إنّ الإسلام، بحكم وسطيّته واعتداله، ينطلق في تشريعاته وأحكامه من مصالح نوعيّة، تراعي خصائص الإنسان ومتطلّباته الفطريَّة المختلفة، وتعمل على تأمينها. ومن هذه الخصائص الفطريّة، أن هذا الإنسان لا يتسنى له أن يبقى جاداً في كلّ حالاته، بل يحتاج إلى شيء من المرح واللهو البريء. ومن هذا المنطلق، راعى التّشريع الإسلامي هذه الحاجة، ووازن بين متطلبات الإنسان المتنوّعة، فوازن بين الدنيا والآخرة، وقد روي عن الإمام الكاظم(ع) أنه قال: "
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، ووازن بين متطلبات الجسد ومتطلبات الروح، قال تعالى: {
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف: 32]، وعن أمير المؤمنين(ع): "
إنّ هذه القلوب تملّ كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم".
إنّ ساعة اللهو البريء الَّتي ينشغل بها الإنسان، لا تلبي حاجته الطّبيعيّة لذلك فحسب، بل إنّها تساعده على تجديد نشاطه وحيويّته، ليتسنّى له معاودة أعماله العباديّة أو الاجتماعيّة أو التجاريّة أو غيرها بكلِّ إقبال وفاعليّة، وهذا ما أشار إليه الحديث النّبوي الشَّريف: "إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفّلوا، وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة"، فهذا النّص إذاً يدعو إلى التخفّف من النوافل في حال إدبار القلوب.
ومن هنا، فلا يمكن للإسلام، وهو الشّريعة السّمحة السّهلة أن يمنع الفرح، كما لا يمكنه أن يمنع الحزن، لأنّ الفرح، كما الحزن، حالة إنسانيّة فطريّة يحتاج إليها الإنسان. وفيما يلي، نشير إلى بعض المحطّات المهمّة التي تتجلى فيها واقعية التّشريع الإسلامي ومراعاته لطبيعة الإنسان واحتياجاته المتنوّعة:
1- ارتياد المتنزّهات
يميل الإنسان إلى التنزّه والترفيه عن نفسه وعن عياله وأطفاله، وهو ميل طبيعي مشروع، وقد كان الأئمة من أهل البيت(ع) يتنزهون ويطلبون النزهة. ففي الحديث عن بعض أصحاب الإمام الرضا(ع) قال: "قال لنا الرضا: أي الإدام أجزأ؟ فقال بعضنا: اللحم، وقال بعضنا: الزيت، وقال بعضنا: السمن، فقال هو: لا، بل الملح، لقد خرجنا إلى نزهة لنا، ونسي الغلمان الملح، فما انتفعنا بشيء حتى انصرفنا".
ومن هنا، فلا غضاضة ولا حرج على الإنسان أن يطلب التنزّه والفسحة والتمتّع بالأنهار والأشجار. ففي الحديث، عن أبي الحسن(ع): "ثلاثة يجلون البصر: النظر إلى الخضرة، والنظر إلى الماء الجاري، والنظر إلى الوجه الحسن".
ونلاحظ أنّ هذا الحديث اشتمل على ثلاثة عناصر أساسيَّة يساعد النظر إليها على الارتياح النفسي، واللافت أنّ هذه العناصر نفسها، هي الّتي تمثّل العناصر الأساسيّة الّتي تملأ الجنّة عرضها وطولها، وكأنّ الله أراد لنا أن نعيش جنّة في الدنيا وجنّة في الآخرة. والعناصر الثلاثة هي:
أ ـ الخضرة، والواضح أنَّ عنوان الجنّة يختصر اللون الأخضر، حتى إنّ لون لباس أهل الجنة هو الأخضر، قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}[الإنسان: 21].
ب ـ المياه، وحديث القرآن عن أنهار الجنّة لا يكاد يخفى، قال تعالى: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}[آل عمران: 15].
ج ـ الوجه الحسن، وهذا العنصر متوافر في الجنّة من خلال الحور العين، قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ* كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}[22، 23].
2- المرح واللهو البريء
المحطة الثانية التي تتبدى فيها واقعيَّة التشريع الإسلامي، هي إقراره بحاجة الإنسان إلى اللهو البريء والمرح، سواء بالنسبة إلى الصغير أو الكبير. أما الصغير فهو أكثر حاجة للهو واللعب، لأنّ مرحلة الطفولة تحتاج إلى مثل هذا المرح، ومن هنا، ورد الحثّ على ضرورة تأمين هذه الحاجة له، فقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "من كان عنده صبي فليتصاب له"، وهكذا الكبير، فإنه يحتاج أحياناً إلى الترفيه عن نفسه، وقد روي أنّ النبي(ص) كان يمازح أصحابه، وفي الحديث عن أبي عبد الله(ع)، قال: "ما من مؤمن إلا وفيه دعابة، قلت: وما الدعابة؟ قال: المزاح". فالمؤمن ليس مطلوباً منه أن يكون شخصيّة متشائمة يظهر عليها العبوس، أو تتملّكها الجديّة المطلقة، ولبس الثياب السّوداء القاتمة.
وفي الحديث، قال: سألت أبي الحسن(ع) فقلت: جعلت فداك، الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون ويضحكون؟ فقال: لا بأس ما لم يكن، فظننت أنّه عنى الفحش، ثم قال: إنّ رسول الله(ص) كان يأتيه الأعرابي فيهدي له الهدية، ثم يقول مكانه: أعطنا ثمن هديتنا، فيضحك رسول الله(ص)، وكان إذا اغتم يقول: ما فعل الأعرابي ليته آتانا".
3- العيد والفرح
المحطة الثالثة الّتي تعبّر عن واقعيّة التّشريع الإسلامي ومراعاته لمتطلبات الإنسان، هي إقراره بمشروعيّة الأعياد وممارسة اللهو والمرح والتزيّن فيها، ونلاحظ أنّ بعض الآيات تتحدّث عن العيد باعتباره يوم الزينة: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}[طه: 59]، كما تتضمّن نصوص أخرى مشروعيَّة تقديم الهدايا والمأكولات اللذيذة، فقد روي أنّه أهدي الإمام أمير المؤمنين(ع) الفالوذج (وهو نوع من الحلوى) في يوم النوروز، فقال: "نورزونا كل يوم"، وقيل: كان ذلك في المهرجان فقال: "مهرجونا كل يوم".
وهكذا، فإنّ ثمة رأياً فقهياً يرى أنّ الغناء مباح يوم العيد، كما هو مباح في الأعراس، وذلك استناداً إلى بعض الروايات الواردة في ذلك.
4- الرّياضة ممارسة وتشجيعاً
وفي هذا السياق، فإنّ الإسلام يشجّع على الرياضة البدنيّة، ولا سيما للشباب، لأنّها حاجة للجسم وللنفس معاً، وتنصّ بعض الروايات على كون ذلك من حقوق الولد على والده. قال رسول الله(ص) فيما روي عنه: "علموا أولادكم السباحة والرماية"، هذا ناهيك بأنّ الرياضة البدنية تمثّل نوعاً من إعداد المجتمع القوي، فتندرج في قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}[الأنفال: 60].
الضوابط والتحفظات
إنّ هذه المحطات تشير إلى المبدأ العام، والمتمثّل بالاعتراف بحاجة الإنسان إلى المرح وللهو والتنزه، ولكنّ التشريع الإسلامي لديه تحفظ على بعض الممارسات التي يأخذ بها البعض دون ضوابط أو قيود، فالفرح مشروع، شريطة أن لا يؤدي إلى البطر والطيش، وقد ورد في صفات المؤمن "لا يخرق به فرح ولا يطيش به مرح"، أي لا يصير الفرح سبباً لخرقه وسفهه، ولا يصير المرح سبباً لطيشه وخفته، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}[القصص: 76]، وذلك في خطاب موسى لقارون، فإنّ المراد بالفرح في الآية الشريفة، هو البطر الذي وقع فيه قارون الطاغية المتجبر.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .