بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله
(رض)، نسترجع خطبته التي ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة
حريك، بتاريخ 9 شوال 1426 هـ/ الموافق / ١١/١١/٢٠٠٥ م، والّتي تحدّث فيها حول جملة
من الوصايا والقضايا الأخلاقية والاجتماعية العامّة المهمة، ومن ذلك مواجهة المعاصي
والانحرافات، وضرورة وقوف الأمّة في وجه الظالمين والمفسدين كجزء أساس من تحمّلها
لمسؤولياتها، داعياً إلى أن نكون من أهل الحقّ المطيعين لله فعلاً وقولاً وحركة
وموقفاً، مستشهداً بأحاديث من وحي المناسبة. قال سماحته:
"في مواجهة قضايا المعاصي والانحرافات التي يقوم بها النَّاس، ومنها ما تقوم به
الفئات المسؤولة في المجتمع، والجهات الّتي تملك مستوى اجتماعيّاً أو سياسيّاً أو
دينيّاً، هذه الجهات إذا انحرفت وأخذت بغير رضى الله تعالى، وظلمت النَّاس الضّعفاء،
وسرقت أموال الأمَّة، وأفسدت المجتمع من النّواحي الأخلاقيّة أو الاجتماعيّة
والسياسيّة، فهل تتحمَّل العامَّة من الناس مسؤوليَّة ما يقومون به، في ما يمارسونه
من ظلم، وفي ما يصنعونه من فساد، أو ما إلى ذلك مما يتَّصل بالواقع العام للناس؟
في حديث رسول الله (ص)، فيما رواه الإمام الصادق (ع) عن أبيه (ع): «إنّ المعصية إذا
عمل بها العبد سراً، لم تضرّ إلا عاملها ـ الشخص الذي يرتكب بعض المعاصي، كأن يشرب
الخمر مثلاً، أو يزني، أو يسرق، فلا يضرّ إلاّ نفسه ـ وإذا عمل بها علانيةً ولم
يُغيَّر عليه، أضرّت العامة»، عندما يجاهر هذا الشخص أو ذاك بالمعصية، كأن يظلم، أو
يسرق، أو يعصي علانية، هنا يجب على النّاس أن يواجهوه بالإنكار والرّفض، حتى يمنعوه
من ذلك، ليحاصروه في معاصيه، أمّا إذا لم يغيّروا عليه، ووقف كلّ واحد موقف
اللامبالاة، فإنّ ذلك يضرّ بالعامّة، لأنه يكون تماماً كما هو المرض المعدي الّذي
ينتشر بين النّاس.
وعلى ضوء هذا، لا بدَّ للنَّاس من أن يغيّروا على الشخص الذي يرتكب المعاصي جهاراً،
حتى لا يتأثّر الناس بها نفسياً أو عملياً. وفي حديث الإمام عليّ (ع): «أيُّها
الناس، إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة إذا عملت الخاصّة
بالمنكر سراً من غير أن تعلم العامّة ـ بحيث لم يطّلع عليها أحد، فالله لا يؤاخذ
الشّعب بما فعله هؤلاء ـ فإذا عملت الخاصّة بالمنكر جهاراً ـ بحيث إنها مارست
الانحراف عن مواقع رضى الله تعالى، وأخذت بما يغضبه ويسخطه سبحانه في أمورها وأمور
النّاس ـ فلم يغيّر ذلك العامة، استوجب الفريقان العقوبة من الله عزّ وجلّ»، فالله
يعاقب الخاصّة لأنهم عملوا بالمنكر، ويعاقب العامّة لأنهم لم ينكروا المنكر، ولم
يقوموا بتغيير هذا الواقع بما يملكون من وسائل ضغط يمكن لها أن تحاصر هؤلاء الخاصّة.
وخلاصة الفكرة في هذه الأحاديث، أنَّه عندما تنطلق الخاصَّة، على أساس الظلم
والفساد وأكل أموال الناس بالباطل والخيانة، لا يجوز لأحد أن يقف على الحياد أو
موقف اللامبالاة، بل لا بدَّ للأمَّة من أن تعمل على أن تنظّم نفسها في القضايا
الاجتماعيَّة، وفي القضايا السياسيَّة، وفي غيرها من القضايا، حتى تمنع هؤلاء من
القيام بمظالمهم ومفاسدهم وانحرافاتهم، ليسلم المجتمع من ذلك كلّه، فإذا امتنع
الناس عن الإنكار على هؤلاء، وعن تغيير أوضاعهم السلبيّة، فإنَّ الله سوف يؤاخذ
الأمَّة كما يؤاخذ هؤلاء، فيعاقب الخاصَّة على ما أسلفوا من المفاسد والمظالم،
ويعاقب الأمَّة لأنها لم تنكر عليهم ما فعلوه.
ولذلك، فإنَّ وقوف الأمّة والشّعب ضدّ الظالمين والخائنين والمستكبرين، هو
مسؤوليَّة يتحمّلها الناس في كلِّ أمورهم التي يملكون فيها أن يواجهوا الواقع
بالطّريقة التي يمنعون فيها فساد الواقع، ويعملون من خلالها على إصلاحه.
وهناك جانب آخر، وهو جانب كيف يواجه الناس المعاصي التي يقوم بها أناس آخرون، من
النَّاحيتين الفكرية والنفسية؟ قد يواجه الناس ظالماً يظلم الضّعفاء، أو فاسداً
يفسد الواقع، أو فاسقاً يتجاهر بالفسق بينهم، هنا النّاس على قسمين: قسم يستطيعون
أن يقاوموا هؤلاء الأشخاص، بمعنى أن يمنعوهم بالقوَّة، بالوسائل التي تحاصرهم، فيجب
عليهم ذلك، وإذا لم ينكروا عليهم، فإنَّ الله يعاقبهم على عدم الإنكار، وهناك قسم
من النّاس غير قادرين على الإنكار عليهم، لأنهم أصحاب قوَّة قاهرة لا يستطيعون
مقاومتها، فالتّكليف الشّرعيّ للإنسان في مثل هذه الحالة، أن يعقد قلبه على رفض هذه
الأعمال، فإذا كنت لا تستطيع رفضها بيدك أو بلسانك، فيجب عليك أن ترفضها بقلبك، حتى
يبقى إنكار المنكر والظّلم والفساد فكرة تعيش في نفسك، لتعمل في المستقبل على تحصيل
القوَّة لتسقطها من الواقع بعد ذلك، فالمهمّ أن لا تتعاطف مع فاعل المنكر أو
الظّالم، وقد ورد: «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن
لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
وقد ورد عن عليٍّ (ع) أنّه قال: «الرَّاضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم ـ كمن ينتمي
إلى حزب أو يوالي زعيماً أو صاحب سلطة، ويرى هذه الجهة تقوم باعتقال أو قتل من لا
يستحقُّ الاعتقال أو القتل، فيوافق قلبيّاً على ما فعلته هذه الجهة، عند ذلك، هو
شريك معهم في الإثم والعقاب ـ وعلى الداخل في باطل إثمان: إثم العمل، وإثم الرضى به».
وفي حديث عليٍّ (ع): «أيُّها النَّاس، إنَّما يجمع الناس الرِّضى والسّخط ـ الذي
يجعل النَّاس مجتمعاً واحداً، بحيث إنهم يرتكزون على قاعدة واحدة، هي مسألة ما
يرضون به وما يسخطون عليه، فإذا كان بعض المجتمع يفعل المنكر، والبعض الآخر يرضى به،
فإنّ المجتمع بكلّه يتحمّل المسؤوليّة ـ وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمَّهم
الله بالعذاب لما عمّوه بالرضى»، فالله تعالى نسب الفعل إلى الكلّ، لأنّ الآخرين
رضوا بالفعل. وهو ما يصيبنا في بعض الأوضاع العشائرية، في قتل المرأة التي قد
تُتَّهم بسوء ولو من خلال إشاعة، فتجتمع العشيرة، وتطلب من أحد شبابها أن يقتل
الفتاة، فهنا، وإن كان منفّذ القتل واحداً، إلا أنّ العشيرة كلّها تعتبر مشاركة،
لأنّهم كانوا راضين بالقتل.
وعن الإمام الصّادق (ع) في قولـه تعالى في خطاب الأنبياء عن اليهود: {قَدْ جَاءَكُمْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(آل عمران/183)، فالله حمّل اليهود مسؤوليّة قتل كلّ
هؤلاء الرّسل، يقول (ع): «وقد علم أنّ هؤلاء لم يقتلوا، ولكن فقد كان هواهم مع
الّذين قتلوا، فسمّاهم الله قاتلين، لمتابعة هواهم ورضاهم لذلك الفعل، وكان بين
الذين خوطبوا بهذا القول وبين القاتلين خمسمائة عام، فسمَّاهم الله قاتلين، برضاهم
بما صنع أولئك». ونحن إنَّما نريدُ أن نكرِّر هذه الأحاديث عن رسول الله (ص)، وعن
الأئمّة (ع)، لتعرفوا كيف تكون الولاية للأئمَّة (ع)، وكيف يمكن لنا أن نأخذ
بتعاليمهم في حياتنا العامَّة والخاصَّة، من خلال التّراث الذي تركوه لنا، لأنهم
(ع) عندما يتحدَّثون مع الناس في زمانهم، فإنهم يتحدَّثون مع الإنسان كلّه، ومع
الزمن كلّه، لأنهم أئمّة الحقّ في مدى الزمن كلِّه.
وعن الإمام عليّ (ع) لبعض أصحابه، وهو يودّ حضور أخيه ليرى نصر الله على الأعداء
يوم "الجمل"، يقول (ع): «أهوى أخيك معنا؟»، قال: نعم، فقال (ع): «فقد شهدنا، ولقد
شهدنا في عسكرنا أقوام في أصلاب الرّجال وأرحام النّساء، سيرعف بهم الزمان، ويقوى
بهم الإيمان».
فعلى الإنسان عندما يواجه قضايا الحقّ والباطل، أن يعقد قلبه على الرّضى بالحقّ،
ليكون من أهل الحقّ ومن شهد الحقّ، وأن يعقد قلبه على رفض الظّلم ومواجهة الباطل
وإنكاره، ليكون ضدّ الباطل، وإن كان غائباً عنهم.
إنَّ الله تعالى يريد للإنسان أن يطيعه في جسده كما يطيعه في عقله وقلبه، وعلى
الإنسان أن يكون مؤمناً تقيّاً مطيعاً لله في ما يفكّر فيه، تماماً كما يكون مطيعاً
لله في ما يعمل به أو يعمل له".