ما أشبه اليوم بالأمس، حيث نشهد على مسلسل التراجع العربي والإسلامي أمام
العنجهية الأميركية والصهيونية على حساب القضيّة الفلسطينية التي باتت عبئاً على
كثيرين، فما يسمى اليوم بصفقة القرن والانجراف وراءها، يؤكد الحالة المزرية التي
وصلنا إليها.
نستحضر في هذه الأجواء بياناً صادراً عن سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل
الله (رض)، الذي حمل القضية الفلسطينية في عقله وقلبة ومواقفه وكلّ حركته، منبّهاً
إلى مخاطر الانزلاق في المشاريع الصهيونية، وتضييع البوصلة، وتجاهل الحقّ، والتسريع
بالتطبيع مع العدوّ. ففي تاريخ 24 رمضان 1430 هـ / ١٣/٩/٢٠٠٩، أشار سماحته إلى أنه
لا يحقّ لأحد التفريط بالحقوق الفلسطينيّة، مصدراً فتوى بحرمة التّطبيع مع العدوّ.
وقد جاء في نصّ البيان:
"تمرّ قضيّة فلسطين اليوم بأخطر مؤامرةٍ دوليّة إقليميّة ومحلّية، تطال ـ للمرّة
الأولى ـ أساسها العميق، على المستويين الواقعي والحقوقي؛ بما يؤسِّس لمرحلةٍ جديدةٍ
تُقحَم فيها الأمّة الإسلاميّة والشّعوب العربيّة، لتخرج من دائرة التّاريخ فعليّاً،
بعدما خرجت بما يشبه الشّلل الكلّي أو الغيبوبة السياسيّة في كثيرٍ من المحطّات
التي كانت مؤاتيةً للعرب والمسلمين، فحوّلوا- بفعل تجذّر حال الضّعف النفسيّ في
كثيرٍ من أوضاعهم - انتصاراتهم إلى هزائم، وبلدانهم إلى مواقع للاحتلال، ومواقفهم
إلى مجرّد ظواهر صوتيّة قد تتردّد بين الجدران الفارغة التي تحتوي كلّ صفقات
الأسلحة المشلولة، أو الّتي يكاد يأكلها الصّدأ.
ولعلّ من علامات شلل الأمّة وغيبوبتها السياسيّة، أنّ الصّمت هو سيّد الموقف إزاء
ما يصيب المقدَّسات في قدس الرّسالات السماويّة وموطن الأنبياء، ولا نقصد هنا صمت
الأنظمة السياسيّة؛ لأنّ هذه الأنظمة قد استقالت منذ زمنٍ من القضيّة، ووقّعت
الاستقالة في سلسلة المواقف المتهالكة أمام عنجهيّة العدوّ الصهيوني واستكباره، بل
نقصد صمت الشّعوب...
لقد بات واضحاً أنّ الاتّجاه الدّولي، وكذلك العربيّ الرسميّ، للأسف، وحتّى بعض
الاتجاه العربي غير الرّسمي، هو أنّه ليس هناك من قدسٍ ينادي بها العرب والمسلمون،
وليس من عودةٍ يطمح إليها الفلسطينيّون، وأنّه ليس هناك من دولةٍ للفلسطينيّين، بل
مجرَّد كيانٍ بلديّ يُدارُ ضمن الدولة اليهوديّة، ويحصل على اعتراف الدّول به كدولة،
دون أن يملك حتّى التّواصل الجغرافيّ بين أراضيه.
أوّلاً: إنّ فلسطين، كلّ فلسطين، في حدودها التّاريخيّة، هي أرضٌ عربيّة إسلاميّة،
ولا يملك أحدٌ شرعيّة التّفريط في شبرٍ منها، مهما كانت الاعتبارات السياسيّة
والدينيّة؛ لأنّ الاغتصاب في الإسلام غير قابلٍ للشّرعنة، مهما تقادم الزمن، ولأنّ
تمكين الصّهاينة المحتلّين من أرض المسلمين، يمثّل تمكيناً لهم من السّيطرة على كلّ
الواقع الإسلاميّ الذي لن يزيده الواقع الدوليّ إلا تهالكاً وسقوطاً وضعفاً، عبر
سلسلة الضّغوطات والفتن التي ستضغط على الأمّة، وتفتك بجسمها الذي لم يعد يخفى ما
فيه من الوهن والمرض.
ثانياً: يحرم شرعاً أيّ حالةٍ للتّطبيع مع العدوّ الصّهيونيّ، مهما كانت نتائج حركة
الأنظمة السياسيّة العربيّة، وعلى الشّعوب العربيّة المسلمة التي تقرأ في القرآن
الكريم صباحاً ومساءً تاريخ هؤلاء الصّهاينة، أن تدرك أنّه لم يكن لهم عهدٌ عند
الله، فكيف يكون لهم عهدٌ عند النّاس، وقد كنّا أصدرنا سابقاً فتوى شرعيّةً تقضي
بحرمة التّعامل التجاريّ مع الكيان الغاصب، وكلّ من يدعمه في احتلاله وتمكينه من
قتل الفلسطينيّين واضطهادهم وتشريدهم.
ثالثاً: إنّنا نؤكّد أنّ الفتوى بحرمة التّطبيع على كلّ مسلم، وعدم شرعيّة التّفريط
بأيّ شبر من أرض فلسطين، هو خطّ إسلاميّ شرعيّ، لا ينطلق التّنظير له من خصوصيّة
مذهبيّة، وإنّما يمثّل قاعدةً ينطلق منها كلّ تفكير فقهيّ شرعيّ اجتهاديّ أصيل.
ونشدّد ـ في هذا المجال ـ على علماء الأمَّة، من الأزهر، إلى أرض الحرمين، إلى
النَّجف، إلى قمّ، إلى غيرها من حواضر المسلمين الدّينية، أن يتحرّكوا لتحديد
الموقف الإسلاميّ الواضح إزاء ما يُحاك للأمّة، ونزع الشرعيّة عن أيّ محاولة لإمضاء
صكّ احتلال اليهود لفلسطين، أو الانخراط في التّطبيع مع هذا العدوّ بأيّ شكلٍ من
الأشكال، ناهيك بتمكينه من حرّية الحركة في الأجواء والمياه العربيّة، فضلاً عن
الانخراط في مشاريع تزيد جسم الأمّة تفتيتاً وضعفاً.
رابعاً: لقد بات من الواجب على الأمّة وجوباً كفائيّاً، أن تنطلق في كلّ مجالاتها،
الثّقافيّة والسياسيّة والإعلاميّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وحتّى العسكريّة
والأمنيّة، لتأكيد حضور فلسطين في وجدان الأمّة، في مدى الزمن، واستثمار أيّ مناسبةٍ
لفلسطين والقدس، أو أيّ محطّة من محطّاتها الرمزيّة، لتفعيل هذا الحضور بأرقى
الأساليب وأقواها تأثيراً وفاعليّةً، فضلاً عن تأكيد الموقف القويّ في حركة السياسة
والأمن ضدّ كلّ الخطط الرّامية إلى إنهاء فلسطين قضيّةً وشعباً وتاريخاً وحاضراً
ومستقبلاً.
أخيراً: إنّنا نقول للفلسطينيّين، كلّ الفلسطينيين: لقد مثّلتم في كلّ تاريخكم
النّضاليّ والجهاديّ، موقف العزّة والكرامة حتّى في أقسى حالات تعرّضكم للقتل
والتّشريد والاضطهاد والظّلم، ولم تكن فلسطين قضيّتكم فحسب، وإنّما هي قضيّة كلّ
الشّعوب الإسلاميّة والعربيّة، وإنّ الأمّة تُغلَب على أمرها عندما تفتّت الجغرافيا
قضاياهم الكبرى، ليشعر كلّ بلدٍ بأنّه غير معنيّ بأخيه من وراء الحدود، ولا بما
يعانيه قتلاً ونهباً وتشريداً وظلماً واضطهاداً.
إنّ أيّ حال انفصالٍ عن جسم الأمّة، في دينها وقيمها وشرعها، في هذه القضيّة
المركزيّة، لن تعود إلا بالذلّة على كلّ الواقع الإسلامي والعربيّ، فضلاً عمَّا
يصيبكم في ذلك من الهوان؛ وإنّكم لم تكونوا يوماً وحدكم في مواقع النّضال والجهاد،
لتشعروا بأنّكم مغلوبون لأن تقاربوا ما يُشبه الانتحار التّاريخي في أقدس قضيّة
تمثّلون اليوم عنوانها الكبير.
كما نقول للشّعوب العربيّة والإسلاميّة: إنّ فلسطين تمثّل المسؤوليّة العربيّة
والإسلاميّة الكبرى التي لا مجال للتّنازل عنها بأيّ حالٍ من الأحوال، ولا بدّ من
الوقوف مع شعبها ودعمه بكلّ الإمكانات حتّى تحقيق النّصر والتّحرير، ولا عذر للجميع
بالتخلّي عن هذه المسؤوليّة، وإن انحرفت الأنظمة عن هذا الواجب أو سارت في خطوط
الهزيمة والاستسلام".