ندعو إلى دراسة الإمام الصّادق (ع) دراسة علميّة منفتحة

ندعو إلى دراسة الإمام الصّادق (ع) دراسة علميّة منفتحة

كما كانت عادته في تناول المناسبات الإسلامية وغيرها، وما يمكن استلهامه منها، كان سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رض)، قد تحدّث بمناسبة وفاة الإمام جعفر الصّادق (ع)، عن الأثر البارز والكبير الّذي تركه على الساحة الإسلاميّة العامّة، وقد جاء ذلك في الخطبة الّتي ألقاها بتاريخ 22 شـوَّال 1428هـ / ٢/١١/٢٠٠٧م، متناولاً هذه المناسبة التي يلتقي عليها المسلمون جميعاً، بالنظر إلى ما يمثّله هذا الإمام من علامة فارقة ومميَّزة، وحضور في وجدان الأمّة جمعاء، لافتاً إلى ما خلّفه هذا الإمام من تراث علميّ غنيّ، وما تميّزت به مدرسته على الصّعد كافّة، وما اتّصف به منهجه، داعياً إلى التوقف عند تراث الإمام الصادق (ع) ودراسته ملياً، لأنه يمثل فكراً موسوعيّاً يتّسع لسعة الإسلام بكلّ مفاهيمه وقيمه الأصيلة. ومما جاء في خطبته:

"يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(الأحزاب: 33). من أئمّة أهل البيت (ع)، الإمام جعفر الصادق (ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر شوّال. والحديث عن الإمام جعفر الصّادق (ع) حديث طويل، واسع سعة الإسلام، لأنّ الإمام الصادق (ع) في تراثه العلمي والأخلاقي والفقهي والفكري والإنساني، وفي انفتاحه على كلّ الواقع الثقافي في الواقع الإسلامي، يمثّل ظاهرةً ثقافيةً في مستوى حركة الإمامة ومسؤوليّتها عن إغناء حياة الناس بالإسلام، على الطريقة التي انطلق بها رسول الله (ص)، وتحرك بها الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وانفتح الأئمة قبله من خلالها.

ومن خصوصيات الأسلوب الذي تحرك به الإمام جعفر الصادق (ع)، أنه كان يريد للشيعة من أتباع أئمة أهل البيت (ع)، أن يتثقفوا بالثقافة الإسلامية، بحيث لا يحتاجون أن يسألوا أحداً، فقد كانت وصية أبيه الإمام محمد الباقر (ع) إليه، أن يرعى الشيعة، وكان سلوك الإمام الصادق (ع)، أنّه لم يترك أيّ واحد من المسلمين بحاجة إلى أن يسأل أحداً، ذلك لأنّهم يمثّلون الغنى العلمي والثقافي في كلّ شأن من شؤون الإسلام، من خلال العلم الذي كان يمنحهم النبيّ (ص) إياه.

وقد نقل عنه (ع) قوله: "ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقّهوا في الحلال والحرام". وهكذا عمل الإمام الصادق (ع) على أساس إغناء الحياة العلمية للمسلمين جميعاً، بعيداً من الجانب المذهبي، فقد كان يستقبل تلاميذ وطلاباً من غير المذهب الإمامي، ممن كانوا لا يلتزمون بإمامة الأئمة من أهل البيت (ع)، ومنهم إمام المذهب الحنفي، وهو أبو حنيفة النعمان، حيث ينقل عنه قوله: "لولا السنتان ـ اللتان تلمّذ بهما على الإمام الصادق(ع)، حيث استطاع أن يكتسب منه علماً أغنى علمه، ووسّع ثقافته، وأعطاه الفكرة الأصيلة في الخط الإسلامي الأصيل ـ لهلك النعمان"، ومنهم إمام المذهب المالكي، مالك بن أنس.

وامتدت مدرسة الإمام الإسلامية، الفقهية، الكلامية، الثقافية، المفاهيمية، إلى مختلف مواقع العالم الإسلامي، حتى كان شيوخ الثقافة الإسلامية ينطلقون من قاعدة واحدة في أحاديثهم، وهي القاعدة الثقافية التي انطلق بها الإمام جعفر الصادق (ع)، فيحدث بعض الرواة ويقول: "أدركت في هذا المسجد ـ وكانت المساجد هي المدارس، حيث كانت ملتقى العلماء مع الناس ـ تسعمائة شيخ ـ أستاذ ـ كلٌّ يقول: حدَّثني جعفر بن محمد"، فكان هؤلاء العلماء ينشرون مذهب الإمام جعفر الصادق (ع) في كل القضايا الإسلامية المتنوعة، وهم ليسوا بأجمعهم ممن ينتمون إلى المذهب الإمامي الإثني عشري. وقد ذكر بعض المؤلفين، أنّ الرواة الذين نقلوا العلم عن الإمام جعفر الصادق (ع) هم أربعة آلاف راو من رواة الحديث، كانوا ينشرون علمه (ع) في الناس.

وهناك نقطة كان يتميز بها الإمام جعفر الصادق (ع)، وهي انفتاحه (ع) على الاتجاهات الفكرية والثقافية المتنوعة، حتى تلك الإلحادية التي يتميّز أصحابها بالزندقة والكفر والإلحاد، حيث كانوا يجتمعون إلى الإمام جعفر الصادق (ع) في المسجد الحرام في أيام الحجّ، ويحاورونه في كثير من القضايا العقيدية: في وجود الله، وفي القضايا الأساسية التي تمثّل أصول الدين وفروعه، وكان يجيبهم بكلّ رحابة صدر، حتى إنّ بعضهم كانوا يتجرّأون في التعليق على الطائفين حول البيت الحرام ويسألون: "إلى كم تدوسون البيدر؟"، فكأنهم كانوا يقولون امنعوا الناس عن ذلك، ووصفوا مكان الطواف بالبيدر، وكان الإمام يردّ على أسئلتهم بالحجة والبرهان القويّ دون أن يعنف معهم، حتى قال بعضهم: "ما رأيت رجلاً يستحقّ اسم الإنسانية إلا جعفر بن محمد"، وقال بعضهم الآخر (من الزنادقة): "إن كان في الدنيا روحانيّ يتجسّد إذا شاء ظاهراً، أو يتروّح إذا شاء باطناً، فهو هذا".

كان الإمام (ع) يؤمن بأنّ على الإنسان عندما يختلف مع شخص آخر، أن لا يضطهده ولا يقهره ولا يعنف معه، بل عليه أن يوسّع صدره لكلّ أفكاره وأسئلته، وأن يدخل معه في حوار، لأنّ دور الدعاة إلى الإسلام، منذ الأنبياء (ع)، والرسول (ص) والأئمة (ع)، هو أن يستمعوا إلى الناس في كلّ ما يفكرون فيه، حتى لو كانت الأفكار أفكاراً سلبيّة، حتى يقنعوهم بخطأ تفكيرهم انطلاقاً من رحابة صدرهم، وبكلّ كلمات طيّبة. وهكذا وصف الله سبحانه وتعالى رسوله (ص) بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران: 159).

والإمام الصّادق (ع) في حركته الإصلاحيّة، لم يكن يجد أنَّ هناك فرصةً للثورة على الحكم الطاغي الذي تمثَّل في بني العباس، وكان يرى رسالته في أن يصنع مجتمعاً مسلماً مثقفاً واعياً ومنفتحاً، يعرف فيه الناس الانحراف الذي يتمثّل في هذا الحكم أو ذاك، وقد عالج الإمام الصادق (ع) في أحاديثه النظام الأخلاقي والروحي والاجتماعي في الإسلام، وأطلّ على بعض الجوانب السياسيّة في توجيهاته. ومن جملة القضايا التي أكّدها، مما نحتاجه الآن في كلّ التحدّيات التي تواجه الإسلام والمسلمين، هي قضيّة الحريّة، فقد أراد (ع) للإنسان أن يكون حراً في فكره وعقله وإرادته ومواقفه، وأن يصبر على هذه الحريّة، فلا يتراجع ولا يهتزّ ولا يسقط أمام كلّ التحدّيات التي تواجهه في الحياة.

إنّ الإمام الصادق (ع) أراد أن يؤكّد أنّ الحرية تأتي من الداخل لا من الخارج، فهي لا تصدر بمرسوم أميري أو غيره، بل تنطق من أعماق الإنسان، كما كان الإمام عليّ (ع) يقول: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً". وقد ربط الإمام (ع) بين الصبر والحريّة، لأن الحرية تؤكّد موقف الإنسان في القضايا الصّعبة وفي مواجهة التحديات الكبرى، لأنها تكلّفه جهداً كبيراً وتضحيةً عظيمةً، ولذلك لا بدّ للإنسان من أن يصبر حتى يؤكد ثباته على حريته. وقد ورد في حديثه (ع): "إنّ الحرّ حرّ على جميع أحواله ـ لن يكون العبد حراً في أيّ حالة من الحالات ـ إن نابته نائبة ـ أصابته مصيبة أو واجهته التحدّيات ـ صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره ـ أي أنّ المصائب لا تكسر ثباته ـ وإن أُسر وقُهر ـ حتى لو أسروه وسجنوه أو قهروه من خلال الضّغط عليه ـ واستبدل باليسر عسراً ـ بحيث تحوَّلت حاله من السّعة إلى الضّيق في حياته.

ثم يذكر الإمام جعفر الصادق (ع) نموذجاً من نماذج الإنسان الحرّ الذي تداكّت عليه المصائب واستعبد ولكنّه لم يسقط، بل بقي حراً حتى في أقسى الحالات التي أطبقت عليه: ـ كما كان يوسف الصدِّيق الأمين (صلوات الله عليه)، لم يضرر حريته أن استعبد ـ لأنه بيع كما يباع العبيد من قبل الناس الذين عثروا عليه في البئر ـ وقهر وأسر ـ من قبل هؤلاء الذين تملّكوه ـ ولم تضرره ظلمة الجبّ ـ البئر ـ ووحشته ـ فهو بقي حراً في داخل البئر، مع أنّه كان في أوّل الشباب، أي في طور اللّعب، ومع ذلك، عندما وضعه إخوته في البئر، ظلّ يعيش حريته، فلم يسقط ولم يصرخ ولم يبكِ ولم يتوسّل إخوته أو أيّ أحد آخر ـ وما ناله أن منّ الله عليه، فجعل الجبار العاتي له عبداً ـ فهو كان عبداً للجبار من الناحية الرسمية القانونية، فأصبح الجبار عبداً له ـ بعد إذ كان مالكاً، فأرسله ورحم به أمةً، وكذلك الصّبر يعقب خيراً، فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصّبر تؤجروا".

وكان الإمام الصادق (ع) يؤكّد على الصبر باعتباره شرطاً للحريّة: "الصبر رأس الإيمان"، وأيضاً في حديث آخر: "الصّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وإذا ذهب الصّبر ذهب الإيمان".

ويصوّر الإمام (ع) الصبر بما يمثّله من سلامة للإنسان عندما ينزل في قبره، فيقول فيما يروى عنه (ع): "إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصّلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ ـ أعمال الخير ـ مظلّ عليه، ويتنحّى الصبر ناحيةً، فإذا دخل عليه الملكان اللّذان يليان مساءلته ـ منكر ونكير ـ قال الصّبر للصّلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه ـ فإذا كان في الصّلاة أو الزكاة أو البرّ خلل ـ فأنا دونه"، أستطيع أن أنقذه.

وفي نهاية المطاف، يحدّد الإمام الصادق (ع) صفة الإنسان المؤمن: "ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقوراً عند الهزاهز ـ عندما تحدث الفتن بين النّاس، ويهتزّ المجتمع من خلالها، يبقى على وقاره، فلا يهتزّ ولا يسقط ـ صبوراً عند البلاء ـ فلا يتبرّم عند نزول البلاء ـ شكوراً عند الرّخاء ـ يشكر الله عندما يوسّع عليه من نعمه ـ قانعاً بما رزقه الله ـ لأنّ الله لا يريد له إلا الخير ـ لا يظلم الأعداء ـ فعداوته لهم لا تبرّر إنكار حقّهم إن كان لهم حقّ ـ ولا يتحامل للأصدقاء ـ لا يتكلّف لهم ويجاملهم على حساب الحقّ ـ بدنه منه في تعب ـ من مسؤولياته التي كلّفه الله بها ـ والنّاس منه في راحة ـ فلا يصدر عنه للنّاس إلا الخير والسّير في قضاء حوائجهم ـ إنَّ العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره ـ سعة الصّدر، لأنّ المؤمن يستعين به في تسيير شؤونه في دينه ودنياه، فلا يغضب ـ والعقل أمير جنوده ـ فهو يتحرّك في كلّ حياته وأفعاله وتروكه بالعقل الذي يفرّق بين الخير والشّرّ، وبين الحسن والقبيح، وبذلك يدفع عنه جنود الشيطان ـ والرّفق أخوه ـ لأن الله رفيق يحبّ الرفق، ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف ـ والبرّ والده".

أيّها الأحبّة، إني أدعو جميع المثقّفين في العالم، ولا سيّما المسلمين منهم، إلى دراسة الإمام الصادق (ع) دراسةً علميةً، منفتحةً، لأنّ تراث الإمام الصّادق يمثّل تراثاً موسوعيّاً يتّسع بما يتّسع به الإسلام في كلّ حاجات الإنسان المسلم.

وهكذا، لا بدّ من أن ننفتح على أئمّة أهل البيت (ع) من خلال تراثهم، لأنّ المشكلة لدى جماهير التشيّع، أنهم حوَّلوا الأئمة في وجدانهم إلى مأساة للبكاء، ولم يحوّلوهم إلى حركة للعلم والثقافة والوعي والتقدّم.

إنّ علينا أن نبقى مع أئمّة أهل البيت (ع) لندرس تراثهم، لأنهم هم السفينة، سفينة العلم والتقوى والخير والقوّة والحرية والكرامة، التي أراد الله لنا أن نركبها من أجل أن نرتفع إلى المستوى الذي يحبّه الله سبحانه ويرضاه".

كما كانت عادته في تناول المناسبات الإسلامية وغيرها، وما يمكن استلهامه منها، كان سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رض)، قد تحدّث بمناسبة وفاة الإمام جعفر الصّادق (ع)، عن الأثر البارز والكبير الّذي تركه على الساحة الإسلاميّة العامّة، وقد جاء ذلك في الخطبة الّتي ألقاها بتاريخ 22 شـوَّال 1428هـ / ٢/١١/٢٠٠٧م، متناولاً هذه المناسبة التي يلتقي عليها المسلمون جميعاً، بالنظر إلى ما يمثّله هذا الإمام من علامة فارقة ومميَّزة، وحضور في وجدان الأمّة جمعاء، لافتاً إلى ما خلّفه هذا الإمام من تراث علميّ غنيّ، وما تميّزت به مدرسته على الصّعد كافّة، وما اتّصف به منهجه، داعياً إلى التوقف عند تراث الإمام الصادق (ع) ودراسته ملياً، لأنه يمثل فكراً موسوعيّاً يتّسع لسعة الإسلام بكلّ مفاهيمه وقيمه الأصيلة. ومما جاء في خطبته:

"يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(الأحزاب: 33). من أئمّة أهل البيت (ع)، الإمام جعفر الصادق (ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر شوّال. والحديث عن الإمام جعفر الصّادق (ع) حديث طويل، واسع سعة الإسلام، لأنّ الإمام الصادق (ع) في تراثه العلمي والأخلاقي والفقهي والفكري والإنساني، وفي انفتاحه على كلّ الواقع الثقافي في الواقع الإسلامي، يمثّل ظاهرةً ثقافيةً في مستوى حركة الإمامة ومسؤوليّتها عن إغناء حياة الناس بالإسلام، على الطريقة التي انطلق بها رسول الله (ص)، وتحرك بها الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وانفتح الأئمة قبله من خلالها.

ومن خصوصيات الأسلوب الذي تحرك به الإمام جعفر الصادق (ع)، أنه كان يريد للشيعة من أتباع أئمة أهل البيت (ع)، أن يتثقفوا بالثقافة الإسلامية، بحيث لا يحتاجون أن يسألوا أحداً، فقد كانت وصية أبيه الإمام محمد الباقر (ع) إليه، أن يرعى الشيعة، وكان سلوك الإمام الصادق (ع)، أنّه لم يترك أيّ واحد من المسلمين بحاجة إلى أن يسأل أحداً، ذلك لأنّهم يمثّلون الغنى العلمي والثقافي في كلّ شأن من شؤون الإسلام، من خلال العلم الذي كان يمنحهم النبيّ (ص) إياه.

وقد نقل عنه (ع) قوله: "ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقّهوا في الحلال والحرام". وهكذا عمل الإمام الصادق (ع) على أساس إغناء الحياة العلمية للمسلمين جميعاً، بعيداً من الجانب المذهبي، فقد كان يستقبل تلاميذ وطلاباً من غير المذهب الإمامي، ممن كانوا لا يلتزمون بإمامة الأئمة من أهل البيت (ع)، ومنهم إمام المذهب الحنفي، وهو أبو حنيفة النعمان، حيث ينقل عنه قوله: "لولا السنتان ـ اللتان تلمّذ بهما على الإمام الصادق(ع)، حيث استطاع أن يكتسب منه علماً أغنى علمه، ووسّع ثقافته، وأعطاه الفكرة الأصيلة في الخط الإسلامي الأصيل ـ لهلك النعمان"، ومنهم إمام المذهب المالكي، مالك بن أنس.

وامتدت مدرسة الإمام الإسلامية، الفقهية، الكلامية، الثقافية، المفاهيمية، إلى مختلف مواقع العالم الإسلامي، حتى كان شيوخ الثقافة الإسلامية ينطلقون من قاعدة واحدة في أحاديثهم، وهي القاعدة الثقافية التي انطلق بها الإمام جعفر الصادق (ع)، فيحدث بعض الرواة ويقول: "أدركت في هذا المسجد ـ وكانت المساجد هي المدارس، حيث كانت ملتقى العلماء مع الناس ـ تسعمائة شيخ ـ أستاذ ـ كلٌّ يقول: حدَّثني جعفر بن محمد"، فكان هؤلاء العلماء ينشرون مذهب الإمام جعفر الصادق (ع) في كل القضايا الإسلامية المتنوعة، وهم ليسوا بأجمعهم ممن ينتمون إلى المذهب الإمامي الإثني عشري. وقد ذكر بعض المؤلفين، أنّ الرواة الذين نقلوا العلم عن الإمام جعفر الصادق (ع) هم أربعة آلاف راو من رواة الحديث، كانوا ينشرون علمه (ع) في الناس.

وهناك نقطة كان يتميز بها الإمام جعفر الصادق (ع)، وهي انفتاحه (ع) على الاتجاهات الفكرية والثقافية المتنوعة، حتى تلك الإلحادية التي يتميّز أصحابها بالزندقة والكفر والإلحاد، حيث كانوا يجتمعون إلى الإمام جعفر الصادق (ع) في المسجد الحرام في أيام الحجّ، ويحاورونه في كثير من القضايا العقيدية: في وجود الله، وفي القضايا الأساسية التي تمثّل أصول الدين وفروعه، وكان يجيبهم بكلّ رحابة صدر، حتى إنّ بعضهم كانوا يتجرّأون في التعليق على الطائفين حول البيت الحرام ويسألون: "إلى كم تدوسون البيدر؟"، فكأنهم كانوا يقولون امنعوا الناس عن ذلك، ووصفوا مكان الطواف بالبيدر، وكان الإمام يردّ على أسئلتهم بالحجة والبرهان القويّ دون أن يعنف معهم، حتى قال بعضهم: "ما رأيت رجلاً يستحقّ اسم الإنسانية إلا جعفر بن محمد"، وقال بعضهم الآخر (من الزنادقة): "إن كان في الدنيا روحانيّ يتجسّد إذا شاء ظاهراً، أو يتروّح إذا شاء باطناً، فهو هذا".

كان الإمام (ع) يؤمن بأنّ على الإنسان عندما يختلف مع شخص آخر، أن لا يضطهده ولا يقهره ولا يعنف معه، بل عليه أن يوسّع صدره لكلّ أفكاره وأسئلته، وأن يدخل معه في حوار، لأنّ دور الدعاة إلى الإسلام، منذ الأنبياء (ع)، والرسول (ص) والأئمة (ع)، هو أن يستمعوا إلى الناس في كلّ ما يفكرون فيه، حتى لو كانت الأفكار أفكاراً سلبيّة، حتى يقنعوهم بخطأ تفكيرهم انطلاقاً من رحابة صدرهم، وبكلّ كلمات طيّبة. وهكذا وصف الله سبحانه وتعالى رسوله (ص) بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران: 159).

والإمام الصّادق (ع) في حركته الإصلاحيّة، لم يكن يجد أنَّ هناك فرصةً للثورة على الحكم الطاغي الذي تمثَّل في بني العباس، وكان يرى رسالته في أن يصنع مجتمعاً مسلماً مثقفاً واعياً ومنفتحاً، يعرف فيه الناس الانحراف الذي يتمثّل في هذا الحكم أو ذاك، وقد عالج الإمام الصادق (ع) في أحاديثه النظام الأخلاقي والروحي والاجتماعي في الإسلام، وأطلّ على بعض الجوانب السياسيّة في توجيهاته. ومن جملة القضايا التي أكّدها، مما نحتاجه الآن في كلّ التحدّيات التي تواجه الإسلام والمسلمين، هي قضيّة الحريّة، فقد أراد (ع) للإنسان أن يكون حراً في فكره وعقله وإرادته ومواقفه، وأن يصبر على هذه الحريّة، فلا يتراجع ولا يهتزّ ولا يسقط أمام كلّ التحدّيات التي تواجهه في الحياة.

إنّ الإمام الصادق (ع) أراد أن يؤكّد أنّ الحرية تأتي من الداخل لا من الخارج، فهي لا تصدر بمرسوم أميري أو غيره، بل تنطق من أعماق الإنسان، كما كان الإمام عليّ (ع) يقول: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً". وقد ربط الإمام (ع) بين الصبر والحريّة، لأن الحرية تؤكّد موقف الإنسان في القضايا الصّعبة وفي مواجهة التحديات الكبرى، لأنها تكلّفه جهداً كبيراً وتضحيةً عظيمةً، ولذلك لا بدّ للإنسان من أن يصبر حتى يؤكد ثباته على حريته. وقد ورد في حديثه (ع): "إنّ الحرّ حرّ على جميع أحواله ـ لن يكون العبد حراً في أيّ حالة من الحالات ـ إن نابته نائبة ـ أصابته مصيبة أو واجهته التحدّيات ـ صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره ـ أي أنّ المصائب لا تكسر ثباته ـ وإن أُسر وقُهر ـ حتى لو أسروه وسجنوه أو قهروه من خلال الضّغط عليه ـ واستبدل باليسر عسراً ـ بحيث تحوَّلت حاله من السّعة إلى الضّيق في حياته.

ثم يذكر الإمام جعفر الصادق (ع) نموذجاً من نماذج الإنسان الحرّ الذي تداكّت عليه المصائب واستعبد ولكنّه لم يسقط، بل بقي حراً حتى في أقسى الحالات التي أطبقت عليه: ـ كما كان يوسف الصدِّيق الأمين (صلوات الله عليه)، لم يضرر حريته أن استعبد ـ لأنه بيع كما يباع العبيد من قبل الناس الذين عثروا عليه في البئر ـ وقهر وأسر ـ من قبل هؤلاء الذين تملّكوه ـ ولم تضرره ظلمة الجبّ ـ البئر ـ ووحشته ـ فهو بقي حراً في داخل البئر، مع أنّه كان في أوّل الشباب، أي في طور اللّعب، ومع ذلك، عندما وضعه إخوته في البئر، ظلّ يعيش حريته، فلم يسقط ولم يصرخ ولم يبكِ ولم يتوسّل إخوته أو أيّ أحد آخر ـ وما ناله أن منّ الله عليه، فجعل الجبار العاتي له عبداً ـ فهو كان عبداً للجبار من الناحية الرسمية القانونية، فأصبح الجبار عبداً له ـ بعد إذ كان مالكاً، فأرسله ورحم به أمةً، وكذلك الصّبر يعقب خيراً، فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصّبر تؤجروا".

وكان الإمام الصادق (ع) يؤكّد على الصبر باعتباره شرطاً للحريّة: "الصبر رأس الإيمان"، وأيضاً في حديث آخر: "الصّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وإذا ذهب الصّبر ذهب الإيمان".

ويصوّر الإمام (ع) الصبر بما يمثّله من سلامة للإنسان عندما ينزل في قبره، فيقول فيما يروى عنه (ع): "إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصّلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ ـ أعمال الخير ـ مظلّ عليه، ويتنحّى الصبر ناحيةً، فإذا دخل عليه الملكان اللّذان يليان مساءلته ـ منكر ونكير ـ قال الصّبر للصّلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه ـ فإذا كان في الصّلاة أو الزكاة أو البرّ خلل ـ فأنا دونه"، أستطيع أن أنقذه.

وفي نهاية المطاف، يحدّد الإمام الصادق (ع) صفة الإنسان المؤمن: "ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقوراً عند الهزاهز ـ عندما تحدث الفتن بين النّاس، ويهتزّ المجتمع من خلالها، يبقى على وقاره، فلا يهتزّ ولا يسقط ـ صبوراً عند البلاء ـ فلا يتبرّم عند نزول البلاء ـ شكوراً عند الرّخاء ـ يشكر الله عندما يوسّع عليه من نعمه ـ قانعاً بما رزقه الله ـ لأنّ الله لا يريد له إلا الخير ـ لا يظلم الأعداء ـ فعداوته لهم لا تبرّر إنكار حقّهم إن كان لهم حقّ ـ ولا يتحامل للأصدقاء ـ لا يتكلّف لهم ويجاملهم على حساب الحقّ ـ بدنه منه في تعب ـ من مسؤولياته التي كلّفه الله بها ـ والنّاس منه في راحة ـ فلا يصدر عنه للنّاس إلا الخير والسّير في قضاء حوائجهم ـ إنَّ العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره ـ سعة الصّدر، لأنّ المؤمن يستعين به في تسيير شؤونه في دينه ودنياه، فلا يغضب ـ والعقل أمير جنوده ـ فهو يتحرّك في كلّ حياته وأفعاله وتروكه بالعقل الذي يفرّق بين الخير والشّرّ، وبين الحسن والقبيح، وبذلك يدفع عنه جنود الشيطان ـ والرّفق أخوه ـ لأن الله رفيق يحبّ الرفق، ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف ـ والبرّ والده".

أيّها الأحبّة، إني أدعو جميع المثقّفين في العالم، ولا سيّما المسلمين منهم، إلى دراسة الإمام الصادق (ع) دراسةً علميةً، منفتحةً، لأنّ تراث الإمام الصّادق يمثّل تراثاً موسوعيّاً يتّسع بما يتّسع به الإسلام في كلّ حاجات الإنسان المسلم.

وهكذا، لا بدّ من أن ننفتح على أئمّة أهل البيت (ع) من خلال تراثهم، لأنّ المشكلة لدى جماهير التشيّع، أنهم حوَّلوا الأئمة في وجدانهم إلى مأساة للبكاء، ولم يحوّلوهم إلى حركة للعلم والثقافة والوعي والتقدّم.

إنّ علينا أن نبقى مع أئمّة أهل البيت (ع) لندرس تراثهم، لأنهم هم السفينة، سفينة العلم والتقوى والخير والقوّة والحرية والكرامة، التي أراد الله لنا أن نركبها من أجل أن نرتفع إلى المستوى الذي يحبّه الله سبحانه ويرضاه".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية