في خطبة الجمعة الّتي ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة
حريك بتاريخ 20/2/2004، تحدَّث سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض)
عن مناسبة المباهلة وما تعنيه من دلالات، وعن قصّة الوفاء بالنَّذر ومعانيها
السّامية، داعيا إلى أن يعيش المؤمنون ذهنيَّة العطاء في حياتهم.
جاء في خطبة سماحته:
"{إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. في أواخر هذا الشّهر ـ ذو الحجّة ـ مرّت مناسبتان
تتصلان بأهل البيت (ع)؛ الأولى، وهي مناسبة المباهلة، وقد تحدَّث الله عنها في
القرآن الكريم في قصّة نصارى نجران الّذين جاؤوا إلى رسول الله (ص) من أجل أن
يحاجّوه في دعوته إلى الإسلام، على حسب ما أنزله الله عليه من القرآن.
فاستقبلهم رسول الله (ص) استقبالاً حارّاً، واستضافهم في مسجده، وعندما حان وقت
صلاتهم، صلّوا في المسجد وضربوا الناقوس، واستنكر المسلمون ذلك، وقالوا لرسول الله
كما تقول الرواية: "أهذا في مسجدك؟"، وهم على ما هم عليه من الدين الذي يخالف
الإسلام، فقال(ص): "دعوهم يصلّون كما يشاؤون".
وعندما بدأ الجدال بينهم وبين رسول الله (ص)، قالوا: "إلى من تدعو؟ قال (ص): "إني
أدعو إلى الله الواحد الأحد، وأنّ عيسى (ع) عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم...".
قالوا: كيف يكون مخلوقاً، كيف يكون بشراً وهو لا أب له؟ لأنهم يعتقدون أن عيسى (ع)
قد تجسّد الله فيه، أي أنّ فيه جانباً لاهوتياً وجانباً ناسوتياً، وهذا ما نسمعه من
المسيحيين عندما يقولون ربنا يسوع المسيح، فحدّثهم الرسول (ص) عن آدم، وقال لهم إنّ
الله يقول: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ
* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}،
ثم قرأ عليهم هذه الآية: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ
مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}. عندها عجزوا عن الجواب، لأنهم كانوا
يعتقدون أن جانب الألوهية بالسيد المسيح يتحقق من كونه لا أب له، فأجابهم بأنّ آدم
بشر، ومع ذلك لا أب له ولا أمّ، لأنّ كلّ ذلك يخضع لقدرة الله، والله قادر على أن
يخلق بشراً من أب وأمّ، وأن يخلق بشراً من دون أب وأمّ، كما هو قادر على أن يخلق
بشراً من أمّ دون أب، فالله لا يحكمه قانون، بل إرادته هي القانون، {إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون}.
وبدأ الجدال، ولكنّهم لم يقتنعوا، ووصلوا إلى الطريق المسدود، فعرض الرّسول (ص)
عليهم أن يتباهلوا، وكان من المعروف عند الأديان الأخرى، أنّه عندما يتعقّد الجدال،
يقف الطرفان أمام الله ويبتهلان إليه أن يلعن الكاذب منهما، وأن يعاقبه بطريقة أو
بأخرى. فوافقوا على المباهلة، واتّفقوا على أن يأتوا بجماعة أحبّاء لهم، وأن يأتي
النبيّ بأحبّاء له. وعندما افترقوا، قال لهم رئيسهم انظروا الأشخاص الذين سيأتي بهم
محمَّد، فإن كانوا من أقرب الناس إليه فلا تباهلوه، ولكن إذا كانوا أناساً عاديّين
من الصحابة فباهلوهم، فجاء النبيّ (ص) ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين، فعندما رآهم
نصارى نجران قالوا من هؤلاء؟ قالوا هذه ابنته، وهذا ابن عمّه وصهره، وهذان ابنا
ابنته، فقال لهم لا تباهلوهم، وعقدوا مع النبيّ (ص) معاهدة، وقد أنزل الله هذه
الآية: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ
تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ
وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ}، واعتبر ذلك مكرمة لأهل البيت (ع)، باعتبار أنّ النبيّ (ص) جاء بأحبّ
الناس إليه، لأنّه أراد أن يثبت لهؤلاء صدقه، فالمباهلة تؤدّي إلى نتيجة حاسمة، وهي
أن الله يعاقب الإنسان الكاذب، فيرسل عليه ناراً تكون عقاباً أو ما إلى ذلك.
وكذلك نستفيد من هذه الآية، أنّ علياً (ع) هو نفس النبيّ؛ عقله عقله، وروحه روحه،
وعلمه علمه، وروحانيّته روحانيّته، لأنّه قال: {وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} معتبراً
عليّاً (ع) نفسه. وقد أثبت الرّسول (ص)، من خلال هذه الآية، أنّ هؤلاء الأشخاص هم
أقرب الناس إلى عقله وروحه، وأحبّ الناس إليه، لأن رسول الله عندما يحبّ ـ وإن كان
يحبّ بعاطفته ـ فإنما يحبّ من خلال ما يمتلكه هؤلاء من عناصر الحبّ، والنبيّ لا يحبّ
إلا من أحبّه الله، ولا يبغض إلا من أبغضه الله.
ونستفيد من هذه الآية أيضاً، أنّ المباهلة خطّ عام، يمكن أن يلجأ إليها الناس في كلّ
مناسبة تشبه هذه المناسبة، وهي تدلّ على أن النبيّ (ص) كان منفتحاً على الحوار
الإسلامي المسيحي، ولذلك عندما طلبوا منه أن يحاجّوه وأن يجادلوه وأن يحاوروه،
استجاب لهم وأكرمهم غاية الإكرام، وجعلهم يصلّون صلاتهم في مسجده، مع أنّ الصلاة
الإسلامية تختلف عن الصلاة النصرانيّة، وهذا يدلّ على سماحة الإسلام، وعلى انفتاحه
على الأديان الأخرى، وعدم تعقّده من الحوار والجدال معهم، وقد أكّد القرآن ذلك {وَلَا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ
إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، وهكذا في
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ}.
والمناسبة الثانية التي تعرَّض لها القرآن، والتي تمثّل فضائل أهل البيت (ع) في
تجسيد الخطّ العام، في الأخلاقيّة الإسلاميّة، هي أنّ الحسن والحسين(ع)، كما ورد في
الرواية، مرضا، فعادهما رسول الله (ص)، وقال لعليّ وفاطمة انذرا أن تتصدّقا بشيء أو
تصوما إذا شفاهما الله. ونذر عليّ وفاطمة ذلك، واستجاب الله نذرهما، وصاما ثلاثة
أيّام، ولأنّ الإمام عليّاً (ع) كان لا يملك شيئاً، استقرض من شخص يهوديّ في
المدينة مالاً اشترى به ثلاث أصواع من شعير، فخبزتهما فاطمة (ع)، وجلسا ومعهما
خادمتهما فضّة للإفطار، وعندما همَّا بالإفطار، دقّ الباب عليهما، وإذ بمسكين
يسألهما أن يعطيانه مما أعطاهما الله، فأعطاه عليّ (ع) ثلث الخبز، وما إن ذهب
المسكين حتى جاء يتيم، فأعطاه الثّلث الثاني، وما إن ذهب اليتيم حتى جاءهم أسير،
فأعطاه الثّلث الثالث، وأفطرا على الماء وبقيا طاويين. وفي رواية أنه في كلّ يوم
كان يأتي واحد من هؤلاء ويعطيانه، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: {يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن
رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُور}.
ونزلت هذه الآية تكريماً لأهل البيت (ع)، وتأكيداً للخطّ الذي انطلقوا به، من
الوفاء بالنّذر، خوفاً من الله، ووفاءً بما التزموا به، لأنّ الإنسان إذا خالف نذره،
فإن ذلك يعني تمرداً على التزامه أمام الله سبحانه وتعالى.
ثم إنّ الأمر الثاني الذي ذكرته الآية، هو أنهم يطعمون الطعام على حاجتهم إليه
وحبّهم له، لأنّ الله تعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ
مِمَّا تُحِبُّونَ}، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ}، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً
وَأَسِيراً}، وعندما يطعمون، لا يطلبون من أحد شكراً أو عوضاً أو جاهاً أو ما إلى
ذلك، وإنما يطعمون وينفقون ويعطون قربةً إلى الله تعالى، كما يصلّون قربةً إلى الله.
وهذا أيضاً يعطينا فكرة: أنّ على الإنسان أن يعيش العطاء، أن يفكر في المساكين، في
اليتامى، في الأسرى، وأن يعطيهم مما أعطاه الله سبحانه وتعالى ومما رزقه، أن يعطيهم
قربةً إلى الله تعالى، لأنّه سبحانه يعوّض الإنسان الذي يعطي قربةً إليه، بالثّواب
العظيم الذي لا حساب له.
ثم إنّ على الإنسان من خلال هذه الآيات، أن يستحضر موقفه يوم القيامة {إِنَّا
نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}، لأنّ الإنسان عندما يعيش في
هذه الدنيا، فإن عليه أن يعمل على أساس الحصول على رضا الله، وأن يتفادى غضبه، وأن
لا يفكّر في تفاصيل حياته هذه، وإنما عليه أن يفكّر في يوم القيامة، وكيف سيكون
موقفه، وكيف يكون جزاؤه {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ
أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
إنّ علينا أن نفكر في يوم القيامة عندما نعيش مع أنفسنا ومع عيالنا ومع الناس من
حولنا، حتى نعرف أنّ الله سبحانه وتعالى يرضى عنّا بما قدّمناه من أنفسنا {الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ
عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَل}.
وهؤلاء ـ أيّها الأحبّة ـ هم أهل البيت (ع)، الذين أكرمهم الله بكرامته، لأنهم
أحبّوه كما ينبغي أن يُحَبّ، وأطاعوه كما يجب أن يُطاع، وعبدوه كما تكون العبادة،
وعلينا أن نسير بسيرتهم، وأن نلتزم هداهم. وقصّة ولاية أهل البيت هي قصّة العمل،
وقصّة السّير في خطهم الذي هو خطّ الإسلام الأصيل".