بتاريخ 11 ربيع الأوَّل 1428 هـ / ٣٠/٣/٢٠٠٧، تحدَّث سماحة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله (رض) في خطبة الجمعة الّتي ألقاها في مسجد الحسنين في حارة حريك، عن ذكرى ولادة رسول البشريّة، وما تحمله هذه المناسبة العظيمة من معان جليله وكريمة، عارضاً لهذه السيرة العطرة، داعياً المسلمين إلى نبذ العصبيات والالتقاء على الوحدة.
جاء في الخطبة:
بلـغ العلى بكمالـه كشف الدّجى بجماله
حسنت جميع خصاله صلّوا عليـه وآلـه
{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التّوبة: 128).
هذا الرسول العظيم الذي ختم الله تعالى به الرّسل، وختم برسالته الرسالات التي تضمّنت كلّ العناصر الحضارية الإنسانية لكلّ الرسالات؛ هذه الرسالة التي أرسل الله بها رسله.
رسالة التّوحيد
وانطلق في دعوته، كما انطلق الرسل من قبله، برسالة التوحيد، ليكون الإنسان في كل المواقع في العالم موحِّداً لله، فلا إله إلا هو، ولا معبود سواه، ولا طاعة لغيره، وليس لأيّ بشر، مهما كانت عظمته، أن يأخذ في موقعه أيّ دور هو لله. وهكذا رأينا كيف أنّ الله تعالى في ما أوحى به إلى رسوله(ص)، أكّد بشريّته، فقد وُلد الرسول كما يولد أيّ إنسان، ولم تكن ولادته بطريقة مختلفة، وقد مات أبوه وهو حمل في بطن أمّه، وتوفيت أمّه قبل أن تستكمل رضاعته، ولهذا نشأ النبي(ص) يتيم الأب والأمّ في بيئة مستضعفة، وقد كفله بدايةً جدّه عبد المطلب، ثم آلت كفالته إلى عمّه أبي طالب.
ودرج النبيّ(ص) في رعاية الله تعالى، الذي كان يلهمه في أخلاقه أن يكون المثل الأعلى للإنسان في الصّدق والأمانة؛ كان صادق القول، فلا يتكلّم بغير الحقّ وبغير الواقع، وكان الأمين الذي يأتمنه الناس على كلّ أموالهم وودائعهم، حتى اشتهر أمره بين الناس في مكّة وغيّروا اسمه، فكانوا يقولون: "جاء الصّادق الأمين"، و"تحدّثنا مع الصادق الأمين"، لأن الله أراد أن يؤكّد قيمة الصدق في شخصية الرّسول(ص) قبل أن يبعثه بالرسالة، حتى إذا بعثه بها، لم يكن لأحد أن يتّهمه بالكذب، لأنّ حياته في مدى الأربعين سنة كانت حياة الصدق مع كلّ الناس، كما أراد الله أن يركّز في عناصر شخصيّته الأمانة، ليعرف الناس أنّه الأمين على كلّ حياتهم، لأنه كان الأمين على أموالهم، فالأمانة لا تتجزّأ في الإنسان، فالأمين على المال هو الإنسان الذي يتحمّل مسؤولية الناس فيما يملكون.
النبيّ الأمّيّ
وقد كان الرسول(ص) أميّاً، وجاء في القرآن عنه: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}(الشورى: 52)، {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(العنكبوت: 48). فلو كان يجيد القراءة والكتابة، لقال المشركون عنه إنّه تعلّم الرسالة مما كان يقرأه من الكتاب. ولم تكن أمّيته نقصاً فيه، بل كانت تمثّل المعجزة، لأنه بالرغم من أنه لم يقرأ كتاباً ولم يكتب، فإنه أتى بما أعجز الذين يقرأون ويكتبون؛ أتى بالقرآن الذي تحدّى الجن والإنس بأن يأتوا بسورة من مثله، ولم يستطيعوا أن يقفوا أمام هذا التحدي، ما أثبت أن الذي جاء به ليس من ثقافة خاصة تعلّمها، بل من وحي إلهي أُنزل عليه.
ورأينا كيف أن النبي(ص) عاش مع الله قبل أن يرسله الله رسولاً، فكان يعتزل قومه في غار حراء، ويتعبّد الله ويبتهل إليه، ولقد وكّل الله به عظيماً من الملائكة ـ كما حدّث عنه أمير المؤمنين(ع) ـ يلقي إليه في كلّ يوم علماً مما أراد الله له أن يتعلّمه، ومما أراد له أن يبلّغه للناس. وبلغ النبي(ص) القمّة في كل عناصر الإنسانية، كان قلبه ينبض بمحبّة المستضعفين، وكان يجلس إليهم ويرأف بهم ويرحمهم، ولا يستطيل عليهم، بل يتواضع لهم، كان الإنسان الذي أعلى الله درجته، حتى إنّه لم يبلغها أيّ بشر، ومع ذلك، كان القائل من أصحابه يقول: "كان فينا كأحدنا"، بحيث إنه كان لا يميّز نفسه عن أيّ إنسان آخر، بل كان يجلس بين أصحابه، حتى إذا جاءه شخص يريد الحديث معه، لا يعرف من هو النبيّ، فكان يسأل: "أيّكم محمّد"؟ ولذلك اتّفق أصحابه أن يخصّصوا له حجراً يجلس عليه حتى يعرفه الزائر. وكان(ص) يتواضع للمرأة والطفل، حتى إنّه رأته امرأة، فارتعدت من هيبته، فقال(ص): "لا عليك، إنما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد".
شخصيّة إنسانيّة
وقد أودع الله في شخصيته كلّ القيم الإنسانية، كان قلبه يتسع للأمّة كلها، وكان يتألم لما يتألمون له، ولذلك قدَّمه الله لنا بقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ـ هذا الرسول لم يأتِ من الملائكة، لأنه لو كان كذلك، لقال الناس فيما يتحرك به: إننا لا نستطيع أن نبلغ مستوى الملائكة، بل كان بشراً إنسانياً، ولكنه لم يعش في ذاته الدائرة الضيّقة، كما يعيش بعض القادة الدائرة العائلية أو الحزبية، كان يتّسع للناس كلّهم، ولذلك كان يتفاعل مع الإنسانية كلّها ـ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ـ العنت هو المشقة. يعزّ عليه ويثقل نفسه كلّ ما تواجهونه من مشاقّ، سواء مشقّة الفقر أو المرض أو الأمن، وما إلى ذلك من المشاكل التي تصيب الناس ـ حَرِيصٌ عَلَيْكُم ـ يراقب المجتمع كلّه في كلّ ما يصيبه من نقاط الضعف، فيعمل على تقوية هذه النقاط ليحوّلها إلى نقاط قوَّة، لأنه كان يريد أن يرتفع بالناس إلى المستوى الذي ينفتحون فيه على التقدّم الروحي والثقافي والأمني والسياسي، فهو حريص عليهم أن لا يضيعوا ويدخلوا في المتاهات، بل كان يحرص على أن يكونوا في مستوى الأمة ـ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 128). كانت الرأفة في قلبه، والرّحمة في شعوره وفي تعامله معهم.
وقد انتقلت هذه الرّحمة إلى أصحابه، فتعلّموا منه أن يكونوا الرحماء: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ـ فعندما كان الكفّار يتحدّونهم ويريدون إسقاطهم وإضعافهم، كان صحابة النبي(ص)، الذين يتقدَّمهم عليّ(ع)، الأشدّاء على الأعداء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، وكانوا يتعلّمون الشجاعة من رسول الله(ص)، حيث كان عليّ(ع) يقول: "كان إذا اشتدّ البأس لذنا برسول الله"، لأنّ تلك القوّة كانت قوّة ربانية روحيةً، من خلال ما أودعه الله من سكينة في قلبه، فكان الشديد في مواقع التحدي، حمايةً للإسلام، وحفاظاً على المسلمين، وأراد للمؤمنين أن يكونوا الأشدّاء في مواقع التحدّي، لا شدّة الحقد والعداوة، بل شدّة الموقف، لأن هذه الأمّة هي الأمّة التي يجب أن تكون الشديدة في صلابة الموقف أمام الآخرين، لتستطيع أن تحفظ عزّتها وكرامتها ـ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}(الفتح: 29). أمّا في المجتمع الإسلامي، عندما يعيش المسلم مع المسلم، ويتعامل المسلمون فيما بينهم، فهم الرّحماء الذين ينطلقون بالرّحمة من الخطّ الإسلامي الأصيل: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}(البلد: 17)، وهذا ما تعلّموه من رسول الله(ص).
فتنة اليهود بين المسلمين
وقد ذكرت كتب السّيرة، أنّ اليهود الذين كانوا يعيشون مع المسلمين في المدينة، تعقّدوا من وحدة المسلمين، بعد أن كان أهلها من الأنصار من عشيرتي الأوس والخزرج يتقاتلون لعشرات السنين، وأراد اليهود أن يثيروا العصبيّات فيما بين العشيرتين، بعد أن أسقط الإسلام كلّ حميّة تنطلق من الجاهلية، وجمعهم على الإسلام، فبدأ اليهود بإثارة كلّ الأوضاع التاريخية المعقَّدة بينهما، وانطلقت هذه العصبية من خلال بعض نقاط الضعف فيهما، حتى تعاظمت العصبية وتنادوا: "السلاح، السلاح"، وجاء الخبر إلى رسول الله(ص): "أدرك المسلمين"، لأن هناك خطر الانقسام والفتنة بينهم، فجاء النبي(ص) وخاطبهم بكلّ وداعة ورحمة ومحبة، وقال لهم وهو يؤنّبهم بكلّ محبة: "أكفراً بعد إيمان؟!"، لقد آمنتم بالله ورسوله، وانطلقتم بوحدة إيمانية رسالية، وتحركتم مع النبيّ لتتبعوا النور الذي أُنزل معه، لتشرق عقولكم وقلوبكم وعلاقاتكم في إشراقة المحبة والرحمة والوحدة. وعندما رأوا هذا الموقف من النبي(ص) في كلّ خطابه النبوي الأبوي الرسالي، اعتذروا إليه، وأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: 103).
ووقف النبيّ(ص) في حجّة الوداع في منى، وقال لهم: "أيّ بلد هذا؟"، قالوا: البلد الحرام، قال: "فأيّ يوم هو هذا؟"، قالوا: اليوم الحرام، فقال: "فأيّ شهر هو هذا؟"، قالوا: الشهر الحرام، فقال: "إنّ الله حرّم أموالكم ودماءكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"، "ألا لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". لقد أراد النبي(ص)أن يصنع أمّة مسلمة يحترم فيها المسلم مال المسلم الآخر ودمه وعرضه وأمنه، ليكونوا قوّة في وجه الذين يكيدون للإسلام وأهله، وهذا ما أراد الله للأمّة كلّها في جميع مراحلها التاريخيّة أن تلتزم به، حتى ورد أنّ المسلم هو من سلم الناس من يده ولسانه، وأن المؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأعراضهم.
الاحتفال بوحدة المسلمين
ونحن في ذكرى مولد النبي(ص)، الذي تنوّعت الروايات فيه بين الثاني عشر من ربيع الأوّل أو السابع عشر منه، حتى إنّ بعض العلماء الشيعة، وهو الشيخ الكليني، يتبنّى رواية أنّ ولادته في الثاني عشر، ولو كان المشهور بين علماء الشيعة أنّ ولادته كانت في السابع عشر. ولكن على كلّ حال، فإنّنا في هذه الذكرى، لا بدّ من أن نعيش مع النبي(ص)، لنستهديه ونستحضره في كلّ حياتنا، ولو كان(ص) غائباً عنا بجسده، فإنه حاضر بيننا برسالته وشريعته، وهو ما أكّده القرآن الكريم للمسلمين، عندما قيل بأنّ رسول الله(ص) قد قُتل، فقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}(آل عمران: 144)، يموت الرسول وتبقى الرّسالة، فكما التزمتم الرسالة في حياة الرسول، عليكم أن تلتزموها من بعده.
إننا في هذه الذكرى، لا نريد احتفالات استعراضية أو مهرجانية، ولكننا نريد للمسلمين أن يحتفلوا بمولد الرسول، بأن يلتقوا على الوحدة الإسلامية، حتى يعيشوا حركة هذه الوحدة في مواجهة التحديات الكبرى التي يفرضها الاستكبار العالمي على العالم الإسلامي كله، لمصادرة سياسته وأمنه واقتصاده، ولا سيّما الاستكبار الأمريكي، ومعه الذين يعملون على إثارة الفتنة بين المسلمين، كما نلاحظه فيما يتحرّك به التكفيريون في العراق، الذين يستحلون دماء المسلمين، وهكذا يدخل الوسواس الخنّاس الأمريكي في كلّ لقاء للمسلمين، ليوسوس من خلال بعض العملاء لإبقاء الفتنة بين المسلمين.
علينا في هذه الذكرى أن نتوحّد بالله الواحد، والرسول الواحد، والشريعة الواحدة، والقرآن الواحد، وأن نتوحّد بالمستقبل الواحد. إنّ رسول الله يقول لكم وهو في عليائه: إنّ الإسلام هو أمانة الله في أعناقكم، وعليكم أن لا تخونوا الله والرسول. إنّ كل من يثير الفتنة بين الشيعة أنفسهم، وبين السنّة أنفسهم، وبين السنّة والشيعة، هو خائن لله وخائن لرسول الله. إنّ علينا أن ننطلق في احتفالنا بالمولد بالنبي(ص) من خلال الوحدة، لنقول له: يا رسول الله، لقد وحَّدتنا بالإسلام، ونريد منك أن تدعو الله وأنت في عليائك، أن يوفِّقنا للسّير في خطّ هذه الوحدة.