بالعودة إلى الذاكرة، وتحديداً إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض)، نستحضر بعض المواقف والمواعظ الّتي كان يلقيها، ومنها ما ألقاه في الخطبة الدّينيّة لصلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 23 رمضان العام 1428ه/ الموافق 5/10/2007م، والّتي تحدّث فيها عن وصايا أمير المؤمنين(ع) لولده الحسن(ع) عن أهمية إصلاح ذات البين عند الله تعالى ومخاطر البغضة، وما يمكن أن تؤدّي إليه من أذى للواقع:
"جاء في وصية أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع)، لولده الحسن(ع) يقول: "أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي من المؤمنين، بتقوى الله ربّكم، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصّلاة والصّيام، وإنَّ البُغضة حالقة الدّين وفساد ذات البين، ولا قوّة إلا بالله".
في هذه الوصيّة، يؤكِّد الإمام(ع) مسألة حيوية، وربما مصيرية في المجتمع الإسلامي والأمّة الإسلامية، فمن الطبيعي أن يختلف الناس فيما بينهم، إمّا من خلال اختلاف وجهات النظر في الاجتهادات الفقهية، أو من خلال العلاقات الاجتماعية، سواء كانت علاقات تتصل بالتعقيدات التي قد تحصل في داخل العائلة الواحدة أو العشيرة الواحدة أو الحزب الواحد أو الطائفة الواحدة، أو تحصل بين شخصين، بين زوج وزوجته أو بين أخ وأخيه في بعض القضايا النفسية أو المالية أو الاقتصادية والإرثية.
والإمام(ع) في وصيَّته، يؤكّد ضرورة أن يتحمَّل المجتمع كلُّه مسؤوليَّة القيام بمهمَّة الإصلاح بين المختلفين بكلِّ الوسائل الإنسانية الممكنة، لأن الخلافات بين الناس قد تقود إلى نتائج سلبية مدمِّرة للمجتمع، فالخلافات بين الزوجين قد تؤدِّي إلى الطّلاق، أو إلى سقوط الأسرة وضياع الأولاد، إضافةً إلى الانعكاسات السلبيّة على كلٍّ من الزوج والزوجة معاً، والاختلافات داخل الأسرة الواحدة بين الأب وأولاده، أو بين الأمّ وأولادها، ربما تؤدّي إلى أن يهجر الأب أولاده، أو يهجر الأبناء آباءهم، أو أن يتعاطوا مع أهلهم بالقسوة، وهذا ما حرَّمه الله في العلاقة مع الأهل. وقد رأينا الكثير من الآباء يهجرون أسرهم، ولا يتحمَّلون مسؤوليتهم.
وهكذا عندما تحصل خلافات في المسألة الاقتصادية بين الناس الذين يشرفون على القضايا الاقتصادية في المجتمع، سواء كانت قضايا شخصيّةً، أو قضايا تتصل باقتصاد البلد كلّه. وأيضاً عندما تمتدٌّ القضيّة إلى الواقع السياسي، فإنّ الاختلافات بين حزب وحزب، أو بين طائفة وطائفة، قد تؤدِّي إلى التنازع والتحاقد، وقد تنتهي إلى الحرب، كما لاحظنا ذلك، فيما واجهناه من حرب داخلية بين أبناء الطائفة الواحدة، أو بين الطوائف المتعدّدة في البلد. وهذا ما نواجهه الآن في العراق بين السنَّة والشّيعة وما إلى ذلك، مما يراد من إثارة الفتن بين المسلمين، من خلال بعض الزعامات الطائفيّة التي تريد أن تؤكِّد زعامتها والتفاف الناس من طائفتها عليها، فتعمل على خلق خلافات مذهبيّة بين المسلمين، لإيجاد فتنة سنيّة ـ شيعيّة، أو فتنة سنيّة ـ سنيّة، أو شيعيّة ـ شيعيّة، ما قد يؤدِّي إلى بعض النتائج التي يستغلُّها غير المسلمين ممن يحاولون أن يحرّكوا سياستهم في الفتنة بين المسلمين، ليعملوا على أساس أن يحاربوا حتى آخر مسلم، لتبقى لهم زعامتهم...
وهكذا قد تصل القضية في الواقع الإسلامي إلى مستوى الخلافات بين دولة إسلامية ودولة إسلامية أخرى، وذلك عندما تحدث مشاكل بين القائمين على هذه الدولة وتلك الدولة، وتتعقّد الأمور إلى أن تصل إلى حدّ المقاطعة بينهما، وبذلك تسقط مصالح المواطنين جميعاً ـ من المسلمين ومن غير المسلمين ـ في هذه الدولة أو تلك الدولة".
ويشير سماحته إلى المفاسد التي تنتج من الاختلافات، وما يستفيده أعداء الأمّة منها لتكريس تدخّلهم ونفوذهم، لافتاً إلى خطورة نشر البغضة على المجتمع والدّين:
"وهكذا نفهم ما نقله أمير المؤمنين(ع) عن رسول الله(ص)، أنّ "صلاح ذات البين أفضل من عامَّة الصلاة والصيام"، باعتبار أنّ قضيَّة الصلاة هي مسألة تتَّصل بالشخص المكلَّف بالصلاة، وكذلك قضيّة الصوم، ولكن الفتنة التي تحصل بين المسلمين، قد تؤدِّي إلى نتائج سلبية على المجتمع كلّه وعلى الأمَّة كلّها. ومن هنا، فإنّ المفسدة التي تترتَّب على الاختلافات الحادَّة بين المسلمين، أكثر من المفسدة التي تحدث نتيجة عدم التزام بعض المسلمين بالصَّلاة والصيام.
ونحن نعرف أنّ الخلافات الموجودة الآن بين المسلمين، سواء على المستوى المذهبي بين السنة والشيعة، أو على المستوى العرقي بين العرب والفرس، وبين الأكراد والعرب، مكَّنت الدّول الاستكبارية ـ وفي مقدّمها أمريكا ـ من السيطرة على الواقع الإسلامي كلّه، فعندما نقارن بين عدد الأمريكيين وعدد المسلمين، نجد أن عدد الأمريكيّين لا يزيد عن مائتي مليون شخص، بينما عدد المسلمين يصل إلى المليار ونصف المليار من النّاس، ومع ذلك، نجد أن الأمريكيين يسيطرون على كلِّ مقدّرات العالم الإسلامي؛ فهم يسيطرون على المواقع الاستراتيجية، والثروات الاقتصادية، والالتزامات السياسية، لأنّهم ينطلقون من موقف موحَّد في مواقعهم السياسية ومصالحهم الاقتصادية، بينما يعيش المسلمون في ظلِّ الخلافات الطائفية والمذهبية والعرقية.
وقد عبّر النبيُّ(ص)، فيما رواه الإمام(ع)، عن البغضة التي تنشأ نتيجة الخلافات بين الذين يختلفون فيما بينهم من المسلمين، على مستوى المجتمعات الخاصة أو العامة، عبَّر عنها بأنها "حالقة الدين"، لأنّها تحلق دين الإنسان، كما يحلق الموسى شعر الإنسان، لأنَّ الإنسان عندما يدخل في خلاف مع الآخر، فإنه يستحلُّ منه كلّ محرَّم، فيسبُّه ويشتمه، ويعطّل عليه مصالحه، ويوقعه في الضّرر، ونحن نسمع بعض النَّاس عندما كانوا يختلفون مع بعضهم البعض يقولون: سقطت كلُّ المحرَّمات، أي أنَّ المحرَّمات تصبح جائزةً ما دام أنَّ الخلاف استحكم بيننا وبين الفريق الآخر، فنقتل ونجرح وندمِّر... كلُّ هذه الأمور تؤدي إلى نتائج سلبية، وأوّلها أنّها تحلق للإنسان دينه، فبعض الناس ممّن يصلّون ويصومون ويحجّون، نراهم يستحلّون دم الآخر عندما يختلفون معه، فيقتل المسلم المسلم، ويقتل الشّيعي الشّيعي، ويستحلّون أن يدمّروا بيوت النّاس، وأن يقفوا ضدّ مصالحهم، سواء على مستوى الواقع الاجتماعي أو على مستوى الواقع الدولي".
ويؤكّد سماحته إصلاح ذات البين كفرض حيويّ، وما يمثله من درجة عند الله تعكس روح الإيمان والارتباط الفعلي بالله تعالى:
"ولأنّ إصلاح ذات البين يمثّل أمراً حيوياً ضرورياً، فقد أكَّده الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بقوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً ـ الذي يصلح ذات البين، ويقوم بالشفاعة في محاولة تقريب وجهات النظر بين المختلفين ـ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً ـ من يثيره الخلافات والفتن بين الناس ـ يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}(النساء/85). وفي آية أخرى يقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ـ أي تحمَّلوا مسؤوليّة إصلاح ذات البين ـ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(الأنفال/1) ـ فإن إصلاح ذات البين يمثّل طاعةً لله ولرسوله. وفي آية أخرى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات/10)، فإذا كانت العلاقة بين المؤمنين قائمةً على أساس الأخوّة الإيمانيّة التي ربطها الله برباط وثيق، وهو رباط الإيمان، فإنّ مسؤوليّة هذه الأخوَّة الإيمانية، تقتضي أنّه إذا اختلف المؤمن مع أخيه المؤمن، أو اختلف المؤمنون فيما بينهم، فإنّ على المسلمين أن يستنفروا كلَّ جهودهم في سبيل إصلاح ذات البين، فإنَّ ذلك يمثّل خطَّ التقوى، والوسيلة التي يحصلون من خلالها على رحمة الله سبحانه.
وقد ورد في آيةٍ أخرى، في بيان الكلام الأفضل الذي يمكن للمؤمن أن يتكلّم به: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ـ لا خير في كثير من أحاديثهم، سواء كانت في السرّ أو في العلن ـ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ـ من أجل إعانة الفقراء والمساكين ـ أَوْ مَعْرُوفٍ ـ أو دعا إلى طاعة الله ـ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ـ فهذا يمثِّل الخير كلّه. ثم يبيّن الله الجائزة على ذلك: فإذا كنت تأمر بصدقة، أي تثير الناس ليتصدَّقوا على الأيتام والفقراء والمساكين، أو تأمر بالمعروف، أو تصلح بين الناس ـ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ ـ لا لغاية شخصية ـ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(النساء/114)، وعندما يعد الله سبحانه الإنسان المؤمن على عمله بالأجر العظيم، فإنّ معنى ذلك أنَّ الأجر سيكون مضاعفاً، وسيرفع درجة الإنسان عنده سبحانه وتعالى.
وقد ورد في الحديث أيضاً، عن رسول الله(ص): "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصّلاة والصّدقة؟ إصلاح ذات البين، فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة"، فبقاء الخلافات تحلق للإنسان دينه، وتبعده عنه وقد تخرجه منه. وورد في حديث رسول الله(ص) لبعض أصحابه: "يا أبا أيوب، ألا أُخبرك وأدلّك على صدقة يحبُّها الله ورسوله؟ تصلح بين النَّاس؟ ـ فعبَّر عن الإصلاح بالصدقة؛ صدقة اقتصادية واجتماعية وسياسية ـ إذا تفاسدوا ـ إذا فسدت العلاقات بينهم ـ وتباعدوا".
وفي المجال نفسه، يقول الإمام الصَّادق(ع): "صدقة يحبّها الله: إصلاحٌ بين النَّاس إذا تفاسدوا، وتقاربٌ بينهم إذا تباعدوا"، ومن المعروف في سيرة الإمام الصادق(ع)، أنّه كان يضع مالاً عند بعض أصحابه، وهو المفضَّل، ويقول له: "إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة ـ إذا حدث هناك أيّ خلاف بين شخصين من أتباع مدرسة أهل البيت، وتوقَّف الإصلاح على بذل المال ـ فافتدها من مالي". ويقول الإمام عليّ(ع): "ثابروا على صلاح المؤمنين والمتّقين"، ويقول أيضاً: "من كمال السّعادة، السَّعي في صلاح الجمهور".
ويقول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ}(البقرة/224)، وقد ورد أيضاً عن الصّادق(ع) في معرض تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً...}، قوله: "إذا دعيت لصلح بين اثنين، فلا تقل: عليَّ يمين ألّا أفعل".
وختم بالدّعوة إلى تعزيز إصلاح ذات البين وتثبيته في واقعنا، عملاً بوصيّة الله ورسوله، وعملاً بوصايا أمير المؤمنين(ع):
"وهنا لا بدّ من الإشارة إلى نقطةٍ مهمةٍ في مورد بيان أهميَّة الصلح بين الناس، وهي أنّ الله أحلَّ الكذب في مقام الصّلح. وقد ورد عن الإمام الصّادق(ع): "إنّ المصلح ليس بكذَّاب"، وأيضاً عنه: "الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، وإصلاح بين النّاس... تسمع من الرّجل كلاماً يبلغه فتخبث نفسه، فتلقاه فتقول: سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا، خلاف ما سمعت منه"، فأنت في هذا الموقف تؤجر على كذبتك هذه، فالكذب قد يكون في بعض المواقف واجباً وليس حلالاً فقط.
أيُّها الأحبّة، إنَّ الخلافات في مجتمعاتنا الإسلاميّة، سواء على مستوى الأمّة، أو على مستوى البلد أو الأوضاع الشخصيّة، تنخر في جسم الأمَّة، وتؤدّي إلى كثير من النتائج السيّئة التي تضعف قوّتها. لذلك، فإنَّ علينا أن ننطلق من وصيّة الله ورسوله، ومن وصيَّة أمير المؤمنين علي(ع) وهو في طريقه إلى لقاء ربِّه، بأن نعمل ـ كلٌّ بحسب قدرته وبحسب طاقته ـ لإصلاح ذات البين".