قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 207].
وقال سبحانه في آية أخرى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
رَاكِعُونَ}[المائدة: 55].
الّذي باع نفسه لله
هاتان الآيتان يقول المفسّرون إنهما نزلتا في علي(ع)...
الآية الأولى نزلت عندما بات(ع) على فراش رسول الله(ص) في ليلة الهجرة، والآية
الثانية نزلت عندما كان يصلي، وجاء سائل، فتصدّق بخاتمه وهو في حال الصلاة. ولعلّ
الآية الأولى هي التي مهَّدت لموقعه في الآية الثانية، لأنَّ الآية الأولى ركَّزت
سرّ شخصيَّته، أنّه إنسانٌ باع نفسه لله.. {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ}.. الإنسان الّذي يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، كأنّ
الله باعه نفسه وهو اشتراها من الله، لأجل الله. هذا هو سرّ شخصية علي(ع)، وهو الذي
يلخّص لنا كل حياته، أنه إنسان باع نفسه لله، وعندما يبيع نفسه لله، فإنه يشعر بأنه
لا يملك شيئاً لنفسه، ولا يستطيع أن يتصرّف ذاتياً، بل لا بدّ له من أن يتصرّف طوع
أمر الله...
أعطيكم مثلاً من حياتكم. لو فرضنا أن إنساناً منكم وظِّف في دائرة ما ضمن دوام رسمي،
أو آجر نفسه لشخص ما في عمل من الأعمال، فهل يحقّ له في ضمن الدوام الرسمي أن
يتصرّف، من الناحية القانونيّة، تصرفاً لغير مصلحة الموقع الذي هو فيه؟ كذلك عندما
تؤجر نفسك مدة ثماني ساعات في اليوم أو أكثر لشخص ما، فإنك تشعر بأن وقتك ليس ملكك،
إنما هو ملك الشخص الذي استأجرك. ولهذا، فأنت عندما تتصرّف في هذا الوقت لمصلحتك أو
لمصلحة شخص آخر، فإنك تكون سارقاً للوقت...
وفي هذه المناسبة، يجب أن يُفهم أن بعض الناس استأجر لعمل في وقت معين، مثل عمل
بناء أو غيره، على أساس الأجر اليوميّ مثلاً، فقد يضيع ساعة أو ساعتين لأن ليس هناك
رقابة، فهو يقبض معاشه بشكل مشروع... عليه أن يعرف عندما يهمل العمل في ساعة أو
ساعتين في غير الأوقات الطبيعيّة، كما في وقت الصلاة أو لقضاء الحاجة، في غير هذا،
هو سارق، يعني المال الذي يأخذه حرام بنسبة الساعات التي قصّر فيها في العمل...
فأنت بإرادتك أجّرت نفسك لهذا الشخص، فأصبحت لا تملك حريتك في هذا الوقت، وعملك ملك
لمن بعته وقتك وعملك.
وهكذا نفهم القضية بالنسبة إلى الإمام عليّ (سلام الله عليه) {وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله} باع نفسه لله على أساس أنّ الله أعطاه
الجنة، وأعطاه المرتبة العليا، عملية تجارة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}... فالله دعانا أيضاً
أن نخوض عملاً تجاريّاً معه.
فإذاً، الإمام علي(ع) باع نفسه لله، فهو يشعر بأنّ نفسه ليست ملكاً له، أنّ فكره
ليس ملكاً له، وطاقاته الجسديّة ليست له، وكذلك طاقاته المعنويّة، وإنما هو ملك
الله... وهو، بوحي هذه الآية، يعتبر أنّ حياته كلّها يجب أن تبذل في سبيل الله، وفي
طريق الله، وعلى هذا الأساس كانت حياته.
إنّ الإمام عليّاً(ع) منذ أن كان عمره عشر سنوات، كان يفكّر بهذه الطريقة. تاريخ
السيرة يروي أنه عندما بعث رسول الله(ص) بالرسالة، خاطب عليّاً أول ما خاطب،
فاستجاب له عليّ، ودخل الإسلام. قيل له: لمَ لم تستشر أباك أبا طالب قبل أن تستجيب
لدعوة رسول الله (ص)، والأولاد في مثل سنّك يستشيرون آباءهم؟ قال: إن الله لم يستشر
أبي عندما خلقني، فلا أستشير أبي عندما أريد أن أؤمن بالله وأسير في طريق الله.
كان يشعر وهو في تلك السنّ، بأنّ علاقته بالله هي أعلى من أية علاقة أخرى تربطه
بأقرب الناس إليه، فالله قبل أبيه وأمّه، وقبل كلّ الناس.
عندما تكون القضية قضية الله، فلا رأي لأحد، ولا كلمة لأحد.. أمّا عندما تكون
القضية قضية زيد وعمرٍ، فيمكن أن يستشير الناس الذين من حولهم.
الدّور الرّساليّ
ثم لاحظنا أنّ الإمام عليّاً(ع) كان يشعر قبل الهجرة بأنَّ عليه أن يتتبّع رسول
الله في كلّ طاقته، كان يذهب معه عندما يريد أن يصلّي في المسجد الحرام. ويُنقَل
أنّه كان يلاحق الأطفال الذين كانوا يعتدون على رسول الله برمي الأوساخ عليه بوحي
من آبائهم، كان يلاحقهم في شوارع مكّة وأزقّتها، وكان يتعلّم من رسول الله(ص)، كان
يشعر بأنّ دوره هو دور التلميذ الذي يتعلّم من مصدر الرسالة، ودوره هو دور المعاضدة
والمعاونة والمراقبة... وهكذا رأينا أنّ علياً(ع) لم تكن له حياة إلا مع رسول الله.
لم نشاهد له أيّ حياة خاصّة مع أبيه أو مع أمّه أو مع الناس من حوله، كانت حياته مع
رسول الله، لا ينفصل عنه لا في الليل ولا في النهار، وعندما جاء دور الهجرة، ودعاه
رسول الله(ص) إلى أن يبيت على فراشه، وعرّفه طبيعة الخطر، قال لرسول الله(ص):
أوتسلم؟ قال: بلى. قال: "اذهب راشداً مهديّاً".
المسألة ليست مسألة أن أسلم أنا أو لا أسلم، المسألة هي هل تسلم أنت أو لا، فإذا
طمأنتني أنّك تسلم، فليس عندي مشكلة... وهكذا بقي في مكّة يؤدّي أمانات رسول الله
إلى الناس، حتى استكمل ذلك ولحق برسول الله(ص).
وبدأ دوره هناك أيضاً. كان يشعر بأنّه ليس دور الإنسان الذي يريد أن يبحث عن
مستقبله، كان في قمّة الشباب في ذلك الوقت عندما هاجر إلى المدينة، حيث كان عمره 23
سنة، ولكنه لم يكن يبحث عن مستقبله فيما يبحث الشباب عن مستقبلهم، كان يبحث عن
مستقبل الرسالة، ولهذا جعل من نفسه الجنديّ الذي يقف في انتظار الأوامر، فكان ينتقل
مع رسول الله(ص) في كلّ حروبه، كان ينتقل من معركة إلى معركة، وكان يجسّد انتصارات
الإسلام في كلّ المعارك، ولا سيّما في معركة بدر وأحد وخيبر وحنين والأحزاب، هذه
المعركة التي انطلق الإمام عليّ(ع) فيها تحت غطاء الكلمة الّتي قالها رسول الله(ص):
"برز الإيمان كلّه إلى الشِّرك كلّه". وهذا ما يعطينا الفكرة التي تقول إنَّ
عليّاً(ع) كان الإيمانَ مجسّداً، وكان يمثّل قوّة الإيمان آنذاك، وكذلك كلمته(ص) في
خيبر عندما قال: "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله،
كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه".
يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله... هذا التفاعل، هذا الحبّ الذي يعيش فيه مع
الله سبحانه وتعالى...
وهكذا، رأينا أن دوره في حياة رسول الله(ص)، كان دور الجنديّ المقاتل الذي يقف
لينتظر الأوامر من الله عبر رسوله. وكان دوره أيضاً التّلمذة على رسول الله، حتى
كان يشغل رسول الله عن أهله، لأنهما كانا يتناجيان حتى الصّباح، ولهذا قال: "علّمني
رسول الله ألف بابٍ من العلم، يفتح لي من كلِّ بابٍ ألف باب". وقالها رسول الله: "أنا
مدينة العلم وعليّ بابها".
عليّ(ع) هو الحقّ
وربَّاه رسول الله أحسن تربية، ولهذا كان يقول: "أنا من رسول الله(ص) كالضّوء من
الضَّوء، والذّراع من العضد.."، أي أنّه كان يمثِّل العلاقة التي تشدّه برسول الله
بهذه الطريقة، وكان يفتخر بأنّه تلميذ رسول الله منذ البداية. ولهذا أعدّه رسول
الله(ص) للقيادة على أكثر من مستوى، وكان(ص) يركِّز الإمام عليّاً بكلّ طريقة في
نفوس المسلمين: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي، يدور معه حيثما دار"، كان يريد أن
يقول لهم إنّ الأشخاص قد يقتربون من الحقّ وقد يبتعدون عنه، ولهذا، فإنَّ عليكم
عندما ترتبطون بشخص، أن لا ترتبطوا به كليّاً، لأنَّ الارتباط الكليّ بالشّخص الذي
قد يكون مع الباطل، وقد يكون مع الحقّ، يجعلكم ترتبطون بالباطل.
لهذا، كان النبيّ(ص) يركّز على أن لا نرتبط بالأشخاص الذين قد ينحرفون وقد يستقيمون،
وقد يصدقون وقد يكذبون، وإنما أن نرتبط بأعمالهم ومواقفهم، فنؤيِّد موقف الحقّ
عندما يقفون مع الحقّ، ونرفض موقف الباطل عندما يقفون مع الباطل، ولكنه أراد أن
يبيّن لنا أنّ عليّاً يمكنك أن ترتبط به، لأنّ عليّاً لا ينحرف ولا يألف الباطل ولا
يجور، ولهذا قال(ص): "عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ"، ليس هناك فجوة بين عليّ
والحقّ.
إنَّ بإمكانكم أن ترتبطوا بعليّ كقيادة وكشخص، لأنّ عليّاً لا ينفصل عن الحقّ، فإذا
التقيتم بعليّ، فإنكم تلتقون بالحقّ معه.. هكذا كان رسول الله، يريد أن يقدِّمه
للأمَّة ليكون قائداً لها، وليكون الإنسان الذي تتحرّك كلّ أجيال الأمّة من خلال
توجيهاته وفكره، لأن فكره لا ينفصل عن فكر الإسلام، كل فكر عليّ هو فكر الإسلام،
وكل مواقف عليّ هي مواقف الإسلام.. من مواقفه نعرف شرعيّة الفكرة التي يعطيها
الموقف، لأنّ عليّاً لم يتلمذ على غير رسول الله، ولم يتلمذ في غير مدرسة القرآن.
ليس عند عليّ فكر شخصيّ بعيد من فكر الإسلام، بل فكره كلّه هو فكر الإسلام. عندما
خرج(ص) إلى تبوك، قال له الإمام(ع): لم تركتني في المدينة وأنت تخرج إلى حرب؟ وكان
رسول الله(ص) يعرف أنها لن تكون حرباً، فقال له: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة
هارون بن موسى، إلا أنّه لا نبيّ بعدي؟".
الإسلام أوّلاً
ثم مرّت الأيام، وانتقل رسول الله(ص) إلى جوار ربّه، وحدث ما حدث، فماذا كان دور
عليّ؟ كان عليّ يفكّر في الله، وكان يفكّر في الإسلام.
وكان يفكّر في مسؤوليّته عن الأمّة، في خارج الحكم أو في داخله. ولهذا درس عليّ
الموقف، ورأى أنّ هناك أناساً يمكن أن يدخلوا على الخطّ ليعبثوا وليستغلوا وليلعبوا
بورقته، ووقف عليّ ضدّ ذلك كلّه.
أعلن موقفه ودافع عن حقّه، وعندما رأى أن الساحة لا يمكن أن تعطيه حقّه، فكر في أن
عليه أن لا ينعزل عن الساحة، وفكر في أنّ عليه أن يخدم الإسلام من خلال الساحة، لا
كما يفكر كثير من الناس عندما يزالون عن مواقعهم الشرعية، فيتشنّجون أو ينفعلون، أو
يبحثون في الساحة عن كلّ شيء يهدّمها لحسابهم، بعيداً من المسؤولية.
نحن نعرف بعض الناس عندما يقف في صفّ المعارضة، فإنه يعمل على أساس أن يتعاون مع
الأجنبي ضدّ من يعتبره خصمه، ومستعدّ أن يحرق البلد لحساب طموحاته، ويسحق كلّ
المبادئ في هذا الإطار...
هذا شيء انطلق به الناس في كلّ عصور الانحراف. بعض الناس يستعينون بالأشرار
وبالكفّار وبالاستكبار من أجل طموحاتهم، أليس هذا ما نعيشه في لبنان على أكثر من
مستوى؟ أليس هناك، وفي أكثر من موقع، من يستعين بإسرائيل ضدّ فريق آخر، ومن يستعين
بأمريكا ضدّ فريق آخر، ومن يستعين بهذا الجانب وذاك الجانب، ومن يحاول أن يبحث عن
كلّ المتشنّجين حتى يركب موجتهم، ولو على حساب مبادئه؟
ولكنّ عليّاً (سلام الله عليه) لم يكن طالب حكم، كان صاحب رسالة، كان يعتبر الحكم
طريقاً للرّسالة، فإذا استقام له الحكم، أقبل عليه ليؤدِّي رسالته من خلاله، لا
ليرضي طموحه من خلاله، وإذا لم يستقم له الحكم، كانت الرّسالة كلّ همه، يخدمها بكلّ
ما عنده من طاقة، وهو الّذي قال له ابن عباس عندما رآه يخصف نعله بيده، وهو أمير
المؤمنين آنذاك: لم لا تعطها لإنسانٍ آخر يصلح نعلك؟ فقال(ع): "أترى إلى هذه النّعل؟
"إنها أعظم عندي من إمرتكم هذه، إلا أن أقيم حقّاً أو أدحض باطلاً".
النّعل تفيدني، تقي رجلي من الحرّ، وتقيها من البرد، وتقيها من الأشواك، وتقيها من
كلّ ما يؤذيها، ولكنّ إمرتكم ماذا أفعل بها كشخص؟ إنّها تثقل حياتي... خارج نطاق
الإمرة، ربما أستطيع أن آكل طعاماً جيّداً... ولكني إذا صرت أميراً لكم وحاكماً
عليكم، فإنّ عليّ أن أجعل نفسي كأصغر إنسان يعيش، أو كأقلّ إنسان يعيش، فماذا أربح
من إمرتكم؟ إني لا أربح منها شيئاً ذاتياً، ولكنّ قيمة إمرتكم بمقدار ما تستطيع أن
تكون أداة لإقامة الحقّ وإزهاق الباطل. وبذلك نعرف من خلال هذه الكلمة من عليّ(ع)،
أنّ كلّ واحد منّا عندما يريد أن يتحرَّك في أيّ موقع من المواقع الّتي يأخذ فيها
موقعاً متقدّماً، أنّ عليه أن لا يفكّر في ذاته، وإنما عليه أن يفكّر في مبادئه في
هذا المجال.
ولهذا، فإنّ صراعات المناصب والمواقع لا بدَّ من أن تخضع لطبيعة مصلحة الرسالة في
هذا أو في ذاك، لا لطبيعة مصلحة الذات. هكذا كان يقول(ع): "لولا خضورُ الحَاضر،
وقيام الحُجّة بوجود الناصر، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا
يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، لألْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا،
وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلألْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هـذِهِ
أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز".
هكذا كان عليّ(ع)... يقول لولا أني أستطيع في الإمارة وفي الموقع المسؤول أن أدفع
ظلم ظالم لمصلحة مظلوم، لما كان لي بالإمارة أيّ رغبة، ولألقيت حبلها على غاربها،
وكلّ دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز...
هكذا إذاً كان عليّ صاحب رسالة، ولم يكن طالب حكم، وكان يرى نجاحه بمقدار ما ينجح
في حمل الرّسالة وفي أدائها، والفشل ليس هو أن يفشل في الحكم، ولكن أن يفشل في حمل
الرّسالة. وهكذا رأى عليّ(ع) أنّ الإسلام يحتاج إلى فكره؛ إنّه لم ينظر إلى خصومه
ليعيش العقدة، بل نظر إلى أنَّ خصومه أصبحوا رموز السّاحة، وأنّه لا يخدمهم، وإنما
يخدم السّاحة... ولهذا أعطى كلّ فكره وكل علمه وكل طاقاته وكل خبرته لخصومه الذين
يعتقد أنّه أبعدوه عن حقه الشرعي، لأنّه كان يعطي السّاحة... ولهذا جاءت الكلمة
التي يرويها كلّ المؤرّخين: "لولا عليّ لهلك عمر"، لأنه كان يعطي الفكرة النيّرة
التي يشعر فيها بأنها تمثّل الوجه المشرق والصّحيح للإسلام.
حتى عندما استشاره عمر آنذاك بأن يذهب إلى المعركة، وكان يعرف أنّ ذهابه سوف يشكّل
خطراً على حياته، أشار عليه(ع) بأن لا يذهب.
لو كان عليّ كالناس الآخرين، لأشار عليه بالذهاب، ولكنّ عليّاً كان صاحب رسالة.
ومرّت الأيام، وعندما كانت الشورى آنذاك، وقال عبد الرحمن بن عوف الذي جعله عمر
وكيلاً في أن يدير مسألة الخلافة، قال لعليّ: أتبايعني على كتاب الله وأبايعك على
كتاب الله وسنَّة رسوله وسيرة الشّيخين؟ كان عليّ(ع) يستطيع أن يمضي، ثم بعد ذلك
يسحب إمضاءه، لكنَّ عليّاً(ع) كان لا يريد أن يقول كلمةً لا يلتزم بها. ولهذا قال:
"على كتاب الله وسنّة رسوله واجتهاد رأيي". إذا كانت سيرة الشيخين على كتاب الله
وسنّة نبيِّه، فلماذا تكون شرطاً ثالثاً، وإذا لم تكن كذلك، فكيف ألتزم بها؟
ولم يعطَ الخلافة، لأنّه رفض أن يقول كلمة لا يلتزم بها، لأنه كان يريد أن يقف مع
الحقّ، وكان دوره الذي نستفيد منه في تلك المرحلة ما بين وفاة رسول الله(ص) وبين
خلافته، دور الإنسان الذي يعارض الواقع، ولكنّه لا يحاول أن يجعل من معارضته طريقاً
لهدم السّاحة، وإنما كان ينظر مصلحة الإسلام في ذلك: "لأسالمنّ ما سلمت أمور
المسلمين". هكذا كان(ع) يقول، القضية هي قضية الإسلام..
اتّباع نهج عليّ(ع)
وهذا ما نريد أن نستفيد منه، نحن الذين نعيش في كثير من المراحل الصعبة هنا في
لبنان أو في كلّ بلد من بلدان الإسلام، نريد دائماً عندما نعيش أيّ نوع من أنواع
الخلاف على أيّ مستوى، أن ننظر مصلحة الإسلام ومصلحة الأمّة قبل أن ننظر مصالحنا
الخاصّة، وأن لا ننطلق من عقدة، لأن مشكلتنا أننا عندما نختلف في نهج ما أو في فكر
ما أو في سياسة ما، يتحوّل الخلاف عندنا إلى عقدة ولا يتحوّل إلى وجهة نظر، ولهذا
فإننا ننطلق في خلافاتنا بأساليب غير إسلاميّة.
علينا أن نستفيد ذلك من عليّ(ع)، أن ننطلق لنحدّد الموقف في شرعية موقع أو عدم
شرعيته، في شرعية نهج أو عدم شرعيته، في شرعية إنسان أو عدم شرعيته...
أن نحاول دائماً أن ننظر ماذا تحتاج منا الساحة؛ هل تحتاج منا إلى التواصل أو إلى
التقاطع؟ هل تحتاج إلى أن نبذل طاقاتنا أو أن نمنع طاقاتنا؟
لا بدَّ من أن نفكِّر تفكيراً واسعاً في كلِّ القضايا، حتى لا نحاول أن نهدم الهيكل
كلَّه على رؤوسنا، كما نعيش في كثير من الحالات على كثير من المستويات. بعض الناس
يتحركون من عقدة، ولهذا فإنهم ينشغلون عن القضايا الكبيرة بسبب القضايا الصغيرة.
لهذا نقول إنَّ علينا أن نواجه القضايا الكبيرة، والمستقبل يمكن أن يتّسع لنا
لملاحقة القضايا الصّغيرة. الاستعمار، إسرائيل، الوضع الطاغي في الداخل... هو
قضايانا الرئيسة التي يجب أن نتحرّك فيها، أما الأشياء الصغيرة، فعلينا أن نبحث عن
أفق آخر غير هذا الأفق لنواجهها، وطبعاً عندما نريد أن نواجه، لا بدَّ من أن نواجه
كلّ القضايا من موقع القاعدة الإسلامية المركّزة التي تنفتح على الحياة كلّها.
سياسة الاستقامة
كان عليّ(ع)، كما قلنا، صاحب رسالة، وبقي وهو خارج الحكم صاحب رسالة، دافع عن
رسالته، وعمل لها، وتغلّب على كلّ مشاعره، فأصبحت مشاعره في خدمة رسالته، كما كان
فكره في خدمة رسالته. وهذا ما ينبغي لنا أن نعيشه. لا يكفي أن تعطي فكرك لرسالتك،
بل لا بدَّ من أن تخضع مشاعرك وعواطفك لخدمة رسالتك، حتى تستطيع أن تواجه الموقف
بموقف صلب، لا يختلف فيه جانب الفكر عن جانب الشعور.
وتسلَّم عليٌّ الخلافة بعد ذلك، وكانت الحواجز له بالمرصاد، وجاء المنتفعون ليقولوا
لعليّ: وأخيراً، الحمد لله أصبحت خليفة المسلمين وأمير المؤمنين... بيت المال بيدك،
لك كلّ الحريّة أن تتصرَّف به... فلان مثلاً رئيس عشيرة، وعنده مفاتيح انتخابيّة
قبليّة عشائرية، أعطه مقداراً من المال حتى يصير معك، وفلان يؤثّر في هذا البلد، ثم
هؤلاء الولاة، أبقهم على ولايتهم، حتى يستقيم لك الحكم...
كانوا يتصوّرون في عليّ إنساناً همّه أن يحكم، ولكنّ عليّاً كان همّه أن يركّز الحقّ،
ولذلك قال لهم: "أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟"، أتريدون مني أن أحصل على الحكم
بواسطة الظّلم؟ إذاً ماذا كنت أصنع في كلّ حربي؟... كنت أعمل من أجل أن يؤمّ العدل
الناس، فهل عندما أستلم الحكم، تريدون أن أكون أوّل ظالم آكل أموال الناس؟!... "وَاللهِ
لاَ أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً!
ولو كان المال لي لسوَّيت، فكيف وإنما المال مال الله".
جاءه أخوه عقيل، وكان أعمى، وعنده أطفال كثيرون، طالباً منه أن يزيد في عطائه من
بيت المال، فقال له عليّ(ع): "... فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمَعِي، فَظَنَّ أَنِّي
أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ
حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ
ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مسّهَا، فقلت له: ثكلتك
الثواكل يا عقيل، أتئنّ من حديدة أحماها إنسانه للعبه، وتجرّني إلى نارٍ سجَّرها
جبّارها لغضبه؟ أَتَئِنُّ مِنَ اَلْأَذَى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظَى؟!" ...
كان الناس يقولون له: عندك عقل وفكر، والناس تحتاج إلى سياسة اللّفّ والدوران
واللّعب على الحبال، وكان يقول لهم: "قد يرى الحوَّلُ القلَّبُ وجهَ الحيلةِ،
ودونها مانعٌ من أمرِ الله ونهيِه، فيدعُها رأيَ عينٍ بعدَ القدرةِ عليها، وينتهزُ
فرصتَها من لا حريجةَ له في الدّين"... فالإنسان الذي عنده فكر وعقل، وعنده خبرة في
الأمور، ربما تكون الحيلة أمامه، ولكن ما يمنع من هذه الحيلة هو أمر الله ونهيه...
يقول عليّ(ع): أنا أفهم جيِّداً وأعرف الأمور، ولا أحد يعرف الحيل أكثر مني، ولا
أحد يقلِّب الأمور أكثر مني، ولكنَّ هذه الحيل دونها حاجز من أمر الله ونهيه، ومن
ينتهز فرصتها هو من لا حريجة له في الدّين.
بعض النَّاس يقولون عن إنسان مثلاً إنَّ فلاناً "شاطر"، يعني أنّه يقوم بالحيل،
ويرتِّب المؤامرات... قد يكون "شاطراً" اليوم وغداً وبعد سنة وبعد سنتين، لكن عندما
يكون في القبر مع منكر ونكير، كيف تكون "شطارته"؟!
وعندما يقال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي
سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ}، كيف تكون "شطارته"؟ الذي
عنده شطارة وبطولة، المفروض أن يوجِّه فكره نحو النّجاة من النار، وأن يدخل الجنَّة
وينال رضا الله... ولهذا قيل للإمام الصادق(ع) إنّ فلاناً عاقل. قال: "تلك الشّيطنة...
العقل ما عُبِد به الرَّحمن، وعصي به الشيطان".
الإمام(ع) يقول في كلمة أخرى له: "والله ما معاوية بأدهى مني، ولولا كراهية الغدر،
لكنت من أدهى الناس"... هكذا كان عليّ يحبّ لكلمته أن تكون واضحة ولموقفه أن يكون
واضحاً، وكان حكمه مشكلة له، لأنّه كان لا يريد أن يستفيد من حكمه لذاته، ولكنه كان
يحرّك حكمه لمصلحة رسالته. ووقف كل المتمردين للرسالة الحقّة أمامه، ولكنه لم
يتراجع، واستمرّ بكلّ قوّة، ودافع عن رسالته بكلّ قوّة، حتى لقي الله سبحانه وتعالى
في محرابه في مسجد الكوفة، والتفت إلى كلّ حياته وقال: "فزت وربّ الكعبة".
هذا الإنسان الذي عاش حياته تلميذاً لرسول الله في مكّة، ومقاتلاً بين يدي رسول
الله في المدينة، ومعارضاً عاملاً رساليّاً في فترة رسول الله وفترة خلافته، وحاكماً
أراد أن يركّز الحكم على قواعد الرسالة، حتى لقي الله سبحانه وتعالى، وقال: "بسم
الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة"... هذه حياة عليّ(ع)، باع نفسه
لله، ولهذا لم ينظر لأحد، ولم يجامل أحداً، وقال: "ما ترك لي الحقّ من صاحب".
ماذا لنا من عليّ؟!
هذا هو عليّ(ع)، فماذا لنا من عليّ؟
نحن نزهو بعليّ البطل، ونزهو بعليّ الشجاع، ولكنّ علياً لا يريد أناساً يأخذهم
الزهو باسمه، بل يريد أناساً يتحركون في خطّه. قال لهم: "أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ
مَأمُوم إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلا وَإِنَّ
إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ
بِقُرْصَيْهِ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُونِي
بورع واجتهاد، وعفة وسداد".
هذا ما يريده عليّ(ع) منا؛ الورع عن الحرام، والاجتهاد في رضا الله وفي خدمة
الإسلام والأمّة، والعفّة عن الحرام، والسّداد في الرأي والطريق والمنهج. فإذا كنا
نريد أن نرتبط بعليّ، فإنّ مكان عليّ حيث يكون الحق؛ حيث يكون الحق في بيتك، وحيث
يكون الحق في متجرك وفي محل عملك، وفي موقعك الاجتماعي والسياسي، وحيث يكون الحقّ
في حالتي الحرب والسّلم، حيث يكون هناك حقّ، فعليّ هناك، أما حيث يكون هناك باطل؛
باطل العقيدة والشريعة، وباطل العلاقات والشهوات والمواقف والمواقع، حيث يكون هناك
باطل، فلن تجدوا عليّاً هناك، بل ستجدون غير علي.
لهذا، إذا أردتم أن تلتقوا بعليّ(ع)، فالتقوا بعلي المقاتل في سبيل الله، المعارض
لمصلحة الإسلام لا لمصلحة نفسه، الحاكم الذي يحكم من أجل الإسلام لا لأجل شيء آخر...
وعلى هذا الأساس، بعض الناس ممن ينتسبون إلى عليّ(ع) ويتحدَّثون عن منهجه وعن
أجوائه، يريدون أن يوظّفوا اسم عليّ(ع) في اللّعبة الطائفيّة، ليجعلوا عليّاً زعيماً
لطائفة تفرغ كلّ أفكارها من الله وتلتقي بالشيطان... عليّ لا يتعرف إلى هذه الطائفة..
لمعلوماتكم، عليّ ليس رئيس عشيرة، وليس زعيم طائفة، عليّ إمام حق، الطائفة لا تساوي
نعل عليّ إذا لم ترتكز على الحقّ، وإذا لم تنطلق من مواقع الإسلام.. فمن كان ينتسب
إلى الطائفة ولا يؤمن بالإسلام، من كان ينتسب إلى الطائفة ويوالي أعداء الله، من
كان ينتسب إلى الطائفة ويتجسَّس لحساب أولياء الشيطان، وينتمي إلى حرس إسرائيل وإلى
جيش إسرائيل، من كان ينتمي إلى الطائفة، ويلهث وراء الاستعمار ليكون خادماً له،
فإنه لا ينتمي إلى عليّ، وعليّ منه براء، لأنّ محمداً(ص) منه براء، ولأنّ الله منه
براء، وعليّ لا حساب له خارج دفتر محمد، ومحمد لا حساب له خارج دفتر الله سبحانه
وتعالى.
كيف نوالي أهل البيت(ع)؟
فإذا أردتم علاقةً بعليّ وبأهل بيته وأولاده، وإذا أردتم علاقةً برسول الله،
فسجّلوا أنفسكم في دفتر الله.. عندما تنطلقون في طريق الله، فإنَّ عليّاً(ع)
يحتضنكم بكلّ قلبه، وإنَّ رسول الله يحتضنكم بكلِّ قلبه... ليس عندنا مشكلة طائفة،
وإنما عندما مشكلة حقّ، مشكلة إسلام، لهذا، لا يخدعنَّكم الكثيرون بهذه البدعة
الجديدة؛ بدعة "طائفتنا" و"جماعتنا"، وقد قالها الإمام محمّد الباقر(ع): "من كان
وليّاً لله فهو لنا وليّ"... وهذا ليس تطرّفاً، بل نحن ملتزمون بالحقّ كما التزم
عليّ، ونحن تراب أقدامه(ع)، وقد علّمنا أن نكون مع الحقّ، لأنّ رسول الله علّمه أن
يكون مع الحقّ، ولأنّ الله علمّ الرّسول أن يكون مع الحقّ.
في هذا المجال، يقول الإمام الباقر(ع): "والله ما شيعتنا إلا من اتّقى الله وأطاعه،
وكانوا يعرفون بصدق الحديث وأداء الأمانة، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء". ثم
قال: "أفحسْبُ الرّجلِ أن يقول إني أحبّ عليّاً وأتولاه ثم لا يكون فعّالاً؟! فرسول
الله خير من عليّ؛ أفيكفي الرّجل أن يقول أحبّ رسول الله وأتولّاه ثم لا يعمل
بسنَّته؟!". ثم قال: "من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا
عدوّ، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع".
أن تكون موالياً لأهل البيت، ليس معناه أن تقيم مجلس تعزية، ولا أن توزّع هريسة في
عاشوراء، أو أن تندر نذراً للسيدة زينب(ع)... إذا كنت تريد أن تكون موالياً لأهل
البيت(ع) فتورَّع عن الحرام... أمّا كلّ هذه التركيبات؛ طائفة وجماعة... فإنّها
تركيبات عشائريّة .
الإنسان الذي لا يؤمن بالله، حتّى لو كان مسجّلاً بأنه مسلم أو شيعي، هذا الإنسان
المسيحي أقرب إليّ منه، حتى لو كان ابني، حتّى لو كان أخي، أو كان أبي، لأن عند
الله ليست هناك دوائر نفوس... {وكلُّهُم آتيه يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً}.. لا أنه ابن فلان
وبنت فلان، من العائلة الفلانية، من البلدة الفلانية، من الطائفة الفلانيّة...
وهكذا...
لهذا بعض الناس يفكّر بالعقلية الطائفية ولو على حساب الإسلام. بعض الناس الآن
يتعقّد من المؤمن، لأنّ المؤمن يريد أن يقول {ربي الله}، ولا أريد أن يكون لي ربّ
غير الله... كثير من الناس يقولون كما قالت قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا
وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَاب}... هذا الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، أنّ
المؤمن لا يريد أن يعبد إلا الله، وغير المؤمن يريد أن يعبد أكثر من إله.
لهذا، علينا أن نفكّر دائماً كما فكّر رسول الله، وكما فكّر عليّ(ع)؛ هناك طريقان؛
طريق حقّ، وطريق باطل.
لو فرضنا أنّ الإنسان الذي معه الحقّ هو أبعد الناس عنك، فإنَّ عليك أن تكون معه،
ولو كان الإنسان الذي عليه الحقّ أقرب الناس إليك، فإنَّ عليك أن تكون ضدَّه. أن
يكون الحقّ أقرب إلينا من كلّ شيء في كلّ الواقع.
وهذه القضايا إنّما أنطلق فيها، من منطلق أنّ كلّ أعمالنا تخضع لموضوع كيف يحاسبنا
الله سبحانه وتعالى. فالله إذا سـألني يوم القيامة لماذا فعلت كذا؟ أقول له
الطّائفة! فيقول لي أنا لم أنزل الطّائفة في القرآن.. أنا أنزلت التّوحيد، النبوّة،
العدل، الإمامة، الشّريعة... فما الفائدة إذا كان الشّخص من الطّائفة المباركة
وينكر وجود الله، أو كان من الطّائفة المباركة وينكر رسالة رسول الله، أو من
الطّائفة المباركة ويعبث بكلّ الحرمات، من شرب خمر وقمار وعبث... كيف يكون هذا مع
الإمام عليّ(ع)؟!
علينا أن نرتبط بالمبادئ، أن نكون أتباع الإسلام، جماعة الله ورسوله وأوليائه...
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ...}. والوليّ هو الّذي تسير على نهجه وتهتدي بهديه. من
وليّنا؟ ومن قائدنا؟ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}...
وإقامة الصّلاة وإيتاء الزكاة هو وجه للالتزام بكلّ خطّ الإسلام، حتى إنّ فلاناً
إذا كان مؤمناً فليس كافياً، {والّذين آمنوا الذين يقيمون الصّلاة}... ليس فقط
الصلاة، وإنّما ذكرت الصلاة باعتبار أنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة
باعتبارها تمثّل وجه العطاء الذي يعيشه الإنسان في كلّ شيء.
الالتزام بالخطّ لا بالشّخص
هذا هو وليّنا. الولاية تبدأ من هنا، فالولاية والقيادة والالتزام بالأشخاص يكون من
خلال الخطّ لا من خلال الأشخاص.
هذا ما يجب علينا أن نعيشه في أنفسنا، وعند ذلك، لن نضيع ولن نتحيّر، وعند ذلك،
عندما نبحث عن الوحدة، فإنّنا نبحث عن وحدة الحقّ في جميع مجالاته، ولا نبحث عن
وحدة الحقّ والباطل، ولا نبحث عن أيّ وحدة بين الضّلال والهدى.
علينا أن نصارح أنفسنا في هذا المجال.. فكِّر أنّك ستحشر بنفسك إلى ربِّك، لن يكون
معك أحد {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَ}... ليس معك أحد.. ركّز وضعك على هذا الأساس.
وفي هذا الجوّ، ينبغي لنا أن نجسّد، نحن الذين ننفتح على عليّ(ع)، أن نجسّد الإسلام
في كلّ مجالات الحياة، وأن نجسّد الوقفة ضدّ الظلم والطغيان.
التشيع ليس شيئاً آخر غير الإسلام، إنما هو وجه الإسلام في مفاهيمه وفي رفضه للظّلم.
حرسٌ لإسرائيل؟!
على هذا الأساس، الآن هناك شيء موجود في السّاحة، في الجنوب، هناك دعوة إلى أن يكون
هناك حرس وطني في كلّ قرية، وهناك دعوى أنَّ على الناس أن تدفع ضرائب لهذا الحرس.
ما مهمّته؟ يقولون حتى يحمي الأهالي. الأهالي لا يحتاجون إلى حماية إلا من إسرائيل
وعملائها. النّاس تعيش مع بعضها البعض، ويحمون بعضهم البعض، ولا مشاكل بينهم.. عشر
سنوات والنّاس بلا حكومة، والنّاس لديها قيم تعيش وفقها. نعم، هناك أشخاص منحرفون
موجودون. أمّا الحرس، فلكي يحرسوا إسرائيل، ويحرسوا عملاءها وامتيازاتها، وحتّى
يضيِّقوا على المؤمنين، وحتّى يحوِّلوا النّاس عبيداً لإسرائيل ولليهود.
التّعامل مع إسرائيل حرام
ونحن نقول، والحكم الشرعي هو هذا: يحرم حرمة مؤكَّدة تصل بالموضوع إلى الكبائر {وَلاَ
تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}.. أنتم عرب وتفهمون
اللّغة العربيّة.. يحرم الانتساب إلى أيّ صيغة أمنيَّة تحاول إسرائيل أو عملاؤها أو
حلفاء إسرائيل تشكيلها؛ جيش لبنان الجنوبي، الحرس الوطني، الأحزاب المتعاونة مع
إسرائيل والمتحالفة مع إسرائيل، الزّعماء الذين يعملون بالسرّ وتعمل جماعتهم مع
إسرائيل... يحرم معاونتهم والانتماء إليهم والارتباط بهم بكلّ الأساليب.
المقاطعة واجبة، يحرم أن ندفع أيّ مال لهؤلاء.. الذين يعملون من قرى الشّريط
الحدودي في مزارع إسرائيل ومعاملها، يرتكبون خطيئةً كبيرة... حرام ذلك، لا يجوز
معاونتهم بأيّ شيء ما أمكن ذلك. هذا هو حكم الله، وهذا هو الحكم الشّرعي.
الظروف السياسية الآن في العالم والمنطقة لا تسمح لإسرائيل بأن تضمّ جنوب لبنان أو
ما يسمّى بجنوب اللّيطاني، لا تسمح لها الآن بالضمّ، ولكن إسرائيل تريد أن توجد
هناك وضعاً محليّاً يربط المنطقة بإسرائيل ربطاً اقتصادياً وأمنياً وعسكرياً
وسياسياً، ولهذا ترفض إسرائيل أن توضَع قوّات دوليّة على طرف الحدود، مع أنَّ
القوات الدوليّة لن تستطع أن تفعل شيئاً، ولكن حتى هذا، تريد إسرائيل أن تأخذ
حريتها الكاملة في العبث بأمن المنطقة، وفي تطبيع الناس، وفي إخراج من تريد إخراجه،
وفي إلقاء من تريد إلقاءه، وفي جلب من تريد جلبه. وهي تريد أن توحي للعالم بأنَّ
الشعب معها... الأهالي هم الذين يحرسون الحدود، وهذا الجيش هو جيش لبناني، ولكنَّه
متعاطف معنا... هي مستعدّة لأن توظّف بعض الناس، حتى يقذف الصاروخ مثلاً على منطقة،
فتجتاح من جديد.
نحن تحمَّلنا كثيراً في هذا البلد، وضحَّينا كثيراً، ودماء شهدائنا لم تجفّ بعد،
فلا نضيّع دماء شهدائنا، ولا تعتقدوا أنَّ الشعب الذي يستطيع أن يقف بصلابة أمام
الطغيان يمكن أن يسقط.
طمع العدوّ بأرضنا
علينا أن نحرج إسرائيل أمام العالم، أن نحرجها ولو بالامتناع عنها ما أمكننا ذلك،
لأنّ إسرائيل ليست مجرَّد مستعمر يريد أن يستعمر البلد ليأخذ خيراته... الاستعمار
الإسرائيلي استعمار استيطاني شعاره "شعب بلا أرض لأرضٍ بلا شعب". يريد أن يفرِّغ
الأرض من سكَّانها، وإلا الآن احسبوها معادلة.. تقول إسرائيل إنّه ليس لها طمع بأيّ
شبر من لبنان، وهي تعمل على أن تجمع كلّ يهود العالم في فلسطين، فهل تكفيها فلسطين
وحدها؟ لن تكفيها. إذاً، لا بدَّ من أن تتمدّد، والمجال الذي يمكن أن تتمدَّد فيه
إنما هو جنوب لبنان، الجولان، الضفّة الغربيّة، وغزّة، ويمكن أن تفكر بالأردن في
وقت من الأوقات.
كتب علينا أن نكون في أرض فرض علينا فيها أن نواجه عدواً يريد أن يلغي وجودنا
وحضارتنا ومستقبلنا...
قاطعوا العملاء
في مناطق الشّريط الحدوديّ الآن الّذي يصلّي يخاف، لأنّه يصبح مؤمناً متّهماً...
لهذا، لا بدّ لنا، إذا كنا نريد أن نحفظ أرضنا لأولادنا، أن نحفظ وطننا لأولادنا،
أن نعمل بكلّ الطرق في سبيل أن نواجه بما نستطيع، وما نستطيعه كثير، ولو بالمقاطعة
السّلبيّة. وفي الوقت نفسه أيضاً، قلنا ونقولها الآن، هؤلاء الذين تعاملوا مع
إسرائيل، فاعتقلت إسرائيل أولادنا وبناتنا من خلالهم، هؤلاء الّذين أصبحوا مخابرات
إسرائيليّة، الذين يقتلون الناس الأبرياء لخدمة إسرائيل، قاطعوهم وتبرؤوا منهم.
لا يجوز لأيّ إنسان، وأتحمّل مسؤولية هذه الفتوى شرعاً، لا يجوز أن يواصل أو يعاون
أو يسهّل أيّ أمر لهؤلاء، حتى لو كانوا أولاده، لأنهم خانوا الله ورسوله، ولأنهم
حاربوا الله ورسوله، ولأنّهم سعوا في الأرض فساداً.
البعض منهم يقول إني أريد أن أتوب، نقول من كانت معصيته أنه ساهم في اعتقال مؤمن،
فتوبته أن يعتقل إسرائيلياً، ومن كانت معصيته أنه قتل مؤمناً، فتوبته أن يقتل
إسرائيلياً.
أمّا أن يقتل هناك، ويتجسَّس هناك، ويخرّب البلاد هناك، ويأتي إلى الضاحية
الجنوبيّة تبعثه إسرائيل تائباً يعرف كيف يستخدم توبته كغطاء للعبث بأمن المنطقة؟!
بعض الناس يتوسّط: هذا ليس عنده شيء، هذا مسكين، هذا مخدوع... لكن أتعرفون من الذي
فجَّر السيارة في الرويس، في حيّ ماضي، في بئر العبد؟ بعضٌ من الذين قد يكونون
تائبين.
القضيّة خطيرة جداً. الله يقبل التوبة عن عباده، ولكن بشرط {وَأَنِيبُوا إِلَى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ...} {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم
مِّن رَّبِّكُم}، والدعاوى إن لم تقيموا عليها بيِّنات أصحابها أدعياء... هذه نقطة
يجب أن تكون ملحوظة. قد يكون ابنك، أخاك، ابن عمّك... يقتل ابنك وأخاك ويقتلك عندما
يضع متفجِّرة لخدمة إسرائيل وحلفائها.
وقد تنكشف لكم أمور ستعرفون فيها طبيعة الأشياء. هذه نقطة علينا أن لا نتساهل بها،
وضعوا العواطف جانباً، فعندنا أمن ناس ومستقبل ومصير بلد..
ليكن كلّ واحد منكم رقيباً وحارساً... راقب ابنك، أخاك، ابن عمّك، قريبك... لأنَّ
القضيّة أنّ إسرائيل ستعمل بكلّ ما عندها من طاقة، وكذلك أمريكا ستعمل بكلّ ما تملك،
لتفجِّر ما تسمِّيه مناطق الإرهاب، أي مناطقنا.. لمعلوماتكم، عندما صار تفجير في
بئر العبد، كانت هناك فرحة عالميّة، كانت توضع صور تفجير مقرّ المارينز إلى جانب
صور بئر العبد، كأنهم يقولون هذه بهذه... معناه أنّه شيء مخطَّط... وأنا أركِّز على
هذا الموضوع حتى لا تستسلموا لعواطفكم.
الإمام عليّ(ع) عنده كلمة في هذا المجال، يقول فيها: "إِذَا اِسْتَوْلَى اَلصَّلاَحُ
عَلَى اَلزَّمَانِ وَأَهْلِهِ، ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ اَلظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ
تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ، فَقَدْ ظَلَمَ، وَإِذَا اِسْتَوْلَى اَلْفَسَادُ عَلَى
اَلزَّمَانِ وأَهْلِهِ، فَأَحْسَنَ رَجُلٌ اَلظَّنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ"،
يعني وضع نفسه في مقام الخطأ...
التنبّه لما يحضَّر للمنطقة
لهذا، لا بدَّ من وعيٍ كاملٍ للسّاحة، لأنَّ الأسلوب الموجود الآن هو أسلوب القتل
المتعمَّد. لهذا، كونوا واعين في كلّ شيء، كلّ زاروب، كلّ شارع، احموا أنفسكم
بأنفسكم، وليس لمجرَّد أن يكون هناك إجراءات نبتعد عن المشكلة، بل علينا دوماً أن
نراقب أيّ حركات مشبوهة، في الشّارع والبناية، حتى ننقذ الأبرياء.. ولا تستسلموا
لعواطفكم.. إذا اطّلعت على أحد يشتبه بأمره بشكل معيَّن، أخبر الأشخاص الذين
يتحمَّلون مسؤوليَّة الأمن، حتّى نستطيع أن ننقذ أهلنا وناسنا، وإلّا فإنَّ أمريكا
وإسرائيل تسيران بمخطَّطاتهما لضرب كلِّ الناس الذين يحبّون أن يعيشوا أحراراً في
بلادهم.
وكما رأيتم، انسحبت إسرائيل من صيدا، لم يحدث شيء، فعملت من خلال عملائها لخلق
مشكلة، ولاتزال المشكلة تتفاعل في صيدا، وقد تحدث لنا مشكلة عندما تنسحب من صور،
ربّما تحاول أن تلعب اللّعبة اللّبنانية الفلسطينيّة.. كما حاولوا أن يلعبوا
اللّعبة ذاتها في صيدا. علينا أن نكون حذرين، لأنَّ عندنا فريقاً هو فريق إسرائيل
في المنطقة وفي البلد، وعلينا أن نكون واعين جداً، ولا سيَّما في هذين الشَّهرين،
لأنّهما يمثّلان الشّهرين الخطرين في المنطقة، لأنَّ هناك أكثر من استحقاق سياسي في
المنطقة، على مستوى مشاكل المنطقة وعلى مستوى سياسة المنطقة، وطريقة الحلّ الّتي
تحاول الدّول الكبرى أن تحلّ المشاكل من خلالها، هي أن تخلق أوضاعاً أمنيَّة مضطربة،
حتّى تنضج الطّبخة.
لهذا، في هذين الشَّهرين، ربّما تواجه المنطقة مشاكل كثيرة واستحقاقات كثيرة. ونحن
معتادون، كلّما جاء مبعوث أمريكيّ إلى المنطقة، تشتعل المنطقة.. والمبعوث الأمريكيّ
مورفي سيأتي قريباً، وقد حضِّرت له طبخة الانتفاضة، وحضّرت له معركة صيدا، وقد
تحضَّر له طبخات أخرى، حتى ينضّج الحلّ الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة.
علينا أن نكون واعين للّعبة، وعلينا قبل كلّ شيء أن لا نكون أدوات، وعلينا أن نثق
بالله، ونثق بأنفسنا، وننطلق من موقع وعي، ومن موقع الصّدق والإيمان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة جمعة لسماحته ألقاها في مسجد بئر العبد بتاريخ 15-7-1405/ الموافق: 5-4- 1985.