) حين كان سكنُهُ في منطقة الغبيري، في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، حيثُ كمنت له سيّارةٌ تابعةٌ للبعثِ العراقيّ الصدّامي أثناءَ طريقِهِ إلى درس التفسير في حسينيّة الشيّاح[2]، وانهمر الرصاصُ على موكبِ (السيّد)، ولم يكنْ للآثمين مرامُهم، كما لم يغيّروا شيئاً من برنامج (السيّد) الذي تابعَ طريقَهُ إلى محاضرتِهِ، حيث الناسُ بانتظارِهِ ولم يعرفوا شيئاً ممّا حصلَ إلا بعدَ حينٍ.
وبالعودةِ إلى يومِ الجُمُعةِ الذي كان ممّيزاً، يحكي الإخوة قصّةَ التلفاز الذي لم يكن موصولاً باشتراك القنواتِ الفضائيّة، فكان الطلبُ من (السيّدِ) أن يقوموا بجهدهم لكي يؤمّنوا ذلك، ولو تحت شيءٍ من الخطر الذي أحاط بالأجواء؛ لأنّ (السيّد) كان حريصاً دائماً على متابعةِ الأحداثٍ بشكل مباشرٍ؛ يتابعُ مختلفَ الآراء، حتّى إنّه كان يلفتُ معاونيهِ إلى بعضِ الأخبارِ والتعليقات في الصحفِ اليوميّة ممّا لم يلتفتوا إليه. وهذه تُعتبرُ إحدى أهمّ عناصر القيادة، الفكريّة وغيرها، والتي تجنّب القائد كثيراً من المنزلقات التي عادةً ما تحصل جرّاء الاعتماد الكامل على المعاونين والمستشارين والتقارير الواصلة من هنا وهناك.
وأذكُرُ هنا استراتيجيّة التفكير الحركيّ للسيّد، الذي كان يشدّد على الإسلاميّين منذ الثمانينيّات، أن يهتمّوا بالإعلام؛ لأنّ ضعف الإعلام يخسّرهم نصفَ المعارك التي يخوضونَها، بل قد يخسّرهم المعركة كلّها؛ علماً أنّ (السيّد) كان سبّاقاً في هذا المجال، حيث كانت إذاعة الإيمان تبثّ نشاطَ مسجد الإمام الرضا(ع) في بئر العبد[3]. وشيئاً فشيئاً، بدأت العدوى تنتشرُ في سائر مجالات العمل الإسلامي، لتبدأ مسيرةُ التطوّر الإعلاميّ للمقاومة متزامنة مع التطوّر الجهادي والعسكري والسياسي لها؛ لتحقّق النصرَ الكبير في العام 2000م، والنصر الاستراتيجيّ في العام 2006م، الذي كانَ للإعلامِ الحربيّ فيه نصفُ المعركةِ؛ بل ربّما أكثر. كما استشارتْهُ بعضُ الحركات الإسلاميّة في فلسطين في قواعد عملها الإعلاميّ، فكان له معها لقاءاتٌ مطوّلة نظّر فيها للعمل الإعلامي للحركة الإسلاميّة، فضلاً عن نقده الدائم لطريقة الإعلام التقليدي الذي كان يفوّت على الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران منذ السنوات الأولى لانتصار الثورة، كان يفوّت عليها فرصة مواجهة الدعاية الإعلاميّة الاستكباريّة السلبيّة ضدّ إيران، حيث كان الاستكبار العالمي يمتلك الإعلام المتطوّر الذي لا يمكن مواجهته بالإعلام التقليدي.
تدمير "ساعر" وانفتاحُ أفق النصرِ
وهكذا كان مساءُ الجمعةِ، وتحديداً في وقتِ نشرةِ أخبارِ المنارِ، على موعدٍ مع حدثٍ كان له وقعٌ كبيرٌ على الواقع النفسيّ للناس، والذي بدأ يُظلمُ شيئاً ما أمام اسوداد أفقِ المعركةِ التي كانت مفتوحةً على كلّ الاحتمالات... وكانت فرصةً للمخذّلينَ الذين بدأوا يبثّون ـ عن قصدٍ وعن غير قصدٍ ـ حالات من الإحباط واليأس، وبدأ الحديثُ عن إعادة احتلالٍ للبنانَ، وعن عودة المقاومة أكثرَ من عشرين عاماً إلى الوراء... واستعادَ الكثيرونَ آياتِ معركة الخندقِ مع رسولِ الله، حيثُ كان تحالُف الداخل والخارج في لبنان ضدّ المقاومةِ، يُشيرُ إلى تحالفِ أحزابِ المشركين بمعونةِ يهود المدينةِ على رسولِ الله وعلى الإسلامِ... {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[4]...
في ذلك الواقع الضاغط، بزغَ فجرُ الأملِ مع تدميرِ البارجة الحربيّة الإسرائيليّة (ساعر)، والذي تمّ على الهواءِ مباشرةً، بالتزامن مع كلمةٍ مباشرةٍ لأمين عام حزبِ اللهِ السيّد حسن نصر الله، لتشكّل بذلك نقطة الضوء التي اخترقت كلّ ظلام الأفق النفسي، وتضيءَ مع تدمير البارجة الأمل بتحقيق النصرِ..
كان (السيّد) يعرفُ التأثير الهائل التي تلعبُهُ الصورةُ التي تبثُّ على الهواء مباشرةً دخولَ سلاحٍ نوعيّ في معادلة كسر الإرادات، ولم يكن الموقفُ لينتظرَ حتّى يطلبَ (السيّد) أن يؤمّنوا اتّصالاً بالسيّد نصر الله، لينفتح الحديثُ معه على كلّ معاني التبريك والتثبيت والدعاء بالنصر، وكانَ أكثرُ ما يشغلُ بالَ (السيّد) الاطمئنانُ على المجاهدينَ وعلى سيرِ عمليّات المواجهة في الميدانِ...
السبت 15 تمّوز: ليلة "الهرير"
يعبّرُ الشبابُ عن اليومِ التالي (السبت)، وتحديداً في مسائه، بليلة الهرير؛ لشدّة التدمير الذي لحق بالمنطقةِ، ومع ذلك كان (السيّدُ) رابطَ الجأشِ، حتّى إنّه كان يقضي جزءاً من وقتِهِ بالكتابةِ، إيماناً منه بمسؤوليّة الفكر في مواكبة الساحة والمعركةِ، بكلّ قوّة وتوازنٍ والتزامٍ واستشرافٍ للمستقبلِ.
والكتابةُ تحت أصواتِ الصواريخ والقذائفِ لم تكن شيئاً جديداً على (السيّد)؛ فكتابُ (خطوات على طريق الإسلام) و(الحوار في القرآن)، و(الإسلام ومنطق القوّة)، كتبت على أضواء الشموعِ، وتحت أزيز الرصاص، وتفجّر القذائفِ أثناء الحرب اللبنانيّة الداخليّة التي بدأت في 1975م. واللافتُ عند (السيّد)، أنّ موضوع الكتابة عنده يتعالى فوق الأحداث، ويرتفعُ فوقَ انفعالاتها الجزئيّة، ليرسم مساراً للآتي من الأيّام والتحدّياتِ؛ ولذلك، لا تراهُ يكتُبُ كجزءٍ من انفعالِ المرحلة، أو انطلاقاً من مشاعرَ آنيّة قد يفرضها الكاتبُ على المسيرةِ، أو من غضبٍ شخصيّ يُلقي بظلالِ المزاج الذاتي على الكلمات والحروف... فإذا كانت آلةُ الحربِ تدمِّرُ البناءَ والحجرَ، فإنّها لن تقتلَ إرادةَ العالِمِ في أن يفكّرَ ويُنتجَ معنى الحضارةِ، ولن تقتلَ في المجاهدِ إرادةَ النصرِ، ولن تقتلَ في الناسِ إرادةَ الصمودِ.
وعندما يشتدُّ القصفُ الهمجيّ كان الإخوة المرافقونَ ينتقلونَ بالسيّد إلى مبنىً مجاورٍ ذي طبقاتٍ سفليّة زائدةٍ عن المكانِ الذي هو فيهِ، فكانَ يعلّقُ (السيّد): لا داعي... ولكنَّهُ ـ مع ذلك ـ يمتثلُ لأمر التوجيهات الأمنيّة، وكان كثيراً ما يمازحهم بقولِهِ: "ولاية الفقيه الأمنيّة"!
ومن المواقفِ التي يذكرُها الإخوة المرافقونَ، أنّ ساعاتِ النومِ القليلةِ للسيّد كانت باطمئنانٍ تامٍّ، حتّى في حالات القصفِ الشديدةِ.
تدميرُ منزل (السيّد)
منزلُ (السيّد) هو مكانُ عملِهِ؛ فيه استقبالُ الناسِ الذين لم يكونوا في حاجةٍ إلى موعدٍ خاصّ، يستمعُ (السيّد) إلى المرأة والطفلِ والشابِّ والشيخِ، ويقابلُ فيها وسائلَ الإعلامِ المحلّية والعالميّةِ، والشخصيّات السياسيّة والفاعليّات المتنوّعة... والمنزلُ أيضاً معهدٌ دراسيّ يلقي فيه (السيّد) محاضراتِهِ في الفقهِ والأصولِ على طلبة العلومِ الدينيّة، والمنزلُ هو المكتبةُ التي تحتضنُ تراثَ العلمِ الذي يتّصلُ بقلمِ (السيّد) في صلةٍ بين الفكرِ المعاصرِ والتراثِ، وتلكَ كانت الوصفةُ السحريّة لطبيعة فكرِ (السيّد): الأصالة والمعاصرة.
لم يكن تدميرُ المنزلِ في الأيّام الأولى للعدوانِ الصهيونيّ يمثّل للسيّد شيئاً، والذي كان سريع التكيّف مع المتغيّرات، ما دامَ الرمقُ والإرادةُ موجودان، ولذلك كانت الساعاتُ الأولى لعودةِ (السيّد) إلى الضاحية بعد الحربِ، تهيّئُ المكانَ نفسَهُ الذي احتضنَ (السيّد) في الأيّامِ الأولى للحربِ، أسفلَ مسجدِ الحسينينِ(ع)، إلى مكانِ العملِ؛ وكأنَّ يدَ القدرِ ترسُمُ لهذا المكانِ خصوصيّةً لن يعرفَها إلا بعد رحيلِ (السيّد) إلى الملكوتِ الأعلى.
وعلى الرغمِ من ذلك، لم يخفِ (السيّد) مشاعرَهُ بالسرورِ أنّه شارَكَ الناسَ الذين هُدمت منازلُهم، وأنّهُ لم يكنْ لمنزلِ المرجعِ والقائدِ أيُّ فضلٍ على منازلِ سائرِ الناسِ.
الانتقال من المسجد
كان الانتقال الأوّل في اليوم الثاني للحرب، الخميس، إلى منزل ولده، والانتقالُ الثاني كان إلى المسجدِ، وكانَ البقاءُ في ذلك المكانِ مرشّحاً للاستمرارِ لولا سقوطُ مبنيينِ كبيرينِ إلى جوارِ المسجدِ تماماً، فدخلَ الغبارُ الكثيفُ والبارودُ إلى المكانِ الذي ينزلُ فيه (السيّدُ) أسفلَ المسجدِ، وباتَ البقاءُ فيه مستحيلاً، وتقرَّرَ الخروجُ صباحَ الأحدِ في 16 تمّوز 2006م، والوجهةُ المتاحةُ آنذاكَ، بلدةُ كيفونَ[5]، وكان للسيّد فيها منزلٌ غادرَهُ منذُ أيّامِ الاجتياحِ، وكانت تلكَ العودةُ الثانيةُ.
وصلَ (السيّدُ) إلى كيفونَ في الصباحِ الباكرِ، وبقي فيها حتّى يومِ الإثنين 17/6، وكانت ليلةً قضيناها جميعاً على أعصابِنا؛ لأنّ أحداً لم يكن يستطيع أن يخفي خبرَ مجيءِ (السيّد) إلى البلدةِ، فالخبر الذي بدأ ينتشرُ همساً ما لبثَ أن تحوّل علنيّاً، وصادفَ أنْ وصلَ خبرُ قصفِ ثكنةٍ للجيشِ اللبنانيّ في منطقة الجمهورِ، ما اعتُبرَ مؤشّراً على إمكانيّة اتّساع رقعةِ القصفِ نحو البلدات الجبليّة، فكانَ القرارُ بالعودةِ إلى بيروتَ، وتمّ استئجارُ شقّةٍ سكنيّةٍ في مبنىً كان قد نزلَ فيه سابقاً أحدُ أصهرة (السيّد) مع عائلتِهِ؛ في مكانٍ متاخمٍ لضاحية بيروت الجنوبيّة من الجهة الغربيّة؛ لتبدأ من ذلك المكانِ حكايةٌ جديدةٌ!
[1] سورة آل عمران: 173-175.
[2] منطقة في ضاحية بيروت الجنوبيّة.
[3] منطقة في ضاحية بيروت الجنوبيّة شهدت في 1985 انفجاراً آثماً استهدف اغتيال السيّد فضل الله(رض)، وحصدَ 72 شهيداً وأكثر من 256 جريحاً، ونجى (السيّد) بلطف الله ورعايته؛ وقد كان مسجد الإمام الرضا(ع) يمثّل المركزيّة الفكرية والثقافية والروحية والجهادية للحالة الإسلاميّة بإمامة السيّد فضل الله(رض).
[4] سورة الأحزاب، الآية 10.
[5] كيفون من المناطق الجبليّة التي تبعد عن بيروت حوالي 19 كيلومتراً.