الحريّة من أبرز ما تتنادى به المجتمعات الإنسانيّة من أقصى العالم إلى أقصاه في عصرنا الحاضر، ولكنّ ذلك لا يعني وضوحها ذلكم الوضوح البيّن، بل هي من المفاهيم الحائرة الّتي يشوبها الكثير من الضبابيّة. لذلك من المناسب الوقوف مع تطوّرات هذا المفهوم التاريخيّة، والبيئات الّتي ظهر فيها ذلكم التطوّر، وذلك في حدود المتاح.
الحرّية مصطلحًا فقهيًّا
الحريّة من المصطلحات الّتي تتداولها المدوّنات الفقهيّة الإسلاميّة، ولكنّه يرد في تلكم المتون فيما يقابل: (العبوديّة) و(الرّقّ)، وذلك يتعلّق بالجانب التاريخي لظهور الدين الإسلامي، إذ إن الإسلام - في بدء ظهوره- كان قد جاء وحالة الرقّ تعدّ من الظواهر الاجتماعية المنتشرة بشكل فظيع جدًّا. وللقضاء على هذه الظّاهرة، فتح الإسلام أبوابًا كثيرة للحدّ من هذه الظّاهرة، فلم يكن هناك أمام الاستعباد إلا وسيلة واحدة فقط، وهي أسرى الحرب، إذ كانت الوسيلة الوحيدة الّتي يتمكّن منها المسلم من تملّك العبيد. وقد استمرّ الحال إلى أن انتهى عصر الرّقّ إلى غير رجعة في العالم كلّه، والحمد لله على ذلك، وهي الحال الّتي تلتقي والرّوح الإسلاميّة في شيوع مبدأ الأخوّة بين جميع البشر، دونما أيّ مائز بينهم.
الحريّة مصطلحًا معاصرًا
ولكنَّ المناداة بالحريَّة في عصرنا الحاضر لا تتمثّل في إلغاء العبوديّة، فعندما يطالب الابن أبويه بالحريّة الّتي قد يجدها مسلوبةً منه في بعض صورها، أو تلك الّتي تطالب بها الزوجة من زوجها عندما يقيّدها ببعض الضّوابط فيما يتعلّق بسعة حقّ التصرّف أو ضيقه، وكذلك عندما يطالب المواطنون حكوماتهم بمزيد من الحريات العامّة والخاصّة، فإنهم جميعًا لا يطالبون بالحريّة مقابل العبوديّة الّتي لا وجود لها اليوم، وإنما يقصدون بها معنًى آخر، ربما يعدّ توضيحه وبيانه من أعقد المشكلات المفهوميّة في عصرنا الحاضر.
ولكنّنا قد نستطيع أن نستخلص المعنى العام لها، ذلك أنَّ كلمة (الحريَّة) بمعناها المعاصر، وردت إلينا من الحضارة الغربيَّة، وذلك انطلاقًا من وثيقة حقوق الإنسان الّتي مرَّ ذكرها أعلاه، وبخاصَّة فيما يرتبط بالمادّتين 18 و19، الّتي تنصّ أولاهما على أنّ: «لكلّ شخص الحقّ في حريّة التّفكير والضّمير والدّين، ويشمل هذا الحقّ حريّة تغيير ديانته أو عقيدته، وحريّة الإعراب عنهما بالتّعليم والممارسة وإقامة الشّعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرًّا أم مع الجماعة»، فيما تنصّ الأخرى على أنّ: «لكلّ شخص الحقّ في حريّة الرّأي والتّعبير، ويشمل هذا الحقّ حريّة اعتناق الآراء دون أيّ تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأيّة وسيلة كانت، دون تقيّد بالحدود الجغرافيّة». وإضافةً إليهما، تتردّد كلمة (الحريّة) في العديد من فقرات وموادّ هذا الإعلان العالميّ الّذي أصبح ثقافة عامّة يتحاكم ويتقاضى النّاس وفقًا لمبادئها وتعاليمها في شتّى أصقاع المعمورة.
وقد صدرت هذه الوثيقة في أعقاب الحربين العالميّتين الأولى والثّانية، وجاءت نتيجةً لما عاناه الإنسان الغربي بخاصّة من ويلات تلكم الحروب، وما ارتكب فيها من فظائع مسّت الإنسان ونالت من جميع حقوقه الّتي لم يتمتّع بها في تلك الحروب والصّراعات التي كان يمارسها أصحاب السلطة في تلك البلدان، فيما دفع فاتورتها الباهظة ذلك الإنسان والمواطن البسيط. وقبل تلك الحروب، ضاق الإنسان ذرعًا من طبيعة السّلطات الّتي كان بعضها جمهوريّات والآخر ملكيّات، وبخاصّة تلك الملكيّات الديكتاتوريّة الّتي لا تنتظم أمور الدّولة فيها وفق دستور واضح متوافَق عليه ومنتخَب من قبل الجمهور، أو تلك الجمهوريّات الّتي هي في الأصل نظام جمهوريّ وصل الحاكم فيها عبر صناديق الاقتراع، ولكنّ نظامها الدّستوريّ شبه معطّل، وتتمّ القرارات فيها وفق إرادة ذلك الحاكم المستبدّ الّذي استغلّ سلطاته فيما هو لصالحه الخاصّ.
نتيجةً لمثل هذه الصّراعات، توافقت المؤسَّسات الرّسميّة الغربيّة على وثيقة عالميّة تنظّم العلاقات الإنسانيّة البينيّة الّتي تلتزم الحكومات تطبيقها، وأن تكون جزءًا أساسًا من دساتيرها، ينال المواطن حقوقه ويطالَب بواجباته انبثاقًا منها.
الإسلام ونظرته إلى الحريّة بمفهومها المعاصر
وهذه النّتيجة الّتي توافقت عليها الشّعوب من أجل أن يتمتّع المواطن بكافّة حقوقه كاملة، ولتجنيبه آثار تلك الصّراعات الّتي قد يكون السّاسة من أسبابها، أمرٌ تقرّه الدّيانات الإلهيّة وتدعو إليه، وتلك الحرّية الشخصيّة تكفلها الدّيانات بما يتوافق والتّعاليم الدينيّة. ولكنّ المناداة بالحريّات في كثيرٍ من الأحيان، وبخاصّة في عالمنا العربي، قد ينطلق من خلط في المفاهيم وبعض المغالطات الّتي تدعو الإنسان إلى الإباحيّة والانفلات الأخلاقي والدّيني، بدلاً من نيل الحريات التي من شأنها الارتقاء بالمجتمعات الإنسانيّة إلى ما هو عالٍ وسامٍ؛ ذلك أنّنا لو رجعنا إلى النصوص الموجودة في الشّريعة الإسلاميّة في تعامل أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب(ع) كنموذج أعلى في تطبيق الشّريعة الإسلاميّة، عندما مارس دوره في الحكم، سنرى أنّ الحرية تعني: أنّ كلّ فردٍ من المواطنين يعطى كامل حقوقه المكفولة له كما تنصّ عليها تعاليم الشّريعة الإسلاميّة، دون أن يكون هناك أيّ نوعٍ من الاعتداء على حقوق الآخرين.
وهذه النّتيجة لا يمكن تحقيقها ـ وفق النظرة الإسلاميّة ـ إلا في حالٍ واحدة فقط، وذلك عندما يكون نظام الدّولة نظامًا يحقّق مبدأ العدالة الاجتماعيّة بين المواطنين، وأن يكون القائم على تطبيق النّظام يتّسم بصفة العدالة أيضًا، فيراعي تطبيق النّظام على جميع المواطنين على حدٍّ سواءٍ، دونما مائز بينهم. في مثل هذه الحال، نستطيع أن نوجد الحريّة، بحيث يأخذ الجميع كامل حقوقهم دون أن يعتدي أحدهم على الآخر. ولذلك، فإنّ وجود نظام لا يحقّق مستوًى من العدالة في بعض جوانبه، أو أن يكون هناك على رأس السّلطة الحاكمة من لا تتوفّر فيه صفات العدالة، يؤدّي إلى أن نجد مجموعة من الحريّات المسلوبة. ولذلك جاء التّأكيد من جانب الشّريعة الإسلاميّة على مسألة العدل الاجتماعيّ نظامًا وقوّامًا، وبخاصّة وفق النّظرة الإماميّة الّتي تشترط درجة عالية من العدالة في الحاكم الإسلاميّ، وهذا الشّرط غير قابل للتّنازل عنه. ففي حال سقوط هذه الصّفة عن الحاكم ـ وفق الفقه الإمامي ـ يوجب ذلك سقوطه حاكمًا شرعيًّا على المسلمين، ولا يجوز التّعامل معه باعتباره حاكمًا شرعيًّا. ذلك أنّ شرط العدالة يجب توفّره في الحاكم الإسلاميّ من حين تولّيه السّلطة إلى آخر يومٍ له فيها، وذلك بغرض تحقيق الحريّات العامّة للمواطنين، من خلال تحقيق العدالة الاجتماعيّة والحياة الكريمة بينهم جميعًا.
وانطلاقًا مما أشير إليه أعلاه، فإنَّ هناك تبايناً في الرّؤى والمنطلقات بين الرّؤية الإسلاميّة لمسألة الحريَّات، وما تنادي به المنظَّمات الدّوليّة الرّاعية لحقوق الإنسان. فحينما تنطلق تلك الدَّعوات بضرورة إطلاق الحريَّات العامَّة لكافَّة المواطنين من قبل هذه المؤسَّسات، وذلك فيما تصدره من تقارير دوليّة دوريّة ترصد بها الحركة الحقوقيّة في كلّ بلدٍ على حدة، فإنّها في تلك التّقارير، تنظر إلى جانب واحد من المعادلة الّتي من المفترض أن تكفل هذه الحريَّات، وهو السّلوك العام لتلك الحكومات، دون أن يكون هناك تركيز واضح على النّظام الّذي ينتظم هذا البلد أو ذاك وفقه، إذ قد يكون الخلل نابعًا من النّظام نفسه.
إنّ الدّعوات الدّوليّة كما ينبغي أن تركّز على السّلوك العام للحكومات، لا بدَّ من أن تتتبّع حركة التَّشريع في تلك الدّول، ذلك أنَّ تراكم هذه الدّراسات، من شأنه أن يكفل تحقيق هذه الحريَّات على أرض الواقع. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ النّظام ـ من خلال التّجربة الواقعيَّة ـ ما دام يَصدُر عن العقل الإنسانيّ دونما الرّجوع إلى التّشريعات الإلهيَّة، لا يكون عادلاً في كافّة جوانبه، فالنّظام العادل لا يصدر إلَّا عن العادل المطلق، وهو الله تعالى.
المصدر: مجلّة الكلمة
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .
الحريّة من أبرز ما تتنادى به المجتمعات الإنسانيّة من أقصى العالم إلى أقصاه في عصرنا الحاضر، ولكنّ ذلك لا يعني وضوحها ذلكم الوضوح البيّن، بل هي من المفاهيم الحائرة الّتي يشوبها الكثير من الضبابيّة. لذلك من المناسب الوقوف مع تطوّرات هذا المفهوم التاريخيّة، والبيئات الّتي ظهر فيها ذلكم التطوّر، وذلك في حدود المتاح.
الحرّية مصطلحًا فقهيًّا
الحريّة من المصطلحات الّتي تتداولها المدوّنات الفقهيّة الإسلاميّة، ولكنّه يرد في تلكم المتون فيما يقابل: (العبوديّة) و(الرّقّ)، وذلك يتعلّق بالجانب التاريخي لظهور الدين الإسلامي، إذ إن الإسلام - في بدء ظهوره- كان قد جاء وحالة الرقّ تعدّ من الظواهر الاجتماعية المنتشرة بشكل فظيع جدًّا. وللقضاء على هذه الظّاهرة، فتح الإسلام أبوابًا كثيرة للحدّ من هذه الظّاهرة، فلم يكن هناك أمام الاستعباد إلا وسيلة واحدة فقط، وهي أسرى الحرب، إذ كانت الوسيلة الوحيدة الّتي يتمكّن منها المسلم من تملّك العبيد. وقد استمرّ الحال إلى أن انتهى عصر الرّقّ إلى غير رجعة في العالم كلّه، والحمد لله على ذلك، وهي الحال الّتي تلتقي والرّوح الإسلاميّة في شيوع مبدأ الأخوّة بين جميع البشر، دونما أيّ مائز بينهم.
الحريّة مصطلحًا معاصرًا
ولكنَّ المناداة بالحريَّة في عصرنا الحاضر لا تتمثّل في إلغاء العبوديّة، فعندما يطالب الابن أبويه بالحريّة الّتي قد يجدها مسلوبةً منه في بعض صورها، أو تلك الّتي تطالب بها الزوجة من زوجها عندما يقيّدها ببعض الضّوابط فيما يتعلّق بسعة حقّ التصرّف أو ضيقه، وكذلك عندما يطالب المواطنون حكوماتهم بمزيد من الحريات العامّة والخاصّة، فإنهم جميعًا لا يطالبون بالحريّة مقابل العبوديّة الّتي لا وجود لها اليوم، وإنما يقصدون بها معنًى آخر، ربما يعدّ توضيحه وبيانه من أعقد المشكلات المفهوميّة في عصرنا الحاضر.
ولكنّنا قد نستطيع أن نستخلص المعنى العام لها، ذلك أنَّ كلمة (الحريَّة) بمعناها المعاصر، وردت إلينا من الحضارة الغربيَّة، وذلك انطلاقًا من وثيقة حقوق الإنسان الّتي مرَّ ذكرها أعلاه، وبخاصَّة فيما يرتبط بالمادّتين 18 و19، الّتي تنصّ أولاهما على أنّ: «لكلّ شخص الحقّ في حريّة التّفكير والضّمير والدّين، ويشمل هذا الحقّ حريّة تغيير ديانته أو عقيدته، وحريّة الإعراب عنهما بالتّعليم والممارسة وإقامة الشّعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرًّا أم مع الجماعة»، فيما تنصّ الأخرى على أنّ: «لكلّ شخص الحقّ في حريّة الرّأي والتّعبير، ويشمل هذا الحقّ حريّة اعتناق الآراء دون أيّ تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأيّة وسيلة كانت، دون تقيّد بالحدود الجغرافيّة». وإضافةً إليهما، تتردّد كلمة (الحريّة) في العديد من فقرات وموادّ هذا الإعلان العالميّ الّذي أصبح ثقافة عامّة يتحاكم ويتقاضى النّاس وفقًا لمبادئها وتعاليمها في شتّى أصقاع المعمورة.
وقد صدرت هذه الوثيقة في أعقاب الحربين العالميّتين الأولى والثّانية، وجاءت نتيجةً لما عاناه الإنسان الغربي بخاصّة من ويلات تلكم الحروب، وما ارتكب فيها من فظائع مسّت الإنسان ونالت من جميع حقوقه الّتي لم يتمتّع بها في تلك الحروب والصّراعات التي كان يمارسها أصحاب السلطة في تلك البلدان، فيما دفع فاتورتها الباهظة ذلك الإنسان والمواطن البسيط. وقبل تلك الحروب، ضاق الإنسان ذرعًا من طبيعة السّلطات الّتي كان بعضها جمهوريّات والآخر ملكيّات، وبخاصّة تلك الملكيّات الديكتاتوريّة الّتي لا تنتظم أمور الدّولة فيها وفق دستور واضح متوافَق عليه ومنتخَب من قبل الجمهور، أو تلك الجمهوريّات الّتي هي في الأصل نظام جمهوريّ وصل الحاكم فيها عبر صناديق الاقتراع، ولكنّ نظامها الدّستوريّ شبه معطّل، وتتمّ القرارات فيها وفق إرادة ذلك الحاكم المستبدّ الّذي استغلّ سلطاته فيما هو لصالحه الخاصّ.
نتيجةً لمثل هذه الصّراعات، توافقت المؤسَّسات الرّسميّة الغربيّة على وثيقة عالميّة تنظّم العلاقات الإنسانيّة البينيّة الّتي تلتزم الحكومات تطبيقها، وأن تكون جزءًا أساسًا من دساتيرها، ينال المواطن حقوقه ويطالَب بواجباته انبثاقًا منها.
الإسلام ونظرته إلى الحريّة بمفهومها المعاصر
وهذه النّتيجة الّتي توافقت عليها الشّعوب من أجل أن يتمتّع المواطن بكافّة حقوقه كاملة، ولتجنيبه آثار تلك الصّراعات الّتي قد يكون السّاسة من أسبابها، أمرٌ تقرّه الدّيانات الإلهيّة وتدعو إليه، وتلك الحرّية الشخصيّة تكفلها الدّيانات بما يتوافق والتّعاليم الدينيّة. ولكنّ المناداة بالحريّات في كثيرٍ من الأحيان، وبخاصّة في عالمنا العربي، قد ينطلق من خلط في المفاهيم وبعض المغالطات الّتي تدعو الإنسان إلى الإباحيّة والانفلات الأخلاقي والدّيني، بدلاً من نيل الحريات التي من شأنها الارتقاء بالمجتمعات الإنسانيّة إلى ما هو عالٍ وسامٍ؛ ذلك أنّنا لو رجعنا إلى النصوص الموجودة في الشّريعة الإسلاميّة في تعامل أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب(ع) كنموذج أعلى في تطبيق الشّريعة الإسلاميّة، عندما مارس دوره في الحكم، سنرى أنّ الحرية تعني: أنّ كلّ فردٍ من المواطنين يعطى كامل حقوقه المكفولة له كما تنصّ عليها تعاليم الشّريعة الإسلاميّة، دون أن يكون هناك أيّ نوعٍ من الاعتداء على حقوق الآخرين.
وهذه النّتيجة لا يمكن تحقيقها ـ وفق النظرة الإسلاميّة ـ إلا في حالٍ واحدة فقط، وذلك عندما يكون نظام الدّولة نظامًا يحقّق مبدأ العدالة الاجتماعيّة بين المواطنين، وأن يكون القائم على تطبيق النّظام يتّسم بصفة العدالة أيضًا، فيراعي تطبيق النّظام على جميع المواطنين على حدٍّ سواءٍ، دونما مائز بينهم. في مثل هذه الحال، نستطيع أن نوجد الحريّة، بحيث يأخذ الجميع كامل حقوقهم دون أن يعتدي أحدهم على الآخر. ولذلك، فإنّ وجود نظام لا يحقّق مستوًى من العدالة في بعض جوانبه، أو أن يكون هناك على رأس السّلطة الحاكمة من لا تتوفّر فيه صفات العدالة، يؤدّي إلى أن نجد مجموعة من الحريّات المسلوبة. ولذلك جاء التّأكيد من جانب الشّريعة الإسلاميّة على مسألة العدل الاجتماعيّ نظامًا وقوّامًا، وبخاصّة وفق النّظرة الإماميّة الّتي تشترط درجة عالية من العدالة في الحاكم الإسلاميّ، وهذا الشّرط غير قابل للتّنازل عنه. ففي حال سقوط هذه الصّفة عن الحاكم ـ وفق الفقه الإمامي ـ يوجب ذلك سقوطه حاكمًا شرعيًّا على المسلمين، ولا يجوز التّعامل معه باعتباره حاكمًا شرعيًّا. ذلك أنّ شرط العدالة يجب توفّره في الحاكم الإسلاميّ من حين تولّيه السّلطة إلى آخر يومٍ له فيها، وذلك بغرض تحقيق الحريّات العامّة للمواطنين، من خلال تحقيق العدالة الاجتماعيّة والحياة الكريمة بينهم جميعًا.
وانطلاقًا مما أشير إليه أعلاه، فإنَّ هناك تبايناً في الرّؤى والمنطلقات بين الرّؤية الإسلاميّة لمسألة الحريَّات، وما تنادي به المنظَّمات الدّوليّة الرّاعية لحقوق الإنسان. فحينما تنطلق تلك الدَّعوات بضرورة إطلاق الحريَّات العامَّة لكافَّة المواطنين من قبل هذه المؤسَّسات، وذلك فيما تصدره من تقارير دوليّة دوريّة ترصد بها الحركة الحقوقيّة في كلّ بلدٍ على حدة، فإنّها في تلك التّقارير، تنظر إلى جانب واحد من المعادلة الّتي من المفترض أن تكفل هذه الحريَّات، وهو السّلوك العام لتلك الحكومات، دون أن يكون هناك تركيز واضح على النّظام الّذي ينتظم هذا البلد أو ذاك وفقه، إذ قد يكون الخلل نابعًا من النّظام نفسه.
إنّ الدّعوات الدّوليّة كما ينبغي أن تركّز على السّلوك العام للحكومات، لا بدَّ من أن تتتبّع حركة التَّشريع في تلك الدّول، ذلك أنَّ تراكم هذه الدّراسات، من شأنه أن يكفل تحقيق هذه الحريَّات على أرض الواقع. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ النّظام ـ من خلال التّجربة الواقعيَّة ـ ما دام يَصدُر عن العقل الإنسانيّ دونما الرّجوع إلى التّشريعات الإلهيَّة، لا يكون عادلاً في كافّة جوانبه، فالنّظام العادل لا يصدر إلَّا عن العادل المطلق، وهو الله تعالى.
المصدر: مجلّة الكلمة
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .