مختارات
23/07/2014

في محراب الأبوّة

في محراب الأبوّة

في محراب الأب، تخجل الكلمات، وتخشع الأصوات، وتخرس الألسنة.. وإلى عرين الأب، يدخل المرء متهيّباً خائفاً وجلاً.. وعلى جثمان الأب، يقف الابن محدودب الظّهر، فقد بدأت مرحلة الشيخوخة والهرم، فإنّك حتى لو كنت في مقتبل العمر، ستبقى تشعر بطفولتك وأنت تعيش في كنف أبيك، فإذا ما فارق الدّنيا، شعرت بالكهولة.

وفي رثاء الأب، يقف الخاطر الملهم عاجزاً حائراً لا يهتدي بياناً، فماذا عساه يقول؟ وأيّاً كان ما يقول، شعراً أو نثراً، فإنّه لن يلامس شرف الأبوّة.

في محراب الأبوّة، وقفت حائراً بين حديث الفكر وحديث الوجدان، ودون وعي، وجدتني أنشدّ إلى حديث الوجدان، فقلت لنفسي: وما الضَّير في ذلك؟ أليس الإنسان عقلاً وقلباً، وكما يحتاج العقل إلى غذاء، فإنّ القلب يحتاج إلى غذاء أيضاً. لهذا، فليكن الطّابع العام لحديثي في هذه المناسبة طابعاً وجدانيّاً، ولا سيَّما أننا في زمن تراجعت العواطف، وتخشَّبت الأحاسيس.

ما أحوجنا إلى حديث الرّوح!

 فما أحوجنا في هذه الأيّام إلى حديث القلب والرّوح والوجدان، إلى حديث يثير فينا الأحاسيس الإنسانيَّة، ويحرّك العواطف النبيلة، فإنّ كلّ ما يجري في أمّتنا ومن حولنا، من توحّش وسفك للدّماء، يشي بأمر واحد، وهو أنّ القلوب قد قست، وأنّ الإنسان فينا قد قتل، وأنّ الإنسانيّة هي الذّبيحة قبل أن يكون الإنسان هو الذّبيح، وأنّ الرصاصة التي تطلقها على الآخر، إنما تقتل إنسانيّتك قبل أن تصل إلى الآخر لتقتله، فقد قست القلوب حتى غدت كالحجارة أو أشدّ قسوة، وما أعجب هذا الإنسان! وما أغرب أمره! فبينما تراه حملاً وديعاً، سرعان ما يتحوّل إلى وحش كاسر ضارٍ ينهش لحم أخيه الإنسان بدمٍ بارد!

 وبكلّ أسف، أقول: لقد غادرتنا القيم والأخلاق، ومن أشرف وأنبل هذه القيم المغادرة، قيمة الأبوّة، فلم يعد الابن يعي معنى أن يكون فلانٌ أباه ؟ ولا الأب يعي معنى أن يكون أباً.

معنى أن يكون لك أب

أن يكون فلان أباك، يعني أنّه أصلك وأنت فرعه، ولا قيمة للفرع بدون الأصل، أن يكون فلان أباك، يعني أنّه الشجرة وأنت الغصن، وإذا انفصل الغصن عن الشجرة، أصابه الذبول واليباس.

أن يكون فلان لك أباً، فهذا يعني أنّ أقلّ ما يلزمك تجاهه، أن تبرّه وتحسن إليه، وأن تكون في خدمته، وتنحني إجلالاً واحتراماً له، وأن تبقى في خدمته كلّما احتاج إليك، فخدمة الأب هي عبادة لله تعالى، وطاعتك لأبيك هي من طاعتك لله تعالى، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}[1].

 أن يكون فلان لك أباً، فهذا يعني أن تعرف حقوقه عليك، وقد سئل الحبيب المصطفى: ما حقّ الوالد على ولده؟ فقال: "لا يسمّيه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله، ولا يستسب له"[2].

وقد جاء أحدهم ذات يوم إلى رسول الله(ص)، يشكو إليه أباه ويخاصمه، فقال: يا رسول الله، هذا أبي، وقد ظلمني ميراثي من أمّي، فأخبره الأب أنّه أنفقه عليه وعلى نفسه، فقال له النبي(ص): "أنت ومالك لأبيك"[3]. فما أقلّ حياء هذا الشخص، إذ يتجرأ ويقدّم أباه للمحاكمة ويشتكي عليه!

 وفي دعاء الإمام زين العابدين(ع) لوالديه: "اللّهمّ اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرّهما برّ الأمّ الرؤوف، واجعل طاعتي لهما وبرّي بهما، أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظّمآن"[4].

معنى أن تكون أباً

وأمّا أن تكون أباً، فليس معناه أن تكون قادراً على الإنجاب، فكلّ ذكر لديه قدرة على الإنجاب، حتى لو لم يكن من جنس البشر.

 أن تكون أباً، يعني أن تكون الحضن الدافئ لأبنائك، وأن تكون المرشد الناجح لهم، وأن تكون الحصن المنيع الذي يحميهم. وأن تكون أباً، يعني أن توزّع عاطفتك على الجميع دون انحياز، فقد رأى النبيّ(ص) رجلاً معه ولدان، وقد قبّل أحدهما وترك الآخر، فقال له: "هلاّ واسيت بينهما!"[5].

إنّ انحيازك العاطفي إلى ولد دون آخر، يعني أنّك تزرع الأحقاد بين الأبناء، ولذا، فعندما تطلب من ابنك أن يبرّك، فعليك أن تعينه على برّك، من خلال أخذك بأساليب التربية الناجحة، يقول أبو عبد الله(ع): "قال رسول الله(ص): رحم الله من أعان ولده على برّه، قال: قلت: وكيف يعينه؟ قال: يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه، ولا يخرق به"[6].

إنّ معنى أن تكون أباً، يحتّم عليك أن تهتمّ لأمر ابنك، وأن تعلم أنّ ابنك كنفسك، فتحبّ له ما تحبّ لها، وتكره له ما تكره لها. ومن وصيّة الإمام عليّ(ع) للإمام الحسن(ع): "ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي، حتّى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي"[7].

أن تكون أباً، أن تهتمّ بغذاء أبنائك المعنويّ والرّوحيّ، كما تهتمّ بغذائهم المادّيّ، وأن تهتمّ بجمالهم الروحي والخُلقي، كما تهتمّ بجمالهم الجسدي.

أن تكون أباً، أن تهتمّ بمستقبل أبنائك، وكثيراً ما نسمع البعض يقول: "أريد أن أؤمّن مستقبل أولادي"، وهذا جميل، ولكنّ الأمر المستغرب، أنّنا نهتمّ لمستقبلهم القريب، ولا نهتمّ بمستقبلهم البعيد، يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[8].

الأبوّة المعنويّة

في محراب الأبوّة، لا بدَّ من أن أطلّ على معنى آخر من معاني الأبوّة، ألا وهو الأبوّة المعنوية، فلكلّ منّا أب بيولوجي، وفي الغالب، فإنّ له أيضاً أباً معنويّاً. والأبوة المعنوية هي أبوّة الفكر، وأبوّة الرسالة، وأبوّة الإمامة، يقول النبيّ(ص): "يا عليّ، أنا وأنت أبوا هذه الأمّة"[9]، فرسول الله(ص) أبونا في الرّسالة، ونحن أبناؤه في الاتباع والاقتداء، وعيسى ابن مريم(ع) أبونا، ونحن أبناؤه في الحبّ والانتماء، وعلي بن أبي طالب(ع) أبونا، ونحن أبناؤه في الحبّ والولاء.

وإذا كان رسولُ الله(ص) أبانا جميعاً، فهذا يعني أننا أخوة، فكيف يستحلّ الأخ أن يأكل لحم أخيه! {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}[10]، ويا ليته يأكل لحم أخيه بالغيبة، فقد صار يأكله بالحقيقة! لقد كانت هذه الآية تشير إلى معنى مجازيّ في أكل لحم الأخ، وهو أكله بالغيبة، وإذا بمرور الزّمان يرينا العجائب، حيث إنّ الأمر أصبح حقيقيّاً.

وإذا كان عليّ بن أبي طالب(ع) أبانا جميعاً، (ونحن في هذه الأيام في ذكرى استشهاده)، فلماذا يريد البعض منا أن يقزّم عليّاً، ليكون أباً لجماعة أو طائفة دون أخرى؟! إنّ عليّاً عابر للطوائف والمذاهب، وهو في فكره ملك الإنسانيّة.

يقول بولس سلامة:

هو فخر التاريخ لا فخر شعب        يدّعيه ويصطفيه وليّا

لا تقل شيعةٌ هواة عليّ                إنّ في كلّ منصف شيعيّا

إنّما الشمس للنّواظر عيد              كلّ طرف يرى الشّعاع السنيّا

جلجل الحقّ في المسيحي حتّى        عدّ من فرط حبّه علويّا

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي       واخشعي إنّني ذكرت عليّا

إنّ أبوّة عليّ(ع) للمسلمين تجسَّدت في كلّ حياته، فهي الّتي دفعته ليتنازل عن حقّه من أجل مصلحة الأمّة، يقول(ع): "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصّة"[11].

وإني أتساءل معكم: أين الآباء الروحيّون لهذه الأمّة في هذه المرحلة؟ فما أحوجنا اليوم إلى أبوّة تجمع ولا تفرّق، أبوّة تحبّ ولا تكره، أبوّة تحتضن ولا تذبح، أبوّة تلمّ أبناءها جميعاً تحت سقف بيت واحد!

الأبوّة المجازية

وهناك شكل ثالث من أشكال الأبوّة، وهو الأبوة المجازية التي دعت وصايا النبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع) إلى تكريسها بين بني الإنسان والطّبيعة، فالأرض التي نعيش في كنفها، هي أمّنا وأبونا، فمنها خلقنا وإليها نعود. يقول النبيّ(ص): "تمسّحوا بالأرض، فإنّهما أمّكم، وهي فيكم برّة"[12]، وفي حديث آخر: "أكرموا عمّتكم النخلة"[13].

 فإذا كانت النّخلة عمّتنا، فما يمنع أن تكون الزّيتونة خالتنا، وأن تكون التينة ابنة خالتنا، وأن تكون الأرض أبانا، كما هي أمّنا.

إنّ هذه الأحاديث ترمي إلى تأكيد معنًى سامٍ ورائع، ألا وهو أنّ بينك ـ أيها الإنسان ـ وبين هذه الأرض التي تعيش في كنفها، علاقة نسبيّة، فهي أبوك وأمّك، فانظر كيف تتعامل معها، فلا تعتدِ على جمالها، ولا تعبث بنواميسها، كما يحصل اليوم، حيث أصبح الكوكب معرّضاً للمخاطر بكلّ ما فيه ومن عليه، وكلّ ذلك بما جنته أيدي النّاس: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[14].

وإذا كانت الأرض أمّنا، فعلينا أن نرأف بها كما نرأف بالأمّ، وأن لا نقسو عليها، فعندما تضع قدمك على النبات، فامش بهدوء ولا تسحقه، يقول الشاعر:

ارحم الغصن لا تنله بسوء    قد يحسّ النبات كالإنسان

واستمع للحفيف منه تجده     بات يشكو الإنسان للرّحمان

وإذا كانت الأرض أبانا وأمّنا، وهي مبدأنا وإليها معادنا، وهي مدفن آبائنا وأجدادنا، فمهلاً مهلاً أيّها الإنسان، لا تقس عليها، واعلم أنّك عندما تمشي عليها، فإنّك قد تضع قدمك على بقايا أجساد الآباء والأجداد، كما قال الإمام عليّ(ع) في بعض كلماته عند تلاوته لقول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[15]: ".. تطأون هامهم وتستثبتون في أجسادهم"[16]، وقد أخذ عنه المعرّي هذا المعنى، حيث يقول:

خفّف الوطء ما أظنّ أديم الـ               أرض إلا من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قدم العهـ                   د  هوان الآباء والأجداد

سر إن استطعت في الهواء رويداً             لا اختيالاً على رفات العباد

 علّمته الأرض

وحديث أبوّة الأرض هذا يأخذنا إلى الوالد الحبيب (رحمه الله)، فقد وعى أبوّة الأرض للإنسان جيّداً، ولذا، يمكنني وصفه بكلمة مختصرة، وهي أنّه ابن الأرض، وقد أقام علاقة صداقة معها، وتعلّم منها دروساً لا تعدّ ولا تحصى، فالأرض مدرسة، ونعم المدرسة لمن كانت له بصيرة، فقد علّمته الأرض معنى الأبوّة، وذلك عندما تحتضن البذرة، وتحنو عليها، وتسقيها، وتنمّيها، حتى تغدو شجرة باسقة.

علّمته الأرض الكرم والعطاء، فهي تعطيك بمقدار ما تعطيها، ولا تعرف البخل أبداً، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[17].

علّمته الأرض أن يكون حرّاً رافضاً للظلم، لأنّ الأرض لا يمكن أن تقبل عرقاً ظالماً فيها وغريباً عليها، فهي تلفظ العرق الّذي ليس من بيئتها ولا ينتمي إلى طينتها، ولا تسمح له بالبقاء طويلاً.

علّمته الأرض أن يكون صلباً قويّاً في مواجهة الأعاصير، فإنّ "الشجرة البريّة أصلب عوداً"[18]، كما قال أمير المؤمنين(ع).

علّمته الأرض أن لا يخضع ولا ينقاد إلا لله، فالأرض لا تعرف التمرّد على خالقها، كما قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[19].

هذا ما علّمته الأرض، أمّا هو، فقد بادلها الجميل بالجميل، والحبّ بالحبّ، فأعطاها من عرقه ومن دمه، أعطاها كلّ حياته، ولم يبخل عليها بشيء، وكانت الأرض وصيّته الأخيرة، وظلّ محبّاً لها ومهتماً لأمرها، إلى أن نزل في حناياها ملتحداً.

أشعر بالفخر والاعتزاز

لهذا ولغيره، فإنّي عندما أدخل محرابك يا أبتاه، أشعر بالفخر والاعتزاز، فقد كنت العبد الصالح المؤمن، كنت الصّابر المحتسب إلى الله تعالى، لقد كنت جبلاً من الصّبر، ولذا، لم يستطع المرض أن ينال من إيمانك وعزيمتك، لقد استطاع أن ينهك الجسد، لكن الرّوح بقيت محلّقة مع الله تعالى، كنت تتلوّى من وطأة الأوجاع على فراشك، ومع ذلك، ما كانت تصدر عنك كلمة "آخ"، بل كان وردك الدّائم هو ذكر الله تعالى، ولطالما أيقظتنا وأنت تناجي الله تعالى قائلاً في ذروة الوجع: "لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العليّ العظيم، سبحان الله ربّ السماوات السبع، وربّ الأرضين السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ وربّ العرش العظيم، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين"، أو قائلاً: "عفوك يا رب، عفوك يا رب".

ولا أنسى عندما استدعينا لك الطّبيب على عجل، فبينما كان يعاينك وأنت تترنّم بكلمات، قال لي: إنّه يريد شيئاً، فقلت له: كلا، إنّه لا يريد شيئاً، وإنّما هو يردّد الدّعاء مع الداعي الذي كان يسمع صوته عبر المذياع.

وإن أنسى، لا أنسى حرصك على المصلحة العامّة، وتفكيرك في الشأن العام، حتى وأنت تتلوّى وجعاً، فكم قلت لي في أيامك الأخيرة: إنّ البلدة تحتاج إلى مقبرة جديدة، فقد ضاقت المقبرة بأهلها، وكنت تقدّم لي اقتراحات عمليّة في هذا المجال، وكلّما دخلت عليك، كنت تسألني: ماذا فعلتم؟ وقد أخذني الفضول ذات مرّة، فسألتك: لماذا يهمك هذا الأمر؟ فقلت لي: أليس في ذلك أجر وثواب؟ فقلت لك، وقد طابت نفسي بنبل مقصدك: بلى، فإن "الدالّ على الخير كفاعله"[20].

 وإن أنسى، فلا أنسى حرصك على تواصل الأرحام، فقد زارك بعض الأرحام وأنت على فراش الموت، ونظر إليك، ولم يتمالك دموع عينيه، فقلت له: يا فلان، هل لي عندك كرامة؟ فأجاب قائلاً: أنا بخدمتك يا حاج، فقلت له: إذاً، صالح أختك فلانة، وكان لك ما أردت، وأحضرنا الطّرفين، وتعانقا وتصافحا في محضرك.

هذا بعض مما كنت عليه يا والدي، وإني إنما أذكره هنا للعبرة، وعسى أن نوفيك بعض حقوقك علينا.

سامحنا يا أبتاه على تقصيرنا وعقوقنا، فهذا العقوق يثقل أوزارنا، وآمل أن لا يستمرّ هذا العقوق بعد الموت.

رحمك الله، وأسكنك الفسيح من جنانه، وحشرك مع محمد وأهل بيته الأطهار.

* ألقيت في ذكرى أسبوع والد الشيخ الخشن، في حسينيّة بلدة سحمر اللبنانية، وذلك في 21 رمضان 1433هـ.


[1] [الإسراء: 23].

[2] الكافي، ج 2، ص 159.

[3] الكافي، ج 5، ص 135.

[4] الصحيفة السجادية، والوسنان هو من غلبه النعاس.

[5] عدة الداعي لابن فهد الحلي، ص79.

[6] الكافي، ج 6، ص 50.

[7] نهج البلاغة.

[8] [الملك: 6].

[9] علل الشرائع للصدوق، ج 1، ص 127.

[10] [الحجرات: 12].

[11] نهج البلاغة، ج 1، ص 124.

[12] المجازات النبوية للشريف الرضي، ص 269، ودعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري، ج 1، ص 178، المصنف لابن أبي شيبة، ج 1، ص 187.

[13] مجمع الزوائد للهيثمي، ج 5، ص 39.

[14] [الروم: 41].

[15] [التكاثر: 1].

[16] نهج البلاغة، ج 2، ص 205، بيان: الهام جمع هامة وهي أعلى الرأس، وتستثبتون، أي تحاولون إثبات ما تحتاجونه من الأعمدة ونحوها في الأرض، فأنتم تثبتون ذلك في أجسادهم.

[17] [الحج: 5].

[18] نهج البلاغة، ج 3، ص 73.

[19] [فصلت: 11].

[20] كما في حديث النبي الأكرم(ص). انظر: من لا يحضره الفقيه للصدوق، ج 4، ص 380.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .


في محراب الأب، تخجل الكلمات، وتخشع الأصوات، وتخرس الألسنة.. وإلى عرين الأب، يدخل المرء متهيّباً خائفاً وجلاً.. وعلى جثمان الأب، يقف الابن محدودب الظّهر، فقد بدأت مرحلة الشيخوخة والهرم، فإنّك حتى لو كنت في مقتبل العمر، ستبقى تشعر بطفولتك وأنت تعيش في كنف أبيك، فإذا ما فارق الدّنيا، شعرت بالكهولة.

وفي رثاء الأب، يقف الخاطر الملهم عاجزاً حائراً لا يهتدي بياناً، فماذا عساه يقول؟ وأيّاً كان ما يقول، شعراً أو نثراً، فإنّه لن يلامس شرف الأبوّة.

في محراب الأبوّة، وقفت حائراً بين حديث الفكر وحديث الوجدان، ودون وعي، وجدتني أنشدّ إلى حديث الوجدان، فقلت لنفسي: وما الضَّير في ذلك؟ أليس الإنسان عقلاً وقلباً، وكما يحتاج العقل إلى غذاء، فإنّ القلب يحتاج إلى غذاء أيضاً. لهذا، فليكن الطّابع العام لحديثي في هذه المناسبة طابعاً وجدانيّاً، ولا سيَّما أننا في زمن تراجعت العواطف، وتخشَّبت الأحاسيس.

ما أحوجنا إلى حديث الرّوح!

 فما أحوجنا في هذه الأيّام إلى حديث القلب والرّوح والوجدان، إلى حديث يثير فينا الأحاسيس الإنسانيَّة، ويحرّك العواطف النبيلة، فإنّ كلّ ما يجري في أمّتنا ومن حولنا، من توحّش وسفك للدّماء، يشي بأمر واحد، وهو أنّ القلوب قد قست، وأنّ الإنسان فينا قد قتل، وأنّ الإنسانيّة هي الذّبيحة قبل أن يكون الإنسان هو الذّبيح، وأنّ الرصاصة التي تطلقها على الآخر، إنما تقتل إنسانيّتك قبل أن تصل إلى الآخر لتقتله، فقد قست القلوب حتى غدت كالحجارة أو أشدّ قسوة، وما أعجب هذا الإنسان! وما أغرب أمره! فبينما تراه حملاً وديعاً، سرعان ما يتحوّل إلى وحش كاسر ضارٍ ينهش لحم أخيه الإنسان بدمٍ بارد!

 وبكلّ أسف، أقول: لقد غادرتنا القيم والأخلاق، ومن أشرف وأنبل هذه القيم المغادرة، قيمة الأبوّة، فلم يعد الابن يعي معنى أن يكون فلانٌ أباه ؟ ولا الأب يعي معنى أن يكون أباً.

معنى أن يكون لك أب

أن يكون فلان أباك، يعني أنّه أصلك وأنت فرعه، ولا قيمة للفرع بدون الأصل، أن يكون فلان أباك، يعني أنّه الشجرة وأنت الغصن، وإذا انفصل الغصن عن الشجرة، أصابه الذبول واليباس.

أن يكون فلان لك أباً، فهذا يعني أنّ أقلّ ما يلزمك تجاهه، أن تبرّه وتحسن إليه، وأن تكون في خدمته، وتنحني إجلالاً واحتراماً له، وأن تبقى في خدمته كلّما احتاج إليك، فخدمة الأب هي عبادة لله تعالى، وطاعتك لأبيك هي من طاعتك لله تعالى، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}[1].

 أن يكون فلان لك أباً، فهذا يعني أن تعرف حقوقه عليك، وقد سئل الحبيب المصطفى: ما حقّ الوالد على ولده؟ فقال: "لا يسمّيه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله، ولا يستسب له"[2].

وقد جاء أحدهم ذات يوم إلى رسول الله(ص)، يشكو إليه أباه ويخاصمه، فقال: يا رسول الله، هذا أبي، وقد ظلمني ميراثي من أمّي، فأخبره الأب أنّه أنفقه عليه وعلى نفسه، فقال له النبي(ص): "أنت ومالك لأبيك"[3]. فما أقلّ حياء هذا الشخص، إذ يتجرأ ويقدّم أباه للمحاكمة ويشتكي عليه!

 وفي دعاء الإمام زين العابدين(ع) لوالديه: "اللّهمّ اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرّهما برّ الأمّ الرؤوف، واجعل طاعتي لهما وبرّي بهما، أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظّمآن"[4].

معنى أن تكون أباً

وأمّا أن تكون أباً، فليس معناه أن تكون قادراً على الإنجاب، فكلّ ذكر لديه قدرة على الإنجاب، حتى لو لم يكن من جنس البشر.

 أن تكون أباً، يعني أن تكون الحضن الدافئ لأبنائك، وأن تكون المرشد الناجح لهم، وأن تكون الحصن المنيع الذي يحميهم. وأن تكون أباً، يعني أن توزّع عاطفتك على الجميع دون انحياز، فقد رأى النبيّ(ص) رجلاً معه ولدان، وقد قبّل أحدهما وترك الآخر، فقال له: "هلاّ واسيت بينهما!"[5].

إنّ انحيازك العاطفي إلى ولد دون آخر، يعني أنّك تزرع الأحقاد بين الأبناء، ولذا، فعندما تطلب من ابنك أن يبرّك، فعليك أن تعينه على برّك، من خلال أخذك بأساليب التربية الناجحة، يقول أبو عبد الله(ع): "قال رسول الله(ص): رحم الله من أعان ولده على برّه، قال: قلت: وكيف يعينه؟ قال: يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه، ولا يخرق به"[6].

إنّ معنى أن تكون أباً، يحتّم عليك أن تهتمّ لأمر ابنك، وأن تعلم أنّ ابنك كنفسك، فتحبّ له ما تحبّ لها، وتكره له ما تكره لها. ومن وصيّة الإمام عليّ(ع) للإمام الحسن(ع): "ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي، حتّى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي"[7].

أن تكون أباً، أن تهتمّ بغذاء أبنائك المعنويّ والرّوحيّ، كما تهتمّ بغذائهم المادّيّ، وأن تهتمّ بجمالهم الروحي والخُلقي، كما تهتمّ بجمالهم الجسدي.

أن تكون أباً، أن تهتمّ بمستقبل أبنائك، وكثيراً ما نسمع البعض يقول: "أريد أن أؤمّن مستقبل أولادي"، وهذا جميل، ولكنّ الأمر المستغرب، أنّنا نهتمّ لمستقبلهم القريب، ولا نهتمّ بمستقبلهم البعيد، يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[8].

الأبوّة المعنويّة

في محراب الأبوّة، لا بدَّ من أن أطلّ على معنى آخر من معاني الأبوّة، ألا وهو الأبوّة المعنوية، فلكلّ منّا أب بيولوجي، وفي الغالب، فإنّ له أيضاً أباً معنويّاً. والأبوة المعنوية هي أبوّة الفكر، وأبوّة الرسالة، وأبوّة الإمامة، يقول النبيّ(ص): "يا عليّ، أنا وأنت أبوا هذه الأمّة"[9]، فرسول الله(ص) أبونا في الرّسالة، ونحن أبناؤه في الاتباع والاقتداء، وعيسى ابن مريم(ع) أبونا، ونحن أبناؤه في الحبّ والانتماء، وعلي بن أبي طالب(ع) أبونا، ونحن أبناؤه في الحبّ والولاء.

وإذا كان رسولُ الله(ص) أبانا جميعاً، فهذا يعني أننا أخوة، فكيف يستحلّ الأخ أن يأكل لحم أخيه! {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}[10]، ويا ليته يأكل لحم أخيه بالغيبة، فقد صار يأكله بالحقيقة! لقد كانت هذه الآية تشير إلى معنى مجازيّ في أكل لحم الأخ، وهو أكله بالغيبة، وإذا بمرور الزّمان يرينا العجائب، حيث إنّ الأمر أصبح حقيقيّاً.

وإذا كان عليّ بن أبي طالب(ع) أبانا جميعاً، (ونحن في هذه الأيام في ذكرى استشهاده)، فلماذا يريد البعض منا أن يقزّم عليّاً، ليكون أباً لجماعة أو طائفة دون أخرى؟! إنّ عليّاً عابر للطوائف والمذاهب، وهو في فكره ملك الإنسانيّة.

يقول بولس سلامة:

هو فخر التاريخ لا فخر شعب        يدّعيه ويصطفيه وليّا

لا تقل شيعةٌ هواة عليّ                إنّ في كلّ منصف شيعيّا

إنّما الشمس للنّواظر عيد              كلّ طرف يرى الشّعاع السنيّا

جلجل الحقّ في المسيحي حتّى        عدّ من فرط حبّه علويّا

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي       واخشعي إنّني ذكرت عليّا

إنّ أبوّة عليّ(ع) للمسلمين تجسَّدت في كلّ حياته، فهي الّتي دفعته ليتنازل عن حقّه من أجل مصلحة الأمّة، يقول(ع): "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصّة"[11].

وإني أتساءل معكم: أين الآباء الروحيّون لهذه الأمّة في هذه المرحلة؟ فما أحوجنا اليوم إلى أبوّة تجمع ولا تفرّق، أبوّة تحبّ ولا تكره، أبوّة تحتضن ولا تذبح، أبوّة تلمّ أبناءها جميعاً تحت سقف بيت واحد!

الأبوّة المجازية

وهناك شكل ثالث من أشكال الأبوّة، وهو الأبوة المجازية التي دعت وصايا النبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع) إلى تكريسها بين بني الإنسان والطّبيعة، فالأرض التي نعيش في كنفها، هي أمّنا وأبونا، فمنها خلقنا وإليها نعود. يقول النبيّ(ص): "تمسّحوا بالأرض، فإنّهما أمّكم، وهي فيكم برّة"[12]، وفي حديث آخر: "أكرموا عمّتكم النخلة"[13].

 فإذا كانت النّخلة عمّتنا، فما يمنع أن تكون الزّيتونة خالتنا، وأن تكون التينة ابنة خالتنا، وأن تكون الأرض أبانا، كما هي أمّنا.

إنّ هذه الأحاديث ترمي إلى تأكيد معنًى سامٍ ورائع، ألا وهو أنّ بينك ـ أيها الإنسان ـ وبين هذه الأرض التي تعيش في كنفها، علاقة نسبيّة، فهي أبوك وأمّك، فانظر كيف تتعامل معها، فلا تعتدِ على جمالها، ولا تعبث بنواميسها، كما يحصل اليوم، حيث أصبح الكوكب معرّضاً للمخاطر بكلّ ما فيه ومن عليه، وكلّ ذلك بما جنته أيدي النّاس: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[14].

وإذا كانت الأرض أمّنا، فعلينا أن نرأف بها كما نرأف بالأمّ، وأن لا نقسو عليها، فعندما تضع قدمك على النبات، فامش بهدوء ولا تسحقه، يقول الشاعر:

ارحم الغصن لا تنله بسوء    قد يحسّ النبات كالإنسان

واستمع للحفيف منه تجده     بات يشكو الإنسان للرّحمان

وإذا كانت الأرض أبانا وأمّنا، وهي مبدأنا وإليها معادنا، وهي مدفن آبائنا وأجدادنا، فمهلاً مهلاً أيّها الإنسان، لا تقس عليها، واعلم أنّك عندما تمشي عليها، فإنّك قد تضع قدمك على بقايا أجساد الآباء والأجداد، كما قال الإمام عليّ(ع) في بعض كلماته عند تلاوته لقول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[15]: ".. تطأون هامهم وتستثبتون في أجسادهم"[16]، وقد أخذ عنه المعرّي هذا المعنى، حيث يقول:

خفّف الوطء ما أظنّ أديم الـ               أرض إلا من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قدم العهـ                   د  هوان الآباء والأجداد

سر إن استطعت في الهواء رويداً             لا اختيالاً على رفات العباد

 علّمته الأرض

وحديث أبوّة الأرض هذا يأخذنا إلى الوالد الحبيب (رحمه الله)، فقد وعى أبوّة الأرض للإنسان جيّداً، ولذا، يمكنني وصفه بكلمة مختصرة، وهي أنّه ابن الأرض، وقد أقام علاقة صداقة معها، وتعلّم منها دروساً لا تعدّ ولا تحصى، فالأرض مدرسة، ونعم المدرسة لمن كانت له بصيرة، فقد علّمته الأرض معنى الأبوّة، وذلك عندما تحتضن البذرة، وتحنو عليها، وتسقيها، وتنمّيها، حتى تغدو شجرة باسقة.

علّمته الأرض الكرم والعطاء، فهي تعطيك بمقدار ما تعطيها، ولا تعرف البخل أبداً، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[17].

علّمته الأرض أن يكون حرّاً رافضاً للظلم، لأنّ الأرض لا يمكن أن تقبل عرقاً ظالماً فيها وغريباً عليها، فهي تلفظ العرق الّذي ليس من بيئتها ولا ينتمي إلى طينتها، ولا تسمح له بالبقاء طويلاً.

علّمته الأرض أن يكون صلباً قويّاً في مواجهة الأعاصير، فإنّ "الشجرة البريّة أصلب عوداً"[18]، كما قال أمير المؤمنين(ع).

علّمته الأرض أن لا يخضع ولا ينقاد إلا لله، فالأرض لا تعرف التمرّد على خالقها، كما قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[19].

هذا ما علّمته الأرض، أمّا هو، فقد بادلها الجميل بالجميل، والحبّ بالحبّ، فأعطاها من عرقه ومن دمه، أعطاها كلّ حياته، ولم يبخل عليها بشيء، وكانت الأرض وصيّته الأخيرة، وظلّ محبّاً لها ومهتماً لأمرها، إلى أن نزل في حناياها ملتحداً.

أشعر بالفخر والاعتزاز

لهذا ولغيره، فإنّي عندما أدخل محرابك يا أبتاه، أشعر بالفخر والاعتزاز، فقد كنت العبد الصالح المؤمن، كنت الصّابر المحتسب إلى الله تعالى، لقد كنت جبلاً من الصّبر، ولذا، لم يستطع المرض أن ينال من إيمانك وعزيمتك، لقد استطاع أن ينهك الجسد، لكن الرّوح بقيت محلّقة مع الله تعالى، كنت تتلوّى من وطأة الأوجاع على فراشك، ومع ذلك، ما كانت تصدر عنك كلمة "آخ"، بل كان وردك الدّائم هو ذكر الله تعالى، ولطالما أيقظتنا وأنت تناجي الله تعالى قائلاً في ذروة الوجع: "لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العليّ العظيم، سبحان الله ربّ السماوات السبع، وربّ الأرضين السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ وربّ العرش العظيم، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين"، أو قائلاً: "عفوك يا رب، عفوك يا رب".

ولا أنسى عندما استدعينا لك الطّبيب على عجل، فبينما كان يعاينك وأنت تترنّم بكلمات، قال لي: إنّه يريد شيئاً، فقلت له: كلا، إنّه لا يريد شيئاً، وإنّما هو يردّد الدّعاء مع الداعي الذي كان يسمع صوته عبر المذياع.

وإن أنسى، لا أنسى حرصك على المصلحة العامّة، وتفكيرك في الشأن العام، حتى وأنت تتلوّى وجعاً، فكم قلت لي في أيامك الأخيرة: إنّ البلدة تحتاج إلى مقبرة جديدة، فقد ضاقت المقبرة بأهلها، وكنت تقدّم لي اقتراحات عمليّة في هذا المجال، وكلّما دخلت عليك، كنت تسألني: ماذا فعلتم؟ وقد أخذني الفضول ذات مرّة، فسألتك: لماذا يهمك هذا الأمر؟ فقلت لي: أليس في ذلك أجر وثواب؟ فقلت لك، وقد طابت نفسي بنبل مقصدك: بلى، فإن "الدالّ على الخير كفاعله"[20].

 وإن أنسى، فلا أنسى حرصك على تواصل الأرحام، فقد زارك بعض الأرحام وأنت على فراش الموت، ونظر إليك، ولم يتمالك دموع عينيه، فقلت له: يا فلان، هل لي عندك كرامة؟ فأجاب قائلاً: أنا بخدمتك يا حاج، فقلت له: إذاً، صالح أختك فلانة، وكان لك ما أردت، وأحضرنا الطّرفين، وتعانقا وتصافحا في محضرك.

هذا بعض مما كنت عليه يا والدي، وإني إنما أذكره هنا للعبرة، وعسى أن نوفيك بعض حقوقك علينا.

سامحنا يا أبتاه على تقصيرنا وعقوقنا، فهذا العقوق يثقل أوزارنا، وآمل أن لا يستمرّ هذا العقوق بعد الموت.

رحمك الله، وأسكنك الفسيح من جنانه، وحشرك مع محمد وأهل بيته الأطهار.

* ألقيت في ذكرى أسبوع والد الشيخ الخشن، في حسينيّة بلدة سحمر اللبنانية، وذلك في 21 رمضان 1433هـ.


[1] [الإسراء: 23].

[2] الكافي، ج 2، ص 159.

[3] الكافي، ج 5، ص 135.

[4] الصحيفة السجادية، والوسنان هو من غلبه النعاس.

[5] عدة الداعي لابن فهد الحلي، ص79.

[6] الكافي، ج 6، ص 50.

[7] نهج البلاغة.

[8] [الملك: 6].

[9] علل الشرائع للصدوق، ج 1، ص 127.

[10] [الحجرات: 12].

[11] نهج البلاغة، ج 1، ص 124.

[12] المجازات النبوية للشريف الرضي، ص 269، ودعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري، ج 1، ص 178، المصنف لابن أبي شيبة، ج 1، ص 187.

[13] مجمع الزوائد للهيثمي، ج 5، ص 39.

[14] [الروم: 41].

[15] [التكاثر: 1].

[16] نهج البلاغة، ج 2، ص 205، بيان: الهام جمع هامة وهي أعلى الرأس، وتستثبتون، أي تحاولون إثبات ما تحتاجونه من الأعمدة ونحوها في الأرض، فأنتم تثبتون ذلك في أجسادهم.

[17] [الحج: 5].

[18] نهج البلاغة، ج 3، ص 73.

[19] [فصلت: 11].

[20] كما في حديث النبي الأكرم(ص). انظر: من لا يحضره الفقيه للصدوق، ج 4، ص 380.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية