بتاريخ 7 ربيع الأوّل 1424 هـ/ 9-5-2003م، وفي ذكرى وفاة الإمام الحسن العسكري (ع)، تناول العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رض) في خطبة الجمعة الدينية الّتي ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، معالم هذه الشخصية الإسلامية الرسالية، عارضاً لشيء من سيرته المباركة، والتي جعلته موضع تقدير المسلمين جميعاً. جاء في خطبة سماحته:
"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنَّما يُريدُ اللهُ ليُذهِبَ عنكم الرِّجسَ أهلَ البيتِ ويُطَهِّرَكُم تطهيراً}. من أهل هذا البيت، ومن أئمتهم، الإمام الحادي عشر الإمام الحسن بن عليّ العسكري (ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الثامن من هذا الشّهر.
والحديث عن أهل البيت (ع) حديث متنوِّع في العصمة الفكرية والروحية والعملية التي يتمثلون بها، فتنطلق الحقيقة في كلّ كلمة من كلماتهم، وفي كل سيرة من سيرهم، وفي كلّ انطلاقة روحية من انطلاقاتهم، صافيةً لا يشوبها أي كدر. وهكذا، عندما نتذكرهم، فإننا نتذكّر الطهارة كلّها؛ طهارة العقل والروح واليد واللّسان، هذه التي تعطي الناس من طهرها طهر الرّسالة، وإذا تذكّرناهم، فإننا نتذكر العلم الواسع الذي انفتح على الوحي، فكان الوحي عمقه وامتداده وآفاقه.
ولأنّ أهل البيت (ع) كانوا مع الناس، يعلّمونهم ويخدمونهم ويقضون لهم حاجاتهم، ويسيرون بهم نحو الطريق المستقيم، ويوجّهونهم إلى أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، ويؤكّدون عليهم أن يلتزموا بأمور المسلمين، كما قال جدّهم عليّ (ع) عندما عصفت العواصف بالمسلمين في قضاياهم الداخلية والخارجية، وكانت الأوضاع السلبية توجَّه إليه في عمليّة إبعاد عن حقه واضطهاد لموقعه، كان (ع) يقول: "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين"، لأنني مسؤول عن كلّ أمور المسلمين، ولذلك لا يمكن أن يصدر عني أيّ قول أو عمل يمكن أن يثير فتنةً، أو يصنع عصبيّة لحسابات ذاتية. هكذا كان يقول عليّ (ع) عندما كان يعبّر عن تجربته الصّعبة، وهكذا ترك للأئمّة (ع) من أولاده، وترك للمسلمين من بعده، أنهم إذا وقفوا بين الخاصّ والعام، فإنّ عليهم أن يغلّبوا العام على الخاصّ، وأن يعضّوا على الجراح حتى لا تُجرح الأمَّة.
والإمام العسكري (ع) هو من أهل هذا البيت (ع)، وهو آخر الأئمة الذين ظهروا مع الناس، ثم جاء ولده الإمام المهدي (عج) من أجل أن يعدّه الله تعالى للعدل الشامل في الكون كله، العدل المبنيّ على الإسلام في كل مفاهيمه وقيمه وشرائعه، هذا العدل الذي بدأ الله تعالى به إرسال الرسالات ليقوم الناس بالقسط، ويختم به التجربة الرسالية الأخيرة في رسالة الإسلام التي جاء بها رسول الله (ص) وحملها الأئمة (ع) من ذريّته، ليحقق الهدف الأخير الذي لم يستطع الأنبياء أن يحققوه بالشكل الشمولي، وهو العدل الشامل، أن تكون الأرض كلّها عدلاً، وأن لا يبقى هناك ظلم على الصعيد الفردي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، لينزع الإنسان ـ بروحية الرسالة والإسلام ـ الظلم من عقله وقلبه وحياته.
إننا عندما نقف في ذكرى وفاة الإمام العسكري (ع)، الذي أخذ لقب العسكري لأنّه كان يسكن في بلدة "سامراء" في العراق، في محلّة اسمها "العسكر"، فنُسب إلى تلك المحلّة كما ينسب الناس إلى أية محلّة يسكنونها.. وقد عانى الإمام العسكري (ع) من خلفاء زمانه من العباسيين الكثير الكثير، وكان العباسيون في سيرتهم مع الأئمة من أهل البيت (ع) يعملون على مراقبة كل أوضاعهم، في حياتهم مع الناس، وفي ثقة الناس بهم والتفافهم حولهم واعتقادهم بإمامتهم، فكانوا يخافون منهم، كانوا لا يخافون من أن يخطِّطوا لانقلاب عسكري ضدّهم، بل كانوا يخافون من التخطيط لانقلاب روحي وقيمي وأخلاقي ضدّهم..
كان أهل البيت (ع) ـ كما هي سيرتهم ـ يزرعون في عقول الناس أن عليهم أن يكونوا مع الحق، لأنّ الله تعالى هو الحقّ، وأن يقولوا كلمة الحقّ، بقطع النظر عن ردّ الفعل في ذلك، انسجاماً مع قولـه تعالى: {وقلِ الحقّ مِنْ ربِّكم فمَن شاءَ فليؤمنْ ومن شاءَ فليكفرْ}. كانوا يعلّمون الناس أن يتحركوا بالعدل في بيوتهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كانوا يؤكّدون للناس أن لا تسقط إنسانيتهم بفعل ضغط الذين يريدون إلغاء إنسانية الإنسان، وكان الطغاة في كل زمان ومكان ـ ولايزالون ـ يخافون أن يستيقظ الإنسان على الإحساس بإنسانيته التي ترفض العبودية، وتعمل على إلغاء مواقع الطغاة، لأنهم ـ أي الطغاة ـ لا يريدون أن يعيش الناس معنى الحرية في إرادتهم ومواقفهم حتى يستقيم لهم ملكهم، لأن الناس إذا ما أخذوا بأسباب الحرية، وأصبحوا أحراراً في كلماتهم ومواقفهم وكلّ أوضاعهم، فإن الطغاة لا يستطيعون أن يفرضوا عليهم العبوديّة.
تلك هي رسالة أهل البيت (ع) التي أخذوها من القرآن الكريم الذي ركّز العزّة للمؤمنين إلى جانب العزّة لله ولرسوله: {ولله العزّةُ ولرسولِهِ وللمؤمنين}، تلك كانت رسالة الأئمّة من أهل البيت (ع) التي تحدّثوا فيها عما تحدّث به جدّهم عليّ (ع) ـ رائد الحرية بعد رسول الله (ص) ـ الذي كانت مشكلته مع كلّ الواقع الذي يحيط به، أنه كان يريد للإنسان أن يكون حراً، وقد قال مخاطباً كلّ إنسان: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً".
لقد كان الإمام العسكري (ع) يؤكِّد هذه المفاهيم، وكان الخلفاء يخافونه، ولذلك قاموا باضطهاده. وقد نقل أحد سجّانيه في بعض سجون بني العباس، عندما جاءه فريق من العباسيين، وطلبوا منه أن يضيِّق على الإمام في سجنه للتخلّص منه، فقال لهم: "ما أصنع وقد وكّلت به شرّ خلق الله حتى يضيّقوا عليه، فإذا بهما وقد صارا من خير خلق الله"، ثم استدعاهما وقال لهما: "ماذا بكما"؟ فقالا: "ماذا نصنع لشخص يصوم النّهار ويقوم اللّيل، ولا يتكلّم إلا بذكر الله، فإذا نظر إلينا، ارتعدت فرائصنا وأخذتنا هيبته".
ويتحدّث أحد الذين عاشوا في أجواء الخلافة العباسيّة عن المدى الاجتماعي الذي كان يملكه الإمام العسكري حتى في أوساط الخلافة، وهو أحمد بن عبيد الله بن خاقان، يقول: "ما رأيت ولا عرفت بـ"سرّ من رأى" ـ وهي سامراء ـ من العلويّة مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرّضا (ع)، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر، وكذلك القوّاد والوزراء والكتّاب وعوام الناس، وما سألت عنه أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحلِّ الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على أهل بيته ومشائخه وغيرهم، ولم أرَ له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه". وقال عبيد الله بن خاقان ـ أبو هذا الرّجل ـ وقد كان من الوزراء: "لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس، ما استحقّها أحد من بني هاشم غيره، فإنه يستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه".
وكان الإمام العسكري (ع) يتحرّك في توجيه الشيعة الإمامية الذين اعتقدوا بإمامته وساروا خلفه، وهي وصيّة لكلّ جيل من أجيال الإسلام، باعتبار أنها ليست وصايا شخصيّة محلية، ولكنّها وصايا إسلامية في كلّ مكان وزمان. يقول (ع): "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد في الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (ص)، صَلّوا في عشائرهم ـ يريد الإمام العسكري (ع) أن يؤكّد للمسلمين الشيعة على الوحدة الإسلامية في التعامل مع المسلمين الآخرين ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا شيعي، فيسرّني ذلك. اتّقوا الله، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً.. جرّوا إلينا كلّ مودة ـ اجعلوا الناس يحبوننا عندما تحدّثونهم عن علمنا وفضائلنا وإخلاصنا لله، بدلاً من التحدث مع الناس بلغة اللّعن والشتائم والحقد والضّغينة ـ وادفعوا عنا كلّ قبيح ـ من خلال ما يكذب فيه الكاذبون، وما يحرّف فيه المحرّفون، أو من خلال ما قد تنسبونه إلينا مما يدخل في حسابات الغلوّ ـ فإنّه ما قيل فينا من حسنٍ فنحن أهله ـ لأنّنا نعمل على أساس أن يكون الخلق الحسن والقول الحسن والفعل الحسن والهدف الحسن هو الخطّ الذي ندعو الناس إليه ونأخذ أنفسنا به ـ وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك، لنا حقّ في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب، أكثروا ذكر الله ـ حتى يبقى الله عقيدة في عقولكم، ونبضة في قلوبكم، ووعياً في كلّ حياتكم ـ وذكر الموت ـ حتى إذا ذكرتم الموت، عرفتم حجم الدنيا، وعرفتم مسؤوليّتكم، لتستعدّوا وتتزوّدوا بالتقوى ـ وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي (ص)، فإنّ الصلاة عليه عشر حسنات. احفظوا ما وصّيتكم به ـ وهو خطاب لنا جميعاً ـ وأستودعكم الله وأقرأ عليكم السّلام".
هذا هو خطّ الأئمة من أهل البيت (ع)، وهو خطّ يمتدّ بامتداد الحياة، ويتحرّك بحركة الإسلام. لذلك، إذا أردنا أن نكون في خطّ الولاية لهم (ع)، فعلينا أن تكون ولايتنا ولاية الموقف والعمل والخطّ، لا ولاية العاطفة الساذجة. ويبقى أهل البيت (ع) النّور الذي يضيء لنا الطريق، لأنهم عاشوا في خطّ رسول الله (ص)، ولأنهم كانوا في كلّ سيرتهم يمثّلون القرآن النّاطق.