المرجع فضل الله الإمام الصادق(ع) أغنى العالم الإسلامي بعلمه

المرجع فضل الله الإمام الصادق(ع) أغنى العالم الإسلامي بعلمه
بالعودة إلى أرشيف سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، نستحضر المواقف والمواعظ الّتي ألقاها في الخطبة الأولى لخطبة الجمعة، وذلك من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 25 شوّال العام 1424ه/ الموافق 19/12/2003م، بحضور حشدٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وجمع غفير من المؤمنين، حيث تحدَّث عن الإمام الصّادق(ع)، وما قدّمه للمسيرة الإسلاميّة وللمسلمين جميعاً:

"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}. في هذا اليوم ـ الخامس والعشرين من شهر شوّال ـ نلتقي بذكرى وفاة الإمام جعفر الصّادق(ع)، الذي ملأ الدنيا علماً وحركة وفكراً وتقوى وورعاً، بحيث أغنى العالم الإسلامي بكلّ علمه في المدى الذي فُتح له، وفي مساحة الحرية التي استطاع أن يستفيد منها في فترة الصّراع بين الأمويين والعباسيين، هذه الفترة التي شُغل فيها الطرفان عن التضييق على أئمّة أهل البيت(ع)، كما كان يفعل أسلافهم، وكما فعل أبناؤهم.

انطلق الإمام الصادق(ع) في إغناء الثقافة الإسلامية، بالمستوى الّذي انفتح فيه على كلّ الناس. وقد روى(ع)، أنّ أباه الإمام الباقر(ع)، عندما دنت منه الوفاة، قال له: "يا بنيّ، أوصيك بأصحابي خيراً"، فكان جواب الإمام الصّادق(ع): "والله، لأدعنّهم والرّجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً". فالإمام الصادق(ع) تعهّد أمام أبيه ـ وتلك كانت ثقافته ورسالته ـ أن يثقّف أصحابه بالمستوى الذي يحصلون على الاكتفاء العلمي والثّقافي، بحيث يكونون معلِّمين للنّاس، ولا يحتاجون إلى أن يتعلّموا من أحد.

هذا النهج الذي رسمه أهل البيت(ع) للعلماء كافّة، وهو أن لا يعتزلوا النّاس، ولا يحاولوا أن يتلمّسوا لأنفسهم الأعذار في ترك الدّعوة إلى الله وتثقيف النّاس، والابتعاد عن الاستماع إلى أسئلتهم وما يحتاجونه من العلم، وأن يبادروا إلى تعليم النّاس قبل أن يسألوهم، وأن يجيبوهم عما يسألونه مهما كان السؤال محرجاً، حادّاً كان أو صعباً، لأنّ الإمام الصادق(ع) قال: "قرأت في كتاب عليّ(ع)، أنّ الله لم يأخذ على الجهّال عهداً بطلب العلم، حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال، لأنّ العلم كان قبل الجهل".

ويتابع العلامة المرجع السيّد فضل الله الكلام حول الإمام الصّادق(ع)، مبيّناً كيف شكّل مدرسةً امتدّت تأثيراتها في كلّ مواقع الإسلام وعند كلّ المسلمين:
"وهكذا رأينا أنّ الإسلام يريد من كل مسلم أن يفرّغ نفسه في كلّ جمعة لأمر دينه، لأنّه يريد من المسلمين كافة أن يملكوا ثقافة دينهم، وأن لا يكون الدّين عندهم مجرد شعائر عبادية يمارسونها في أوقاتها المعلومة، بل أن يملك الإنسان المسلم، ولو بشكل تدريجي، ثقافة الإسلام، بحيث يستطيع أن يعيش في حياته ومع عائلته على أساس ثقافة الإسلام وأخلاقيّته وفقهه وعقيدته، كما أنّه يستطيع أن يتحوّل إلى داعية إلى الإسلام في كلّ بلد يذهب إليه، وفي كلّ مجتمع يعيش فيه. وفيما رواه الإمام الصادق(ع) قال: "قال رسول الله(ص): "أفٍّ لرجلٍ لا يفرّغ نفسه في كلّ جمعة لأمر دينه، فيتعاهده ويسأل عن دينه". ونفهم من هذه الكلمة، أن النبيّ(ص)، لم يرد من الناس أن يتبعوا الدّين فحسب، بل أن يتثقّفوا به، فكما يفرّغون أنفسهم للعمل ـ وتلك مسؤوليتهم ـ فإنّ عليهم أن يربّوا أنفسهم تربية إسلامية، فيكون عقلهم عقلاً إسلامياً، ونهجهم نهجاً إسلامياً، هكذا كان الإمام الصادق(ع) يتحرك في كل مجالات الواقع.

وينقل أنه كان(ع) موضع احترام كل الناس، ممن يقولون بإمامته وممن لا يقولون بها. ويروى عن إمام المذهب المالكي، وهو "مالك بن أنس"، أنه قال: "جعفر بن محمد اختلفت إليه زماناً ـ تردّدت عليه ـ فما كنت أراه إلا على إحدى ثلاث خصال: إما مصلّ، وإما صائم، وإما يقرأ القرآن، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وورعاً". وقد تتلمذ عليه إمام المذهب الحنفي "أبو حنيفة" مدّة سنتين، وكان يُنقل عنه ـ بحسب روايات أهل السنّة ـ أنه قال: "لولا السّنتان، لهلك النعمان".

وينقل عن "أبي حنيفة"، أنّ الخليفة العباسي، أبا جعفر المنصور، قال له: لقد فُتن النّاس بجعفر بن محمد وأقبلوا عليه، وأصبح له شأن كبير عندهم، وأريدك أن تحضِّر له من مسائلك ما تستطيع أن تتغلّب فيها عليه. فيقول أبو حنيفة: "فحضّرت له أربعين مسألة من كبار المسائل، ودخلت على أبي جعفر المنصور، وجعفر بن محمد جالس إلى جانبه، فأخذتني هيبة الإمام الصّادق أكثر مما أخذتني هيبة الخليفة، فقال لي المنصور: ألقِ على أبي عبد الله ـ وهي كنية الإمام الصّادق ـ مسائلك، فبدأت ألقي عليه مسائلي، فكان ـ الإمام ـ يقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا. فربما التقى معنا وربما اختلف عنّا جميعاً، إلى أن انتهت كلّ مسائلي ـ في هذا الجواب التفصيلي الذي لا يقتصر على بيان الرأي، وإنما يحيط بكل الآراء ـ ثم قال أبو حنيفة: ألسنا قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟".

ورأينا أنّ الإمام الصّادق(ع) إنسان الحوار، الذي لا يتعقّد من أيّ مسألة، ويشجّع الناس أن يلقوا إليه مسائلهم حتى لو كانت ضدّ الإسلام، وكيف كان(ع) يجلس في المسجد الحرام والنّاس يطوفون بالبيت، وهو يستقبل جماعة من الزّنادقة الذين لا يؤمنون بالله ولا بالإسلام، ويذكر منهم ابن أبي العوجاء وغيره، فكان يفتح صدره لهم، وكانوا يتحدّثون بكلّ جرأة، حتى إن ابن أبي العوجاء قال له: "إلى متى تدوسون هذا البيدر؟"، وهو يشير إلى الطواف حول الكعبة، وأجابه الإمام الصّادق(ع) بكلّ هدوء ورحابة صدر حتى أسكته، وكان قد جاء إلى الإمام ليتحدّاه، فعندما رجع إلى أصحابه، قالوا له: لقد فضحتنا، فأجابهم: أتعرفون إلى من بعثتموني؛ إنّه ابن من حلق رؤوس كلّ هؤلاء الناس. ثم قال: ما هذا ببشر، وإن كان في الدّنيا روحاني يتجسّد إذا شاء، ويتروّح إذا شاء، فهو هذا (وأشار إلى الإمام الصادق(ع).

وهكذا رأينا كيف امتدّت مدرسة الإمام الصادق(ع) في كل مواقع الإسلام، حتى عدّ الناس ممن تتلمذ على يديه وتثقّف عليه وروى عنه، أربعة آلاف شخص. وفي رواية، أنّ أحد الأشخاص دخل مسجد الكوفة، ووجد تسعمائة شيخ ـ وهم الأساتذة ـ وكلّ واحد منهم يقول: حدّثني جعفر بن محمد.
لقد كان الإمام الصّادق(ع) إمام الوحدة الإسلاميّة، فكان يريد للشّيعة أن ينفتحوا على المذاهب الأخرى ولا ينعزلوا عنهم، وكان(ع) يقول: "ما أيسر ما رضي به النّاس عنكم، كفّوا ألسنتكم عنهم"، لأنّ الاختلاف لا يُعالج بالسبّ واللّعن والتّشهير، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالّتي هي أحسن، لأنك من خلال السبّ واللّعن، تزيد خصمك حقداً على حقد، أمّا إذا حاورته وتكلّمت معه بالّتي هي أحسن، فإنك تليّن قلبه، وتدخل بالتّالي إلى عقله، ودور المسلم أن يدعو إلى الإسلام على الصّورة التي وصف الله تعالى بها نبيّه(ص): {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك}".

ويستعرض سماحته لأمثلة من الرّوايات حول تعاليم الإمام الصّادق(ع)، والتي هي تعاليم الإسلام :
"وفي رواية، أن شخصاً جاء إلى الإمام الصّادق(ع) وقال له: كيف نصنع مع عشائرنا وخلطائنا من الناس؟ فقال(ع): "صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرّجل: هذا جعفريّ، فيسرّني ذلك، وإذا كان على غير ذلك، دخل عليّ بلاؤه وعاره". "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا". وقد كان(ع) ينفتح على السنّة كما ينفتح على الشّيعة، وينفتح على أهل الأديان الأخرى كما ينفتح على المسلمين.

ولذلك، فإنّ الإمام الصّادق(ع) يشكّل النموذج الأكمل للإنسان الذي يمثّل القيادة والإمامة الإسلامية التي ترتفع بالنّاس إلى أعلى مستوى، والتي تشير إلى النّاس أن يتقدموا ويأخذوا بأسباب العلم، وينفتحوا على العقل كلّه، ويتحركوا من أجل أن يكون المسلم هو الإنسان الذي يعطي العالم ـ من موقع الخطّ الإسلامي المستقيم ـ عقلاً من عقله، وعلماً من علمه، ومحبّةً من قلبه، وخلقاً من أخلاقه، ليكون إنسان الحياة والنّموذج الأكمل للإنسانيّة.
هذه هي رسالة أهل البيت(ع)، رسالة الإسلام، التي تريدنا أن نرتفع حيث يرتفع الإسلام بأهله، وأن نتحرّك، عندما يريدنا الإسلام أن نتحرّك في خطّ الدعوة إلى الله والخير والعدل والحقّ، تلك هي رسالتهم(ع)، وعلينا أن نرتفع معهم وبهم ونتعلّم علومهم، فهذا ما جاء في أحاديثهم: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"، قيل: وكيف ذلك ـ هل نضرب رؤوسنا بالسيوف وظهورنا بالسّلاسل؟!! ـ فيجيبون: بأن تعلّموا النّاس علومنا، وتنقلوا إليهم أحاديثنا، ليحبّونا من خلال ذلك، إحياء أمرنا هو إحياء علومنا وثقافتنا، وروحانيّتنا وأخلاقنا، وأن تكونوا صورة عنا أهل البيت (ع)".

وختم سماحته بالدّعوة إلى استلهام أخلاق أهل البيت(ع) والاهتداء بهديهم:
"لقد كان رسول الله(ص) القمّة في كلّ شيء، وعليكم أن تقتربوا من هذه القمة، وعليّ(ع) كان القمَّة، وكان يريد للناس أن يحملوا علمه ويتعلَّموا من خبرته، وعلينا أن نقترب من هذه القمَّة في علمه وروحانيَّته وأخلاقه، وقد كان الأئمّة من أهل البيت(ع) هم أئمّة الهدى والخير والحقّ، وكانوا القيادة العظيمة الرّشيدة للنّاس، فلنكن في هذا الاتجاه:
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم       إنَّ التشبّه بالكرام فلاح"
بالعودة إلى أرشيف سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، نستحضر المواقف والمواعظ الّتي ألقاها في الخطبة الأولى لخطبة الجمعة، وذلك من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 25 شوّال العام 1424ه/ الموافق 19/12/2003م، بحضور حشدٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وجمع غفير من المؤمنين، حيث تحدَّث عن الإمام الصّادق(ع)، وما قدّمه للمسيرة الإسلاميّة وللمسلمين جميعاً:

"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}. في هذا اليوم ـ الخامس والعشرين من شهر شوّال ـ نلتقي بذكرى وفاة الإمام جعفر الصّادق(ع)، الذي ملأ الدنيا علماً وحركة وفكراً وتقوى وورعاً، بحيث أغنى العالم الإسلامي بكلّ علمه في المدى الذي فُتح له، وفي مساحة الحرية التي استطاع أن يستفيد منها في فترة الصّراع بين الأمويين والعباسيين، هذه الفترة التي شُغل فيها الطرفان عن التضييق على أئمّة أهل البيت(ع)، كما كان يفعل أسلافهم، وكما فعل أبناؤهم.

انطلق الإمام الصادق(ع) في إغناء الثقافة الإسلامية، بالمستوى الّذي انفتح فيه على كلّ الناس. وقد روى(ع)، أنّ أباه الإمام الباقر(ع)، عندما دنت منه الوفاة، قال له: "يا بنيّ، أوصيك بأصحابي خيراً"، فكان جواب الإمام الصّادق(ع): "والله، لأدعنّهم والرّجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً". فالإمام الصادق(ع) تعهّد أمام أبيه ـ وتلك كانت ثقافته ورسالته ـ أن يثقّف أصحابه بالمستوى الذي يحصلون على الاكتفاء العلمي والثّقافي، بحيث يكونون معلِّمين للنّاس، ولا يحتاجون إلى أن يتعلّموا من أحد.

هذا النهج الذي رسمه أهل البيت(ع) للعلماء كافّة، وهو أن لا يعتزلوا النّاس، ولا يحاولوا أن يتلمّسوا لأنفسهم الأعذار في ترك الدّعوة إلى الله وتثقيف النّاس، والابتعاد عن الاستماع إلى أسئلتهم وما يحتاجونه من العلم، وأن يبادروا إلى تعليم النّاس قبل أن يسألوهم، وأن يجيبوهم عما يسألونه مهما كان السؤال محرجاً، حادّاً كان أو صعباً، لأنّ الإمام الصادق(ع) قال: "قرأت في كتاب عليّ(ع)، أنّ الله لم يأخذ على الجهّال عهداً بطلب العلم، حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال، لأنّ العلم كان قبل الجهل".

ويتابع العلامة المرجع السيّد فضل الله الكلام حول الإمام الصّادق(ع)، مبيّناً كيف شكّل مدرسةً امتدّت تأثيراتها في كلّ مواقع الإسلام وعند كلّ المسلمين:
"وهكذا رأينا أنّ الإسلام يريد من كل مسلم أن يفرّغ نفسه في كلّ جمعة لأمر دينه، لأنّه يريد من المسلمين كافة أن يملكوا ثقافة دينهم، وأن لا يكون الدّين عندهم مجرد شعائر عبادية يمارسونها في أوقاتها المعلومة، بل أن يملك الإنسان المسلم، ولو بشكل تدريجي، ثقافة الإسلام، بحيث يستطيع أن يعيش في حياته ومع عائلته على أساس ثقافة الإسلام وأخلاقيّته وفقهه وعقيدته، كما أنّه يستطيع أن يتحوّل إلى داعية إلى الإسلام في كلّ بلد يذهب إليه، وفي كلّ مجتمع يعيش فيه. وفيما رواه الإمام الصادق(ع) قال: "قال رسول الله(ص): "أفٍّ لرجلٍ لا يفرّغ نفسه في كلّ جمعة لأمر دينه، فيتعاهده ويسأل عن دينه". ونفهم من هذه الكلمة، أن النبيّ(ص)، لم يرد من الناس أن يتبعوا الدّين فحسب، بل أن يتثقّفوا به، فكما يفرّغون أنفسهم للعمل ـ وتلك مسؤوليتهم ـ فإنّ عليهم أن يربّوا أنفسهم تربية إسلامية، فيكون عقلهم عقلاً إسلامياً، ونهجهم نهجاً إسلامياً، هكذا كان الإمام الصادق(ع) يتحرك في كل مجالات الواقع.

وينقل أنه كان(ع) موضع احترام كل الناس، ممن يقولون بإمامته وممن لا يقولون بها. ويروى عن إمام المذهب المالكي، وهو "مالك بن أنس"، أنه قال: "جعفر بن محمد اختلفت إليه زماناً ـ تردّدت عليه ـ فما كنت أراه إلا على إحدى ثلاث خصال: إما مصلّ، وإما صائم، وإما يقرأ القرآن، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وورعاً". وقد تتلمذ عليه إمام المذهب الحنفي "أبو حنيفة" مدّة سنتين، وكان يُنقل عنه ـ بحسب روايات أهل السنّة ـ أنه قال: "لولا السّنتان، لهلك النعمان".

وينقل عن "أبي حنيفة"، أنّ الخليفة العباسي، أبا جعفر المنصور، قال له: لقد فُتن النّاس بجعفر بن محمد وأقبلوا عليه، وأصبح له شأن كبير عندهم، وأريدك أن تحضِّر له من مسائلك ما تستطيع أن تتغلّب فيها عليه. فيقول أبو حنيفة: "فحضّرت له أربعين مسألة من كبار المسائل، ودخلت على أبي جعفر المنصور، وجعفر بن محمد جالس إلى جانبه، فأخذتني هيبة الإمام الصّادق أكثر مما أخذتني هيبة الخليفة، فقال لي المنصور: ألقِ على أبي عبد الله ـ وهي كنية الإمام الصّادق ـ مسائلك، فبدأت ألقي عليه مسائلي، فكان ـ الإمام ـ يقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا. فربما التقى معنا وربما اختلف عنّا جميعاً، إلى أن انتهت كلّ مسائلي ـ في هذا الجواب التفصيلي الذي لا يقتصر على بيان الرأي، وإنما يحيط بكل الآراء ـ ثم قال أبو حنيفة: ألسنا قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟".

ورأينا أنّ الإمام الصّادق(ع) إنسان الحوار، الذي لا يتعقّد من أيّ مسألة، ويشجّع الناس أن يلقوا إليه مسائلهم حتى لو كانت ضدّ الإسلام، وكيف كان(ع) يجلس في المسجد الحرام والنّاس يطوفون بالبيت، وهو يستقبل جماعة من الزّنادقة الذين لا يؤمنون بالله ولا بالإسلام، ويذكر منهم ابن أبي العوجاء وغيره، فكان يفتح صدره لهم، وكانوا يتحدّثون بكلّ جرأة، حتى إن ابن أبي العوجاء قال له: "إلى متى تدوسون هذا البيدر؟"، وهو يشير إلى الطواف حول الكعبة، وأجابه الإمام الصّادق(ع) بكلّ هدوء ورحابة صدر حتى أسكته، وكان قد جاء إلى الإمام ليتحدّاه، فعندما رجع إلى أصحابه، قالوا له: لقد فضحتنا، فأجابهم: أتعرفون إلى من بعثتموني؛ إنّه ابن من حلق رؤوس كلّ هؤلاء الناس. ثم قال: ما هذا ببشر، وإن كان في الدّنيا روحاني يتجسّد إذا شاء، ويتروّح إذا شاء، فهو هذا (وأشار إلى الإمام الصادق(ع).

وهكذا رأينا كيف امتدّت مدرسة الإمام الصادق(ع) في كل مواقع الإسلام، حتى عدّ الناس ممن تتلمذ على يديه وتثقّف عليه وروى عنه، أربعة آلاف شخص. وفي رواية، أنّ أحد الأشخاص دخل مسجد الكوفة، ووجد تسعمائة شيخ ـ وهم الأساتذة ـ وكلّ واحد منهم يقول: حدّثني جعفر بن محمد.
لقد كان الإمام الصّادق(ع) إمام الوحدة الإسلاميّة، فكان يريد للشّيعة أن ينفتحوا على المذاهب الأخرى ولا ينعزلوا عنهم، وكان(ع) يقول: "ما أيسر ما رضي به النّاس عنكم، كفّوا ألسنتكم عنهم"، لأنّ الاختلاف لا يُعالج بالسبّ واللّعن والتّشهير، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالّتي هي أحسن، لأنك من خلال السبّ واللّعن، تزيد خصمك حقداً على حقد، أمّا إذا حاورته وتكلّمت معه بالّتي هي أحسن، فإنك تليّن قلبه، وتدخل بالتّالي إلى عقله، ودور المسلم أن يدعو إلى الإسلام على الصّورة التي وصف الله تعالى بها نبيّه(ص): {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك}".

ويستعرض سماحته لأمثلة من الرّوايات حول تعاليم الإمام الصّادق(ع)، والتي هي تعاليم الإسلام :
"وفي رواية، أن شخصاً جاء إلى الإمام الصّادق(ع) وقال له: كيف نصنع مع عشائرنا وخلطائنا من الناس؟ فقال(ع): "صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرّجل: هذا جعفريّ، فيسرّني ذلك، وإذا كان على غير ذلك، دخل عليّ بلاؤه وعاره". "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا". وقد كان(ع) ينفتح على السنّة كما ينفتح على الشّيعة، وينفتح على أهل الأديان الأخرى كما ينفتح على المسلمين.

ولذلك، فإنّ الإمام الصّادق(ع) يشكّل النموذج الأكمل للإنسان الذي يمثّل القيادة والإمامة الإسلامية التي ترتفع بالنّاس إلى أعلى مستوى، والتي تشير إلى النّاس أن يتقدموا ويأخذوا بأسباب العلم، وينفتحوا على العقل كلّه، ويتحركوا من أجل أن يكون المسلم هو الإنسان الذي يعطي العالم ـ من موقع الخطّ الإسلامي المستقيم ـ عقلاً من عقله، وعلماً من علمه، ومحبّةً من قلبه، وخلقاً من أخلاقه، ليكون إنسان الحياة والنّموذج الأكمل للإنسانيّة.
هذه هي رسالة أهل البيت(ع)، رسالة الإسلام، التي تريدنا أن نرتفع حيث يرتفع الإسلام بأهله، وأن نتحرّك، عندما يريدنا الإسلام أن نتحرّك في خطّ الدعوة إلى الله والخير والعدل والحقّ، تلك هي رسالتهم(ع)، وعلينا أن نرتفع معهم وبهم ونتعلّم علومهم، فهذا ما جاء في أحاديثهم: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"، قيل: وكيف ذلك ـ هل نضرب رؤوسنا بالسيوف وظهورنا بالسّلاسل؟!! ـ فيجيبون: بأن تعلّموا النّاس علومنا، وتنقلوا إليهم أحاديثنا، ليحبّونا من خلال ذلك، إحياء أمرنا هو إحياء علومنا وثقافتنا، وروحانيّتنا وأخلاقنا، وأن تكونوا صورة عنا أهل البيت (ع)".

وختم سماحته بالدّعوة إلى استلهام أخلاق أهل البيت(ع) والاهتداء بهديهم:
"لقد كان رسول الله(ص) القمّة في كلّ شيء، وعليكم أن تقتربوا من هذه القمة، وعليّ(ع) كان القمَّة، وكان يريد للناس أن يحملوا علمه ويتعلَّموا من خبرته، وعلينا أن نقترب من هذه القمَّة في علمه وروحانيَّته وأخلاقه، وقد كان الأئمّة من أهل البيت(ع) هم أئمّة الهدى والخير والحقّ، وكانوا القيادة العظيمة الرّشيدة للنّاس، فلنكن في هذا الاتجاه:
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم       إنَّ التشبّه بالكرام فلاح"
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية