بتاريخ 25 ذي الحجّة 1428هـ/ الموافق: ٤/١/٢٠٠٨، تحدَّث سماحة العلامة المرجع
السيّد محمّد حسين فضل الله (رض) في خطبة الجمعة، في مسجد الإمامين الحسنين (ع)، عن
صفتين أراد الله للمؤمنين الأخذ بهما، وهما صدق الحديث وأداء الأمانة، لما لهما من
انعكاس على شخصيّة المؤمن وعلاقته بمن حوله، مستشهدًا بأحاديث لأهل البيت (ع) تؤكّد
أهميّة هاتين الصّفتين.
جاء في خطبة سماحته:
"هناك صفتان إيجابيتان أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان المؤمن أن يلتزمهما في بناء
شخصيته الإيمانية، بحيث يشعر الناس عندما يعيشون معه، بأنّهم يأمنون على أموالهم
عنده، ويثقون بأحاديثه التي ينقلها إليهم، فهو يمنح الناس الإحساس بالأمان عندما
يعيشون معه، بلا فرق بين أن يكون الموقع داخل العائلة، كالأب مع أولاده، أو الزوجة
مع زوجها، أو الزوج مع زوجته، أو الناس مع بعضهم البعض، أو أن يكون في مواقع
اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.
وهاتان الصفتان، هما اللتان أراد الله لكل نبي عندما يرسله أن يتّصف بهما، لأن حركة
الرسالة في حركة النبي ترتكز عليهما. وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع) قوله في
تأكيد ذلك: "إن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ
والفاجر"، فلا بدّ للنبي من أن يكون منذ بداية حياته، وقبل أن يرسله الله بالنبوّة،
أن يكون صادق الحديث، وأن يكون الأمين على أموال الناس وعلى أنفسهم وعلى أعراضهم...
وهذا ما حدثتنا السيرة النبوية عنه في حديث رسول الله (ص)، أنه كان قبل أن يُبعث
بالرسالة في مدى 40 سنة، كان يُعرف بصدق الحديث وأداء الأمانة، حتى غلب عليه هذا
اللقب، بحيث إنهم استبدلوا اسمه بهاتين الصفتين، فكانوا إذا تحدثوا عنه قالوا: "قال
الصادق الأمين"، و"جاء الصادق الأمين".
وكان النبي (ص) مستودع أمانات الناس، حتى بعد أن بعثه الله بالرسالة، وعندما كانوا
يتحركون بالعداوة ضده وضد رسالته، كانوا إذا أرادوا أن يودعوا أموالهم أودعوها عنده.
ولذلك كان سبب تأخر عليّ (ع) في مكة عدة أيام عن هجرة النبي، أن النبيّ (ص) أبقاه
في مكة من أجل أن يسلّم الناس ودائعهم التي كانت مودعةً عنده. وقد أكد الله مسألة
الأمانة في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا}(النساء: 58)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ
اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(الأنفال:
27).
وأمّا مسألة صدق الحديث، فهي من المسائل التي تؤسِّس لحالة من الاستقرار الفكري
والسياسي والاجتماعي بين الناس، لأنّ الإنسان إذا صدق في حديثه في كل ما يخبر به،
سواء كان حديثه يتعلق بالجانب الديني أو بالجوانب الأخرى من الحياة، اطمأنّ الناس
له، واعتبروا ما حدّثهم به هو الحقيقة. وقد حدّثنا الله عن الصدق في قوله تعالى: {وَالَّذِي
جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}(الزّمر: 33).
أمّا أداء الأمانة، فإنها ربما تتمثّل عند الناس في العرف الاجتماعي العام، بإيداع
الإنسان مالاً عند شخص، ولكن الأمانة تشمل كلّ التزام للإنسان مع الإنسان الآخر، في
كل ما يتعلق بشؤون حياته؛ فعقد الزواج هو أمانة الله، فيما شرَّعه الله من الحقوق
الزوجية للزوج تجاه الزوجة، وللزوجة تجاه الزوج، فالزوجة هي أمانة الله عند زوجها،
فليس له أن يخونها أو يظلمها أو يضطهدها أو يتجاوز التزاماته الزوجية معها، والزوج
هو أمانة الله عند زوجته، فليس لها أن تخونه أو تتجاوز التزاماتها الشرعيّة التي
التزمتها معه.
وهكذا في الحياة الاقتصادية، فإنّ الالتزامات الاقتصادية تمثِّل أمانةً للناس بعضهم
مع بعض، وكذلك الأمر في الالتزامات السياسية، فالإنسان عندما يكون في موقع سياسي،
سواء كان في موقع رسمي أو في موقع من مواقع القرار، لا بدّ له من أن يؤدي الأمانة
إلى الناس الذين ائتمنوه على الموقع الذي وضعوه فيه، أو على القرار الذي يصدر عنه
في قضاياهم العامّة والخاصّة. وهكذا في كلّ موقع يلتزمه إنسان مع إنسان آخر.
ولأنّ قضيّة صدق الحديث وأداء الأمانة من الأمور التي تمثّل أساس الثقة بالشخصيّة،
ورد في الحديث عن الإمام الصّادق (ع) قوله: "لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم ـ يعني
إذا أردت أن تثق بإنسان، فلا يغرّك أنه يصلّي في اللّيل والنهار، أو يصوم الأشهر
الثلاثة ـ فإنّ الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم، حتى لو تركه استوحش ـ قد تكون
الصلاة عادةً لم تنشأ من تقوى النفس، وقد يكون الصوم عادةً يعتادها الإنسان منذ
طفولته، فهذه الأمور لا تمثل أساس الثقة بالشخصية ـ ولكن اختبروهم عند صدق الحديث
وأداء الأمانة"، فإذا رأيت الإنسان يصدق في حديثه فلا يكذب، ويؤدي الأمانة فلا
يخونها، فاعتبروه ثقةً، وتعاملوا معه على هذا الأساس.
وورد أيضاً عن الإمام جعفر الصادق (ع)، أن بعض أصحابه أرسل إليه رسالةً يقول له
فيها: إني أريد أن أكون في موقع الثقة عندك، فأرسل إليه الصادق (ع): "اُنظر ما بلغ
به عليٌّ عند رسول الله فالزمه ـ لماذا كان رسول الله يعظِّم عليّاً (ع)؟ ولماذا
كان (ص) يرتفع بعليّ إلى الدرجة العليا في إكرامه واحترامه وكانت له المنزلة
الكبيرة عنده؟ ـ فإنّ عليّاً إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله، بصدق الحديث وأداء
الأمانة"، فقد كان الرّسول (ص) في صحبته لعليّ (ع)، يرصده في حركته، فيراه صادق
الحديث، كما كان النبيّ (ص) صادق الحديث، ويراه مؤدّياً للأمانة، كما كان النبيّ
يؤدّي الأمانة، فإذا أردتم أن تكونوا في موقع احترام وثقة عند الناس، فالزموا صدق
الحديث وأداء الأمانة.
وفي حديث الإمام الصّادق (ع): "كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم ـ وهذا موجّه إلى كل
الذين يعظون الناس الآخرين ويدعونهم إلى الإسلام، حيث يقف الواعظ ويحدِّث الناس عن
الكتاب والسنَّة ـ وليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع"، يعني عليكم أن تمارسوا
الصّدق في حياتكم وفي علاقاتكم مع الناس، وأن تكونوا في حالة الورع في أداء الأمانة،
وأن تلتزموا بما ألزمتم به أنفسكم، فإنّ الناس إذا رأوكم بهذه الحالة، أحبّوا
الإسلام وأحبوا الدين، لأنهم يرون الدين يتجسّد في سلوككم العملي، كما جاء في قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ *
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(الصّف: 2-3).
وفي مقابل الصدق، ينقل الإمام محمد الباقر عن أبيه الإمام علي بن الحسين زين
العابدين (ع)، قوله لولده عندما كان يعظهم ويوصيهم: "اتّقوا الكذب الصّغير منه
والكبير ـ سواء كانت كذبة صغيرة أو كبيرة ـ في كلّ جدّ وهزل ـ سواء كنت تكذب في
حالات الجدّ أو الهزل، مثل كذبة نيسان، حيث يلجأ بعض الناس إلى نشر أخبار في الصحف،
والتي تهز الواقع السياسي والواقع الاقتصادي والاجتماعي، وفي اليوم الثاني، يقولون
اسمحوا لنا هذه كذبة نيسان، أو ما أشبه ذلك. لذلك لا فرق في حرمة الكذب بين أن يكون
الكذب في حالة الهزل أو الجدّ ـ فإنّ الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير،
أما علمتم أنّ رسول الله (ص) قال: مايزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صدّيقاً،
ومايزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذّاباً".
وورد عن الإمام الباقر (ع) قوله: "إنّ الله عزّ وجلّ جعل للشّرّ أقفالاً، وجعل
مفاتيح تلك الأقفال الشّراب ـ الشراب الذي يذهب بعقل الإنسان، لأنّ عقل الإنسان
ينفتح على الخير، وعلى كل ما يرتفع بمستواه عند الناس وعند الله ـ والكذب شرّ من
الشراب"، فالشراب يمثل شراً لصاحبه، حيث يتحرك الشارب فيفعل السيّئة دون قصد، ولكن
الكذّاب يفعل السيّئة ويغشّ الناس ويخدعهم مع القصد في هذا المقام. وأيضاً ورد عن
الإمام الباقر (ع): "إنّ الكذب هو خراب الإيمان". وورد عن الإمام عليّ (ع): "لا يجد
عبدٌ طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجدّه".
وهناك حالة يجوز فيها الكذب، بل يستحبّ، وقد أشار إلى هذه المسألة الإمام الصادق
(ع) في حديثه عندما قال: "الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، وإصلاح بين الناس". قيل له:
جعلت فداك، ما الإصلاح بين الناس؟ قال: "أن تسمع من الرّجل كلاماً يبلغه فتخبث نفسه،
فتلقاه وتقول: سمعت فلاناً يقول فيك من الخير كذا كذا، خلاف ما سمعت منه"، ذلك من
أجل الإصلاح بين الناس، وأيضاً من أجل إنقاذ إنسان مؤمن، فإنّه يجوز للإنسان أن
يكذب. وفي الحديث عن الإمام الباقر (ع): "إنّ أوّل من يكذّب الكذاب الله، ثمّ
الملكان اللّذان معه، ثم هو يعلم أنّه كاذب".
أيها الأحبة، هذه أحاديث النبيّ (ص) والأئمة من أهل البيت (ع)، هي من الأحاديث التي
ترتفع بروحيّة الإنسان وبأخلاقيّته، وتؤدي إلى استقرار المجتمع وسلامته، وعلينا أن
نقتدي بها. وقد جاء في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ
كَثِيراً}(الأحزاب: 21).
وهكذا تقتضي ولايتنا لعليّ ولأهل بيته (ع) أن نقتدي بهم وبسيرتهم، وأن نتعلّم من
علومهم، ونأخذ بوصاياهم، لأنها الحقّ الذي لا ريب فيه.
نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم".