الله رحيم ويحبّ الرّحمة

 الله رحيم ويحبّ الرّحمة
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، ويقول تعالى في حديثه عن عيسى بن مريم(ع): {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}، ويقول سبحانه وتعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.

في هذه الآيات وفي غيرها، يتحدّث الله عن الرحمة كقيمة روحية إنسانية في شخصية الإنسان الذي يؤمن بالله وبرسالاته، ولا سيّما أنّ هذه الرحمة هي صفة الله "الرّحمن الرّحيم"، الذي أرادنا أن نذكره بها عندما نتكلّم بالبسملة، فنقول: "بسم الله الرّحمن الرحيم"، وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى أنّ {رَحْمَة اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.
وبذلك، فإنّ علينا عندما نتمثل الله سبحانه وتعالى من موقع رحمته، أن ننفتح عليه في مواقع الرّحمة، فلا نيأس من رحمته مهما صدر عنّا، وقد قال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
وهكذا، أرادنا الله أن نعيش هذه الرّحمة في أنفسنا، فلا نضيّق على أيّ إنسان رحمة الله، وقد قال تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ}، فلو أنّ الله أودع خزائن رحمته بأيديكم، لما أعطيتم الكثيرين من النّاس من هذه الرحمة.

ولذلك، علينا أن لا نتدخل بأمور الله، وإن كان من عصى الله يستحقّ العذاب والعقاب، لأنّ الله يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، وكما في الحديث: "إنّ لله رحمةً في يوم القيامة يتطاول لها عنق إبليس".
ولذلك، علينا أن نعيش في أنفسنا الانفتاح على رحمة الله سبحانه وتعالى، فلا نيأس منها، ولا ندع حتى الذين ارتكبوا المعاصي، مهما بلغت، من أن ييأسوا، وإن كان كما جاء في الآية الكريمة: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، ويبقى علينا أن نطلب من الناس أن يتوبوا إلى الله، وأن يطلبوا رحمته من خلال ذلك.

وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن رسوله أنّه يمثّل الرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، لأن ما جاء به الرسول(ص)، يمثّل رحمةً لعقول الناس ولقلوبهم ولحياتهم في الدّنيا وفي الآخرة، ولأنه(ص) نبيّ الرّحمة الذي امتلأ قلبه رحمةً للناس، فكان قلبه يبكي على الناس الذين لا يؤمنون، لا من جهة أنهم لم يستجيبوا له من ناحية ذاتيّة، بل لابتعادهم عن طريق الحق وعن طريق رضى الله سبحانه وتعالى، ولذلك، كان الله يسلّيه ويقول له: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}. وهكذا، رأينا كيف أن رسول الله(ص) تحرك برحمته، فلان لسانه وقلبه للناس الآخرين: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
وفي هذا درس لكلّ العلماء الذين يعظون الناس ويرشدونهم، ولكلّ المبلّغين الذين يبلّغون رسالات الله، بحيث يجب عليهم أن يتميّزوا بقلب رقيق يحبّ الناس، وأن يتميّزوا بلسان ليّن طيّب يطلق الكلمة الأحسن والموعظة الحسنة.

وهكذا، نقرأ في قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، ونستوحي من هذه الآية، أن الله يريد من المجتمع المسلم أن يكون المجتمع المتراحم الذي يرحم بعضه بعضاً، فلا يعيش المسلم القسوة ضدّ المسلم الآخر، في نفسه، وفي نيته، وفي كلمته، ولا في معاملاته وفي علاقته به، بل يكون شأنه معه الرحمة له في كل قضاياه، وفي كل نقاط ضعفه.
وعلى هذا الأساس، لا بدّ من أن يكون مجتمعنا مجتمعاً متراحماً، كما يجب أن تكون القيادة، سواء كانت دينيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة، قيادة رحيمة، ولا بدّ من أن يكون الناس الذين يتحركون معها رحماء بينهم، بأن لا يضرّ أحدهم الآخر، وأن لا يؤذيه، وأن لا يدمّره ويشوّه سمعته، وما إلى ذلك.

وهكذا، حدثنا الله سبحانه وتعالى، أنّ رسالة السيد المسيح(ع) هي رسالة الرحمة التي تأثر بها الذين اتّبعوه من الحواريين وغيرهم، ولذا قال: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ـ السيد المسيح(ع) في رسالته ـ رَأْفَةً وَرَحْمَة}، فهم يعيشون الرّحمة فيما بينهم، وللناس الذين يعيشون معهم ويتحمّلون مسؤوليّتهم.

ثم يحدّثنا الله سبحانه وتعالى أنّ الرّحمة لا بدّ من أن تكون موضعاً للتواصي بين الناس في المجتمع المؤمن، وخصوصاً الرحمة بالضّعفاء: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ـ أمام البلاء والتحدّيات ـ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.

وفي هذا المجال، نقرأ بعض الأحاديث الواردة عن عطاءات الله للإنسان الّذي يعيش الرحمة، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "الرّاحمون يرحمهم الرّحمن يوم القيامة"؛ أن يرحم الإنسان من حوله، أن يرحم زوجته، ولده، جاره، العامل، وهكذا، أن يرحم من في الأرض ليرحمه من في السّماء.

وفي حديثٍ آخر عن عليّ(ع): "أحسن كما تحبّ أن يُحسَن إليك"، أحسن إلى النّاس يحسن الله إليك جزاءً لإحسانك، ارحم تُرحَم، وهكذا يقول الإمام عليّ(ع) في بعض ما روي عنه: "ارحم من دونك ـ أي من هو تحت يديك أو الأضعف منك ـ يرحمك من فوقك ـ وهو الله ـ وقس سهوه بسهوك ـ بأن تفكر في أنّه إذا أخطأ، فأنت أيضاً عرضة للخطأ، فكيف تريد ممن أخطأت معه أن يغفر خطأك، ولا تغفر خطأ من أخطأ معك ـ ومعصيته لك بمعصيتك لربّك ـ فإذا كان يقع تحت مسؤوليّتك وعصاك، وترى في ذلك شيئاً كبيراً، فأنت تعصي ربّك، فهل ترى أن معصيته لك أقلّ من معصيتك لربّك؟ ولذلك عليك أن تتعامل مع الذي هو دونك إذا عصاك، كما تريد أن يتعامل معك ربّك ـ وفقره إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربّك". ألا تفكّر في أنّ هذا الإنسان الذي عصاك يفتقر إلى رحمتك، فتذكّر فقرك إلى رحمة ربّك، واغفر له حتى يغفر لك ربّك.
وقد ورد في الدّعاء الذي يرويه أبو حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين(ع): "اللّهمّ إنك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعف عنّا، فإنك أولى بذلك منّا".
ويقول الإمام عليّ(ع): "عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه، كيف لا يرحم من دونه"، أنت عندما تكون تحت يد إنسان آخر، ألا ترجو منه أن يرحمك إذا أخطأت؟! فارحم أيضاً من هو تحت يدك، وهكذا، عندما يرجو الإنسان رحمة الله، فعليه أن يرحم من هو دونه، كما يرجو رحمة من هو فوقه.

"من رحم ولو ذبيحة عصفور، رحمه الله يوم القيامة"، وهو مثال لأضعف المخلوقات، حيث يجب أن لا تقتصر رحمة الإنسان على الإنسان فحسب، بل عليه أن يرحم حتى الحيوان. وبمعنى آخر، أن تكون الرّحمة طبيعة، أي أن تكون رقيق القلب، كما تتألم لآلام الإنسان، تألم لآلام الحيوان، وهكذا.
وفي الحديث: "ينادي مَن في النار: يا حنّان يا منّان، نجّنا من النّار، فيأمر الله ملكاً، فيخرجه حتى يقف بين يديه، فيقول الله عزّ وجلّ: هل رحمت عصفوراً؟"، وقد لا يلتفت الكثيرون إلى هذا المعنى، فيأخذ بعضنا حريته في التصرّف بالحيوان، فيؤلمه ويؤذيه. وقد ورد في الحديث، أنّ امرأةً دخلت النّار في هرّة ربطتها حتى ماتت جوعاً.
وقد ورد في الكثير من الأحاديث، أنّ الله أحلّ لنا ذبح الحيوان، ولكن على الإنسان الذي يريد أن يذبح الحيوان، أن يحدّ شفرته حتى لا يؤلمه، أو أن يخفّف ألمه، وأنه إذا رأى كلباً أو هراً أو ما إلى ذلك ظامئاً أو جائعاً، وسقاه وأطعمه، "لكلّ كبد حرّى أجر"، فالله يؤجره لقيامه بالرّفق بالحيوان وبرعايته، وهذه هي أخلاقيّة الإسلام في هذا المجال.
وورد في الحديث عن النبيّ(ص): "من لا يرحم لا يُرحَم"، و"من لا يغفر لا يُغفَر له"، و"من لا يرحم النّاس لا يرحمه الله". وهكذا، "والّذي نفسي بيده، لا يدخل الجنة إلا رحيم ـ يعني أنه لا يدخل الجنّة الإنسان القاسي القلب الّذي لا يرحم أحداً ـ قالوا: كلّنا رحيم، قال: لا، حتى ترحَم".

وفي حديث آخر: "إنَّ الله رحيم يحبّ الرّحيم، يضع رحمته على كلّ رحيم"، وأيضاً: "خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر".
وفي المقابل، وردَتْ بعض الأحاديث عن الله سبحانه في رحمته لعباده، فقد ورد عن الإمام الصّادق(ع): "إنّي لأرحم ثلاثاً، وحقّ لهم أن يُرحَموا: عزيز أصابته مذلّة بعد العزّ، وغنيّ أصابته حاجة بعد الغنى، وعالم يستخفّ به أهله والجهلة".

وورد أيضاً: "ارحم المساكين"، بأن تخرجهم من مسكنتهم بحسب إمكاناتك. وقد ورد عن رسول الله(ص) في وصيّته لأنس: "يا أنس، ارحم الصّغير، ووقّر الكبير، تكن من رفقائي ـ أن نرحم صغارنا، بأن نلاحظ ذهنيّتهم وعقليّتهم وآلامهم ومشاكلهم، وهكذا ـ من لم يرحم صغيرنا، ولم يعرف حقّ كبيرنا، فليس منّا"، ويخرج إذا لم يعمل بهذه القاعدة من دائرة الإسلام.
ويقول الإمام عليّ(ع): "وإنَّما ينبغي لأهل العصمة ـ الشّخص الذي وفَّقه الله لأن يكون معصوماً في أقواله وأعماله ـ والمسموع إليهم في السّلامة ـ الذين يكونون في سلامة من دينهم ـ أن يرحموا أهل الذّنوب والمعصية ـ أي أن يقدّروا ظروفهم ـ وأن يكون الشّكر هو الغالب عليهم".

ثم بعد ذلك، على الإنسان أن يرحم نفسه: "فارحموا نفوسكم، فإنَّكم قد جررتموها في مصائب الدّنيا. ويا أيّها الإنسان، ما جرأك على ذنبك؟ أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك؟". فلا توقع نفسك في المعصية أو الذّنب، لأنك تظلم نفسك بذلك وتعرّضها لغضب الله سبحانه وتعالى.

أيّها الأحبَّة، هذه هي الخطوط الإسلاميّة في مسألة الرّحمة، ولا بدَّ من أن نربي أطفالنا وأنفسنا على ذلك، لأننا عندما نعيش هذا الإحساس بالرّحمة، يجب أن تكون قلوبنا نابضةً بالرّحمة، وأن نتحمل مسؤولية كلّ الفئات المحرومة والجاهلة والضالّة في المجتمع، بأن نعمل على رعاية المحرومين، وعلى هداية الضالّين، وعلى تعليم الجاهلين، أن نعيش الإحساس بالمسؤوليّة تجاه كل القضايا الموجودة في مجتمعنا، عند ذلك، يمكن لنا أن ننطلق في مجتمع يتراحم أفراده، ويتعاونون ويتواصلون فيما بينهم، وهذا هو المجتمع الّذي يحبّه الله ويرضاه، ويعيش فيه أهل الجنّة، لأنّ أهل الجنّة هم الرّحماء فيما بينهم هناك، وعلينا أن نعيش أخلاق الله، وأخلاق رسول الله، وأخلاق أوليائه، وأخلاق أهل الجنّة، لنحصل على رحمة الله في الدّنيا وفي الآخرة، يوم لا رحمة إلّا رحمته، ولا ظلّ إلا ظلّه".
 
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ 3 شوّال 1421 هـ/ الموافق: 29 - 12- 2000م.

 
 
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، ويقول تعالى في حديثه عن عيسى بن مريم(ع): {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}، ويقول سبحانه وتعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.

في هذه الآيات وفي غيرها، يتحدّث الله عن الرحمة كقيمة روحية إنسانية في شخصية الإنسان الذي يؤمن بالله وبرسالاته، ولا سيّما أنّ هذه الرحمة هي صفة الله "الرّحمن الرّحيم"، الذي أرادنا أن نذكره بها عندما نتكلّم بالبسملة، فنقول: "بسم الله الرّحمن الرحيم"، وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى أنّ {رَحْمَة اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.
وبذلك، فإنّ علينا عندما نتمثل الله سبحانه وتعالى من موقع رحمته، أن ننفتح عليه في مواقع الرّحمة، فلا نيأس من رحمته مهما صدر عنّا، وقد قال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
وهكذا، أرادنا الله أن نعيش هذه الرّحمة في أنفسنا، فلا نضيّق على أيّ إنسان رحمة الله، وقد قال تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ}، فلو أنّ الله أودع خزائن رحمته بأيديكم، لما أعطيتم الكثيرين من النّاس من هذه الرحمة.

ولذلك، علينا أن لا نتدخل بأمور الله، وإن كان من عصى الله يستحقّ العذاب والعقاب، لأنّ الله يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، وكما في الحديث: "إنّ لله رحمةً في يوم القيامة يتطاول لها عنق إبليس".
ولذلك، علينا أن نعيش في أنفسنا الانفتاح على رحمة الله سبحانه وتعالى، فلا نيأس منها، ولا ندع حتى الذين ارتكبوا المعاصي، مهما بلغت، من أن ييأسوا، وإن كان كما جاء في الآية الكريمة: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، ويبقى علينا أن نطلب من الناس أن يتوبوا إلى الله، وأن يطلبوا رحمته من خلال ذلك.

وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن رسوله أنّه يمثّل الرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، لأن ما جاء به الرسول(ص)، يمثّل رحمةً لعقول الناس ولقلوبهم ولحياتهم في الدّنيا وفي الآخرة، ولأنه(ص) نبيّ الرّحمة الذي امتلأ قلبه رحمةً للناس، فكان قلبه يبكي على الناس الذين لا يؤمنون، لا من جهة أنهم لم يستجيبوا له من ناحية ذاتيّة، بل لابتعادهم عن طريق الحق وعن طريق رضى الله سبحانه وتعالى، ولذلك، كان الله يسلّيه ويقول له: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}. وهكذا، رأينا كيف أن رسول الله(ص) تحرك برحمته، فلان لسانه وقلبه للناس الآخرين: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
وفي هذا درس لكلّ العلماء الذين يعظون الناس ويرشدونهم، ولكلّ المبلّغين الذين يبلّغون رسالات الله، بحيث يجب عليهم أن يتميّزوا بقلب رقيق يحبّ الناس، وأن يتميّزوا بلسان ليّن طيّب يطلق الكلمة الأحسن والموعظة الحسنة.

وهكذا، نقرأ في قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، ونستوحي من هذه الآية، أن الله يريد من المجتمع المسلم أن يكون المجتمع المتراحم الذي يرحم بعضه بعضاً، فلا يعيش المسلم القسوة ضدّ المسلم الآخر، في نفسه، وفي نيته، وفي كلمته، ولا في معاملاته وفي علاقته به، بل يكون شأنه معه الرحمة له في كل قضاياه، وفي كل نقاط ضعفه.
وعلى هذا الأساس، لا بدّ من أن يكون مجتمعنا مجتمعاً متراحماً، كما يجب أن تكون القيادة، سواء كانت دينيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة، قيادة رحيمة، ولا بدّ من أن يكون الناس الذين يتحركون معها رحماء بينهم، بأن لا يضرّ أحدهم الآخر، وأن لا يؤذيه، وأن لا يدمّره ويشوّه سمعته، وما إلى ذلك.

وهكذا، حدثنا الله سبحانه وتعالى، أنّ رسالة السيد المسيح(ع) هي رسالة الرحمة التي تأثر بها الذين اتّبعوه من الحواريين وغيرهم، ولذا قال: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ـ السيد المسيح(ع) في رسالته ـ رَأْفَةً وَرَحْمَة}، فهم يعيشون الرّحمة فيما بينهم، وللناس الذين يعيشون معهم ويتحمّلون مسؤوليّتهم.

ثم يحدّثنا الله سبحانه وتعالى أنّ الرّحمة لا بدّ من أن تكون موضعاً للتواصي بين الناس في المجتمع المؤمن، وخصوصاً الرحمة بالضّعفاء: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ـ أمام البلاء والتحدّيات ـ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.

وفي هذا المجال، نقرأ بعض الأحاديث الواردة عن عطاءات الله للإنسان الّذي يعيش الرحمة، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "الرّاحمون يرحمهم الرّحمن يوم القيامة"؛ أن يرحم الإنسان من حوله، أن يرحم زوجته، ولده، جاره، العامل، وهكذا، أن يرحم من في الأرض ليرحمه من في السّماء.

وفي حديثٍ آخر عن عليّ(ع): "أحسن كما تحبّ أن يُحسَن إليك"، أحسن إلى النّاس يحسن الله إليك جزاءً لإحسانك، ارحم تُرحَم، وهكذا يقول الإمام عليّ(ع) في بعض ما روي عنه: "ارحم من دونك ـ أي من هو تحت يديك أو الأضعف منك ـ يرحمك من فوقك ـ وهو الله ـ وقس سهوه بسهوك ـ بأن تفكر في أنّه إذا أخطأ، فأنت أيضاً عرضة للخطأ، فكيف تريد ممن أخطأت معه أن يغفر خطأك، ولا تغفر خطأ من أخطأ معك ـ ومعصيته لك بمعصيتك لربّك ـ فإذا كان يقع تحت مسؤوليّتك وعصاك، وترى في ذلك شيئاً كبيراً، فأنت تعصي ربّك، فهل ترى أن معصيته لك أقلّ من معصيتك لربّك؟ ولذلك عليك أن تتعامل مع الذي هو دونك إذا عصاك، كما تريد أن يتعامل معك ربّك ـ وفقره إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربّك". ألا تفكّر في أنّ هذا الإنسان الذي عصاك يفتقر إلى رحمتك، فتذكّر فقرك إلى رحمة ربّك، واغفر له حتى يغفر لك ربّك.
وقد ورد في الدّعاء الذي يرويه أبو حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين(ع): "اللّهمّ إنك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعف عنّا، فإنك أولى بذلك منّا".
ويقول الإمام عليّ(ع): "عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه، كيف لا يرحم من دونه"، أنت عندما تكون تحت يد إنسان آخر، ألا ترجو منه أن يرحمك إذا أخطأت؟! فارحم أيضاً من هو تحت يدك، وهكذا، عندما يرجو الإنسان رحمة الله، فعليه أن يرحم من هو دونه، كما يرجو رحمة من هو فوقه.

"من رحم ولو ذبيحة عصفور، رحمه الله يوم القيامة"، وهو مثال لأضعف المخلوقات، حيث يجب أن لا تقتصر رحمة الإنسان على الإنسان فحسب، بل عليه أن يرحم حتى الحيوان. وبمعنى آخر، أن تكون الرّحمة طبيعة، أي أن تكون رقيق القلب، كما تتألم لآلام الإنسان، تألم لآلام الحيوان، وهكذا.
وفي الحديث: "ينادي مَن في النار: يا حنّان يا منّان، نجّنا من النّار، فيأمر الله ملكاً، فيخرجه حتى يقف بين يديه، فيقول الله عزّ وجلّ: هل رحمت عصفوراً؟"، وقد لا يلتفت الكثيرون إلى هذا المعنى، فيأخذ بعضنا حريته في التصرّف بالحيوان، فيؤلمه ويؤذيه. وقد ورد في الحديث، أنّ امرأةً دخلت النّار في هرّة ربطتها حتى ماتت جوعاً.
وقد ورد في الكثير من الأحاديث، أنّ الله أحلّ لنا ذبح الحيوان، ولكن على الإنسان الذي يريد أن يذبح الحيوان، أن يحدّ شفرته حتى لا يؤلمه، أو أن يخفّف ألمه، وأنه إذا رأى كلباً أو هراً أو ما إلى ذلك ظامئاً أو جائعاً، وسقاه وأطعمه، "لكلّ كبد حرّى أجر"، فالله يؤجره لقيامه بالرّفق بالحيوان وبرعايته، وهذه هي أخلاقيّة الإسلام في هذا المجال.
وورد في الحديث عن النبيّ(ص): "من لا يرحم لا يُرحَم"، و"من لا يغفر لا يُغفَر له"، و"من لا يرحم النّاس لا يرحمه الله". وهكذا، "والّذي نفسي بيده، لا يدخل الجنة إلا رحيم ـ يعني أنه لا يدخل الجنّة الإنسان القاسي القلب الّذي لا يرحم أحداً ـ قالوا: كلّنا رحيم، قال: لا، حتى ترحَم".

وفي حديث آخر: "إنَّ الله رحيم يحبّ الرّحيم، يضع رحمته على كلّ رحيم"، وأيضاً: "خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر".
وفي المقابل، وردَتْ بعض الأحاديث عن الله سبحانه في رحمته لعباده، فقد ورد عن الإمام الصّادق(ع): "إنّي لأرحم ثلاثاً، وحقّ لهم أن يُرحَموا: عزيز أصابته مذلّة بعد العزّ، وغنيّ أصابته حاجة بعد الغنى، وعالم يستخفّ به أهله والجهلة".

وورد أيضاً: "ارحم المساكين"، بأن تخرجهم من مسكنتهم بحسب إمكاناتك. وقد ورد عن رسول الله(ص) في وصيّته لأنس: "يا أنس، ارحم الصّغير، ووقّر الكبير، تكن من رفقائي ـ أن نرحم صغارنا، بأن نلاحظ ذهنيّتهم وعقليّتهم وآلامهم ومشاكلهم، وهكذا ـ من لم يرحم صغيرنا، ولم يعرف حقّ كبيرنا، فليس منّا"، ويخرج إذا لم يعمل بهذه القاعدة من دائرة الإسلام.
ويقول الإمام عليّ(ع): "وإنَّما ينبغي لأهل العصمة ـ الشّخص الذي وفَّقه الله لأن يكون معصوماً في أقواله وأعماله ـ والمسموع إليهم في السّلامة ـ الذين يكونون في سلامة من دينهم ـ أن يرحموا أهل الذّنوب والمعصية ـ أي أن يقدّروا ظروفهم ـ وأن يكون الشّكر هو الغالب عليهم".

ثم بعد ذلك، على الإنسان أن يرحم نفسه: "فارحموا نفوسكم، فإنَّكم قد جررتموها في مصائب الدّنيا. ويا أيّها الإنسان، ما جرأك على ذنبك؟ أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك؟". فلا توقع نفسك في المعصية أو الذّنب، لأنك تظلم نفسك بذلك وتعرّضها لغضب الله سبحانه وتعالى.

أيّها الأحبَّة، هذه هي الخطوط الإسلاميّة في مسألة الرّحمة، ولا بدَّ من أن نربي أطفالنا وأنفسنا على ذلك، لأننا عندما نعيش هذا الإحساس بالرّحمة، يجب أن تكون قلوبنا نابضةً بالرّحمة، وأن نتحمل مسؤولية كلّ الفئات المحرومة والجاهلة والضالّة في المجتمع، بأن نعمل على رعاية المحرومين، وعلى هداية الضالّين، وعلى تعليم الجاهلين، أن نعيش الإحساس بالمسؤوليّة تجاه كل القضايا الموجودة في مجتمعنا، عند ذلك، يمكن لنا أن ننطلق في مجتمع يتراحم أفراده، ويتعاونون ويتواصلون فيما بينهم، وهذا هو المجتمع الّذي يحبّه الله ويرضاه، ويعيش فيه أهل الجنّة، لأنّ أهل الجنّة هم الرّحماء فيما بينهم هناك، وعلينا أن نعيش أخلاق الله، وأخلاق رسول الله، وأخلاق أوليائه، وأخلاق أهل الجنّة، لنحصل على رحمة الله في الدّنيا وفي الآخرة، يوم لا رحمة إلّا رحمته، ولا ظلّ إلا ظلّه".
 
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ 3 شوّال 1421 هـ/ الموافق: 29 - 12- 2000م.

 
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية