في ذكرى وفاة خامس الأئمة الباقر (ع)

في ذكرى وفاة خامس الأئمة الباقر (ع)
 
في خطبة الجمعة التي ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بتاريخ 30 كانون الثاني 2004م، تحدَّث سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض) عن الإمام الباقر (ع)، خامس أئمّة أهل البيت (ع)، مسلّطاً الضّوء على بعضٍ من سيرته العطرة في خطّ الإسلام الأصيل، وما شكّله مع ولده الصّادق (ع) من مدرسة جامعة لكلّ المسلمين، رفدت الواقع بشتّى العطاءات العلمية والفقهية والفكرية، وأغنت الحياة العامّة في حركتها ومواقفها.

جاء في خطبته الدينية:

"يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. من أهل هذا البيت، الإمام محمد بن عليّ الباقر (ع)؛ الإمام الذي ملأ الواقع الإسلامي علماً، حتى إنّه انفتح بعلمه الواسع على علم الكتاب وعلم السنّة، وعلم الواقع الذي كان يعيش فيه المسلمون آنذاك أمام التحدّيات الكبرى في حياتهم، وقد أخذ عنه كبار علماء المسلمين ممن كان يرى إمامته، وممن كان لا يراها، فأقرّوا له بالتفوّق العلمي وبالقدرات الكبيرة من الناحية الفكرية، وكان الخلفاء من بني أميّة قبل سقوط دولتهم، يقعون في بعض المآزق، ولا يرون أحداً إلّا الإمام الباقر (ع) ليحلّ لهم المشكلة.

ينقل أنّ ملك الروم أرسل إلى عبد الملك بن مروان الّذي كان يريد أن يضرب عملة جديدة، لأن المسلمين كانوا يتداولون بعملة الرّوم، وعندما سمع ملك الروم بهذا الأمر، غضب وأرسل إلى الخليفة الأموي يهدِّده إذا ما غيّر عملة الروم، فإنّه سيصدر عملة يسبّ فيها النبيّ. وكبرت القضية على الخليفة، ولم يجد من يشير عليه، فأرسل إلى الإمام الباقر (ع) يستشيره في ذلك، لأنّ المسألة تتعلّق بكرامة النبي، فطلب منه الإمام (ع) أن يمضي في ضرب العملة الإسلاميّة، وأن يردّ على ملك الروم ردّاً قاسياً، لأن ملك الروم يرسل هذا التهديد ليضعف الموقف العام، ولكنّه لن يستطيع فعل ذلك، لأنه إذا أصدر عملة بهذا، فإن المسلمين لن يتداولوا بها. وهكذا كان، ولم يصدر ملك الروم العملة، لأنه كان يقوم بتهديد وحرب نفسيّة.

وقد كان للإمام (ع) دور كبير في الصّراع الذي حدث بين الأمويين والعباسيين، حيث إنّه أشار على بعض الشعراء المخلصين لخطّ أهل البيت (ع)، وهو الكميت الذي كان يمدح أهل البيت، والذي نشرت قصائده في ديوان يسمى "الهاشميات"، أشار عليه في أن ينظم شعراً يساهم في إسقاط الدولة الأمويّة، وإن كان الإمام لا يتعاطف مع الدولة العباسيّة، ولكنه كان يرى في الدولة الأموية شراً كبيراً وظلماً كبيراً. وهكذا انطلق الإمام (ع)، في مدرسته الواسعة، التي كان يتعاون فيها مع ولده الإمام الصادق(ع).
وعندما ندرس تراث أهل البيت(ع)، نجد أن أغلب ما عندنا من أحاديث الفقه والعقيدة والأخلاق، وكلّ ما يتصل بالحياة في مناهجها وأساليبها وأهدافها، صادرة عن الإمامين الباقر والصادق (ع)، إلى جانب بقية الأئمّة (ع)، لأن المرحلة التي عاشاها، وهي مرحلة الصراع بين الأمويّين والعباسيّين، كانت من المراحل التي امتلكوا فيها الحريّة، لأنّ الأمويين كانوا مشغولين عنهم في الدفاع عن دولتهم، بينما كان العباسيّون مشغولين عن الأئمة بتأسيس دولتهم.

وكان الإمام (ع)، كما يذكر المؤرّخون عنه، يعيش مع الله في كلّ حالاته، فكان دائم الذّكر لله، وكان لسانه يلهج بذكر الله في أكثر أوقاته، فكان يمشي ويذكر الله في مشيه، ويحدّث القوم في المجلس دون أن يشغله ذلك عن ذكره تعالى، وهكذا كان يجمع ولده ويأمرهم بذكر الله حتى تطلع الشّمس.

كما كان يأمرهم بقراءة القرآن، ومن كان لا يقرأ منهم القرآن، يأمره بذكر الله سبحانه وتعالى، وكذلك كان الإمام (ع) ينطلق في حياته العمليّة في كلّ مجالاتها، إذ كان من صفات الأئمّة (ع) أنهم يمارسون العمل، وكانت للإمام (ع) مزرعة في المدينة، وكان يعمل فيها بنفسه.

يقول أحد الأشخاص، وهو محمد بن المنكدر: ما كنت أرى أنّ علي بن الحسين زين العابدين (ع) يدع خلفاً أفضل منه، لأنه بلغ من العلم والزهد والعبادة والأخلاق ما لم يبلغه أحد، حتى رأيت ابنه محمد بن عليّ (ع)، فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأيّ شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعةٍ حارّة، فلقيني أبو جعفر محمد بن عليّ (ع)، وكان رجلاً بادناً ثقيلاً، وهو متّكىء على غلامين... فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه السّاعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟ أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحالة ما كنت تصنع؟ فقال: "لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عزّ وجلّ، أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن النّاس ـ لأن الله إنما يريد للإنسان أن يكسب رزقه وأن يعمل ويقوم بمسؤوليّته، ولذلك فإنّ طلب الرزق إذا كان من حلّه، فهو عبادة تماماً كبقيّة العبادات ـ وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله".

كان الإمام (ع)، كما يقول كتّاب سيرته، يتعهَّد الفقراء والمساكين في المدينة مع كونه متوسّط الحال، وكان يطلب من الناس أن لا يتحدّثوا إلاّ بما يعلمون، وأن لا يتحدّثوا بما لا يعلمون: "ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم"، "إنّ الرّجل ينتزع الآية فيخرُّ فيها أبعد ما بين السّاء والأرض"، وهذا الكلام موجَّه إلى من يفسّر القرآن على مزاجه، أو يخوض في الفقه من غير علم ومعرفة، وهكذا.
وكان يعلّم الناس كيف يتصرّفون مع بعضهم البعض؛ مع أهل البيت، مع الجيران، مع الآخرين في العمل وغيره: "قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم، فإنّ الله تعالى يبغض اللّعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المتفحّش، السائل الملحف، ويحبّ الحليم العفيف" عن الحرام، المتعفّف عن أموال النّاس.

وهكذا كان الإمام (ع) يتحدّث بهذه الطريقة، وكان أيضاً يركّز على مسألة التّمييز بين الأحاديث التي نسمعها، في ما روي عن النبيّ (ص) والأئمة (ع)، وذلك بأن نجعل "الميزان القرآن"، فكان يقول: "كلّ ما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به".
فالقرآن هو الميزان، لأنّ الله تعالى يقول: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ} القرآن هو النّور الذي يضيء غيره ولا يضيئه غيره.

ويعالج الإمام (ع) عمليّة التّكافل الاجتماعي بين النّاس، ولا سيّما ونحن في موسم الحجّ، حيث يحجم بعض الناس عن مساعدة أقربائهم أو جيرانهم أو أصدقائهم من فقراء المسلمين وأيتامهم، ولكنّه يقصد في كلّ سنة الحجّ أو الزيارة أو العمرة، وهو مستعدّ أن يصرف المال في الحجّ المستحبّ، وفي ذلك يقول الإمام (ع): "ولأن أعول أهل بيت من المسلمين، أشبع جوعهم، وأكسو عريهم، وأكفّ وجوههم عن النّاس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة، حتى انتهى إلى عشر وعشر، ومثلها ومثلها حتى انتهى إلى سبعين".

والمقصود بذلك أنّ العمل الاجتماعي في مساعدة الأيتام والفقراء هو أفضل من الحجّ المستحبّ وباقي الأعمال المستحبّة، لأن ذلك يعتبر نوعاً من التكافل الاجتماعي يتقرّب فيه الإنسان إلى الله من خلال إعالته لعباد الله، لأنّ التقرّب إلى الله لا يقتصر على أن يصلّي الإنسان اللّيل والنّهار، ولذا ورد: "الخلق عيال الله؛ فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً".
كما نجد أنّ الباقر (ع) يوجّه النّاس من الشيعة كيف يكون كلٌّ منهم شيعياً حقيقياً، وذلك في أكثر من حديث، فيقول وهو يخاطب جابر بن عبد الله: "يا جابر، أيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟! والله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلَّا بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصّوم والصّلاة والبرّ بالوالدين والتعهّد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلا من خير وكانوا أمناء عشائرهم".

ثم يقول: "حسب الرّجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولاه ثم لا يكون فعّالاً، فلو قال: إنّي أحبُّ رسول الله (ص) ورسول الله خيرٌ من عليّ، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنَّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً"، لأنّ الحبّ هو حبّ العمل وحبّ الخطّ والمنهج وليس حبّ الشّخص.

ويتابع الإمام وصيّته فيقول: "اتّقوا الله، واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، فوالله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، والله لا تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع".

ثم يعالج الإمام في خطابه للشيعة مسألة الغلوّ، فيقول: "يا معشر الشّيعة، كونوا النّمرقة الوسطى - الوسادة أو الفرشة المتوسّطة، أي بمعنى أن تتّخذوا الموقف الوسط - يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التّالي"، فقال له رجل من الأنصار يقال له سعد: قال جعلت فداك، ما الغالي؟ قال: "قومٌ يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، فليس أولئك منّا ولسنا منهم"، قال فما التالي؟ قال: "المرتاد يريد الخير، يبلغه الخير يؤجر عليه". ثم قال: "والله ما معنا من الله براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجّة، ولا نتقرّب إلى الله إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لله لم تنفعه ولايتنا، ويحكم لا تغتروا، ويحكم لا تغتروا".
وفي حديث آخر، عندما يقول له أحد الأشخاص إنّ الشّيعة عندنا كثير، قال: "هل يعطف الغنيّ على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء؟ وهل يتواسون؟ فقلت: لا، فقال: ليس هؤلاء الشّيعة، الشّيعة من يفعل هكذا". وهكذا تتكرّر كلمات الإمام (ع) مما لا يتسع له المجال.

أيّها الأحبّة، هؤلاء هم أئمّتنا الذين يربطوننا بالله ويربطوننا ببعضنا البعض، ويريدون منّا أن نتواصل وأن نتعاون وأن نتكافل وأن نتوحّد وأن نشعر بمسؤوليتنا عن الإسلام كلّه وعن المسلمين كلهم، كلّ بحسب طاقته، ولذلك، فإن الذين ينشرون الفتنة بين المؤمنين وبين المسلمين، هؤلاء ليسوا من أهل البيت، وكذلك أولئك الذين ينحرفون بولاية أهل البيت (ع) إلى حالة الغلوّ.

ولذلك، فإنني أدعوكم جميعاً أن تدرسوا سيرة أهل البيت، لتجدوا أن أهل البيت هم الذين يربطون بين الدنيا والآخرة، وهم الذين يريدون لنا أن نتقرب إلى الله، من خلال القيام بمسؤوليتنا عن الإنسان كلّه وعن الحياة كلّها، أن ننفتح على المحبّة ولا ننفتح على الحقد والبغضاء.

تلك هي رسالة الإسلام، وأهل البيت هم أئمّة الإسلام الأصيل الذي يربطنا بالله سبحانه وتعالى من أقرب طريق".
 
 
في خطبة الجمعة التي ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بتاريخ 30 كانون الثاني 2004م، تحدَّث سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض) عن الإمام الباقر (ع)، خامس أئمّة أهل البيت (ع)، مسلّطاً الضّوء على بعضٍ من سيرته العطرة في خطّ الإسلام الأصيل، وما شكّله مع ولده الصّادق (ع) من مدرسة جامعة لكلّ المسلمين، رفدت الواقع بشتّى العطاءات العلمية والفقهية والفكرية، وأغنت الحياة العامّة في حركتها ومواقفها.

جاء في خطبته الدينية:

"يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. من أهل هذا البيت، الإمام محمد بن عليّ الباقر (ع)؛ الإمام الذي ملأ الواقع الإسلامي علماً، حتى إنّه انفتح بعلمه الواسع على علم الكتاب وعلم السنّة، وعلم الواقع الذي كان يعيش فيه المسلمون آنذاك أمام التحدّيات الكبرى في حياتهم، وقد أخذ عنه كبار علماء المسلمين ممن كان يرى إمامته، وممن كان لا يراها، فأقرّوا له بالتفوّق العلمي وبالقدرات الكبيرة من الناحية الفكرية، وكان الخلفاء من بني أميّة قبل سقوط دولتهم، يقعون في بعض المآزق، ولا يرون أحداً إلّا الإمام الباقر (ع) ليحلّ لهم المشكلة.

ينقل أنّ ملك الروم أرسل إلى عبد الملك بن مروان الّذي كان يريد أن يضرب عملة جديدة، لأن المسلمين كانوا يتداولون بعملة الرّوم، وعندما سمع ملك الروم بهذا الأمر، غضب وأرسل إلى الخليفة الأموي يهدِّده إذا ما غيّر عملة الروم، فإنّه سيصدر عملة يسبّ فيها النبيّ. وكبرت القضية على الخليفة، ولم يجد من يشير عليه، فأرسل إلى الإمام الباقر (ع) يستشيره في ذلك، لأنّ المسألة تتعلّق بكرامة النبي، فطلب منه الإمام (ع) أن يمضي في ضرب العملة الإسلاميّة، وأن يردّ على ملك الروم ردّاً قاسياً، لأن ملك الروم يرسل هذا التهديد ليضعف الموقف العام، ولكنّه لن يستطيع فعل ذلك، لأنه إذا أصدر عملة بهذا، فإن المسلمين لن يتداولوا بها. وهكذا كان، ولم يصدر ملك الروم العملة، لأنه كان يقوم بتهديد وحرب نفسيّة.

وقد كان للإمام (ع) دور كبير في الصّراع الذي حدث بين الأمويين والعباسيين، حيث إنّه أشار على بعض الشعراء المخلصين لخطّ أهل البيت (ع)، وهو الكميت الذي كان يمدح أهل البيت، والذي نشرت قصائده في ديوان يسمى "الهاشميات"، أشار عليه في أن ينظم شعراً يساهم في إسقاط الدولة الأمويّة، وإن كان الإمام لا يتعاطف مع الدولة العباسيّة، ولكنه كان يرى في الدولة الأموية شراً كبيراً وظلماً كبيراً. وهكذا انطلق الإمام (ع)، في مدرسته الواسعة، التي كان يتعاون فيها مع ولده الإمام الصادق(ع).
وعندما ندرس تراث أهل البيت(ع)، نجد أن أغلب ما عندنا من أحاديث الفقه والعقيدة والأخلاق، وكلّ ما يتصل بالحياة في مناهجها وأساليبها وأهدافها، صادرة عن الإمامين الباقر والصادق (ع)، إلى جانب بقية الأئمّة (ع)، لأن المرحلة التي عاشاها، وهي مرحلة الصراع بين الأمويّين والعباسيّين، كانت من المراحل التي امتلكوا فيها الحريّة، لأنّ الأمويين كانوا مشغولين عنهم في الدفاع عن دولتهم، بينما كان العباسيّون مشغولين عن الأئمة بتأسيس دولتهم.

وكان الإمام (ع)، كما يذكر المؤرّخون عنه، يعيش مع الله في كلّ حالاته، فكان دائم الذّكر لله، وكان لسانه يلهج بذكر الله في أكثر أوقاته، فكان يمشي ويذكر الله في مشيه، ويحدّث القوم في المجلس دون أن يشغله ذلك عن ذكره تعالى، وهكذا كان يجمع ولده ويأمرهم بذكر الله حتى تطلع الشّمس.

كما كان يأمرهم بقراءة القرآن، ومن كان لا يقرأ منهم القرآن، يأمره بذكر الله سبحانه وتعالى، وكذلك كان الإمام (ع) ينطلق في حياته العمليّة في كلّ مجالاتها، إذ كان من صفات الأئمّة (ع) أنهم يمارسون العمل، وكانت للإمام (ع) مزرعة في المدينة، وكان يعمل فيها بنفسه.

يقول أحد الأشخاص، وهو محمد بن المنكدر: ما كنت أرى أنّ علي بن الحسين زين العابدين (ع) يدع خلفاً أفضل منه، لأنه بلغ من العلم والزهد والعبادة والأخلاق ما لم يبلغه أحد، حتى رأيت ابنه محمد بن عليّ (ع)، فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأيّ شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعةٍ حارّة، فلقيني أبو جعفر محمد بن عليّ (ع)، وكان رجلاً بادناً ثقيلاً، وهو متّكىء على غلامين... فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه السّاعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟ أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحالة ما كنت تصنع؟ فقال: "لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عزّ وجلّ، أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن النّاس ـ لأن الله إنما يريد للإنسان أن يكسب رزقه وأن يعمل ويقوم بمسؤوليّته، ولذلك فإنّ طلب الرزق إذا كان من حلّه، فهو عبادة تماماً كبقيّة العبادات ـ وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله".

كان الإمام (ع)، كما يقول كتّاب سيرته، يتعهَّد الفقراء والمساكين في المدينة مع كونه متوسّط الحال، وكان يطلب من الناس أن لا يتحدّثوا إلاّ بما يعلمون، وأن لا يتحدّثوا بما لا يعلمون: "ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم"، "إنّ الرّجل ينتزع الآية فيخرُّ فيها أبعد ما بين السّاء والأرض"، وهذا الكلام موجَّه إلى من يفسّر القرآن على مزاجه، أو يخوض في الفقه من غير علم ومعرفة، وهكذا.
وكان يعلّم الناس كيف يتصرّفون مع بعضهم البعض؛ مع أهل البيت، مع الجيران، مع الآخرين في العمل وغيره: "قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم، فإنّ الله تعالى يبغض اللّعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المتفحّش، السائل الملحف، ويحبّ الحليم العفيف" عن الحرام، المتعفّف عن أموال النّاس.

وهكذا كان الإمام (ع) يتحدّث بهذه الطريقة، وكان أيضاً يركّز على مسألة التّمييز بين الأحاديث التي نسمعها، في ما روي عن النبيّ (ص) والأئمة (ع)، وذلك بأن نجعل "الميزان القرآن"، فكان يقول: "كلّ ما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به".
فالقرآن هو الميزان، لأنّ الله تعالى يقول: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ} القرآن هو النّور الذي يضيء غيره ولا يضيئه غيره.

ويعالج الإمام (ع) عمليّة التّكافل الاجتماعي بين النّاس، ولا سيّما ونحن في موسم الحجّ، حيث يحجم بعض الناس عن مساعدة أقربائهم أو جيرانهم أو أصدقائهم من فقراء المسلمين وأيتامهم، ولكنّه يقصد في كلّ سنة الحجّ أو الزيارة أو العمرة، وهو مستعدّ أن يصرف المال في الحجّ المستحبّ، وفي ذلك يقول الإمام (ع): "ولأن أعول أهل بيت من المسلمين، أشبع جوعهم، وأكسو عريهم، وأكفّ وجوههم عن النّاس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة، حتى انتهى إلى عشر وعشر، ومثلها ومثلها حتى انتهى إلى سبعين".

والمقصود بذلك أنّ العمل الاجتماعي في مساعدة الأيتام والفقراء هو أفضل من الحجّ المستحبّ وباقي الأعمال المستحبّة، لأن ذلك يعتبر نوعاً من التكافل الاجتماعي يتقرّب فيه الإنسان إلى الله من خلال إعالته لعباد الله، لأنّ التقرّب إلى الله لا يقتصر على أن يصلّي الإنسان اللّيل والنّهار، ولذا ورد: "الخلق عيال الله؛ فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً".
كما نجد أنّ الباقر (ع) يوجّه النّاس من الشيعة كيف يكون كلٌّ منهم شيعياً حقيقياً، وذلك في أكثر من حديث، فيقول وهو يخاطب جابر بن عبد الله: "يا جابر، أيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟! والله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلَّا بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصّوم والصّلاة والبرّ بالوالدين والتعهّد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلا من خير وكانوا أمناء عشائرهم".

ثم يقول: "حسب الرّجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولاه ثم لا يكون فعّالاً، فلو قال: إنّي أحبُّ رسول الله (ص) ورسول الله خيرٌ من عليّ، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنَّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً"، لأنّ الحبّ هو حبّ العمل وحبّ الخطّ والمنهج وليس حبّ الشّخص.

ويتابع الإمام وصيّته فيقول: "اتّقوا الله، واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، فوالله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، والله لا تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع".

ثم يعالج الإمام في خطابه للشيعة مسألة الغلوّ، فيقول: "يا معشر الشّيعة، كونوا النّمرقة الوسطى - الوسادة أو الفرشة المتوسّطة، أي بمعنى أن تتّخذوا الموقف الوسط - يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التّالي"، فقال له رجل من الأنصار يقال له سعد: قال جعلت فداك، ما الغالي؟ قال: "قومٌ يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، فليس أولئك منّا ولسنا منهم"، قال فما التالي؟ قال: "المرتاد يريد الخير، يبلغه الخير يؤجر عليه". ثم قال: "والله ما معنا من الله براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجّة، ولا نتقرّب إلى الله إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لله لم تنفعه ولايتنا، ويحكم لا تغتروا، ويحكم لا تغتروا".
وفي حديث آخر، عندما يقول له أحد الأشخاص إنّ الشّيعة عندنا كثير، قال: "هل يعطف الغنيّ على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء؟ وهل يتواسون؟ فقلت: لا، فقال: ليس هؤلاء الشّيعة، الشّيعة من يفعل هكذا". وهكذا تتكرّر كلمات الإمام (ع) مما لا يتسع له المجال.

أيّها الأحبّة، هؤلاء هم أئمّتنا الذين يربطوننا بالله ويربطوننا ببعضنا البعض، ويريدون منّا أن نتواصل وأن نتعاون وأن نتكافل وأن نتوحّد وأن نشعر بمسؤوليتنا عن الإسلام كلّه وعن المسلمين كلهم، كلّ بحسب طاقته، ولذلك، فإن الذين ينشرون الفتنة بين المؤمنين وبين المسلمين، هؤلاء ليسوا من أهل البيت، وكذلك أولئك الذين ينحرفون بولاية أهل البيت (ع) إلى حالة الغلوّ.

ولذلك، فإنني أدعوكم جميعاً أن تدرسوا سيرة أهل البيت، لتجدوا أن أهل البيت هم الذين يربطون بين الدنيا والآخرة، وهم الذين يريدون لنا أن نتقرب إلى الله، من خلال القيام بمسؤوليتنا عن الإنسان كلّه وعن الحياة كلّها، أن ننفتح على المحبّة ولا ننفتح على الحقد والبغضاء.

تلك هي رسالة الإسلام، وأهل البيت هم أئمّة الإسلام الأصيل الذي يربطنا بالله سبحانه وتعالى من أقرب طريق".
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية