قال الله سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 59 ـ 62]. {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}[الأعراف: 67ـ 68].
يقوم بناء الشخصيّة الإسلاميّة على فلسفة تربويّة، قوامها أنّ الإنسان هو مصدر الخير الّذي ينبع من عقله وقلبه ويده وعمله وكلّ كيانه، فالأنانيّة واللامبالاة لا وجود لهما في قاموس الإسلام، بل معيار إيمان الإنسان، هو ما يتركه من آثار الخير والبركة والنّفع في الناس، وهذا لا يتعلّق بالمنجزات المادّيّة فحسب، بل بالأمور التي تصرف في قاموس الإنسانيّة، في تعامُلِ الإنسان مع أخيه الإنسان. وهنا، نستذكر الحديث الّذي يقول: "عاشروا النّاس معاشرةً إن غبتم حنّوا إليكم، وإن متّم بكوا عليكم".
فمادّة الخير لا تقف عند حدود المال، كما يتصوّر بعض النّاس، فالبسمة خير، والكلمة الطيّبةُ خير، والتّحيّة خير، والرّحمة خير، وحسن العشرة والتّسامح خير، والدّعم والتّشجيع خير، ومن هذا الخير: النّصيحة والنّصح.
مسؤوليّة النَّصيحة
النّصيحة ثمرة محبَّة، وهي "من أخلاق الكرام"، كما يقول الإمام عليّ(ع). ويضيف: "المؤمن غريزته النّصح". لهذا، جعلها الإسلام واجباً، وها هو رسول الله يعرّف الإسلام بقوله: "الدين النّصيحة".
وإذا تأمّلنا سيرة معظم الأنبياء والرّسل، نجد أنّ النّصيحة هي العنوان الّذي انطلقوا به، فلا إكراه في الدّين، فالنبيّ نوح نصح قومه مئات السّنين، يبيّن ويعظ ويرشد وينصح: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وهود لم يكن يكلّ ولا يملّ، وكان يخاطب قومه: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}.
فمن هنا، نفهم لماذا كانت النّصيحة حجر زاوية في مسيرة الرّسالة، تُقَدَّم إلى كلّ من يحتاج إليها؛ إلى من يطلبها أو حتى من لا يطلبها، "يجب للمؤمن على المؤمن النّصيحة له في المشهد والمغيب"، "المؤمن أخو المؤمن، يحقّ عليه النّصيحة". هي حقّ، وليست منّةً أو جميلاً أو مصلحة أو رصيداً للانتفاع به فيما بعد.
وللتّشجيع على هذا السّلوك الحميد، فقد اعتبرها الإسلام من السبل التي تعبّد الطّريق إلى الجنّة: "إنّ أعظم النّاس منزلةً يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنّصيحة لخلقه". وعن الإمام الصّادق(ع): "عليكم بالنّصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه".
ومن هنا، نفهم، أيّها الأحبّة، لماذا أزال الإسلام من أمام النّصيحة عائق الغيبة، رغم أنها من الكبائر، فهو أجاز لك أن تتحدّث عن عيوب إنسان ما في حال جاء من يطلب نصحك لتوظيفه أو لتزويجه أو للتّشارك معه أو غير ذلك، بل يحقّ لك أن تُبادر وتحذّره من هذه العيوب، وإن لم تفعل، فأنت تتحمّل مسؤوليّة ذلك إلى يوم القيامة.
مستلزمات النّصيحة
إنّ الّنصيحة في الإسلام ليست ترفاً فكريّاً أو اجتماعيّاً، بل هي واجبٌ وفريضة، يجب على المتمكّن أن يقدم عليها، وهو غير معذور أبداً، حتّى ولو كانت هناك صعاب.
عليه أوّلاً اختيار الأسلوب الأمثل للنّصيحة، ثم اختيار المكان والزّمان، وقبل كلّ شيء، عليه أن يكون قد قام بدور النّاصح لنفسه، وإلا لا نفع من نصحه للنّاس، وينطبق عليه قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}[البقرة: 44]. من يبدأ بنصح النّاس قبل نفسه وأهله، يفقد مصداقيّته ولا يُقبل منه. وقد ورد عن عليّ(ع): "إنّ أنصح النّاس أنصحهم لنفسه، وأطوعهم لربّه".
ثم على النّاصح أن يصبر، إذ حثّ الإسلام الناصحين على ضرورة الصّبر وتحمّل ردود الفعل ممن قد لا يعون أهميّة النّصائح الّتي توجّه إليهم، أو يعتبرونها إساءةً وانتقاصاً من مواقعهم، أو تعليماً عليهم، فيصدونهم.
قديماً، كانت النصيحة بجمل، كما يقال في المثل، فالّذين كانوا قدوةً وأسوةً، كانوا مقصد طالبي النّصيحة الّتي يُدفَع مقابلها جمل، والجمل كان أثمن شيء يومها. أمّا اليوم، فقد بات بعض الناس ينظرون إليها كتهمة أو تسجيل نقطة، الإمام عليّ(ع) ينصح: "يا أيّها النّاس، اقبلوا النّصيحة ممن نصحكم، وتلقّوها بالطاعة ممن حملها إليكم، واعلموا أنّ الله سبحانه لم يمدح من القلوب إلا أوعاها للحكمة، ومن النّاس إلا أسرعهم إلى الحقّ". وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): "اتبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاشّ". وورد في الحديث أيضاً: "ليكن أحبّ النّاس إليك المشفق النّاصح"، وفي حديث آخر: "من أمرك بإصلاح نفسك، فهو أحقُّ من تطيعه".
استعادة ثقافة النّصيحة
النّصيحة هي أعظم هديّة تُهدى إلينا، فكم من كلمة أنارت لنا دروب حياتنا، وقلّلت من أخطائنا، ودفعت المكاره عنّا، وأعانتنا على مواجهة صعوبات الحياة، وقوّت فينا العزم والإرادة، وأحيت فينا الأمل، وأعادتنا إلى أحضان الإيمان؟!
النّاصح المؤمن، لا يمكن له انطلاقاً من إيمانه، أن يرى أحداً يسير في طريق خطأ ويتركه، بل يخبره. وفي المناسبة، قد يكرهه ذلك الشّخص، ولا يتقبّل منه، ولكن لا يمكن له إلا أن ينصحه، فهو يعرف أنّه إذا لم يجد نتيجة، فعلى الأقلّ أُعذِر إلى الله: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف: 164].
لا بدّ من استعادة ثقافة النّصيحة؛ هذه الفضيلة الاجتماعيّة الكبرى، لتكون هي الحاكمة في علاقاتنا، بعدما ضيّعناها في الحسابات الماديّة أو في حسابات المصالح، وقد ورد عن عليّ(ع): "لا خيرَ في قومٍ ليسوا بناصحين، ولا خير في قوم لا يحبّون النّاصحين".
اليوم، ترى المشهد: لا يعطي أحد النّصيحة إلا لقاء مصلحة. وفي المقلب الآخر، لا يتقبّل أحد النّصيحة بسبب الشّكّ والرّيبة والخوف، أو بحجّة الخصوصيّة، أو لعُقَد من الشّخص النّاصح، أو إقراراً بالضّعف وتفوّق الآخر عليه... لقد أضعنا هذه الفضيلة، وخسرنا من ثواب النّصح والتّواصي بالحقّ، وثوابها صدقة جارية، ونحن نخسر أكثر من عدم تقبّلنا لنصائح الآخرين. {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[سورة العصر]. نخسر لأنّ نصائح المجرّبين المخلصين الأمناء الحريصين، توفّر علينا الكثير من المعاناة، وتختصر علينا مسافةً بدل البدء من الصّفر... ونحن في المناسبة، متمرّسون بالبدء من الصّفر أو ما تحت الصّفر في كلّ المشاريع التجاريّة والاجتماعيّة والإعلاميّة والثقافيّة.. ترانا نبدأ من حيث بدأ الآخرون، لا ينظر أحد إلى تجربة من سبقه، لا يريد أن يراها، في الوقت الّذي عليه استخلاص النصح من هذه التّجربة أو تلك، والاستشارة، والوقوف على تجارب السّابقين، حتّى يتفادى الأخطاء التي وقعوا فيها.
إن النّصح يكون بالقول أو العمل، ننتصح من الأفراد ومن التّجارب أيضاً، وغير مسموح، أيّها الأحبّة، أن يعاد الخطأ ويكرّر على مستوى التّجارب المختلفة للأفراد، للحركات والأحزاب والتيّارات والقيادات والمدارس والمناهج والبرامج، وكلّ التّجارب الإنسانيّة والعمليّة المختلفة، سواء كانت في المجتمع الواحد، أو في البلدات المختلفة، أو في الدّول المختلفة.
يقال إنّ من الحكمة الإنسانيّة أن لا يقع الإنسان في خطئه مرّتين. ونقول فوق هذا: ينبغي على الإنسان أن لا يعيد ارتكاب أخطاء غيره أيضاً.
نعم، عندما تستنسخ أخطاء الآخرين، وتمشي على خطاهم، فأنت تغبن نفسك وتغشّها، ولا ينفعك أن تدير ظهرك أو تشيح بوجهك. تجارب النّاس هي ملك البشريَّة، وعلى الإنسان الاستفادة منها كلّها.. وإلا، كيف يمكن لنا، في رأيكم، أن نتطوّر إذا كنا نقلّد بعضنا بعضاً، ونستنسخ تجارب بعضنا بعضاً؟ ليس هكذا نعمّر الأرض، ولا هكذا ننمو، بل هذا يجعلنا نسير كالسّلحفاة، فيما الآخرون يراكمون تجاربهم ويتطوّرون...
عندما تحدّث الإمام الصّادق(ع) عن عليّ(ع)، قال: "إنّ عليّاً(ع) كان عبداً ناصحاً لله عزّ وجلّ، فنصحه"، وها هو الإمام عليّ ينصحنا، ويشير إلى ناصح موجود بين أيدينا لنتمسّك به، فيقول:
"اتّعظوا بمواعظ اللّه، واقبلوا نصيحة اللّه، واعلموا أنَّ هذا القرآن هو النّاصح الّذي لا يغشّ. استنصحوه على أنفسكم، واتّهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم". ونصيحة عليّ هذه وحدها تحتاج إلى تبحّر واستنصاح واستفادة.
المصدر: جريدة النهار الكويتيّة
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .