بالعودة إلى الذّاكرة والأرشيف، نستحضر المواقف والمواعظ التي أطلقها العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في خطبة صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 5 جمادى الثّانية العام 1422ه/ الموافق 24/8/2001م، حيث تحدَّث عن مشكلة تقليد الآباء والتعصّب لأشخاصهم وأفكارهم وسلوكهم على حساب الحقيقة والانتصار له. قال سماحته:
"من القضايا التي كانت تواجه الأنبياء في كل زمانٍ ومكانٍ، ولا تزال تواجه المصلحين الرساليّين، قضية تقليد الآباء والأجداد، وتقليد الأشخاص الذين يملكون موقعاً اجتماعياً أو سياسياً أو ما إلى ذلك، فإذا جاء النبيّ بفكرة تختلف عما كان عليه الآباء والأجداد، فإنهم يواجهونه بأننا نلتزم بعقائد وعادات وتقاليد آبائنا وأجدادنا، ونرفض كلّ ما يخالف ذلك، ولكن لماذا ذلك؟ ما هي الحجّة؟ إنهم لا يقدّمون أي حجّة أمام هذه المسألة، ولكنّها العاطفة.
كما نلتقي أيضاً في هذا العصر بالنّاس الذين يواجهونك عندما تطرح فكراً أو حكماً شرعياً مخالفاً لما اعتاده الناس، سواء في المجتمعات العشائريّة التي اعتادت الأوضاع العشائريّة كشيءٍ أساس في واقع العشيرة، أو في الواقع العام، عندما يكون الشّيء الذي يُطرح إسلامياً خلاف ما عليه الناس في العصر، ولعلكم تسمعون دائماً في الجواب عن أيّ عمل: العصر هكذا، والناس هكذا!! أما ما هي الحجّة في أن يسير الإنسان على ما في العصر أو ما جرى عليه الناس، فلا حجة، لأنه كما يُقال: لا أريد أن أحمل الخشبة بالعرض".
ويضرب سماحته مثالاً من الفتاوى التي أصدرها المراجع، وكانوا فيها منفتحين على الحقيقة، ومسؤولين فيها أمام الله تعالى،انطلاقاً من العلم والوعي:
"ربما يألف الناس وضعاً معيناً، كأن يألفوا حكماً شرعيّاً جرى عليه بعض العلماء في الماضي، وجاء مجتهدون آخرون ـ باعتبار حركة الاجتهاد ـ يفتون بغير ما أفتى به العلماء في الماضي، فيقولون لك ـ ولكثير من العلماء ولا أتحدّث عن حالة شخصية ـ إنّ هذا أمر لم يقل به العلماء السابقون! والعلماء السابقون مجتهدون وهؤلاء مجتهدون، حتى إن السيد محسن الحكيم ـ وهو المرجع المعروف ـ عندما أدّى اجتهاده إلى طهارة أهل الكتاب، ولم يسبقه مرجعٌ يفتي بطهارتهم، وهو الذي كان يفتي على مدى خمسين سنة بالنجاسة، ولكن تأمّل في المسألة وتجدّد نظره، فعدل من النجاسة إلى الطهارة، استنكر عليه المحيطون به بأنّ هذه الفتوى سوف تخلق له مشكلة، لأن هذه الفتوى ليست مألوفة، لكن المرحوم السيّد (رحمه الله) كان حاسماً في موقفه، وأصرّ على ما توصَّل إليه من اجتهاده، لأنّ مقلّديه كانوا يعانون مشكلة، وقد وجد الحل لهؤلاء المقلّدين.
ونحن الآن في الفتوى المتعلقة بقضية الكفّار، رأينا متطوّر على رأي السيّد الحكيم (رحمه الله)، فنحن نرى طهارة كل الناس؛ اليهودي والنصراني والبوذي والملحد، ونجاستهم نجاسة عقلية وليست مادية، ويستنكر البعض علينا هذه الفتوى وغيرها، ولكنّنا نقول إنّ الذي يعترض على فتوى أو رأي تاريخي أو عادة، فيُقال له إما أن تكون عالماً لتناقش الدليل، وإن لم تكن عالماً فهذا ليس من شغلك.. فعملية التقليد على قسمين: التقليد في القضايا التي لا يملك فيها الإنسان الخبرة فيها، فنحن نقلّد الأطباء والمهندسين في الطبّ والهندسة، لأننا لا نملك علمهم، أما الأشياء التي يمكن أن يملك الإنسان فيها الخبرة، فلا يجوز له أن يقلد، ولا سيما في العقائد".
ويشير سماحته إلى مسؤوليَّتنا أمام الله تعالى في تقديم الحجّة له فيما نقوم به أو نخطوه، فالمؤمن لديه كلّ الثقة بما ينفتح فيه على الناس والحياة، وفيما يلتزمه من فكر:
"هناك شيء في التربية الإسلاميّة، وهو أنّ الله تعالى يقول لكل إنسان: إن عليك أن تقدّم حساب كلّ فكرك وخطك وعملك وكلامك أمام الله، {يومَ تأتي كلُّ نفسٍ تجادلُ عن نفسها}، وإلا لو فرضنا أنّك وقفت أمام الله وسألك: لماذا سرت في هذا الطّريق، أو أخذت بهذه العادة؟ فتقول: آباؤنا وأجدادنا كانوا هكذا، وهذه عاداتنا، أو الوقت هكذا؟ فهل آباؤك وأجدادك هم أنبياء أو أولياء، وهل هم حجّة وممّن يجب اتّباعهم؟
لذلك، يريد الله تعالى من الإنسان أن لا يلتزم بأيِّ خطٍّ وفكرٍ وموقف إلا بعد أن يملك الحجة في ذلك أمام الله، بحيث إذا سأله الله عنه، استطاع أن يدافع عن موقفه، والله يريد لنا أن نكون المجتمع المفكّر والمحاوِر والسّائل، لا المجتمع الذي يغمض عينيه ويمشي، حتى الثقة لا بدَّ من أن تكون مفتوحة العينين، لا أن تكون عمياء، فلو أُثيرت أمامك علامة استفهام أمام فلان من الناس، فاسأله وناقشه، لأن ليس هناك أحد فوق النقاش. ومَنْ أعلى مرتبة من النبيّ(ص)؟! كان النبيّ(ص) يُسأَل وكان يجيب وهو المعصوم، وقد كان الإمام الباقر ـ وهو المعصوم ـ يقول لأصحابه: "إذا قلت لكم شيئاً فقولوا ما هو دليله من القرآن"، لأنّ الله تعالى يريد للمجتمعات الإسلامية أن تكون مجتمعات مثقفة، لكي يكون لنا ثقافة الفكر الذي نلتزمه".
ويضيف سماحته:
" ولذلك، أكّد القرآن الكريم في أكثر من آية هذا النهج الذي كان ينهجه الآخرون، ولا يزال الكثيرون ينهجونه، فلننطلق إلى كتاب الله، لنرى كيف عالج الله تعالى هذه المسألة: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ـ من مفاهيم وعقائد وشريعة ـ قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا ـ لآبائنا مواقف وعادات وتقاليد وأفكار، ولا نقبل أن يغيّر لنا أحد هذه العادات والتقاليد، وقد عشنا ذلك أيام الزعامات، عندما كانت القرية الفلانيّة تابعة لزعيم معيّن، فكان الآباء يورّثون الزعيم أبناءهم، ويجيبهم الله ـ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}، الإنسان يتبع شخصاً يملك العقل والثقافة وخطّ الهدى، والأبوّة لا تقتضي أن يسير الابن في خطّ أبيه، لأنك سوف تحاسب وحدك وسيحاسب أبوك وحده، لذلك عندما يقدِّم أبوك لك الفكرة ناقشها، فإذا قبلتها فتبنّاها، لأنّك اقتنعت بها، لا لأن أباك ورّثك إياها..
وفي آية ثانية يقول تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} {قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}، فلو كان آباؤكم متبعين للشّيطان ودعوكم إلى هذا الخطّ، فهل تقبلون به؟
هذا هو الخطّ القرآني والإسلامي، إنّه يريد لكلّ مجتمع أن يتحمّل مسؤوليته بعيداً من المجتمع الذي سبقه، {تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم}، إن الله يريد أن نحرر عقولنا ونفتحها للحوار والبرهان، ويريد أن لا نقدِّم رِجْلاً ولا نؤخّر أخرى إلا بعد أن نقدّم الدليل عليه، لكي نقدّم الجواب يوم القيامة، لأنه يريد للمجتمع أن يكون مجتمع الثقافة والعلم والبرهان، {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.
هذا هو الخط الإسلامي الذي لا بدّ من أن نأخذ به أنفسنا ونربي عليه أبناءنا، حتى لا يأتينا من يغشّنا في ديننا وسياساتنا، لأنّنا إذا تعوّدنا أن نفكّر في كلّ شيء، فلن نخضع للذي يريدنا أن لا نفكّر".