لا تزال التطوّرات المتسارعة على مستوى لبنان والمنطقة، محل أخذ وردّ لدى كثير من الأطراف اللبنانيّين، والأطراف الشيعة على وجه الخصوص، حيث لا تكاد جلسة فكريَّة أو ثقافيَّة أو سياسيَّة تخلو من التَّداول في هذه التطورات وآثارها المتوقعة على لبنان بأطيافه المتعدّدة.
وفي الأيام القليلة الماضية، جمعت حلقة ثقافيَّة فكريَّة بحثيَّة عدداً من المثقَّفين الشّيعة، الّذين زاروا العلامة السيّد علي فضل الله، وقاربوا معه الأوضاع، حيث بدأ فضل الله باستعراض التحديات الراهنة، وسبل مواجهة الفتنة في الواقع الإسلامي، لأنَّ الأخطر هو ما يدبّر له من فتنة كبرى بين السنّة والشّيعة، ليس في لبنان فحسب، ولكن على مستوى المنطقة كلّها، وربما جميع أنحاء العالم الإسلامي.
ورأى فضل الله خلال الجلسة أنَّ "علينا العودة إلى التاريخ الإسلامي، لندرس كيف تعاطى أئمة أهل بيت ورسول الله)ع)، مع كلّ المحاولات الَّتي كانت تستهدف وحدة المسلمين وكيانهم"، مشيراً إلى أنَّ "اهتمام أهل البيت)ع) بعد وفاة الرسول)ص)، تركّز على حماية الإسلام وحياطته وإسقاط كلّ محاولات زعزعة كيانه من جهة، ومن جهة ثانية على حماية وحدة المسلمين. ولذلك، كانت تعليماتهم ونصائحهم وحركتهم تجاه شيعتهم، ومن يستمع إلى توجيهاتهم من كلّ أتباعهم، بأن عليهم ألا يخرجوا من جماعة المسلمين، وألا يتصرفوا كمجموعة خاصَّة لها طقوسها وعاداتها، بل أن يكونوا كما أرادهم القرآن والرسول {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}[المؤمنون: 52]".
وركَّز فضل الله على ثوابت الإمام علي)ع) في هذا المجال، من خلال كلمته الشهيرة: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين"، مشيراً إلى أنَّ هذه الثوابت كانت القواعد التي شكّلت حماية أساسيَّة للأمة، حتى مع الاختلاف في وجهات النظر، وقد عمل الأئمة من بعده على سلوك الخط نفسه، حيث أكَّدوا على شيعتهم ألا ينغلقوا على مجتمعهم الداخلي، بل أن ينفتحوا على إخوانهم المسلمين، وأن يندمجوا معهم في إطار الأخوة الإسلامية، حتى مع الاختلافات المذهبية. ومن هنا، كانت كلمة الإمام جعفر الصادق)ع): "صلوا في جماعتهم، وعودوا مرضاهم، وامشوا في جنائزهم... حتى يقولوا رحم الله جعفر بن محمد، فقد أدب أصحابه".
ورأى أنَّ "الخلاف المذهبي هذا أمر طبيعي، ولكنَّه أعطي بعداً سياسياً من خلال استغلاله، وقد حرص علماء المسلمين الشيعة على متابعة نهج العقلانية، والسير على خطى الأئمة عندما واجهوا مشكلة الغلو التي كانت من تدبير الجاهلين، أو ممن يريد الإساءة إلى خطِّ أهل البيت، من خلال دسّهم لأحاديث الغلو في كتب الشيعة، وخصوصاً أنَّ القاعدة الَّتي أرساها الأئمَّة، كانت تقول: "اعرضوا الأحاديث كلّها على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار".
واستنتج فضل الله من خلال الاستعراض، جملة من الأمور أبرزها:
أولاً: كانت الوحدة الإسلاميَّة هي الأولويَّة عند أئمَّة أهل البيت)ع)، وهو الأمر الذي يمثل نهجاً ينبغي على كلّ اتباعهم أن يسيروا عليه في كلّ زمان ومكان.
ثانياً: على المسلمين الشيعة ألا ينعزلوا عن إخوانهم المسلمين السنة، وأن تكون المناسبات الإسلاميَّة واحدة، وأن يصار إلى إحيائها بشكل مشترك، لا أن تكون هذه المناسبات مدعاة للاختلاف وإثارة الفوارق.
ثالثاً: سعى أهل البيت إلى حماية الإسلام، ولم يكونوا طلاب سلطة بالمعنى الذاتي، وعلى أتباعهم أن يسلكوا الطريق نفسه، ليقدموا المشروع الإسلامي العام على المشروع المذهبي الخاص..
وحذّر فضل الله "من خطورة المرحلة الَّتي نمر فيها، والَّتي تستدعي مراجعة كاملة على المستوى الإسلامي الشيعي لما نتخذه من قرارات، وللخطاب الَّذي ينبغي أن يخرج من إطاره المذهبي إلى الفضاء الإسلامي العام، عبر السعي إلى احتضان الطرف الآخر، والالتفاف على أيّ شعور بالقهر، وأن يتحرك الجميع لوضع حدٍّ لخطاب الفتنة وممارساتها التي تنطلق من بعض الفضائيات من دون أن يقف بوجهها أحد، وأن تنطلق الفتاوى الَّتي تضع حداً لأحاديث الفتنة هذه، وخصوصاً ما يتعرض له الصَّحابة الكرام من إساءات يرفضها الإسلام جملة وتفصيلاً، وقد رفضها علماء الشيعة، وعلى رأسهم المرجع العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله، عندما أفتى بحرمة الإساءة إلى الصَّحابة وأمهات المسلمين تحت أيّ اعتبار من الاعتبارات".
وشدّد على أنَّ "المشكلة الكبرى تكمن في الخطاب الارتجالي الذي ينطق به البعض، وفي من يحاول استثارة الحساسيات والعواطف، مشيراً إلى أنَّ بعض الظواهر التي نعايشها، ليست ظاهرة شخص، بل انعكاساً لواقع ينبغي الاعتراف به والتعامل معه على أساس إسلامي وحدوي، حتى لو قادتنا الأمور إلى تقديم التنازلات، لأنَّ التنازلات داخل الواقع الإسلامي، وإن كانت خسارة مرحلية، ولكنَّها ربح على المستوى الاستراتيجي"، مؤكداً أننا "جزء من الحراك الإسلامي العام في البلدان العربية، وخصوصاً في تونس ومصر، وأنّ علينا التّواصل مع هذه التّجارب وحمايتها ورعايتها وترشيدها، بدلاً من مواجهتها بأساليب مذهبيَّة".
المصدر: جريدة المستقبل اللبنانية
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .