بالعودة إلى أرشيف السيرة الذاتيَّة لسماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل
الله (رض)، نستحضر بعضًا من حديثه عن نشأته الأولى، وما صاحبها من ظروف، وما تميَّز
به من حبّ القراءة منذ الصّغر، ومدى تأثره بوالده، وما كان يطّلع عليه من كتابات
غير إسلاميّة، ويقوم به من نشاطات عند مجيئه من النّجف إلى لبنان، وقد جاء ذلك في
كلام سماحته لجريدة عكاظ السعوديّة، بتاريخ 17/10/2003، حيث قال:
"نشأتُ في بيئة علمية دينية في النجف الأشرف، حيث ولدتُ وعشتُ هناك مناخاً دينياً
يتمثّل فيما يملكه الوالد ـ رحمه الله ـ من روحية دينية كنت أمتصّها لاشعورياً مع
إنسانية رائعة، فلا أتذكّر أنّه عاملني بقسوة في أية حالة من حالات طفولتي الأولى،
بالرّغم مما يبدر مني من أخطاء.. كنت في تلك الفترة من طفولتي الأولى، أعيش في جوّ
لا يحمل الكثير من فرص لهو الطفل ولعبه، ما كان يترك انطباعاً لاشعورياً قاسياً في
نفسي، لأنّ لعب الطفولة ولهوها يمكن أن يفتح الكثير من مشاعر الإنسان على كثيرٍ من
حالات الفرح، لذلك لم أكن أعيش الفرح بحالة الرّحابة من حالات السرور، والتي يعيشها
الطفل، ولا سيّما أن الواقع المادي كان واقعاً قاسياً ضيّقاً.
فقد كنا نعيش في وضع صعب جداً فيما نأكل وفي ما نلبس وفي ما نسكن... ولهذا كنت
أحاول منذ البداية أن ألجأ إلى القراءة، فكنت قارئاً منذ سنّ العاشرة أو الثانية
عشرة، أقرأ الشعر والقصص المترجمة، ولا سيّما قصص المنفلوطي التي كانت مأساوية
غالباً، وتستنـزف الدّمع، كما كنت أقرأ بعض الترجمات الفرنسيّة، مثل قصص أناتول
فرانس، وما كان يترجمه أحمد حسن الزيّات من أشعار لمارتين، وكانت قراءاتي متنوّعة
وحديثة، حتى إنّني كنت أتعامل مع بعض المكتبات، وأستعير منها المجلاّت الأسبوعيّة
المصريّة، كمجلّة "آخر ساعة" و"المصوّر".
وكنت أقرأ مبكراً المجلات الثقافية، كالرسالة والثقافة والكتاب لعادل غضبان وأشعار
المعاصرين، وقد تأثرت كثيراً بالأخطل الصّغير إلى جانب إلياس أبو شبكة وغيرهما، إلى
جانب الجواهري في العراق.
كنت أقرأ مثلاً كتب "المادية الديالكتيكية" و"المادية التاريخية"، وكنت أقرأ
الكتابات القومية، وأطّلع على جريدة الأهالي، ولكن بحسب الثّقافة التي كانت تتوافر
لي آنذاك.
وعندما جئت إلى لبنان لأوّل مرّة العام 1952، وكنت في سن السادسة عشرة أو السابعة
عشرة، بدأت جلسات حوارية في الجنوب اللبناني مع الشيوعيين والقوميين العرب. وكنت
ألتقي ببعض الشخصيّات الفكرية، مثل الدكتور حسين مروة، الذي كانت تربطني به علاقة
ومعرفة، وكانت هناك أحاديث متنوّعة، واستطعت من خلال التنوّع الثقافي الذي كنت ألمّ
به بطريقة أو بأخرى، أن أنفتح على الحوار أو على الآخر منذ تلك اللحظة، فلم أكن
أتعقّد من فكر الآخر المعارض، وكنت أفكّر أنَّ عليّ أن أدير الحوار مع الفكر الآخر،
وما هو السّبيل للتفاهم والتحاور في هذا المجال".