يؤمن الدّين بأنّ هذا العالم يقف خلفه إلهٌ يملك قدرةً فائقة، وسلطةً علميَّة، وإحاطةً تامَّة، فليس ما نراه من حولنا هو كلّ شيء، بل هناك خلف السّتار قوّة مقدّسة متعالية متحكِّمة بكلّ شيء، بينما يرفض الإلحاد هذا المفهوم، ويرى أنَّ ما نراه في هذا العالم، هو ما هو موجودٌ ملموسٌ لنا، وليس خلف هذه الصّور الجميلة شيءٌ آخر مخفيّ، ولو كان هناك ما هو مخفيٌّ، فسيظهر كما ظهر، ما لم يختفِ نتيجة تطوُّر العلوم.
إنّ المؤمن يرى أنّ الصّورة لم تكتمل برؤيته لما يحيط به من هذا العالم، مهما تطوّرت العلوم الطبيعيَّة، بل هناك جزءٌ آخر مخفيٌّ خلف ما يراه، وهو عالَم الغيب، الّذي تعبّر الذات الإلهيّة عن الدّرجة القصوى منه، بل يذهب المؤمن أبعد من ذلك، عندما يعتقد أنّ ما يحيط به ليس سوى الجزء السَّطحي البسيط من الواقع، وأنَّ الجزء الأعظم والأكبر هو ذلك المختفي في الغيب، والمتحكِّم بهذا الجزء الظّاهر، فالعالَم عنده مثل جبل الجليد في أعماق المحيطات، مهما بدا جزؤه الظّاهر فوق سطح الماء عظيماً، فإنَّه يظلّ أقلّ بكثير من ربع ذلك الجبل الجليديّ القابع في الأعماق.
من هنا، يقع بين الطّرفين، المؤمن والملحد، خلافٌ حقيقيّ، يتمثَّل في أنّ حكمي على أيِّ شيء، يفترض إيمانيّاً أن يأخذ بعين الاعتبار ذلك الجزء المخفيّ، وإلا كان حكمي غير علميّ، وغير صحيح، بل هو حكمٌ ناقص. أمّا الملحد، فيرى أنّه لا يوجد غيبٌ أساساً، ولا حتّى الله تعالى، حتّى نُقحمه في قراءتنا للأمور، وبدل التّفتيش عنه، علينا التفتيش لكلِّ شيء عن الأسباب الماديّة الّتي تعبّر عن ظاهر ما يحيط بنا.
إنّ المؤمن ـ لو أردنا التّشبيه ـ لا ينفكّ عنده عالَم الغيب عن عالَم المادّة، فهما ليسا عالَمَين بعيدين عن بعضهما البعض، تصل أخبارُهما إلى بعضهما بعضاً، أو يربط بينهما حبلٌ طويل، بل هما متواشجان متداخلان، يحيط أحدهما ـ وهو الغيب ـ بالآخر، فكلّ ما هو مادّي، فإنّ معه غيباً لا أراه، يحيط به ويتحكَّم به، ولا تسير قوانين هذا العالم لوحدها، كما يرى ذلك علماء الطَّبيعة، بل مع صحَّة هذه القوانين تماماً، هناك قوانين أعلى تحكي عن منطق الهيمنة الَّذي يمارسه عالَم الغيب على عالَم الطّبيعة، وهو منطقٌ وقوانين لم تكتشفها العلوم الطبيعيَّة، ولم ترَها أساساً، بينما يعارض الملحد كلَّ هذا الكلام، ويراه ضرباً من الظّنون والتّخمينات، ويدَّعي بضرس قاطع، أنّه لم يجِدْ شيئاً من هذه المدَّعيات ملموساً على أرض الواقع.
وخلاصة القول: الدّين يرى أنَّ لحياتنا شقَّيْن؛ ظاهراً، وهو ما يلوح لنا من الأمور، وباطناً، وهو عالَم الغيب الّذي لا ندركه بحواسّنا، لكنّه يقف خلف كلّ شيء، والمطلوب منّا أن نتَّجه نحو ذلك العالَم، ولا نقصر نظرنا على هذا العالَم، بينما يقول الإلحاد إنَّ هذا ليس سوى الوَهْم والسّراب، فليس هناك سوى ما هو من حولنا، نراه ونحسّ به ونواجهه، وكلُّ ما سوى ذلك، هو خِدَع وكلمات وألفاظ.
يشعر المتديِّن بأنّه على تماسّ يوميّاً مع عالَمَين: محسوس وغير محسوس، فحياته هي مزيج من التّماسّ المزدوج هذا، فهو يصلّي لأنَّ الصَّلاة تماس مع عالَم آخر، ومع الإله، ولكنّه يأكل، لأنّ الأكل تماسّ مع هذا العالَم، بينما في الإلحاد، لا يوجد هذا المزدوج، فكلُّ تماسّ هو تماسّ مع الدنيا والمادّة والحسّ، وليس هناك تنوُّع في التواصل، بل هناك غيبوبةٌ عن شيءٍ آخر بحسب المبدأ.
الغاية من الخلق
يؤمن الدين بأنّ هناك هدفاً للخلق، فالخلق يتّجه نحو نهاية محدَّدة سلفاً، وهناك فلسفة وحكمة من وراء هذه النهاية، وكلّ شيء يحصل ناتجٌ من خطط مدبَّرة ومدروسة بدقّة عالية من حيث الغايات، فحصولُ الظّاهرة الطبيعية الفلانية له غاية محدَّدة، سبق أنْ خُطِّط لها في غرفة غيبيَّة مغلقة، وأريد منها أن توصِل إلى تلك الغاية. وموتُ فلان أو فلان في هذه السنّ أو تلك، وبهذه الطريقة أو تلك، أمرٌ سبق أن جرى الاطّلاع عليه، وحُدِّدت أغراضه بدقّة عالية، في زاويةٍ ما من العالم.
إنّ فكرة الهادفيّة في الخَلْق ـ سواء على المستوى التفصيلي، أو على المستوى الجمعي العامّ الذي تعبِّر القيامة والآخرة عنه ـ هي فكرةٌ جوهريّة في العقل الديني، وفي وعي المؤمنين، فلا تقع الأمور عَبَثاً، ولم نأتِ إلى الحياة كذلك، وكلُّ خطّ السير المتحرِّك بنا، صعوداً ونزولاً، ويميناً وشمالاً، لم يكن صدفةً عابرة، بل خطّة مدبَّرة، محكمة التَّدبير، تهدف إلى غاياتٍ محدَّدة للخلق كلِّه، وهي بالتأكيد غاياتٌ نبيلة لتلك القوّة القاهرة العليا المتحكِّمة بالعالَم.
أمّا الإلحاد، فلا يؤمن بالضَّرورة بمنطق الغايات، ويقول إنّ ما حصل ليس سوى وضعٍ تلقائي، وقع ولم يتمّ التخطيط له من قبل، ولم يهدف فاعلُه إلى غايةٍ يريد تحقُّقها من ورائه، بل هي كائنات هذا العالم الَّتي التأمت بهذه الطريقة العفويّة، بحكم نظامها التكويني، لا بحكم غاياتها ومآلاتها.
إذاً، هناك فرقٌ جوهري بين المؤمن والملحد؛ تارةً من زاوية العلّة الفاعليّة، حيث يرى المؤمن أنّ فاعل هذا العالَم هو الغيب، وهو الله، فيما لا يرى ذلك الملحد، وتارةً أخرى من زاوية العلّة الغائيّة، حيث يرى المؤمن أنّ العلّة الفاعليّة فعلت فعلها وتفعله دوماً، من منطلق غايةٍ وغرضٍ مدروس مسبقاً، فيما يرى الملحد أنّ الفاعل ـ وهو الطبيعة عنده ـ يفعل الفعل لا لغايةٍ، بل لأنّ تكوينه يفرض حركةً له بهذه الطريقة أو تلك، فليس خلف العِلل الفاعليّة المادّية غاياتٌ، ولا تفكِّر الطبيعة أو تخطِّط لأغراض.
وإذا كان النزاع بين الرجلين (المؤمن والملحد) نزاعاً قد تغلب عليه الزاوية النظريّة في العلّة الفاعليّة، فإنّ النزاع بينهما في العلّة الغائية، يرتدّ إلى آثار سيكولوجيّة ونفسيّة عامّة.
إنّ افتراض أنّ هناك غايات، يعني افتراض أنَّ هناك عقلاً كبيراً يملك رؤية أوضح، ويخطِّط لكلّ شيء، وهذا الافتراض سوف يسمح باعتبار ما يحصل معي هنا أو هناك جزءاً من مسارٍ مرصود سلفاً. هذه قضيّةٌ غير بسيطة على مستوى ارتداداتها النفسيّة، فأن تكون في غابة تسير بك قدماك بطريقة عفويّة عشوائيّة شيءٌ، وأن تكون هناك، وتعتقد أنّ كلّ هذا المسير الّذي يبدو لك عشوائيّاً له غايةٌ ونهاية محدَّدة، رُسِمت مسبقاً من قبل أحدٍ ما، شيءٌ آخر. إنَّ الحيرة في الحالة الثّانية هي حيرةٌ آنيّة، لكنَّها وعيٌ نهائي، فيما الحيرة في الحالة الأولى هي حيرةٌ في المبدأ والمعاد، وهي أيضاً وحشةٌ وغربةٌ.
يقول الدّين إنّ الدّنيا ممرٌّ، وهي مجرَّد سراب، مقارنةً بالآخرة الّتي هي المقرّ، بينما يقول الإلحاد إنَّ الدنيا هي طريقنا ومستودعنا ونهايتنا، وليس هناك خلفها من شيء.
ويؤدّي هذا الاختلاف إلى اختلاف آخر بالغ الأهميَّة في دور الدّين نفسه، فالدّين يرى دوره في بناء الآخرة بالدّرجة الأولى، بينما ينظر إليه الإلحاد على أنَّ دوره يجب أن يكون بناء الدنيا، فإذا جاء أيُّ مشروع آخر غير الدّين، واستطاع بناء الدّنيا، كان من المنطقي التخلّي عن الدّين.
مفاهيم تميّز المؤمن من الملحد
يخلق الدّين في العقل الإنسانيّ والوجدان مجموعةً من المفاهيم الَّتي يواجه الإنسانُ العالَمَ بها، ويقوم بالتَّعاطي مع الأشياء من منطلقها:
منها: مفهوم الابتلاء، وهو مفهومٌ دينيّ يفسّر المتديّن من خلاله الكثير من المشاكل الّتي يواجهها، بل تصبح عنده المشاكل أمراً مقبولاً، وأحياناً موجباً للسَّعادة، ولا أقلّ، تصبح أمراً محتملاً نتيجة هذه المفاهيم.
ومنها: مفهوم العقاب العاجل، فهو يرى أنّ بعض مصائبه وآلامه، هي عقابٌ غيبيّ لما اقترفه هو من سيّئات، وأنّها شكلٌ من أشكال التّطهير.
وفي مناخ هذه المفاهيم، تولد قدرة التحمّل والصّبر عند المتديّن.
أمّا الإلحاد، فهو ينظر إلى هذه الأمور على أنّها جهلٌ وخرافة، ويرى أنَّ المطلوب أن نكون واقعيّين، فليس ثمّة شيءٌ من هذا، بل الموجود ليس سوى هذا العالَم وتناقضاته، الّتي تفضي إلى المصائب والمشاكل على الجميع بلا استثناء، فالزّلازل لا تعرف مؤمناً ولا كافراً، ولا تفكّر أين تحلّ، وفي أيّ بلد تنزل، والحلّ هو أن نكون واقعيّين، ونرضى بما يحصل، لأنّه ـ شئنا أو أبينا ـ ليس الأمر بإرادتنا غالباً.
ومن هذه الزّاوية، يرجّح الدّين محاولته في فهم الظّروف المحيطة على محاولة فهم الإلحاد، لا من الناحيَّة الفلسفيّة والمعرفيّة هذه المرّة، بل من النّاحية النفسيّة والاجتماعيّة، فهذه المفاهيم الّتي يزرعها الدّين في الوعي الإنسانيّ هي مفاهيمُ مواجهة، لا تمنح الإنسان شعوراً بالتفهّم لما يجري من حوله فحَسْب، بل ميزتها أنّها في بعض الأحيان تمنحه شعوراً بالسّعادة الرّوحيّة والنفسيّة، فعندما يشعر بالتطهّر نتيجة المرض الّذي نزل به، فإنّ المصيبة هنا تتحوَّل إلى غنيمةٍ ومكسب، والأزمات والمشاكل والضّغوط تتحوّل إلى فرصٍ سعيدة، لأنّها ـ من وجهة نظر المتديّن ـ عبارة عن اختبارات تشكِّل فرصاً لنجاح الإنسان، فهو يسعى إلى النَّجاح فيها، لا فقط لتحمّلها، تماماً كحالة فتح الجامعة باب الدّخول إليها، واضعةً امتحانات الدّخول تحدّياً أمام الطلاب، فإنَّ الامتحان هنا هو بابٌ فُتح للطلاب، كي يلجوا صفوف هذه الجامعة وقاعاتها، من خلال النَّجاح فيه.
وكلَّما ذهب الإنسان المتديّن بعيداً في هذا التَّسامي الرّوحيّ، مُنح أكثر فأكثر قدرةً على مواجهة مصاعب الحياة بروحٍ أكثر مرونة، تتخطَّى تفهُّم المحيط وما يجري فيه، إلى حالةٍ من الأُنْس به والرّضا، ويصبح عنده الألم سعادةً وارتياحاً.. بل عبر هذا السّبيل، لا ينظر المؤمن إلى أصل خلق الله له على أنّه كارثةٌ.
فكثيرٌ من النَّاس الّذين يعانون مشاكل في الحياة، جسديّاً أو مادّيّاً وماليّاً، يعتبرون أنَّ الله قد ورَّطهم بخلقه لهم دون أن يستشيرهم، بل هذه هي ثقافة الفلسفة التشاؤميّة التي رأيناها مع سبينوزا غرباً، وأبي العلاء المعرّي شَرْقاً، كان يفترض بالله أن يستشيرنا قبل أن يخلقنا، أو على الأقلّ أن يقدِّر لو أنّنا خُلقنا في هكذا ظروف، ما كانت وجهة نظرنا حينئذٍ؟ ولمّا لم يقُمْ باستشارتنا في أصل الخلق، فإنَّ الموضوع يبدو خطوةً سلبيّةً أقدم عليها الله هنا!
لكنَّ العقل الإيمانيَّ لا يرى الأشياء بهذه الطّريقة، انطلاقاً ممّا قلناه عن ثنائيّة الدّنيا والآخرة في النقطة الثّالثة سابقاً؛ إنّه يرى أنَّ الله منحنا بخلقه لنا فرصةً تاريخيّة، إنَّه قال لنا إنَّني تكرَّمتُ عليكم بخلقكم، مهيّئاً لكم فرصة دخول النَّعيم الأبديّ. وكلّ ما في الأمر أنَّ المطلوب منكم هو المرور باختبارٍ بسيط زمنيّاً، اسمه الدّار الأولى أو عالم الدّنيا، فالمؤمن يرى في فعل الله هذا كَرَماً أنْ وفَّر لكلّ النّاس فرصة النّعيم الأبديّ، ويرى في سقوط الكثير من النّاس في جحيم الهاوية خطأً نتج منهم، إذ بَدوْا غير قادرين حتَّى للخضوع للامتحان البسيط زمنيّاً من وجهة نظره. وهذا هو معنى أنَّ الإنسان كان ـ كما يشير القرآن الكريم ـ ظلوماً جهولاً، لقد ظلم نفسه بتفويت فرصةٍ تاريخيَّة أمامه، وأغرق في السّفاهة والجهالة عندما غشي بصره ظاهر الدّنيا، ونسي الآخرة.
القراءتان هنا مختلفتان جدّاً لفلسفة الوجود الإنسانيّ وشرعيّة الإيجاد البشريّ؛ بين قراءة تعتبر خلق الله للإنسان خطأً وتجاوزاً لحقوق الإنسان نفسه في إرادة الوجود وعدمها، وقراءة ترى ذلك نعمةً وفرصة وكَرَماً، أراد الإنسان الفاشل أن يلقي بفشله فيه على الله، فاتَّهمه هو بالتّقصير بدل أن يتَّهم نفسه.
الدّين يقول إنَّ هذه المفاهيم الّتي يبثّها في الرّوح الإنسانيَّة لها قدرة إعادة برمجة أداء الإنسان تجاه ما يحيط به، فليس المهمّ فقط أن تفهم ما يحيط بك فهماً علميّاً، بل المهمّ أيضاً أن يكون أداؤك تجاهه أداءً أفضل.
الاختلاف حول فكرة العقل الغيبيّ
يرى الإيمان الدّينيّ أنّنا عندما نطيح فكرة العقل الغيبيّ الكبير (الله)، المتَّصف بالإحساس والعلم والقدرة والحكمة والتّدبير والغايات... فإنّ هذا معناه، أنّنا سنفتقد إلى النفحة الَّتي سوف توفِّر لنا مفهوم (الرّحيم الغفور الودود اللّطيف...). إنّ الطبيعة لا تفهم ولا تعي ولا تشعر، بينما الله يعي الأمور ويلمسها، وله غايات. فيمكن في مناخ مقولة (الله)، أن يلجأ الإنسان نفسيّاً وروحيّاً إلى نقطةٍ ما في هذا العالم، تمثِّل الرّحمة والخلاص والأمل، لأنّني بمجرّد أنْ أرتفع من عالم الطبيعة الصّامت غير العاقل، إلى عالم الغيب العاقل، أشعر وكأنّني مع إنسانٍ آخر كبير بعقله وروحه وأخلاقه ووَعْيه، لأنَّ الغايات شأنٌ عقلاني يلمسه الإنسان بتجربته، وعندما أحسّ بالإنسان الكبير الغيبيّ ـ إذا صحّ التّعبير ـ فإنَّ من الممكن لي أن أشعر بوجود الرّحمة والمودّة والرأفة.
ولعلّ في هذا السّياق ما يُلمّح إليه الفلاسفة الإلهيّون من برهان الفطرة، فالإنسان بفطرته عندما يقع في مَهْلكةٍ وخطر، كما في سفينةٍ مشرفة على الهلاك وسط المحيطات الهائجة، يرتبط بقوّة متعاليةٍ تَسْمع وتَعي وترى، ولها إحساس الرّحمة والعفو والمحبّة، فينشدّ إليها كي تقوم بخلاصه. إنّه هنا لا ينشدّ ـ كما يقول الفلاسفة ـ إلى الاحتمال الضّعيف في النجاة، بل ينشدّ إلى قوّة ما فوق عاديّة، وما فوق عالَم الاحتمالات، يمكنها أن تتدخّل لإنقاذه، لماذا؟ لأنّها تسمع الدّعاء والنداء، وتعفو وتصفح وترحم، فيتوقّع النّجاة، لا لأجل وجود احتمال الواحد في الألف أن يهدأ المحيط الهائج، بل حتّى لو لم يهدأ، هو ينشدّ إلى هذه القوّة التي تقدر ـ في ما يحسّه في عمق وجدانه ـ على أن تبتكر طرقها لخلاصه.
الله هو الملجأ والملتحد، والله في الثقافة الدينيّة هو المدعوّ والمناجَى الذي تطلب منه الحاجات لا من غيره، والتّوحيد هو عمق التواصل الصّحيح مع هذه القوّة الكبيرة التي نسمّيها (الله).
إنّ الإلحاد قد لا يبالي بكلّ هذه المفاهيم النفسيّة البانية للأمل والخلاص، والمستشعرة دوماً إحساس العناية واللّطف والرأفة من قوّةٍ أعلى، وهو إحساسٌ سامٍ من وجهة النظر الدينيّة. إنّ الإلحاد يرى أنّه ليس سوى الوقائع الماديّة التي يجب التعامل معها، لا غير، وعليك أن تبني آمالك وفقاً لهذه الوقائع الحادثة.
اتّهامات يطلقها الإلحاد
يقول الإلحاد إنّه حالةٌ صعبة على المِلَل المتديّنة؛ إنّها تشعر بثقله، ولكنَّها لو فعلته، وشعرَتْ بالوَجَع، فسرعان ما سترتاح؛ لأنّها سترى الأشياء بعده رؤيةً واقعيّةً ومنطقيّة. وسبب وجعها، أنّها استأنست بإدمان خرافات الدّين، والتحرُّر من التّخدير يصاحبه وَجَع وأَلَمٌ عظيمان في البداية فقط. بينما يقول الدّين إنّ رؤية الإلحاد لنفسه، هي بنفسها غير واقعيَّة، لأنّ صورة العالم عنده مجتزأة ومنقوصة وغير مكتملة، بل صورة الإنسان عنده غير سليمة، لأنَّ الإنسان مضطرّ ـ سواء كان ذلك حقّاً أو باطلاً ـ إلى إشباع مشاعره الغيبيّة، فأيّ واقعيّةٍ تتجاهل هذا النّزوع الفطريّ الغيبيّ عند الإنسان، هي الّتي ستخدِّره، لكنْ لمدّةٍ زمنيّة سرعان ما سيستيقظ بعدها على أَلَمٍ كبير ووَجَعٍ عظيم، يفضي به إلى الشّعور بالفردانيّة والوحدة والوحشة والغربة، ثم الانتحار، كما حصل في هذا العصر.
من هنا، لا تقتصر تهمة التّخدير على الدّين، بل يرى الدّين أنّ الإلحاد هو الّذي يقوم بتخدير الناس ـ بقوّة الشهوات والإعلام والوَهْم ـ عبر طمسه لبعض نوازعهم الفطريّة لمدّة زمنيّة معيّنة، سرعان ما ستتغيّر الأمور معها، ويعود النّاس إلى هذه النوازع الفطريّة الكامنة في التعلّق بما وراء الطبيعة، فلم يتمكّن الإلحاد، رغم كلّ نفوذه في هذا العالم لعدّة قرون، أن يطمس الدّين، ولن يتمكَّن، وإذا فعل ذلك هنا أو هناك، فهي محاولات زمنيّة محدودة، لن تقدر على الاستمرار مهما عاشت غرور النّصر للحظات. وما يؤكّد ذلك، أنَّ النّزعات الماديّة والبراغماتيّة في القرن العشرين، عادت لتنظر إلى الدّين بوصفه واحداً من علاجات الأمراض النفسيّة التي تجتاح العصر الحديث.
المطلق بين الإنسانيّ والإلهيّ
يرى الدّين أنَّ المطلق أو شبه المطلق حالةٌ إنسانيّة أيضاً، وليس فقط إلهيّة، لكنْ ضمن حدود الإنسان، وهي تسمَّى بالأنبياء والأولياء. ويتمثَّل إطلاقهم في أنّهم القدوة وحلقة الوصل مع الله المطلق الحقيقيّ، وفي أنّهم الأنموذج البشريّ الأفضل الّذي تحفّره الديانات في العقل الإنسانيّ، دافعةً الوجدان والروح إلى التماهي معه، وراسمةً بذلك أهدافاً إنسانيّة ممكنة له.
أمّا في الإلحاد، فليس هناك سوى مجموعاتٍ من البشر، بلغوا تميُّزاً زمنيّاً وضعهم في مصافّ الممتازين، ليس إلا، دون أن يحتكروا الامتياز، أو يكون لهم على غيرهم تقدّمٌ.
ولأنَّ هناك مطلقاً أعلى من الإنسان، يرى الدّين أنّ العقل محدودٌ، وأنّ عليه أن ينصت إلى صوت الوحي الّذي يعبِّر عن العقل اللامحدود، وهو ذاك المطلق المسمّى بالله. ومن هنا، يرى الدّين أنّه من غير المنطقيّ أن نعترض على الله عندما لا ندرك بعقولنا البسيطة الغايات النّبيلة من أفعاله، وكأنَّنا فهمنا كلّ شيء، بأنْ نسأل عن سبب قتله للنّاس بالزّلازل والبراكين وغير ذلك، وسبب إرساله الشّرور على هذا العالم. إنّ اعتراضنا مرفوضٌ، ليس لأجل أنّ الدّين يقمع الحرّيات، وأنّ الله مستبدٌّ، بل لأنَّ منطقيّة الأمور تتطلَّب ذلك، فإنّ العقل الإنسانيّ محدودٌ للغاية، وكثيراً ما اعترض ثمّ بعد قرونٍ انكشفت له أسرار الأمور، ولأنّه محدودٌ فيما الله مطلقٌ، لهذا كان من المنطقيّ أن يقول، بدل (أرفض هذا السّلوك الإلهيّ)، جملةَ: (لا أفهمه بالتّفصيل)، وعقلي محدودٌ لا يدركه.
بينما يرى الإلحاد أنَّ هذا الكلام ليس سوى ضَرْب من القول، فليس عندنا سوى عقولنا المحدودة، وعلينا أن نتَّكئ عليها وحدها ما دامت هي العنصر الوحيد المتوفِّر لنا لإدارة أمورنا، وكلُّ كلامٍ آخر، هو مجرَّد تخريجاتٍ كلاميّة وألعابٍ لفظيّة.
المركز والمحور.. بين الدّين والإلحاد
من مجمل ما تقدَّم، نجد أنَّ المحور والمركز في كلّ الثقافة الدينيّة، هو الله، فالله هو المحور، وهو الأساس والأصل، ونحن ندور حول كعبته، وكلّ شيء بأمره، ويجب الاستسلام والتّسليم له، لأنَّ هذا التّسليم ليس جهلاً، بل هو الوعي بجهلنا ونقصنا، إنَّه العالم بحالنا، هو نورٌ وليس ظلمة. بينما يرى الإلحاد أنّ المركز هو الإنسان (إمَّا الفرد، كما في الثقافة الليبراليّة؛ وإمّا الجماعة، كما في الثقافة المادّيّة الماركسيّة)، فالإنسان هو الأصل، والقوانين والأفكار والبرامج والمشاريع، يجب أن تدور حول كعبته، وتكون في خدمته.
هذا التمايز الجوهريّ في قضيّة مركزيّة (الله ـ الإنسان)، أهمّ تغايرٍ واختلاف شهده صراع الدّين وخصومه في العصر الحديث، وحتّى الكثير من المتديّنين اليوم، يفكِّرون بعقليّة مركزيّة الإنسان، وليس مركزيّة الله.
ونظراً إلى حساسيَّة هذا الأمر، أشير إلى أنَّ المذهب الكلاميّ الأشعريّ عند المسلمين، بلغ به الحال أنْ قال إنَّ القوانين والتّشريعات لا يجب أن تكون فيها مصالح واقعيّة للإنسان، بل حتَّى لو كان فيها ما نراه نحن مفاسد عليه، فهي خيرٌ؛ لأنَّ قيمة القانون ليست في مضمونه، بل في الالتزام به تجاه الله سبحانه.
لستُ أريد تأييد هذه الفكرة التي وقع حولها جَدَلٌ كبير في التراث الإسلاميّ، في سياق ما عُرف بمسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين والذاتيّين، بقدر ما أريد أنْ أشير إلى حجم نزوع العقل الدّينيّ نحو مركزيّة الله، فما يقنِّنه الله هو خيرٌ، لا أنّه يقنِّن الخير.
وفكرة مركزيّة الإنسان التي باتت تسري إلى كلّ مرافق التّفكير اليوم، حتّى في الوسط الدينيّ، حصل فيها انزياحٌ مفاهيمي هائل، فكلُّ شيء في خدمة الإنسان. حَسَناً، لا بأس، لكنْ ما معنى خدمة الإنسان ومصلحته؟
إنَّ خدمة الإنسان تعني منفعته، لكن ما نراه يسير اليوم في العالَم، هو أنَّ خدمة الإنسان تعني راحته وإحساسه بالسعادة، فصارت هناك موضوعيّة وخصوصيّة للراحة والإحساس بالسعادة. ومن المعروف أنّ هذه المفاهيم غير مفهوم المصلحة، فقد تكون المصلحة في الوَجَع، وقد تكون في عدمه، فعندما تسير فكرة مركزيّة الإنسان من عنوان الخير والمنفعة والمصلحة، إلى عنوان الرّاحة والأمن والاستقرار والإحساس باللّذّة والسّعادة والجمال، فهو انزياحٌ كبير، فنقطة الخلاف الدّينيّ اليوم، ليست في منفعة الإنسان، لأنَّ الدّين يقول إنّ منفعة الإنسان في الدّين، بحسب النظرة الدينيّة التي تأخذ المآلات والآخرة بعين الاعتبار، سواء أخطأ الدّين أو أصاب، ومنفعة الإنسان بمحوريّة الله نفسه، لكنَّ القضيّة هي أنّ منفعة الإنسان صارت في راحته وأمنه واستقراره، وصارت قيمة العلوم أن تنتج ذلك، وهنا نقطة خلاف دينيّ أيضاً، لا بمعنى أنّ الدّين ضدّ ذلك، بل هو ضدّ جعل هذه القِيَم مبادئ عليا، بوصفها قِيَماً أخلاقيّة.
خلاصة.. ودعوة
من خلال النماذج التي مرّت، وهي مجرّد نماذج بسيطة، نجد أنفسنا أمام إنسانَيْن، كلّ واحدٍ يفكِّر بطريقة خاصّة، ويقوِّم الأشياء من منظارٍ خاصّ. وما أريد أن أقوله بعد هذه المقارنات البسيطة، هو النّتيجة التالية:
أـ الدّين ليس انعداماً للرّؤية، بل هو رؤيةٌ، سواء قبلتها أم رفضتها، هو رؤيةٌ متكاملة من نوع آخر. لهذا، فما بتنا نجده عند بعض المثقَّفين، من تصوير الدين بكلّ مدارسه وتيّاراته، على أنّه ليس سوى فوضى فكريّة، غيرُ صحيح؛ الديّن رؤية للوجود والإنسان، هو وجهة نظر تستحقّ الوقوف عندها، ولا يجوز التحرُّر النفسيّ منها، بتصويرها خطأً أنّها مجرّد خزعبلات المنجِّمين، أو ترّهات قرّاء الفناجين، فقد نتج في العصور الدينيّة ولادة فلسفات ضخمة عرفها التّاريخ، وما تزال تحتضن في نظريّاتها الأصول الدينيّة الكبرى.
ب ـ لا يُقرأ الدّين من زاوية الحقّ والباطل فقط، بل يُقرأ أيضاً من الزوايا النفسيّة والاجتماعيّة، ولا يُقرأ الدّين من زاوية عناصر ضعفه فحَسْب، بل يُقرأ من زواياه كاملة، فما بتنا نجده اليوم في تيّارٍ كبير في الأمَّة من التعاطي مع الدّين عبر نهج جمع سلبيّاته، هو خطأٌ كبير علميّاً، وكذلك التعاطي معه بروح السخرية، مستغلّين وجود بعض الهَفَوات والخرافات والخزعبلات القائمة في الأوساط الدينيّة.
إنّنا نجد اليوم مَنْ يجمع كلّ تناقضات الدّين التاريخيّة، وكلّ مشاكله ونقاط ضعفه، لتحشيدها في سياق صراعٍ علمانيّ إسلاميّ، ليس سوى معركةٍ سياسيّة بامتياز، يُراد القول إنّها ذات صبغةٍ فكريّة. هي معركةٌ سياسيّة للإطاحة بتيّارات سياسيّة دينيّة لأجل تيّارات أخرى، والدّين هو الضّحيّة من خلال إبدائه للنّاس بوجهٍ قبيح، مستخدمين كلّ الوسائل الإعلاميّة المتنوِّعة والمذهلة. ومع الأسف، لم يدرك كثيرٌ من المتديِّنين حقيقة الوضع حتّى الآن، فأَوْغَلوا في تكريس الصّورة السّلبيَّة عن الدّين، وأوقفوا كلّ عناصر الاجتهاد والتّجديد في العقيدة والشّريعة، ظنّاً منهم أنَّ هذه العناصر هي الّتي تسقطنا في فخّ العلمانيّة والإلحاد، دون أن يتنبَّهوا إلى أنَّ إلغاء مناهج الاجتهاد والتّجديد، هي الأخرى قد توصلنا ـ من خلال الصّراع السياسيّ القائم ـ إلى كسب التيّارات العلمانيّة، ذات الطابع العدوانيّ على الدّين، المعركة بامتياز!! أليس في التيّارات الدينيّة المتوحِّشة اليوم خير سند لنموّ التيّارات العلمانيّة؟! أليس في التديُّن العدوانيّ، والتديُّن الإقصائيّ، والتديُّن الانغلاقيّ الَّذي يظنّ أنّه يحمي الدّين بعدوانيّته وإقصائه وانغلاقه، أليس فيه مادّة دسمة لخلق وعي شبابيّ عارم يقوم برفع شعار: (عدم الإسلام هو الحلّ)، في مقابل شعار: (الإسلام هو الحلّ)، لأنّه بات يرى أنّ دخول الدين على خطّ الحياة، هو سبب مشاكلنا اليوم؟!!
إنّني أدعو الباحثين والمفكِّرين والعلماء والمثقَّفين والنّاقدين إلى التحرُّر من اللّغة الإعلاميّة، ومن التنافس السياسيّ، ومن النظرة الأحاديّة، عندما يدرسون الدّين؛ فقد نرتكب خطأً تاريخيّاً عندما نصفّي الدّين نفسه في سياق تصفيتنا للأحزاب السياسيّة الدينيّة، فتخسر الأمّة عنصراً رفيعاً من عناصر التسامي الأخلاقيّ والرّوحيّ والاجتماعيّ والحضاريّ.
* مجلَّة "نصوص معاصرة"، من ربيع 2013 إلى شتاء 2014م، [بتصرّف]
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.