بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله
(رض)، نستعيد خطبته التي ألقاها من على منبر الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك،
بتاريخ 18 شوّال 1424هـ / ١٢/١٢/٢٠٠٣م، والّتي تناول فيها موضوع العصبيّة،
وانعكاسها السّلبيّ على مجمل الواقع، ورأي الإسلام فيها.
جاء في الخطبة:
"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا
أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}.
في هذه الآية الكريمة، يريد الله تعالى أن يبيّن للناس الفرق بين الذين يسيرون في
خطّ الكفر والذين يسيرون في خطّ الإيمان، من خلال حال وجدانيّة حركيّة في علاقات
الإنسان بالآخرين وبالأشياء. فهناك النّاس الذين يعيشون حال الانفعال والغرائزيّة،
بحيث يتحركون على أساس العصبيّة التي تغلق الإنسان على شخص معيَّن أو جهة معيّنة،
فتجعله مشدوداً إلى هذا الشخص ومفصولاً عن غيره، بحيث يبقى الإنسان يحدّق في زنزانة
التعصّب، فلا يرى غير ما يتعصّب له، لأنّ الانفعال لا ينطلق من موقف فكري، وإنما
ينطلق من حال غريزية، فالغريزة تتحرك من خلال الحالات الذاتية للإنسان، بينما الفكر
يتحرّك من المنهج العقلي الذي يدرس الأمور بموضوعيّة وعقلانيّة، كما لو لم يكن لها
أيّة علاقة بالذّات، بحيث يدرس الإنسان القضيّة بقطع النظر عن علاقتها بأيِّ شخص
ممن يحترم وممن لا يحترم.
هذا هو الفرق بين حميّة الجاهليّة وسكينة الإيمان، التي أعطى الله تعالى رسوله (ص)
عقلانيتها وهدوءها وموضوعيتها وعدالتها في النظرة إلى الأشياء ودراستها بشكل دقيق،
وأعطى الله تعالى ذلك للمؤمنين أيضاً، بحيث يعيشون الهدوء العقلي والنفسي في النظرة
إلى الأشياء والأشخاص والأحداث بشكل حيادي، وجعل المؤمنين يستحضرون الله تعالى في
كلّ ما يتحرّكون به، لأنّ التقوى تفرض ذلك، ومعنى أن تكون تقيّاً، أن تشعر بحضور
الله في إشرافه على عقلك وقلبك وحياتك، فعندما تفكّر، تشعر بعين الله تطلّ على فكرك
وقلبك لتقول لك ليكن عقلك وقلبك عقل الحقّ وقلب المحبّة، وتطلّ على حياتك لتقول لك
لتكن حياتك حياة الحقّ والعدل، أن تحسب حساب الله في كلّ أمورك، لا حساب شهواتك
وغرائزك، والتقوى هي التي تؤمّن لشخصيتك الضوابط كي لا تسقط وتنحرف وتظلم.
فالله تعالى يريد أن يقول: أن تكون مؤمناً، يعني أن لا تكون متعصباً، فتغلق عقلك
وقلبك وحياتك عن الكل باستثناء من تعصَّبت له، الأمر الذي يعني أن هناك ضعفاً في
إيمانك، لأنك عندما تلغي الآخر تماماً بوحي العصبيّة، فأنت تظلمه، فقد يكون الحقّ
والخير معه، وقد يكون العدل في حساباته، أمّا عندما تظلّ في عملية مقارنة بين من
تحبّ ومن لا تحبّ، بين الحدث الذي يعيش في دائرتك أو الذي يعيش في الدوائر الأخرى،
فلا ترى إلا الإيجابيّة هنا والسلبية هناك... إن التعصّب يلغي عقلك، ويعقّد قلبك،
ويربك حياتك، لأنّك تنظر بعين واحدة، والله تعالى خلق لك عينين في وجهك وعقلك وقلبك،
لتنظر إلى الأشياء بوضوح وعمق ودقّة.
ويحدّثنا القرآن الكريم عن الذين كانوا ينطلقون مع الأنبياء في عمليّة مضادّة، حيث
كان هؤلاء يتعصّبون لأصنامهم وتقاليدهم وكبرائهم، ولذلك، كانوا يحتقرون ويرفضون كلّ
الذين يختلفون مع الأصنام والكبراء والتقاليد، ولا يفكّرون في ما يُعرض عليهم وفي
ما هو لديهم، بل ينطلقون في حكم أعمى غبيّ. فهل أنت من هؤلاء؟ حاول أن تدرس الأسس
التي يرتكز عليها حقدك وحبّك، وتذكّر أنّ التعصّب يقول لك: أبغض كلّ من هو على خلاف
عصبيتك، واحكم على كلّ من ليس مع عصبيّتك بالضلال وحاول أن تحتقره.
يحدّثنا الله تعالى عن منطق الكافرين في مواجهتهم للدّعوات النبوية التي تصدم ما
يتعصبون له: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا
بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ - لم يفكروا في الرسالة التي يدعو إليها ولا في عناصر شخصيته ـ وَلَئِنْ
أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ}، هذا هو منطقهم؛
احتقار الآخر وإنكار ما يطرحه من دون مناقشة، وذلك بفعل العصبيّة التي التزموا بها...
فلننطلق مع النبي (ص) في علاج العصبيّة، وهناك عصبيّة للذّات "الأنا"، ومن يصاب بها،
يعتبر عقله وعلمه ومنطقه أفضل العقول والعلوم، فتتضخّم شخصيته حتى يحتقر الآخرين.
وهناك أيضاً التعصّب للعائلة والتعصّب للبلد وللوطن وللقوميّة والحزبيّة والرموز
السياسيّة والاجتماعيّة وربما الدينيّة، بحيث تلغي الآخر. لقد رُوي عن النبيّ (ص)
أنه قال: "من تعصّب ـ عاش ذهنية العصبية التي تغلق نفسها على دائرة معينة، ولا
تنفتح على بقية الدوائر حتى على مستوى الفكر والاحتمال ـ أو تُعصِّب له ـ بحيث عمل
على أن يتعصّب الناس له ويوجههم نحو ذلك، كالكثير من الذهنيات الحزبية والشخصانية
الضيّقة، هؤلاء الذين يخططون من أجل أن يتعصّب الناس لهم، يحيث يذوبون في شخصياتهم
من غير وعي ـ فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه". فالإيمان قيد يقيِّد شخصية الإنسان
وعنقه، فإذا كنت متعصباً أو تشجّع على التعصّب، فأنت لست مؤمناً، لأن الإيمان لا
يلتقي مع العصبيّة.
وفي حديث آخر للنبي (ص): "من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية، بعثه الله يوم
القيامة مع أعراب الجاهلية"، وعنه (ص): "ليس منّا من دعا إلى عصبيّة، وليس منا من
قاتل على عصبيّة، وليس منا من مات على عصبيّة"، وفي الحديث عن الإمام الصّادق (ع):
"من تعصّب، عصّبه الله سبحانه وتعالى بعصابة من نار"، وعن أمير المؤمنين (ع) في
كتاب له للأشتر: "اِملك حميّة أنفك، وسورة حدّك، وسطوة يدك، وغرب لسانك".
ولقد عرّف الإمام زين العابدين (ع) العصبية بالقول: "العصبية التي يأثم عليها
صاحبها، أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين - قد يفكر البعض أن
الشرير في عائلتنا أفضل من الخيّر من العائلة الفلانيّة، وهكذا في مواقع العصبيات
الأخرى من جمعيات وأحزاب ومنظمات، وقد تحدّثنا عن الآية القرآنية التي تدعونا إلى
العدل حتى مع عدوّك أو خصمك: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} - وليس من العصبيّة أن يحبّ
الرّجل قومه - من الطبيعي أن ينجذب الإنسان إلى الشّخص الذي يلتقي معه بالهدف
الديني أو الاجتماعي أو النّسب، لكن عندما تصل المسألة إلى أن تعين من تحبّه على
الظلم، هنا يتوقف الحبّ وتتحرك المبادئ - ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظّلم".
وعن الإمام عليّ (ع) في خطبة له يبيّن فيها من هو إمام المتعصّبين، حتى يعرف
المتعصّب طائفياً وسياسياً وحزبياً وعشائرياً من هو إمامه. يقول (ع) في ذمّ إبليس:
"فافتخر على آدم في خلقه، وتعصّب عليه في أصله، فعدوّ الله ـ وليسمع كل المتعصّبين
ـ إمام المتعصّبين، وسلف المستكبرين - فإبليس يمثل الجذور التاريخية التي يرجع
إليها المستكبرون والمتعصبون - الذي وضع أساس العصبيّة، ونازع الله رداء الجبريّة،
وادّرع لباس التعزّز، وخلع لباس التذلّل". وعن الإمام الصادق (ع): "إنّ الملائكة
كانوا يحسبون أنّ إبليس منهم، وكان في علم الله ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه
بالحميّة والغضب، فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين".
ويهدينا أمير المؤمنين إلى من يمكن أن نتعصّب له، إذا كان لا بدّ من التعصّب، فلا
تعصّب للأشخاص بل للمبادئ، يقول (ع): "ولقد نظرت، فما وجدت أحداً من العالمين
يتعصّب لشيء من الأشياء إلا عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجّة تليط بعقول
السفهاء غيركم، فإنّكم تتعصّبون لأمر لا يُعرف له سبب ولا علّة - تتعصبون على أساس
شهواتكم وغرائزكم، لا على أساس تفكير وعقل ووعي - أما إبليس، فتعصّب على آدم لأصله،
وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناري وأنت طيني، وأمّا الأغنياء من مترفة الأمم،
فتعصّبوا لآثار مواقع النعم، فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذَّبين،
فإن كان لا بدّ من العصبية، فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن
الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل،
بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة، فتعصّبوا
لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبرّ، والمعصية للكبر،
والأخذ بالفضل، والكفّ عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ،
واجتناب الفساد في الأرض".
وهكذا، نعرف أنّ الإسلام يريد للإنسان المسلم أن يكون الإنسان الذي يفكر بعقله،
ويتحرّك على أساس دراسة الأمور بموضوعيّة ودقّة وعدالة. ولذلك، يجب أن نلتزم
بالشعار الذي نطلقه بعد أن ندرسه ونؤمن به ونستمع إلى الآخر في وجهة نظره وندخل في
حوار معه، فعلينا أن لا نلغي الآخر، بل نناقشه ونحاوره ونتعايش معه، هذا هو الذي
يجعل المجتمع يرتفع في عقله وإنسانيّته.
إننا نعيش هذه الإرباكات الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة، لأننا أخذنا بأسباب
العصبيّة، ولذلك ابتلانا الله تعالى في أمننا واقتصادنا وسياستنا، لأنّ العصبيّة
فصلت بعضنا عن بعض، وخلقت في داخلنا الحقد بدل المحبّة، والعداوة بدل الصّداقة، هذا
ونحن مؤمنون يبرأ بعضنا من بعض، ويكفّر بعضنا بعضاً من دون وعي، فإذا كانت العصبيّة
في النار، فكيف يمكننا أن نطلب الجنّة في خط العصبية، ولا عصبيّة في الجنة: {وَنَزَعْنَا
مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[الحجر:
47].
لذلك، لن يدخل الجنّة إلا من كان قلبه خالياً من الحقد، وممتلئاً بالمحبّة، فتعالوا
لنحبّ بعضنا بعضاً على أساس الإنسانيّة، وعلى أساس محبّة الله ورسوله وأوليائه،
تعالوا نرفض العصبيّة لنكون مجتمعاً واحداً، فالله تعالى {يُحِبُّ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ}[الصفّ: 4]."