يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {أَلَمْ * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}.
الابتلاء في القرآن
تتلاحق هذه الآيات في القرآن الكريم، لتتحدَّث عن الفتنة التي يفتتن بها الإنسان عندما يطرح في الساحة شعاراً، وعندما يطرح لنفسه انتماءً، وعندما يحمل في حياته فكرة ورسالة... هذه الكلمات تقول للإنسان إنّ الكلمة لا تعني في مدلولها الحقيقة دائماً.. قد قد تصوّر الكلمة الحقّ، ولكنها لا تعني أن الذي يقولها يحمل في نفسه عمق هذا الحقّ، لأنّ الكلام كثير؛ الكلام عن الإيمان كثير، والكلام عن الجهاد كثير، والكلام عن الصَّبر كثير، ولكنَّ الموقف قليل. ولهذا، يريدنا الله سبحانه وتعالى أن تكون كلماتنا مواقف، فإذا كنت تتحدّث عن الإيمان، فعليك أن تتقبّل كلّ تحدّيات الإيمان الصعبة التي يفرضها الإيمان عليك، وإذا كنت تتحدَّث عن الجهاد، فعليك أن تتحمَّل كلّ مسؤوليّات الجهاد في حياتك، وكلّ آلام الجهاد في حياتك.
وهكذا، عندما تتكلّم عن الصّبر، فعليك أن تكون الصخرة الثابتة التي لا تُزال، مهما انطلقت الرّياح في آفاقها {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، يعلنون الإيمان، وهم لا يمتحنون في معاشهم ولا أموالهم، ولا يمتحنون في أنفسهم. لا بدّ من الامتحان، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وذلك من خلال التجربة.
وهكذا، يقول الله لنا إنَّه سيمرّ علينا في كلّ جيل من أجيالنا ابتلاءات بالخوف يهزّ حياتنا من كلِّ جانب، حتى لا تشعر بأنَّ هناك أيّ مكان يمكنك أن تأمن فيه، وسيبتلينا الله بشيء من الجوع، ونقص في الثمرات؛ إنّه بلاء، ولكنّ الله يريد أن يمتحن إرادتنا أمام هذا البلاء، يريدنا عندما نخاف، ألا نسقط أمام الذين يخوّفوننا، وعندما نجوع، ألا نلقي بقيادنا إلى من يريدون أن يجوّعونا، وعندما نبتلى بنقصٍ من الأموال والأنفس والثَّمرات، ألا نتخلَّى عن مواقفنا لنسدّ هذا النقص هنا وهناك.
لمن البشارة؟!
ماذا يريد منّا الله؟ لمن البشارة؟
البشارة ليست للذين يسقطون، وليست للذين ينهزمون ويتراجعون، وليست للذين يعيشون على الحياد في الساحة؛ إنها للصابرين الذين يصبرون على البلاء وهم في ساحة البلاء. والصبر ليس فقط أن لا تصرخ، الصبر هو ألا تتزعزع في موقفك.. ليست قضية الصبر قضية كلمة تطلقها، ولكنه موقف تعيشه، لأنَّ الآخرين عندما يريدون أن يضغطوا عليك، فإنّهم يريدون منك أن تتراجع عن موقفك، وأن تعطيهم بيدك إعطاء الذّليل وتقرّ لهم إقرار العبيد، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} في أنفسهم، في أولادهم، في امتيازاتهم، وفي كلّ شيء من حولهم، {قَالُواْ إِنَّا للهِ}، ولله أن يتصرَّف بنا ما يشاء، ولله أن يفرض علينا ما يشاء...
وماذا بعد ذلك؟ إذا قلنا: {إنَّا لله}، فماذا نخاف؟ هل نخاف الموت عندما يخوّفوننا بالموت؟ المؤمن لا يخاف الموت، لأنّه يشعر بأنّه راجع إلى الله، فإذا لم يرجع إلى الله اليوم، فسوف يرجع إليه غداً، وإذا لم يرجع إليه غداً، فسوف يرجع إليه بعد غد.
المؤمن لا يخوَّف بالموت، لأنَّ الموت بالنسبة إلى المؤمن معاناة يركّز فيها الإنسان موقفه، والموت رحلة إلى الله {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ}، لم يتزعزوا، ولم يتراجعوا، ولم ينحرفوا، ولم يسقطوا، ولكن {قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}. أتعرفون قيمة هذه الكلمة؟ الله يصلّي على النبي، والله يصلّي على الصابرين، لأن الله سبحانه وتعالى عظّم رسول الله لأنه صبر، ولأنه ثبت ولم يتراجع أمام التحدّيات، وعظّم رسول الله، لأنه كان مفتوح القلب على الله، حتى لا يحسّ بأيّ حزن وهو يعيش مع الله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَ}، والله يعظّم كل إنسان يصبر في الساحة... لا الذين يصبرون وهم في الزوايا يختبئون.
الذين يقفون في مواقف التحدّي هم الصابرون؛ الصّبر الذي يبني القضيّة والرّسالة والحياة والشخصيّة {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} السائرون في خطّ الهدى، لأنهم يعرفون أنّ خطّ الهدى ليس سهلاً، وليس رحلةً هنيئة رخيّة، وإنما هي رحلة صعبة مليئة بالأخطار ومليئة بالتحدّيات.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، لنمتحنكم بكلّ ما نثيره حولكم من تحدّيات الكفر وتحديات الظلم وتحديات الطغيان، لنبلونّكم حتى يتبين المجاهد الذي يحمل الفكرة عن عمق من غير المجاهد، ويتبيّن الصّابر من غير الصّابر، لأنَّ القضيَّة لا تتبيّن إلا في ساحة البلاء... أمّا في ساحة الرّخاء، فيمكن لك أن تطلق على الناس أعلى الأسماء، ولكنك لا تستطيع أن تكتشف صدق الاسم ولا كذبه، ولكن في الساحة، عندما تكون هناك ساحة حرب، فهناك يُعرَف الشّجاع من الجبان، وعندما تكون الساحة ساحة الحاجة، فهناك يعرف الكريم من البخيل. أمّا الكريم في الوقت الذي لا يحتاج الناس إليه، والشّجاع في الوقت الّذي لا يحتاج الناس إلى شجاعته، فأيّ كرم هذا، وأيّ شجاعة هذه؟!
إذا اشْتَبَكتْ دُموعٌ في خُدودٍ تَبَيّنَ مَنْ بَكَى مِمّنْ تَباكَى
هناك من الناس من يعصر عينيه حتى تنزل دمعة، وبعض الناس تنهمر الدموع من عينيه، وهكذا يُعرف الباكي من غير الباكي، وهكذا يُعرف الإنسان المخلص من غير المخلص.
الحياة ساحة بلاء
إذاً، نحن نعيش كمؤمنين في ساحة بلاء، والبلاء ليس ضريبةً من الله علينا ليعاقبنا، وليس شيئاً يرسله الله إلينا بلا مقدِّمات، البلاء إنما يتحرَّك من خلال طبيعة سنن الله في الكون، طبيعة ما يختلف الناس فيه من أمور حياتهم، وما يتصارعون فيه من أمورهم وقضاياهم... الله جعل الحياة ساحةً للبلاء، وأرادنا أن نصبر ونستقيم، وأرادنا أن نتحدّى ونجاهد.
وعلى هذا الأساس، فإنّ علينا أن نواجه الحياة بهذه الذهنيّة وبهذه العقليّة.. لا تواجهوا الحياة بحالة الاسترخاء وبحالة الكسل وبحالة الأحلام والتمنيات، واجهوا الحياة على أنها ساحة حرب، ليس من المفروض دائماً أن تكون الحرب حرب السِّلاح، بل قد تكون الحرب حرب فكر، وتعاني في حرب الفكر، وقد تكون الحرب حرب السياسة، وتضغط عليك كلّ حرب السياسة، وقد تكون الحرب حرب حالة اجتماعيّة، وتتحدّى كلّ جودك وحياتك.
المهم أن نعيش عقلية متحدّية مجاهدة، تشعر بأنها تريد أن تثبت صدق إيمانها عند الله من خلال مواقفها. ولذلك، لا راحة بعد اليوم، إننا ننتقل من معركة إلى معركة، ومن موقع إلى موقع. إنه الموقف الذي نريد أن نؤكِّد فيه أمام الله، أنّنا أخلصنا لله دينه، وأنّا أخلصنا لله قرآنه، وأنّا أخلصنا لله آياته.
فإذا أراد الله منّا أن نصبر، فلن يصرخ أيّ موقف من مواقفنا أمام الآخرين... قد تصرخ نساؤنا أمام حالات الثّكل، وتبكي عيوننا أمام قضايا المأساة، ولكن لن تبكي مواقفنا، ولن تصرخ مواقفنا، ولن تبكي مواقعنا... بل سنحاول أن نتقدَّم لأجل أن نثبت أمام الله أنّنا وفّينا له، وأننا وفّينا لعهده، وأنّنا وفّينا لميثاقه.. ذلك هو ما ينبغي لنا أن نعيشه، وأن نربي عليه أنفسنا، لأنَّ الآخرين فرضوا علينا حرباً بكلّ ما يملكون من وسائل الحرب... فرضوا علينا حرب السياسة، وفرضوا علينا حرب الإعلان، وفرضوا علينا حرب الاقتصاد، وفرضوا علينا حرب السّلاح، ويفرضون علينا عدة ألوان من الحرب.
ونحن في معركة لا نريد أن ننهزم فيها.. كلّ طاقة من طاقات الأمّة لا تبذل في الساحة التي تحتاجها الأمّة في مجال الصّراع، هي طاقة ليست من الأمّة، لأنَّ الإنسان الذي يحجب طاقته وقوّته عن أهله وعن إخوانه وعن مستقبله ومصيره، هو إنسان جبان ولا يتحسّس المسؤوليّة، وهو إنسان مشلول، لأنّه إنسان لا يتعاطف مع آلام الآخرين "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسَّهر والحمَّى".
المجاهدون يربكون العدوّ
لقد بدأنا هذه الطريق، أيّها الإخوة، واستطعنا بحمد الله، ومن خلال جهاد المجاهدين، أن نربك الواقع السياسي في إسرائيل.
اقرأوا بالأمس ما نشرته الصّحف في أخبار مجلس الكنيست الإسرائيلي، واعرفوا أي إرباك يعيشونه الآن، أيّ وضع نفسي منهار يعيشونه الآن.. الدول العربية مجتمعة لم تستطع أن تخلق ولو حالة صغيرة مثل ذلك، ولكنّ الإسلام العميق الذي انطلق من خلال وعي هؤلاء المجاهدين، هو الذي استطاع أن يربك المعادلة.
إنهم يطلقون الصرخات ويطلقون الصرعات التهديدية، يقولون إنّ علينا أن نعمل على تصفية زعماء هؤلاء وعلماء هؤلاء، وعلينا أن نعمل على تشديد القبضة الحديدية، وهذا يصرّح تصريحاً، وذاك يقول علينا أن ننسحب ونخرج من الوحول.
إنهم يريدون أن يعيشوا شيئاً من حفظ المعنويات النفسيّة... صحيح أننا نتألم.. "الزرارية" هي مأساة بالنّسبة إلينا، مأساة وشرف "معركة" كذلك، "مجزرة بئر العبد" هي مأساة المآسي، وقد أرادوا أن يسقطونا من خلال ذلك، ولكنّ الله يأبى لنا ذلك ورسوله والمؤمنون... يأبى لنا الله أن نسقط، بل سنظلّ واقفين.
أتعرفون كيف قدّمت التلفزة الأمريكية والفرنسية وكثير من شاشات التلفزيون الأوروبية، صورة المجازر التي حدثت من خلال متفجّرة بئر العبد، وصورة ما حدث لدى المارينز، وما حدث للمظليّين الفرنسيين؟ كأنهم يريدون أن يقولوا للأمريكيين وللفرنسيين: لقد ثأرنا لكم وإن كان بعد حين.
متفجّرة ببصمات أمريكيّة
البصمات الأمريكية والإسرائيلية واضحة على هذه المتفجّرة... أمريكا تحارب الإرهاب! والإرهاب عندها ليس مجرَّد شخص أو شخصين؛ الإرهاب هو كلّ هؤلاء المؤمنين الذين يطالبون بالحرية ويرفضون الاستعمار والظلم... ولهذا، فإنها تعمل على القيام بعملية إبادةٍ للنساء المؤمنات وللرّجال المؤمنين، وإبادة حتى للأطفال، وحتى للأجنَّة، لأنهم يخافون من أطفالنا على مستقبلهم، وعلى أجنَّتنا أن يخرجوا وينطلقوا ليصرخوا "الموت لأمريكا" و"الموت لإسرائيل" في المستقبل.
إنهم يخافون حتى من أطفالنا، كما كان فرعون يخاف حتى من الأطفال، كان يذبح الأطفال الذين يولدون، لأنّه يخاف أن يتحوَّلوا في المستقبل إلى مجاهدين ضدّه، وهكذا أيضاً يخافون اليوم من المؤمنين، فإذا كنتم تخافون مما يثيرونه حولكم، فهم يخافون أكثر، ولهذا، فإنّ علينا أن لا نسقط أمام هذا، لأننا نسير على أساس ما أراد الله لنا {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}؛ النصر أو الشهادة.
النّصر أو الشّهادة
إننا إذا انتصرنا، فالنصر هو ما نريده ونحبّه، وإذا استشهدنا، فإنَّ الشّهادة تعني السعادة عند الله سبحانه وتعالى. ولهذا، فإنَّ كلَّ هذه التهاويل لن تُضعِف من موقفنا، ولن تجعلنا نتراجع، بل تجعلنا نفهم وحشيَّة إسرائيل أكثر، ووحشيَّة الاستعمار أكثر، وتجعلنا نصمّم على محاربة إسرائيل أكثر. كيف يمكن لك أن تعيش مع مجتمع يأتي جنوده بدبّاباتهم ليسحقوا السيارات على من فيها؟ أيّ وحشيّة هي هذه الوحشيّة؟
الحرب فهمناها، الحرب تمثِّل حالة فيها كرّ وفرّ، تطلق عليّ الرصاص وأطلق عليك الرّصاص، تفجِّر الساحة من حولي، وأفجِّر الساحة من حولك، بأيّ أسلوب؛ متفجّرة يلقيها عليك هذا الإنسان، أو إنسان يتحوَّل إلى متفجّرة ضدّك، إنها حرب، ولكن أن تأتي للناس الآمنين المدنيّين، للأطفال؛ الدبّابة تعلو السيارة على من فيها، والبيوت تهدم على من فيها؟ فهذا واقع لا بدَّ لنا من أن نرصده في المستقبل.
هذا شعب لا يمكن أن يعيش معه شعب آخر، هذا شعبٌ لا يحمل في داخله أيّ معنى للرَّحمة، شعب قتل تاريخه، كان يقتل سبعين نبيّاً في اليوم، شعب كان يحرق كلّ شيء في سبيل أطماعه. ولهذا، نقول إنَّ المعادلة التي يجب أن نعيشها، هي إمّا أن نكون في المنطقة، وإمّا تكون إسرائيل، لأنّه لا يمكن التّعايش مع هذا الشّعب، مهما قدَّم من حلول، لأنه شعب ربِّي على الحقد وربّي على النازية، وربّي على أبشع أنواع الوحشيّة..
لهذا، إننا نقول لشعبنا، لأهلنا، لكلِّ الثّكالى، لكلّ المفجوعين، لكلّ الذين فقدوا أولادهم وآباءهم وإخوانهم وأطفالهم، نقول لكلّ هؤلاء، إنَّ عليكم أن تحوّلوا آلامكم إلى خطّة للجهاد، وإنّ عليكم أن تحوّلوا أحزانكم إلى خطّة لمواجهة هذا العدوّ.
علينا أن نفهم ما معنى إسرائيل، هي ليست دولة نحاربها وتحاربنا، وبعد ذلك يأتي المصلحون حتى يجمعونا ويصلحوا بيننا؛ إنها قضيّة حضارة تتحدَّى حضارة، ومستقبل وحشيّ يتحدّى مستقبلاً إنسانياً وروحياً. ولهذا، لا مجال لأن تتعايش مع الوحشيّة مهما كانت الظروف.
لتتحوَّل أحزاننا إلى عقلية سياسية رافضة، ولتتحوّل آلامنا إلى عقلية سياسية متحدّية، وجراحنا إلى مواقف جهادية متحركة.
إنَّ هذا هو الجواب لكلِّ رسائل إسرائيل التي ترسلها إلينا، وأمريكا من وراء إسرائيل، والّتي رفضت في البداية أن يصدر مجلس الأمن قراراً يدعو فيه إسرائيل إلى أن ترفع قبضتها عن المدنيّين في الجنوب، وإسرائيل التي رفضت ثانياً أن يدين مجلس الأمن مجزرة "معركة" و"الزرارية"، وأن يدين مجلس الأمن المجازر الأخرى التي تقوم بها.. أمريكا تقول إنَّها تأسف للعنف من كلّ طرف، وتحاول دائماً أن تساوي بين المجرم والضحيّة؛ إنها تعمل على ذلك، تمنع العالم أن يصدر قراره من أجل أن يواجه المجرم بجريمته، مجرَّد قرار ككلّ قرارات مجلس الأمن التي لا تقبل التّنفيذ.
فيتّو ضدّ أمريكا
أمريكا التي تعتبر نفسها قيّمةً على العالم، تمارس حقَّ الفيتو في هذا المجال. إنها، أيّها الإخوة، تمارس حقّ الفيتو ضدّ أطفالنا الذين ذبحوا، وضدّ شبابنا الذين ذبحوا، وضدّ نسائنا وضدّ بيوتنا... فلماذا لا نمارس نحن حقّ الفيتو ضدّ كلّ مصالحها، وضدّ كلّ وجودها وسياستها؟ إنّ الفيتّو الّذي أخذته أمريكا وما يسمّى بالدّول الكبرى، إنّما جاء من خلال صيغة سياسية، جعل لها الحقّ في نقض القرارات التي يطالب بها المستضعفون من الشعوب ضدّ طغيان هذه الدول الكبرى... أمّا قرارنا، الفيتو الذي نستعمله ضدّ أمريكا في سياستها ومصالحها، هذا الفيتو نأخذه من الله، لأنَّ الله يريدنا أن نرفض الظالمين والطاغين، وألا نركن إلى الظالمين فتمسّنا النار.
لنستخدم كشعوب حقّ الفيتو ضد كلّ ما تمثله هذه الدول الكبرى من واقع سياسيّ، ولنستخدم حقّ الفيتو ضدّ كلّ السياسات المحلية والإقليمية والسياسيّين الذين يريدون أن يلقوا أوراقنا في سلّة أمريكا، ويجعلونا نعيش في أحضان أمريكا.
ضدّ السياسة وليس الشّعب
لسنا ضدّ الشعب الأمريكي، قلناها، ففي الشعب الأمريكي هناك مستضعفون محرومون كثيرون، هناك مضطهدون من السود وغير السود. إنها بلد التّمييز العنصري كأبشع ما يكون التّمييز العنصري، ولكنّنا ضدّ هؤلاء الاحتكاريين الطغاة الذين يسيطرون على سياسة الإدارة الأمريكيّة، ويحوّلون ما يملكون من قوَّة ومن طاقة إلى تدمير لكلّ الشعوب المستضعفة، واستغلال لكلّ ثروات هذه الشعوب، بشرط أن لا يتحرَّك هناك صوت، وأن لا ينطلق أيّ موقف معارض في هذا الجانب أو في ذاك الجانب.
أمريكا تحارب الآن بالنيابة، كانت تحارب في فيتنام بشكلٍ مباشر، وجرَّبت أن تحارب هنا من خلال المارينز بشكل مباشر، ولكنَّها الآن تحارب بواسطة الوكلاء، وكَّلت إسرائيل بأن تحاربنا، ووكَّلت كثيراً من القوى المحليّة بأن تحاربنا، وهي تعمل بكلِّ ما عندها من طاقةٍ في سبيل أن تقوِّي كلّ الرموز الذين يخدمون سياستها، سواء كان من خلال قناع أو بدون قناع، لأنّ أمريكا تملك أكثر من قناع وطنيّ، وتملك أكثر من قناع قد يحمل صفة دينيّة أو غير دينيّة.. إنها تملك ذلك، ويراد لكلِّ هذه الأقنعة، أو لكلّ الذين يتحرّكون بدون أقنعة، أن يُسْكِتوا أصوات الحرّية، قولوا عن الذين يطالبون بحريتهم إنهم إرهابيّون، قولوا عن الذين يطالبون بإنسانيّتهم إنهم متطرّفون، قولوا عنهم إنّهم متخلفون... إنها توحي إلى كلّ أجهزة إعلامها بأن تقول ذلك.
عقدة أمريكا
ثم بعد ذلك، لم تكتف بهذا، إنها تعيش عقدة لبنان، وعقدة هزيمة سياستها في لبنان، ولهذا، فهي تعمل على التحرّك فيما تتحرّك به من أوضاع سياسيّة وأمنيّة ليست متفجّرة بئر العبد بعيدةً عنها، وهي تتحرّك من موقع عقدة هزيمتها في إيران، بعد أن كانت إيران محميّةً لها، أمريكا التي سقط زهوها في قضيَّة الرَّهائن، أمريكا الّتي جاءها الغيب فأسقطها في صحراء طبس... أمريكا تعمل الآن على أن تنفّس عن هذه العقدة، وهي كدولة كبرى، لها توازناتها، ولها أوضاعها التي لا تستطيع من خلالها أن تتحرَّك في هذا الجانب أو ذاك.
وكلاء أمريكا في المنطقة
إذاً، أين يمكن أن تتحرّك؟ وكيف تنفّس عن عقدتها من إيران؟ الساحة حاضرة، هناك وكيل آخر، هناك النظام العراقي الّذي يرأسه صدّام، هذا الذي قتل من الشعب العراقي منذ حكم حتى الآن في غير ساحة الحرب في السجون والمعتقلات، ما يزيد عن أكثر من مائة ألف شخص، هذا الشخص الذي إذا غضب على أيّ شخص معارض، يأخذ كل أقاربه وكلّ أطفاله وكلّ أهله ليحبسهم وليهدِّده بهم. أما سمعتم أخيراً عن فاجعة السادة من آل الحكيم، من أنجال المرجع الإسلاميّ السيد محسن الحكيم (رض)؟! لقد اعتقل قبل مدّة ثمانين شخصاً، فيهم الشّخص الذي يبلغ السبعين سنة، وفيهم الطفل الذي يبلغ عشر سنوات، أخذهم جملةً وحبسهم، لأنَّ أحد إخوانهم يقف في ساحة المعارضة ضدّه في إيران في المجلس الأعلى للثّورة الإسلامية العراقيّة، وهو السيّد باقر الحكيم. كلّما قام الحكيم بحركة، أخذ عشرة من هؤلاء السّادة، وفيهم العلماء، وفيهم الأطفال، وذبحهم تماماً كما تذبح الخراف، ثم يبعث: قولوا لفلان إنّ عندنا آخرين. وقبل أسبوع أو أكثر، أخذ عشرة أشخاص، منهم من أولاد السيّد محسن الحكيم، ومنهم من أحفاده، فيهم ابن العشر سنوات، وفيهم ابن الخمس وستّين سنة، وذبحهم ذبح النعاج، كتنفيسٍ عن عقدته أمام بعض خطوات المعارضة.
هذا الشخص الذي يعيش كما لم يكن هناك في التاريخ شخص يحبّ الدماء والقتل مثله، هذا الشخص بعض ناسنا ينتمون إليه، ويدافعون عنه، والإعلام العربي كلّه مرتهن بين يديه.. هذا الشخص كان وكيلا جيّداً لأمريكا، ووكيلاً لفرنسا، ووكيلاً للخليج، ووكيلاً لكلّ هؤلاء الذين يتحركون في الساحة العربيّة في خطّ أمريكا، وكيلاً ليحارب بالنيابة عنهم، وبالوكالة عنهم. أعطوه المال حتى أصيبوا بأزمة في المدفوعات عندهم. تصوّروا أن يكون هناك عجز في ميزانية دول الخليج! إنه حصل، لأن هناك عشرات المليارات من الدولارات تدفع لتغطية دور العراق، لأنّه يحارب بالوكالة عنهم.
فرنسا أقرضت العراق أكثر مما أقرضت أيّ دولة أخرى، حتى إنها تعيش الآن لتحافظ على النظام العراقي، حتى تستطيع أن تسترجع أموالها وديونها في هذا المجال.. أعطته كلّ أنواع الأسلحة، ليقصف المساجد والمستشفيات والمدارس، يقصف أماكن التجمّع وقت الصلاة، وغير ذلك.. في كلّ حركة قصف، يسقط المئات من القتلى، والمئات من الجرحى...
إنّ أمريكا تأسف لهذا العنف! وكانت إيران لا تردّ سابقاً، ولكنّها كانت تقول، إنّ هؤلاء أهلنا وهؤلاء أهلنا، ولا يمكن أن نقتل الناس، ولكنّ القضيّة استغلها العراق استغلالاً بشعاً، ولهذا، لم يكن لهم بدٌّ من أن يردّوا.
حربٌ مفتوحةٌ علينا
إنّ المجازر التي تتمثّل عندنا في الجنوب، وتتمثّل عندنا هنا في الضاحية، تماثلها المجازر التي تتمثّل عند إخوتنا وعند أهلنا هناك في كلّ بلد من بلاد إيران، لأنّ أمريكا تريد ذلك، ولأنّ أمريكا يهمّها أن تنفّس عن عقدتها في إيران، ويهمّها أن تعمل على إضعاف هذه الثّورة، وعلى أن لا تنطلق هذه الثورة في آفاق أخرى، لأنها تخاف منها.
إنّ علينا أن نعي ذلك كلّه، وعلينا أن نعرف أنّ الحرب مفتوحة على مدى العالم الإسلامي كلّه، وأن نعلم أنّ علينا أن نواجه هذه الحرب بكلّ ما عندنا من إمكانات، وعلينا أن نعيش أضعف الإيمان في بعض المراحل؛ أن نعيش الرفض لكلّ هؤلاء، ولكلّ من يتحالف معهم ويتعاون معهم.
إنّ الساحة الكربلائيّة مفتوحة، وإنّ شعارات الحسين (ع) لاتزال في الساحة، "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون"، "إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً".
لن نترك السّاحة
وأخيراً، نقول لكلّ هؤلاء الشهداء الذين كانوا يصلّون معنا في الجمعة الماضية، ولكلّ هؤلاء الشهيدات اللاتي كنّ يصلّين معنا في الجمعة الماضية، نقول لهم: أنتم السابقون ونحن اللاحقون. لقد كنت أودّ أن أكون معهم، لأنني كنت مستهدفاً معهم، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أراد لنا أن نخدم المؤمنين في مدى أكثر، ولكن إذا كانوا يريدون أن يخوّفونا بالمتفجّرات، بالاغتيالات، بكلّ شيء، إننا نقول لهم، إنّنا سنبقى في الساحة مع كلّ المؤمنين والمؤمنات، نربيهم، ونثير فيهم كلّ معاني الحرية، ونعيش معهم كلّ تطلعات الإسلام وكلّ تطلعات الإيمان.
أيّها الإخوة، أيتها الأخوات، يا أولادي الذين عشت معهم حياة طويلة بكلّ دم قلبي، سأبقى معكم، مع المسيرة رغم التحدّيات، أخدم قضيتكم ورسالتكم التي هي قضيّة الإسلام كلّه وقضيّة الأمّة كلّها، لن نتراجع، لن نركع، لن ننهزم في الساحة، وسنبقى في الساحة؛ فإما النّصر وإما الشهادة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله ربّ العالمين.
*أوّل خطبة للسيّد فضل الله (رض) بعد مجزرة بئر العبد، بتاريخ: 15/3/1985