من أحبَّ عليًّا سار على خطاه

من أحبَّ عليًّا سار على خطاه

بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رض)، نسترجع خطبته التي ألقاها بتاريخ 20 ذي الحجة 1423 هـ / ٢١/٢/٢٠٠٣، والتي تحدث فيها عن يوم الغدير ومعانيه الرّسالية، وعن برنامج الحاكم الإسلاميّ ومسؤوليّاته، مؤكّداً أنّ حبَّ عليّ مكلف، ويستدعي السير فعليّاً على خطاه بالسلوك والموقف والحركة والمشاعر. جاء في خطبة سماحته:

"ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟"، قالها رسول الله (ص)، ليقدّم من خلال هذه الكلمة عليّاً (ع) في موقع الولاية التي هي امتداد حركي للرسالة، قالوا: اللّهمّ بلى، قال (ص): "اللّهمّ اشهد"، ثم قال: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه". وفي هذه الكلمة، تنطلق مسألة الولاية، لتربط ربطاً رسالياً في عمق الشخصية وعمق الدعوة وامتداد الحركة، بين عليّ (ع) ورسول الله (ص)، فرسول الله هو مولى كلّ مؤمن ومؤمنة، لا من خلال شخصه في معنى النسب، ولكن من خلال موقعه في معنى الرسالة، وإذا كان رسول الله مولى كلّ مؤمن ومؤمنة؛ فعليّ (ع) من خلال هذه الكلمة الرسولية، مولى كل مؤمن ومؤمنة، مولاه في كلّ ما ينطلق به عليّ (ع)؛ في عقله الذي كان عقل الرسالة، وفي قلبه الذي كان منفتحاً على كل معنى العاطفة الإنسانية في الرسالة، وفي كل سيرته التي كانت لله ولرسوله، وليس فيها شيء له من قريب أو من بعيد، وإن كان عليّ (ع) لا ينطلق من ذاته، لأنّ ذاته عُجنت بماء الرسالة منذ الطفولة.

وهكذا، لو درسنا انطلاقة "الغدير" في أمر الله تعالى لرسوله بالتبليغ، وفي إكمال الدّين بالولاية، لرأينا أنّ عليّاً (ع) اختاره الله واصطفاه، وركّزه رسول الله (ص) من خلال اصطفاء الله له، لأنّ علياً نفس رسول الله، وهذا ما عبّرت عنه آية المباهلة، فهو (ع) نفس رسول الله ومدينة علمه ومنطلق رسالته، وهو المجاهد في سبيل الإسلام كله، وهو الذي باع نفسه لله، وهو الذي كان حقاً كله...

وعندما ندرس كل تراث عليّ (ع)، فإننا نجد أنه من خلال وعيه للرسالة الإسلامية في خطوطها العامة، على كل المستويات الروحية والشرعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كان قد وضع البرنامج كله للحكم، ولو درسنا كلّ الذين تقدّموه، لما وجدنا هناك أيّ برنامج عند أيّ واحد منهم.

كانت المسألة هي أن يبايَع بالخلافة، وحتى إن الذين اجتمعوا آنذاك في السقيفة وأطلقوا كلمة "منّا أمير ومنكم أمير"، أو بعض الكلمات، فهل كان لديهم برنامج؟ إذا كانت المسألة كما يقولون شورى لأنهم كانوا ينكرون النصّ، فلماذا لم يقدّم من قال: "منا أمير ومنكم أمير" برنامجاً للولاية على المسلمين؟ هل من المعقول أن يقول شخص: من عشيرتنا أمير، ولكن من دون برنامج، أو أن يقول شخص: تعال لنبايعك، من دون أن يقدِّم برنامجه للمسلمين؟ ولذلك ارتبكت الأمور في كثيرٍ من الأوضاع، لأنها لم تكن ناشئة من برنامج شامل يرصد قضايا المسلمين في المرحلة الجديدة التي غاب فيها رسول الله (ص)، ليعرف كلُّ مسلم ما هي الخطة والقضايا التي يمكن أن تُطرَح حتى يحاسب المسلمون الخليفة على برنامجه.

وهكذا، تركت تلك المسألة تأثيراتها على كلِّ الواقع الإسلامي، وعلى كلِّ الخلفاء الذين تعاقبوا على الحكم، من أمويين وعباسيين وعثمانيين، حيث لم يكن هناك خلافة تقدّم برنامجها للمسلمين، لتقول لهم: حاسبوني على أساسها. ورسول الله (ص)، وهو الذي اصطفاه الله رسولاً للعالمين، ولم يأخذ شرعيّته من انتخاب الناس، وقف أمام المسلمين ليقدّم حسابه، ويقول: "أيها النّاس، إنَّكم لا تمسكون عليّ بشيء، إني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن، وما حرَّمت إلا ما حرَّم القرآن"، ومن الذي يقول ذلك؟ رسول الله (ص) الذي هو مسؤول أمام الله وليس مسؤولاً أمام المسلمين.

ولعلّ من أهمّ مشكلات العالم الإسلامي، هي أنّ المسؤول الأول في العالم الإسلامي لا يرى نفسه معنيّاً بأن يقدم برنامجه للأمّة، وقد تربّت الأمّة على أن تؤيد المسؤول من دون أن تسأله عن برنامجه وتحاسبه عليه، وهذه المسألة انطلقت من التاريخ، ولاتزال تفرض نفسها على حاضر المسلمين ومستقبلهم. ولعلّنا نلاحظ أن العالم الإسلامي هو عالم الديكتاتوريات، العالم الذي لا يملك أيّ فرد من الشعب أن يحاسب الحاكم أو ينتقده، فقد أصبحنا نسبّح بحمد الحاكم حتى لو لم يكن في مستوى الحكم، ولا سيّما أن الذين يعيّنون لنا الحكام هم الذين يسيطرون على مقدّرات العالم من غير المسلمين.

لنقرأ عليّاً (ع) وهو يتحدث عن برنامجه في حكمه، وعن طبيعة الحاكم للمسلمين، وذلك في أيام خلافته التي عانى فيها ما عاناه. استمعوا إليه كيف يخاطب الناس أولاً، وكيف يقدّم حسابه لله ثانياً: "أيتها النفوس المختلفة ـ فقد كان مجتمعه مجتمعاً تحركت فيه الفتن ـ والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم ـ فقد أعطوا عقولهم إجازة، ولم يستحضروها ليفكروا في الأمور بطريقة عقلانيّة موضوعيّة ـ أظأركم على الحقّ وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد. هيهات! ـ أنتم لستم المجتمع الذي أستطيع أن أحقّق فيه برنامجي، لأنكم مجتمع صنعه الآخرون، ولاتزال بقايا الجاهلية فيه، ولأنكم مجتمع لايزال يعيش على أساس العصبية ـ أن أُطلع بكم سرار العدل أو أقيم أعوجاج الحقّ"، إذ كيف نقيم العدل بالمعوجين، وكيف نقيم العدل بالظالمين!

ثم ينتقل عليّ (ع) من حديثه إليهم إلى حديثه لله، ليفضفض عمّا في نفسه، فعليّ (ع) كان يعيش الألم، من خلال أنه كان يخطط من أجل أن يجعل الناس مسلمين كما هو الإسلام، لذلك كان يشكو إلى الله بين وقت وآخر، وكان يشهد الله على ما في قلبه، كالكثيرين ممن يعملون في طريق الإصلاح ولا يجدون إلا العقوق والإنكار، فيقول (ع): "اللّهمّ إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسةً في سلطان ـ لا أقيم وزناً للدنيا كلها، لا لمالها ولا لسلطانها، ولا لكلّ لذّاتها وشهواتها، الدنيا عندي هي أنت يا ربّ، كلّ ما يرضيك وما تحبّه، لأنّني أحبّك يا ربّ ـ ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ـ حتى نركّز معالم الدين ونقدّمها للناس، ونجعلها تعيش الوضوح في عقول الناس وقلوبهم وحياتهم ـ ونظهر الإصلاح في بلادك ـ لنقضي على الفساد الذي صنعه المفسدون ـ فيأمن المظلومون من عبادك ـ أن نقضي على الظلم والظالمين ـ وتقام المعطَّلة من حدودك. اللّهمّ إني أوّل من أناب ـ أول من رجع إليك ـ وسمع ـ دعوتك ـ وأجاب ـ رسولك ـ لم يسبقني إلا رسول الله بالصلاة ـ فأنا كنت أوّل من صلى بعد رسول الله، لأنني عشت الصلاة معه قبل أن يُرسل، عندما كان يصلي إليك بتسابيحه وتهليله وتكبيره ـ وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي ـ القاسي الذي لا يعيش الانفتاح على الناس بأخلاقيته ـ فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول ـ الذي يميّز الناس عن بعضهم البعض ـ فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسنّة فيهلك الأمّة".

كان عليّ (ع) ينطلق على أساس البرنامج الذي وضعه أمامه، وقد قال في آخر خطبة الشقشقية: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز".

هذا عليّ (ع) الذي يقول لابن عباس وهو يشير إلى نعله الّتي كان يخسفها: "إنها أحبّ إليّ من إمرتكم هذه، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً". كان عليّ (ع) من أكثر الناس الذين يفهمون السياسة ويعرفون ألاعيبها، ويعرف كيف كان أعداؤه يغدرون ويلعبون على الحبال، ولكنه لم يكن سياسياً يطلب الحكم لنفسه، بل كان رسالياً، ولذلك كان يقول: "إنّ الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنّة أوفى منه ـ فمن كان صادقاً لا بدّ وأن يكون وفياً للناس ولربه ـ وما يغدر من علم كيف المرجع ـ الذي يعرف كيف يقف أمام الله ليحاسبه ـ ولقد أصبحنا في زمان ـ فكيف هذا الزمان يا عليّ ـ اتخذ أكثر أهله الغدر كَيْساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله، قد يرى الحوّل القلّب ـ البصير بتحوّل الأمور ـ وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين".

ويتحدّث الإمام عليّ (ع) عن بعض الأزمنة، وربما كان زماننا منها: "يأتي على النّاس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه، ومساجدهم يومئذ عامرة من البناء، خراب من الهدى، سكانها وعمّارها شرّ أهل الأرض، منهم تخرج الفتنة وإليهم تأوي الخطيئة، يردّون من شذّ عنها فيها، ويسوقون من تأخر عنها إليها، يقول الله تعالى: فبي حلفت، لأبعثنّ على أولئك ـ الذين يأتون إلى المساجد ويفتنون بين الناس ويخربون المجتمع ـ فتنة تترك الحليم فيها حيران"، وقد فعل، ونحن نستقيل الله عثرة الغفلة، حتى نكون واعين لرسالة المسجد، ورسالة الصلاة، ورسالة الإسلام.

إنّ حبّ عليّ (ع) يكلّف، لأنّه الإنسان الذي يعمل على أن لا يكون هناك باطل ولا ظلم ولا فتنة، فهل تحبّون عليّاً (ع)؟ إنّ حبّه هو أن نسير في خطه، ونعمل من أجل أن نكون شيعته بالعمل لا بالكلمة، وقد قال حفيده الإمام الباقر (ع): "والله ما شيعتنا إلا من اتّقى الله وأطاعه، وكانوا يعرفون بالتّواضع والتخشّع وصدق الحديث وأداء الأمانة، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء، أفيكفي الرّجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاه ثم لا يكون فعّالاً، فرسول الله خير من عليّ، أفحسب الرّجل أن يقول أحبّ رسول الله ثم لا يعمل بسنَّته، والله ما معنا براءة من الله، من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع".

إنّ عليّاً (ع) يخاطب الناس في زمنه، وهو يخاطبنا في زماننا: "ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد".

بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رض)، نسترجع خطبته التي ألقاها بتاريخ 20 ذي الحجة 1423 هـ / ٢١/٢/٢٠٠٣، والتي تحدث فيها عن يوم الغدير ومعانيه الرّسالية، وعن برنامج الحاكم الإسلاميّ ومسؤوليّاته، مؤكّداً أنّ حبَّ عليّ مكلف، ويستدعي السير فعليّاً على خطاه بالسلوك والموقف والحركة والمشاعر. جاء في خطبة سماحته:

"ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟"، قالها رسول الله (ص)، ليقدّم من خلال هذه الكلمة عليّاً (ع) في موقع الولاية التي هي امتداد حركي للرسالة، قالوا: اللّهمّ بلى، قال (ص): "اللّهمّ اشهد"، ثم قال: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه". وفي هذه الكلمة، تنطلق مسألة الولاية، لتربط ربطاً رسالياً في عمق الشخصية وعمق الدعوة وامتداد الحركة، بين عليّ (ع) ورسول الله (ص)، فرسول الله هو مولى كلّ مؤمن ومؤمنة، لا من خلال شخصه في معنى النسب، ولكن من خلال موقعه في معنى الرسالة، وإذا كان رسول الله مولى كلّ مؤمن ومؤمنة؛ فعليّ (ع) من خلال هذه الكلمة الرسولية، مولى كل مؤمن ومؤمنة، مولاه في كلّ ما ينطلق به عليّ (ع)؛ في عقله الذي كان عقل الرسالة، وفي قلبه الذي كان منفتحاً على كل معنى العاطفة الإنسانية في الرسالة، وفي كل سيرته التي كانت لله ولرسوله، وليس فيها شيء له من قريب أو من بعيد، وإن كان عليّ (ع) لا ينطلق من ذاته، لأنّ ذاته عُجنت بماء الرسالة منذ الطفولة.

وهكذا، لو درسنا انطلاقة "الغدير" في أمر الله تعالى لرسوله بالتبليغ، وفي إكمال الدّين بالولاية، لرأينا أنّ عليّاً (ع) اختاره الله واصطفاه، وركّزه رسول الله (ص) من خلال اصطفاء الله له، لأنّ علياً نفس رسول الله، وهذا ما عبّرت عنه آية المباهلة، فهو (ع) نفس رسول الله ومدينة علمه ومنطلق رسالته، وهو المجاهد في سبيل الإسلام كله، وهو الذي باع نفسه لله، وهو الذي كان حقاً كله...

وعندما ندرس كل تراث عليّ (ع)، فإننا نجد أنه من خلال وعيه للرسالة الإسلامية في خطوطها العامة، على كل المستويات الروحية والشرعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كان قد وضع البرنامج كله للحكم، ولو درسنا كلّ الذين تقدّموه، لما وجدنا هناك أيّ برنامج عند أيّ واحد منهم.

كانت المسألة هي أن يبايَع بالخلافة، وحتى إن الذين اجتمعوا آنذاك في السقيفة وأطلقوا كلمة "منّا أمير ومنكم أمير"، أو بعض الكلمات، فهل كان لديهم برنامج؟ إذا كانت المسألة كما يقولون شورى لأنهم كانوا ينكرون النصّ، فلماذا لم يقدّم من قال: "منا أمير ومنكم أمير" برنامجاً للولاية على المسلمين؟ هل من المعقول أن يقول شخص: من عشيرتنا أمير، ولكن من دون برنامج، أو أن يقول شخص: تعال لنبايعك، من دون أن يقدِّم برنامجه للمسلمين؟ ولذلك ارتبكت الأمور في كثيرٍ من الأوضاع، لأنها لم تكن ناشئة من برنامج شامل يرصد قضايا المسلمين في المرحلة الجديدة التي غاب فيها رسول الله (ص)، ليعرف كلُّ مسلم ما هي الخطة والقضايا التي يمكن أن تُطرَح حتى يحاسب المسلمون الخليفة على برنامجه.

وهكذا، تركت تلك المسألة تأثيراتها على كلِّ الواقع الإسلامي، وعلى كلِّ الخلفاء الذين تعاقبوا على الحكم، من أمويين وعباسيين وعثمانيين، حيث لم يكن هناك خلافة تقدّم برنامجها للمسلمين، لتقول لهم: حاسبوني على أساسها. ورسول الله (ص)، وهو الذي اصطفاه الله رسولاً للعالمين، ولم يأخذ شرعيّته من انتخاب الناس، وقف أمام المسلمين ليقدّم حسابه، ويقول: "أيها النّاس، إنَّكم لا تمسكون عليّ بشيء، إني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن، وما حرَّمت إلا ما حرَّم القرآن"، ومن الذي يقول ذلك؟ رسول الله (ص) الذي هو مسؤول أمام الله وليس مسؤولاً أمام المسلمين.

ولعلّ من أهمّ مشكلات العالم الإسلامي، هي أنّ المسؤول الأول في العالم الإسلامي لا يرى نفسه معنيّاً بأن يقدم برنامجه للأمّة، وقد تربّت الأمّة على أن تؤيد المسؤول من دون أن تسأله عن برنامجه وتحاسبه عليه، وهذه المسألة انطلقت من التاريخ، ولاتزال تفرض نفسها على حاضر المسلمين ومستقبلهم. ولعلّنا نلاحظ أن العالم الإسلامي هو عالم الديكتاتوريات، العالم الذي لا يملك أيّ فرد من الشعب أن يحاسب الحاكم أو ينتقده، فقد أصبحنا نسبّح بحمد الحاكم حتى لو لم يكن في مستوى الحكم، ولا سيّما أن الذين يعيّنون لنا الحكام هم الذين يسيطرون على مقدّرات العالم من غير المسلمين.

لنقرأ عليّاً (ع) وهو يتحدث عن برنامجه في حكمه، وعن طبيعة الحاكم للمسلمين، وذلك في أيام خلافته التي عانى فيها ما عاناه. استمعوا إليه كيف يخاطب الناس أولاً، وكيف يقدّم حسابه لله ثانياً: "أيتها النفوس المختلفة ـ فقد كان مجتمعه مجتمعاً تحركت فيه الفتن ـ والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم ـ فقد أعطوا عقولهم إجازة، ولم يستحضروها ليفكروا في الأمور بطريقة عقلانيّة موضوعيّة ـ أظأركم على الحقّ وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد. هيهات! ـ أنتم لستم المجتمع الذي أستطيع أن أحقّق فيه برنامجي، لأنكم مجتمع صنعه الآخرون، ولاتزال بقايا الجاهلية فيه، ولأنكم مجتمع لايزال يعيش على أساس العصبية ـ أن أُطلع بكم سرار العدل أو أقيم أعوجاج الحقّ"، إذ كيف نقيم العدل بالمعوجين، وكيف نقيم العدل بالظالمين!

ثم ينتقل عليّ (ع) من حديثه إليهم إلى حديثه لله، ليفضفض عمّا في نفسه، فعليّ (ع) كان يعيش الألم، من خلال أنه كان يخطط من أجل أن يجعل الناس مسلمين كما هو الإسلام، لذلك كان يشكو إلى الله بين وقت وآخر، وكان يشهد الله على ما في قلبه، كالكثيرين ممن يعملون في طريق الإصلاح ولا يجدون إلا العقوق والإنكار، فيقول (ع): "اللّهمّ إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسةً في سلطان ـ لا أقيم وزناً للدنيا كلها، لا لمالها ولا لسلطانها، ولا لكلّ لذّاتها وشهواتها، الدنيا عندي هي أنت يا ربّ، كلّ ما يرضيك وما تحبّه، لأنّني أحبّك يا ربّ ـ ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ـ حتى نركّز معالم الدين ونقدّمها للناس، ونجعلها تعيش الوضوح في عقول الناس وقلوبهم وحياتهم ـ ونظهر الإصلاح في بلادك ـ لنقضي على الفساد الذي صنعه المفسدون ـ فيأمن المظلومون من عبادك ـ أن نقضي على الظلم والظالمين ـ وتقام المعطَّلة من حدودك. اللّهمّ إني أوّل من أناب ـ أول من رجع إليك ـ وسمع ـ دعوتك ـ وأجاب ـ رسولك ـ لم يسبقني إلا رسول الله بالصلاة ـ فأنا كنت أوّل من صلى بعد رسول الله، لأنني عشت الصلاة معه قبل أن يُرسل، عندما كان يصلي إليك بتسابيحه وتهليله وتكبيره ـ وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي ـ القاسي الذي لا يعيش الانفتاح على الناس بأخلاقيته ـ فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول ـ الذي يميّز الناس عن بعضهم البعض ـ فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسنّة فيهلك الأمّة".

كان عليّ (ع) ينطلق على أساس البرنامج الذي وضعه أمامه، وقد قال في آخر خطبة الشقشقية: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز".

هذا عليّ (ع) الذي يقول لابن عباس وهو يشير إلى نعله الّتي كان يخسفها: "إنها أحبّ إليّ من إمرتكم هذه، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً". كان عليّ (ع) من أكثر الناس الذين يفهمون السياسة ويعرفون ألاعيبها، ويعرف كيف كان أعداؤه يغدرون ويلعبون على الحبال، ولكنه لم يكن سياسياً يطلب الحكم لنفسه، بل كان رسالياً، ولذلك كان يقول: "إنّ الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنّة أوفى منه ـ فمن كان صادقاً لا بدّ وأن يكون وفياً للناس ولربه ـ وما يغدر من علم كيف المرجع ـ الذي يعرف كيف يقف أمام الله ليحاسبه ـ ولقد أصبحنا في زمان ـ فكيف هذا الزمان يا عليّ ـ اتخذ أكثر أهله الغدر كَيْساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله، قد يرى الحوّل القلّب ـ البصير بتحوّل الأمور ـ وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين".

ويتحدّث الإمام عليّ (ع) عن بعض الأزمنة، وربما كان زماننا منها: "يأتي على النّاس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه، ومساجدهم يومئذ عامرة من البناء، خراب من الهدى، سكانها وعمّارها شرّ أهل الأرض، منهم تخرج الفتنة وإليهم تأوي الخطيئة، يردّون من شذّ عنها فيها، ويسوقون من تأخر عنها إليها، يقول الله تعالى: فبي حلفت، لأبعثنّ على أولئك ـ الذين يأتون إلى المساجد ويفتنون بين الناس ويخربون المجتمع ـ فتنة تترك الحليم فيها حيران"، وقد فعل، ونحن نستقيل الله عثرة الغفلة، حتى نكون واعين لرسالة المسجد، ورسالة الصلاة، ورسالة الإسلام.

إنّ حبّ عليّ (ع) يكلّف، لأنّه الإنسان الذي يعمل على أن لا يكون هناك باطل ولا ظلم ولا فتنة، فهل تحبّون عليّاً (ع)؟ إنّ حبّه هو أن نسير في خطه، ونعمل من أجل أن نكون شيعته بالعمل لا بالكلمة، وقد قال حفيده الإمام الباقر (ع): "والله ما شيعتنا إلا من اتّقى الله وأطاعه، وكانوا يعرفون بالتّواضع والتخشّع وصدق الحديث وأداء الأمانة، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء، أفيكفي الرّجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاه ثم لا يكون فعّالاً، فرسول الله خير من عليّ، أفحسب الرّجل أن يقول أحبّ رسول الله ثم لا يعمل بسنَّته، والله ما معنا براءة من الله، من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع".

إنّ عليّاً (ع) يخاطب الناس في زمنه، وهو يخاطبنا في زماننا: "ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية