المرجع فضل الله: في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين(ع).. لنكن السّائرين على نهجه

المرجع فضل الله: في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين(ع).. لنكن السّائرين على نهجه

بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة، نستحضر بعض المواقف والمواعظ التي يلقيها سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، حيث تحدّث في الخطبة الدّينيّة لصلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 19 رمضان العام 1424ه/ الموافق 14/11/2003م، عن محطات حياة علي(ع) مع رسول الله:

"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، {إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}. ذلك هو عليّ(ع)، هذا الإنسان الذي شرى نفسه وباعها لله، فكان كله لله؛ كان عقله عقل الإنسان الذي ينفتح على الله من خلال انفتاحه على الحق، وكان قلبه هو القلب الذي يتسع للناس جميعاً بعدما اتسع لله سبحانه، وكانت طاقاته هي للحق كله. كان سرّ عليّ أنه لم يفكر في نفسه، وإنما فكر في الله، ولذلك، فقد كان عندما يتحدث مع الناس عن الفرق بينه وبينهم يقول: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".

كان عليّ(ع) صورةً عن رسول الله(ص)، احتضنه الرسول منذ طفولته الأولى، وأعطاه من نوره نوراً، فكان من رسول الله كالضوء من الضوء، وأعطاه من شخصيته شخصية، فكان كالصنو من الصنو، كان عقله من عقل رسول الله، لأن النبي احتضن عقله منذ طفولته الأولى، وهو يلقي إليه في كل يوم عقلاً من عقله، وروحاً من روحه.

كان علي(ع) الذي عاش مع رسول الله يتحدث إلى الناس في خلافته، والناس آنذاك مختلفون عليه، كان يقول لهم: "أيتها النفوس المختلفة ـ التي لم تتوحَّد عند القاعدة التي تربطهم بالله وتنفتح بهم على الحقّ ـ والقلوب المتشتّتة ـ فكل قلب يتجه اتجاهاً مختلفاً، فلا وحدة ولا تآلف بين القلوب ـ الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم على الحقّ ـ أدعوكم إلى الحق ـ وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد ـ فعندما ينطلق الحق لتعيشوا في ظله وتسيروا في خطه، فإنّكم تنفرون منه، لأن الحق مرٌّ وكريه الطعم ـ هيهات أن أُطلع بكم سرار العدل ـ أنتم لستم المجتمع الذي أستطيع أن أحقق العدل من خلاله ـ أو أقيم اعوجاج الحق!". وتلك كانت مأساة عليّ(ع)، التي تتمثل في أنه كان يريد أن يرفع الأمة التي عاشت معه إلى القمة، ولكنها كانت تنحدر إلى الحضيض، لا تستمع إليه ولا تتعلّم منه...".

ويعرض سماحته لمنطلقات علي في الحكم والخلافة، انسجاماً مع دوره الرسالي البعيد عن الشخصانية، والذي يؤكد ورعه وجهاده وكونه داعية لله قبل كلّ حساب :

"ثم يتحدث عليّ (ع) عن دوره في خطِّ الحكم والخلافة، لماذا قبل بها؛ هل هو كالآخرين الذين يريدون الخلافة أو الإمارة من أجل إرضاء العنفوان الذّاتي أو الحصول على مكتسبات؟ كان عليّ(ع) رسالياً، كان كل شيء عنده للرّسالة، وهو الذي قال لابن عباس عندما رآه يخصف نعله: "ما قيمة هذه النعل؟"، قال: "لا قيمة لها"، فقال(ع): "والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"، إنني أقبل بالإمرة، لا من ناحية ذاتية، ولكن من أجل إقامة الحق الذي أنا مسؤول عنه ومن أجل إزهاق الباطل...

وبعد أن تحدث مع الناس قال(ع): "اللهم إنك تعلم ـ توجه إلى الله ليقدّم حسابه إليه، وهذه هي سيرة الأنبياء والأولياء، أنهم عندما يتحركون في أية مسؤولية من مسؤولياتهم، فإنهم يقدمون حسابهم لله قبل أن يقدموه للأمة. وهذا درس لا بدّ لنا من أن نتعلمه أياً كانت مسؤوليّاتنا ومواقعنا، أن نقدّم حسابنا لله تعالى قبل أن نقدِّمه للناس، أن نعبِّر لله عن كلّ ما يختفي وراء هذا العمل، هل هو للحق أم للباطل، هل هو للذّات أم للرسالة. هكذا كان عليّ(ع) وهو يقدّم حسابه لله في عملية اعتراف وخشوع وخضوع له ـ أنه لم يكن الذي كان منا ـ في مسألة الخلافة ـ منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام ـ وليس هذا من أجل أن نحصل على مال أو ما يرغب الناس فيه من الحصول على المكاسب المادية ـ ولكن لنرد المعالم من دينك ـ حتى نحرك معالم الدين في المجتمع ونردها إلى الخطّ المستقيم، حتى يأخذ الناس بها فتتحرك في حياتهم ـ ونظهر الإصلاح في بلادك ـ فالمسؤولية في الخلافة إنما هي وسيلة من وسائل إظهار الإصلاح ـ فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك. اللّهمّ إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله (ص) بالصلاة"، كنت مسلماً مع إسلام رسول الله قبل أن يُبعث بالرسالة، وعشت الإسلام في نفسي قبل أن يُبعث النبي بالرسالة، فكان الإسلام الذي دعاني إليه رسول الله في عقلي وقلبي، لأنني عشته فكراً وروحاً لله تعالى.

وعندما عاش علي(ع) الإسلام، امتزجت طفولته بالإسلام وتحرك شبابه به، نذر نفسه لله على أن يكون الداعية إلى الإسلام والمجاهد في سبيل الله تعالى، ورافق النبي(ص) في بيته، وكان يقول علي(ع): "لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما"، وعندما أراد رسول الله منه أن يبيت على فراشه، سأله: "أوتسلم يا رسول الله؟"، قال (ص): "بلى"، فقال(ع): "اذهب راشداً مهديّاً".

وكان عليّ(ع) الإنسان الذي استودعه رسول الله(ص) كل أماناته التي هي للنّاس، وكلّ ودائعه، ولم يهاجر(ع) حتى أدى ودائع رسول الله وأماناته، كان الأمين على الحقّ والمال، وعلى كل ما يتصل بالإسلام والمسلمين، وكان(ع) الفارس الأول في "بدر"، فقتل نصف قتلى المشركين في المعركة، وشارك المسلمين في النصف الآخر، حتى قيل إنّ جبرائيل(ع) كان يهتف، والملائكة يحيطون بالمسلمين ليرفعوا معنوياتهم: "لا فتى إلا عليّ، لا سيف إلا ذو الفقار"، كانت فتوته فتوة الإسلام في أن يعطيه شبابه ليعيش الإسلام شباب القوة والعزة والكرامة، وكان سيفه هو سيف الإسلام، كان سيفاً لا يظلم، ولكنه سيف يقيم العدل.

وكان(ع) ينتقل من حرب إلى حرب، ولم يكن يحب الحرب لأجل الحرب، ولكنه كان يحارب من أجل أن يدفع الناس الذين يريدون أن يسقطوا الإسلام ويبعدوه عن الحياة، فكان(ع) في "أحد" و"خيبر" و"الأحزاب" و"حنين"...، السيف الذي يدافع عن الإسلام أمام رسول الله(ص). وكان عليّ(ع) الداعية الذي امتلأ عقله بكل علم رسول الله، حتى قال(ص): "أنا مدينة العلم وعلي بابها". ورأينا كيف أن رسول الله (ص) يجد أن عليّاً(ع) يمثل جيشاً بأكمله، وذلك عندما برز عليّ إلى عمرو بن عبد ود في معركة الأحزاب، ورسول الله (ص) يقول: "من لعمرٍ وأنا ضامن له على الله الجنة؟"، والمسلمون لا يجيبون خوفاً من عمرٍ، لأنه كان يمثل القوة في الواقع العربي، وكان(ع) يقول: "أنا له يا رسول الله"، ثلاث مرات، وعندما نزل(ع) إلى المبارزة، قال(ص): "ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين".

وفي معركة خيبر، قال(ص): "لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"، هذا الوسام الذي لم يتحدث به رسول الله عن أحد، يدل على أن عليّاً(ع) يجمع في قلبه حبّ الله والرسول، وأن الله والرسول يلتقيان في حبّ علي(ع)... وقال رسول الله(ص) وهو يشير إلى المسلمين بأنّ هذا الإنسان هو الحق كله، فلا يمكن أن يحيد عن الحق في كل مكان؛ في بيته وحكمه وحربه وسلمه وكل مواقفه: "عليّ مع الحق والحق مع عليّ، اللهم أدر الحق مع علي حيثما دار".

وعندما جمع رسول الله(ص) المسلمين في يوم الغدير بعد رجوعه من حجة الوداع، بعد أن نزلت الآية: {يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربِّك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من النَّاس}، وقف رسول الله(ص) ورفع يد عليّ(ع) حتى بان بياض إبطيهما للنّاس، وقال(ص): "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟، قالوا: بلى، فقال(ص): "اللّهمّ فاشهد، من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ـ من كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به من نفسه ـ اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار"....

ويضيف سماحته بأنّ علياً كان رائداً للوحدة الإسلامية، عاملاً لها بكلّ قوّة رغم التعقيدات:

"ولكنّ الأحداث تغيّرت وانحرفت عن خطّها، وبقي عليّ مخلصاً للإسلام، وصبر(ع) وفي العين قذى وفي الحلق شجى، ولكنّه قال: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصّة". كان همّ عليّ كيف يحفظ المسلمين ويمنع الفتنة والتمزّق في داخلهم، كان(ع) يرى أنَّ وحدة المسلمين ـ حتى لو اختلفوا في بعض التفاصيل ـ هي التي تحفظ للمسلمين قوّتهم وعزتهم. كان عليّ(ع) رجل الوحدة الإسلامية الذي عاون الّذين تقدّموه وأبعدوه، لأنّ القضية لم تعد مجرد قضيّة شخصيّة، ولكنها كانت قضيّة الرسالة.

وعندما انطلق بالخلاقة، زرعوا الألغام في طريقه، واضطرّوه إلى أن يواجه أكثر من حرب في الواقع الإسلامي، وكان عليّ(ع) يريد أن ينفتح على المسلمين سلماً لا حرباً، كان يريد أن يجعل الإسلام والمسلمين في الخطّ المستقيم، ولكنّهم منعوه من ذلك".

وختم سماحته بالحديث عن شهادته المباركة وفوزه برضوان الله، وما علينا فعله حقيقة كي نتأسّى به (ع)، وكي نؤكّد أصالة انتمائنا إلى مدرسته:

"وبقي صامداً، حتى إنّه في نهاية المطاف، وبعد أن حاور الذين خاصموه وأقام الحجة عليهم، حتى الخوارج الذين كفّروه، لم يحجب عنهم العطاء، بل كان يحاورهم بالحسنى، لأنه كان لا يستهدف قتل الناس، بل يستهدف هدايتهم وإرشادهم، لأن هؤلاء كان الله قد أعمى عيونهم وقلوبهم، فعبدوا الله من دون علم، لأن أفكارهم كانت مغلقة، كالكثيرين ممن نعايشهم، الذين يعيشون العصبية لأفكارهم، فلم ينفتحوا على حوار أو مناقشة، بل أكثر من ذلك، دفعهم تعصبهم إلى التخطيط لاغتيال عليّ(ع) وهو في المسجد، وجاء اللّعين ابن ملجم، فكمن له واغتاله، وكانت كلمة عليّ(ع) كلمة الحقّ والفرح، السيف يفلق رأسه وهو يقول: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة."

لقد عبّر عليّ(ع) عن فرحه لأنه درس كل حياته منذ أن ولد في الكعبة، ومنذ أن جعل كل مسار حياته مسجداً، وانتهت حياته في المسجد، ولد في بيت الله وفي لطف الله، واستشهد وهو في بيت الله وفي لطفه. ولذلك، فإن عليّاً(ع)، هو الإنسان العظيم الّذي لا تستطيع من خلال كلّ هذا النور الذي ينبثق منه؛ نور العقل والروح والعبادة والجهاد والإخلاص لله، إلا أن تعتبره القمّة في كل شيء، والعصمة في كلّ شيء، إن عليّاً(ع) هو الإنسان الّذي لا تجد في كل صحابة رسول الله مثله ـ مع كلّ احترامنا للصحابة ـ ولذلك كان هو المؤهّل ليكمل الرسالة.

لقد كان عليّ(ع) الإنسان الذي أعطى كلّ نفسه لله، وإذا أردنا في يوم ذكرى مصرعه أن نكون معه، فإن عليّاً(ع) يقول: "ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ـ ورع عن الحرام واجتهاد في طاعة الله ـ وعفّة وسداد". إنه يدعونا إلى أن نكمل المسيرة التي بدأها مع رسول الله(ص)، لنحفظ الإسلام والمسلمين، ونواجه كلّ التحدّيات والمتغيّرات. هذا هو ما نقدّمه لعليّ(ع)، إنه لا يريد دموعنا وبكاءنا وكلماتنا، إنه يريدنا أن نكون مع الحق لأنه كان مع الحق كله. فإذا أردتم أن تكونوا مع عليّ(ع)، فإن عليكم أن تكونوا مع الحقّ، لأنَّ من كان مع الباطل لا يقترب من خط عليّ(ع).

سلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً، ونختم بكلمة ذلك الشاعر المسيحي الذي يشعر بروعة عليّ وعظمته، والذي قال إنّ الإنسان عندما يذكر عليّاً، فإن الكون كلّه يصغي لكلمة عليّ:

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي             واخشعي إنّني ذكرت عليّا"

بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة، نستحضر بعض المواقف والمواعظ التي يلقيها سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، حيث تحدّث في الخطبة الدّينيّة لصلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 19 رمضان العام 1424ه/ الموافق 14/11/2003م، عن محطات حياة علي(ع) مع رسول الله:

"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، {إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}. ذلك هو عليّ(ع)، هذا الإنسان الذي شرى نفسه وباعها لله، فكان كله لله؛ كان عقله عقل الإنسان الذي ينفتح على الله من خلال انفتاحه على الحق، وكان قلبه هو القلب الذي يتسع للناس جميعاً بعدما اتسع لله سبحانه، وكانت طاقاته هي للحق كله. كان سرّ عليّ أنه لم يفكر في نفسه، وإنما فكر في الله، ولذلك، فقد كان عندما يتحدث مع الناس عن الفرق بينه وبينهم يقول: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".

كان عليّ(ع) صورةً عن رسول الله(ص)، احتضنه الرسول منذ طفولته الأولى، وأعطاه من نوره نوراً، فكان من رسول الله كالضوء من الضوء، وأعطاه من شخصيته شخصية، فكان كالصنو من الصنو، كان عقله من عقل رسول الله، لأن النبي احتضن عقله منذ طفولته الأولى، وهو يلقي إليه في كل يوم عقلاً من عقله، وروحاً من روحه.

كان علي(ع) الذي عاش مع رسول الله يتحدث إلى الناس في خلافته، والناس آنذاك مختلفون عليه، كان يقول لهم: "أيتها النفوس المختلفة ـ التي لم تتوحَّد عند القاعدة التي تربطهم بالله وتنفتح بهم على الحقّ ـ والقلوب المتشتّتة ـ فكل قلب يتجه اتجاهاً مختلفاً، فلا وحدة ولا تآلف بين القلوب ـ الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم على الحقّ ـ أدعوكم إلى الحق ـ وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد ـ فعندما ينطلق الحق لتعيشوا في ظله وتسيروا في خطه، فإنّكم تنفرون منه، لأن الحق مرٌّ وكريه الطعم ـ هيهات أن أُطلع بكم سرار العدل ـ أنتم لستم المجتمع الذي أستطيع أن أحقق العدل من خلاله ـ أو أقيم اعوجاج الحق!". وتلك كانت مأساة عليّ(ع)، التي تتمثل في أنه كان يريد أن يرفع الأمة التي عاشت معه إلى القمة، ولكنها كانت تنحدر إلى الحضيض، لا تستمع إليه ولا تتعلّم منه...".

ويعرض سماحته لمنطلقات علي في الحكم والخلافة، انسجاماً مع دوره الرسالي البعيد عن الشخصانية، والذي يؤكد ورعه وجهاده وكونه داعية لله قبل كلّ حساب :

"ثم يتحدث عليّ (ع) عن دوره في خطِّ الحكم والخلافة، لماذا قبل بها؛ هل هو كالآخرين الذين يريدون الخلافة أو الإمارة من أجل إرضاء العنفوان الذّاتي أو الحصول على مكتسبات؟ كان عليّ(ع) رسالياً، كان كل شيء عنده للرّسالة، وهو الذي قال لابن عباس عندما رآه يخصف نعله: "ما قيمة هذه النعل؟"، قال: "لا قيمة لها"، فقال(ع): "والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"، إنني أقبل بالإمرة، لا من ناحية ذاتية، ولكن من أجل إقامة الحق الذي أنا مسؤول عنه ومن أجل إزهاق الباطل...

وبعد أن تحدث مع الناس قال(ع): "اللهم إنك تعلم ـ توجه إلى الله ليقدّم حسابه إليه، وهذه هي سيرة الأنبياء والأولياء، أنهم عندما يتحركون في أية مسؤولية من مسؤولياتهم، فإنهم يقدمون حسابهم لله قبل أن يقدموه للأمة. وهذا درس لا بدّ لنا من أن نتعلمه أياً كانت مسؤوليّاتنا ومواقعنا، أن نقدّم حسابنا لله تعالى قبل أن نقدِّمه للناس، أن نعبِّر لله عن كلّ ما يختفي وراء هذا العمل، هل هو للحق أم للباطل، هل هو للذّات أم للرسالة. هكذا كان عليّ(ع) وهو يقدّم حسابه لله في عملية اعتراف وخشوع وخضوع له ـ أنه لم يكن الذي كان منا ـ في مسألة الخلافة ـ منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام ـ وليس هذا من أجل أن نحصل على مال أو ما يرغب الناس فيه من الحصول على المكاسب المادية ـ ولكن لنرد المعالم من دينك ـ حتى نحرك معالم الدين في المجتمع ونردها إلى الخطّ المستقيم، حتى يأخذ الناس بها فتتحرك في حياتهم ـ ونظهر الإصلاح في بلادك ـ فالمسؤولية في الخلافة إنما هي وسيلة من وسائل إظهار الإصلاح ـ فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك. اللّهمّ إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله (ص) بالصلاة"، كنت مسلماً مع إسلام رسول الله قبل أن يُبعث بالرسالة، وعشت الإسلام في نفسي قبل أن يُبعث النبي بالرسالة، فكان الإسلام الذي دعاني إليه رسول الله في عقلي وقلبي، لأنني عشته فكراً وروحاً لله تعالى.

وعندما عاش علي(ع) الإسلام، امتزجت طفولته بالإسلام وتحرك شبابه به، نذر نفسه لله على أن يكون الداعية إلى الإسلام والمجاهد في سبيل الله تعالى، ورافق النبي(ص) في بيته، وكان يقول علي(ع): "لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما"، وعندما أراد رسول الله منه أن يبيت على فراشه، سأله: "أوتسلم يا رسول الله؟"، قال (ص): "بلى"، فقال(ع): "اذهب راشداً مهديّاً".

وكان عليّ(ع) الإنسان الذي استودعه رسول الله(ص) كل أماناته التي هي للنّاس، وكلّ ودائعه، ولم يهاجر(ع) حتى أدى ودائع رسول الله وأماناته، كان الأمين على الحقّ والمال، وعلى كل ما يتصل بالإسلام والمسلمين، وكان(ع) الفارس الأول في "بدر"، فقتل نصف قتلى المشركين في المعركة، وشارك المسلمين في النصف الآخر، حتى قيل إنّ جبرائيل(ع) كان يهتف، والملائكة يحيطون بالمسلمين ليرفعوا معنوياتهم: "لا فتى إلا عليّ، لا سيف إلا ذو الفقار"، كانت فتوته فتوة الإسلام في أن يعطيه شبابه ليعيش الإسلام شباب القوة والعزة والكرامة، وكان سيفه هو سيف الإسلام، كان سيفاً لا يظلم، ولكنه سيف يقيم العدل.

وكان(ع) ينتقل من حرب إلى حرب، ولم يكن يحب الحرب لأجل الحرب، ولكنه كان يحارب من أجل أن يدفع الناس الذين يريدون أن يسقطوا الإسلام ويبعدوه عن الحياة، فكان(ع) في "أحد" و"خيبر" و"الأحزاب" و"حنين"...، السيف الذي يدافع عن الإسلام أمام رسول الله(ص). وكان عليّ(ع) الداعية الذي امتلأ عقله بكل علم رسول الله، حتى قال(ص): "أنا مدينة العلم وعلي بابها". ورأينا كيف أن رسول الله (ص) يجد أن عليّاً(ع) يمثل جيشاً بأكمله، وذلك عندما برز عليّ إلى عمرو بن عبد ود في معركة الأحزاب، ورسول الله (ص) يقول: "من لعمرٍ وأنا ضامن له على الله الجنة؟"، والمسلمون لا يجيبون خوفاً من عمرٍ، لأنه كان يمثل القوة في الواقع العربي، وكان(ع) يقول: "أنا له يا رسول الله"، ثلاث مرات، وعندما نزل(ع) إلى المبارزة، قال(ص): "ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين".

وفي معركة خيبر، قال(ص): "لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"، هذا الوسام الذي لم يتحدث به رسول الله عن أحد، يدل على أن عليّاً(ع) يجمع في قلبه حبّ الله والرسول، وأن الله والرسول يلتقيان في حبّ علي(ع)... وقال رسول الله(ص) وهو يشير إلى المسلمين بأنّ هذا الإنسان هو الحق كله، فلا يمكن أن يحيد عن الحق في كل مكان؛ في بيته وحكمه وحربه وسلمه وكل مواقفه: "عليّ مع الحق والحق مع عليّ، اللهم أدر الحق مع علي حيثما دار".

وعندما جمع رسول الله(ص) المسلمين في يوم الغدير بعد رجوعه من حجة الوداع، بعد أن نزلت الآية: {يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربِّك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من النَّاس}، وقف رسول الله(ص) ورفع يد عليّ(ع) حتى بان بياض إبطيهما للنّاس، وقال(ص): "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟، قالوا: بلى، فقال(ص): "اللّهمّ فاشهد، من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ـ من كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به من نفسه ـ اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار"....

ويضيف سماحته بأنّ علياً كان رائداً للوحدة الإسلامية، عاملاً لها بكلّ قوّة رغم التعقيدات:

"ولكنّ الأحداث تغيّرت وانحرفت عن خطّها، وبقي عليّ مخلصاً للإسلام، وصبر(ع) وفي العين قذى وفي الحلق شجى، ولكنّه قال: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصّة". كان همّ عليّ كيف يحفظ المسلمين ويمنع الفتنة والتمزّق في داخلهم، كان(ع) يرى أنَّ وحدة المسلمين ـ حتى لو اختلفوا في بعض التفاصيل ـ هي التي تحفظ للمسلمين قوّتهم وعزتهم. كان عليّ(ع) رجل الوحدة الإسلامية الذي عاون الّذين تقدّموه وأبعدوه، لأنّ القضية لم تعد مجرد قضيّة شخصيّة، ولكنها كانت قضيّة الرسالة.

وعندما انطلق بالخلاقة، زرعوا الألغام في طريقه، واضطرّوه إلى أن يواجه أكثر من حرب في الواقع الإسلامي، وكان عليّ(ع) يريد أن ينفتح على المسلمين سلماً لا حرباً، كان يريد أن يجعل الإسلام والمسلمين في الخطّ المستقيم، ولكنّهم منعوه من ذلك".

وختم سماحته بالحديث عن شهادته المباركة وفوزه برضوان الله، وما علينا فعله حقيقة كي نتأسّى به (ع)، وكي نؤكّد أصالة انتمائنا إلى مدرسته:

"وبقي صامداً، حتى إنّه في نهاية المطاف، وبعد أن حاور الذين خاصموه وأقام الحجة عليهم، حتى الخوارج الذين كفّروه، لم يحجب عنهم العطاء، بل كان يحاورهم بالحسنى، لأنه كان لا يستهدف قتل الناس، بل يستهدف هدايتهم وإرشادهم، لأن هؤلاء كان الله قد أعمى عيونهم وقلوبهم، فعبدوا الله من دون علم، لأن أفكارهم كانت مغلقة، كالكثيرين ممن نعايشهم، الذين يعيشون العصبية لأفكارهم، فلم ينفتحوا على حوار أو مناقشة، بل أكثر من ذلك، دفعهم تعصبهم إلى التخطيط لاغتيال عليّ(ع) وهو في المسجد، وجاء اللّعين ابن ملجم، فكمن له واغتاله، وكانت كلمة عليّ(ع) كلمة الحقّ والفرح، السيف يفلق رأسه وهو يقول: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة."

لقد عبّر عليّ(ع) عن فرحه لأنه درس كل حياته منذ أن ولد في الكعبة، ومنذ أن جعل كل مسار حياته مسجداً، وانتهت حياته في المسجد، ولد في بيت الله وفي لطف الله، واستشهد وهو في بيت الله وفي لطفه. ولذلك، فإن عليّاً(ع)، هو الإنسان العظيم الّذي لا تستطيع من خلال كلّ هذا النور الذي ينبثق منه؛ نور العقل والروح والعبادة والجهاد والإخلاص لله، إلا أن تعتبره القمّة في كل شيء، والعصمة في كلّ شيء، إن عليّاً(ع) هو الإنسان الّذي لا تجد في كل صحابة رسول الله مثله ـ مع كلّ احترامنا للصحابة ـ ولذلك كان هو المؤهّل ليكمل الرسالة.

لقد كان عليّ(ع) الإنسان الذي أعطى كلّ نفسه لله، وإذا أردنا في يوم ذكرى مصرعه أن نكون معه، فإن عليّاً(ع) يقول: "ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ـ ورع عن الحرام واجتهاد في طاعة الله ـ وعفّة وسداد". إنه يدعونا إلى أن نكمل المسيرة التي بدأها مع رسول الله(ص)، لنحفظ الإسلام والمسلمين، ونواجه كلّ التحدّيات والمتغيّرات. هذا هو ما نقدّمه لعليّ(ع)، إنه لا يريد دموعنا وبكاءنا وكلماتنا، إنه يريدنا أن نكون مع الحق لأنه كان مع الحق كله. فإذا أردتم أن تكونوا مع عليّ(ع)، فإن عليكم أن تكونوا مع الحقّ، لأنَّ من كان مع الباطل لا يقترب من خط عليّ(ع).

سلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً، ونختم بكلمة ذلك الشاعر المسيحي الذي يشعر بروعة عليّ وعظمته، والذي قال إنّ الإنسان عندما يذكر عليّاً، فإن الكون كلّه يصغي لكلمة عليّ:

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي             واخشعي إنّني ذكرت عليّا"

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية