محاضرات
06/12/2024

تأثير العصبيّة في الواقع الإسلامي

تأثير العصبيّة في الواقع الإسلامي

هناك منكرات، أيُّها الأحبَّة، تكون فرديَّة، كما في شرب الخمر، أو قيام شخص بأعمال محرَّمة، وهناك منكرات تقصم المجتمع وتحطِّم تماسكه وانفتاحه بعضه على بعض، ولذلك اهتمَّ الإسلام بها اهتماماً كبيراً.
العصبيّة إضعاف للواقع الإسلاميّ
فمن بين الأمور التي ساهمت مساهمة كبيرة في إضعاف الواقع الإسلامي، منذ عهد ما بعد الرّسالة في المرحلة الثّانية، هي مسألة التعصُّب والعصبيَّة، فلو قرأنا الأحاديث الواردة بالنّسبة إلى العصبيّة، للاحظنا الأهميَّة الَّتي أولاها النبيّ (ص) والأئمَّة الهداة من أهل بيته (ع) في مسألة العصبيَّة.
عن الصَّادق (ع): "قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): مَنْ كَانَ فِي قَلْبِه حَبَّةٌ مِنْ خَرْدَلٍ - وهي من أصغر المقادير - مِنْ عَصَبِيَّةٍ، بَعَثَه اللَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ"، لأنَّ الجاهليّين كانوا يعيشون على العصبيَّة {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}[الفتح: 26]، والمقصود بها العصبيَّة الجاهليَّة.
وفي حديث الإمام جعفر الصَّادق (ع)، وحديثُهُ حديثُ رسول الله (ص)، كما هو حديث أيِّ إمامٍ من الأئمَّة (ع): "مَنْ تَعَصَّبَ أَوْ تُعُصِّبَ لَه - أي شجَّع الآخرين على أن يتعصَّبوا له - فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِيمَانِ مِنْ عُنُقِه"، فإذا دخلت العصبيَّة في عقل الإنسان ووجدانه، أو شجَّع النَّاسَ على أن يتعصَّبوا له، فكأنَّه خلعَ طوقَ الإيمانِ من عنقِهِ وأصبحَ بلا إيمان، لأنَّ العصبيَّة تأكل الإيمان.
الحديث الآخر عن الصَّادق (ع): "مَنْ تَعَصَّبَ، عَصَبَه اللَّه بِعِصَابَةٍ مِنْ نَارٍ".
وعن الإمام السّجَّاد (ع) قال: "لَمْ يُدْخِلِ الْجَنَّةَ حَمِيَّةٌ غَيْرُ حَمِيَّةِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ غَضَباً لِلنَّبِيِّ (ص) فِي حَدِيثِ السَّلى الَّذي أُلْقِيَ عَلَى النَّبيِّ (ص)".
حمزة بن عبد المطَّلب (رض)، وهو عمُّ النّبيّ (ص)، كان من الأشدَّاء، وينقل في التَّاريخ، ولا ندري مدى دقَّة الحديث، أنَّه لم يدخل في الإسلام في البداية، وفي الوقت نفسه، كان يحامي عن النَّبيِّ (ص)، حتَّى إذا كان النَّبيّ (ص) مرَّةً، إمَّا في صلاته، أو في طريقه، جاؤوا بأمعاء الشَّاة أو البقرة ورموها على ظهره، فرأى حمزة الموضوع، فأخذته الحميَّة العائليَّة، ووقف ودافع عن النَّبيِّ (ص)، ودفعته هذه الحميَّة إلى أن يدخل في الإسلام. يقول الإمام السّجَّاد (ع) إنَّ هذه الحميَّة شكرها الله له، لأنَّها حميَّةٌ قادته إلى الإسلام، والحميَّةُ المبغوضة هي الَّتي تقود الإنسان إلى الجاهليَّة.
وعن الإمام الصَّادق (ع)، وأغلب ثقافتنا الإسلاميَّة في خطِّ أهل البيت كانت من الإمام الصَّادق (ع)، نتيجة المساحة الَّتي كانت له من الحريَّة. يقول (ع): "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ إِبْلِيسَ مِنْهُمْ - لأنَّه دخل في مجتمع الملائكة، وكان يعبد الله مع الملائكة، ولم يكن لدى الملائكة فضول ليعرفوا عنه شيئاً، فكان في علمهم أنَّه منهم، يعبد ما يعبدون، ويخشع كما يخشعون - وكَانَ فِي عِلْمِ اللَّه أَنَّه لَيْسَ مِنْهُمْ - لأنَّ الله يقول: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}[الكهف: 50] - فَاسْتَخْرَجَ مَا فِي نَفْسِه بِالْحَمِيَّةِ والْغَضَبِ، فَقَالَ: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}"[الأعراف: 12]، وذلك عندما طلب الله منه أن يسجد لآدم تحيّةً له، فقادته عصبيَّته إلى رفض أمر الله، تعصُّباً لعنصره.
هل يجوزُ التَّعصُّبُ للحقِّ؟!
هنا، نحاول أن نجيب عن سؤال حول مسألة العصبيَّة، فقد يقال إنَّ هناك حقّاً وباطلاً، فالَّذي يتعصَّب للباطل ولشخص شرّير وظالم هو أمر مرفوض، ولكن ماذا عن التعصُّب للحقّ، وهو ما لا يمكن أن يكون مرفوضاً، لأنَّ الحقَّ يحتاج إلى شخص يقف معه ويشتدّ في الدّفاع عنه، وفي تأكيده بكلِّ المجالات العامَّة، فأيّ مانع أن يتعصَّب الإنسان لنبيٍّ أو لوصيٍّ أو لإمامٍ، أو لشخصيَّةٍ علميَّةٍ أو جهاديَّةٍ، أو لمؤمنٍ؟!
الجواب عن هذا، أنَّ العصبيَّة، بحسب مفهومها، هي حالة انفعاليَّة تتحرَّك من دون منطق عقلانيّ، ومن دون منطق فكريّ. يعني الآن عندما يتعصَّب شخص لعشيرته، فإنَّ التعصّب للعشيرة لا يمثِّل انفتاحاً على القيم الكبيرة الموجودة فيها، وإنَّما هو يتعصَّب لهذه المجموعة من البشر، باعتبار العلاقة العاطفيَّة أو المصلحيَّة الّتي تشدّه إليهم، كذلك الأمر في العصبيَّة القوميَّة، والَّتي تعني أنَّك تتعصَّب وتثور لهذه المجموعة من النَّاس الَّذين يتَّفقون معك في اللّغة، والأمر كذلك في العصبيَّات المذهبيَّة في داخل الواقع الإسلامي، والعصبيَّات الطَّائفيَّة في الواقع الدِّيني، والعصبيَّات الحزبيَّة في الواقع السياسيّ.
قد يبدأ الإنسان ملتزماً بالخطِّ؛ الخطّ العقيديّ، أو الخطّ الفكريّ، أو الخطّ السياسيّ، ولكنَّه بفعل الأوضاع الَّتي تعيشها العشيرة أو المذهب أو الطَّائفة أو الحزب أو الحركة، وبفعل هذه التَّعبئة النفسيَّة ضدَّ الآخر، يصبحُ الإنسانُ متعصِّباً للجماعة وليس للخطِّ.
لاحظوا الآن، عندما تسأل الإنسان الَّذي يتعصَّب طائفيّاً أو مذهبيّاً أو حزبيّاً، هل عنده وعيٌ للخطوط الفكريَّة لهذا المذهب أو لهذه الطَّائفة؟ وعندما يتعصَّب لحزبه أو لحركته أو لمنظَّمته أو لجمعيَّته أو لأيِّ شيء، هل يتعصَّب للخطِّ، أم أنَّه يتعصَّب للجماعة باعتباره جزءاً من الجماعة؟
ولذلك، العصبيَّة فيها شيء من الصَّنميَّة والوثنيَّة، لأنَّك عندما تتعصَّب، فأنت لا ترتبط بالجانب الفكريّ والثَّقافيّ والسياسيّ عن وعي، بمعنى أنَّك لا تدافع عن الخطّ، بل تدافع عن الجماعة، وربَّما تدفعك عصبيَّتك إلى أن تنحرف عن الخطِّ الَّذي قامَتْ عليه جماعتك من أجلِ الدِّفاعِ عنها. يعني افرض أنَّ هناك جماعة معيَّنة ننتمي إليها، وهناك جماعة أخرى، وقد اقتضت طبيعة الصِّراع بين الجماعتين، حتّى لو كان الجميع مسلمين أو كان الجميع شيعة، اقتضت أن نغتاب هؤلاء النَّاس، أو أن نكذب عليهم، أو أن نضربهم، أو أن نحاصرهم، والمفروض أنَّنا عندما نكون مسلمين، أو نكون سائرين في خطِّ أهل البيت (ع)، أنّه لا يجوز لنا أن نغتاب مؤمناً، ولا يجوز لنا أن نعتدي على ماله ولا على عرضه ولا عليه، ولكن عندما يأتي الجانب العصبيّ، يغفل الإنسان عن كلِّ الحدود الشَّرعيَّة في علاقته مع الإنسان الآخر.
هذا هو خطُّ العصبيَّة، يعني أنَّك تعبد عائلتك وعشيرتك، تعبد قوميَّتك، تعبد طائفتك، تعبد حزبك، تعبد حركتك أو منظَّمتك، يعني أنَّ العبادة أصبحت للإطار، لا للصّورة في داخل الإطار.
الالتزامُ بالحقِّ
أمَّا مسألة الانفتاح على الحقّ، فهذا يسمّونه الالتزام، فهناك فرق بين منطق العصبيَّة الَّذي يربط الإنسان بالجماعة، وبين منطق الالتزام الَّذي يربط الإنسان بالرِّسالة، فعندما تقف مع الحقّ، فأنت تتصوَّر الحقَّ أمامك، وأنَّ الله يحمِّلك مسؤوليَّة الدّفاع عنه، ولذلك تنصره من طريق الحقّ، ولا تنصره من طريق الباطل. يعني لا يجوز لك أن تنصر الحقَّ بمعصية الله، بل عليك أن تقف عند حدود الله سبحانه وتعالى.
الإمام الصَّادق (ع) كان يدرِّب أصحابه على أن يتحاوروا مع النَّاس الَّذين يأتون إليه أمامه، وينقدهم بعد ذلك، ليبيِّن لهم الخطأ من الصَّواب فيما قالوه. جاء شخصٌ مرَّةً من الشَّام، وكان يريد أن يحاورَ الإمام الصَّادق (ع) في أمر الإمامة، فاندفع أحدُ أصحاب الإمام (ع) إليه للمناقشة، وناقشه حتَّى أسكته. ولكنَّ الإمام (ع) بعد انتهاء النِّقاش، بدأ ينقد صاحبه، فقال له: "تَمْزُجُ الْحَقَّ مَعَ الْبَاطِلِ – يعني أنّك تغلّبت عليه، ولكنَّك لم تلتزم بحجج الحقّ، بل أتيت بحجج الحقِّ والباطل - وقَلِيلُ الْحَقِّ يَكْفِي عَنْ كَثِيرِ الْبَاطِلِ"، الإنسان عندما يكون الحقّ معه، ومقتنع بهذا الحقّ، فإنَّ الحقَّ يتولى الدِّفاع عن نفسه، لأنَّ عناصر القوَّة موجودة في داخله، أمَّا إذا استعنْتَ بالباطل من أجل أن تقوِّي حجَّة الحقّ، فمعنى ذلك أنَّ الحقَّ ضعيف، ولا يستطيع الدّفاع عن نفسه، بل يحتاج إلى الباطل ليدعمه. ثمَّ قال (ع) له: "مَا الفَرْقُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ إنَّهُ جَحَدَ حَقّاً وَجَحَدْتَ مثله، فَهُوَ جَحَدَ الحقَّ في النَّتائِجِ، وَأَنْتَ جَحَدْتَ الحَقَّ في الوَسِيلَةِ"، فليس من فرقٍ بينَكَ وبينَهُ.
لذلك، منطق الالتزام هو المنطق الَّذي ينطلق فيه الإنسان عندما يشتدّ ويقوى، وعندما يدخل ساحة الصِّراع، ويواجه التحدّيات، فلا تغيب الرّسالة عنه، بل تبقى أمامه، هذا الَّذي "لَمْ يُقَدِّمْ رِجْلاً، ولَمْ يُؤَخِّرْ رِجْلاً، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِلَّه رِضًا"، بحيث إنَّه يبقى واعياً لما يدافع عنه، وللحدود الَّتي يريد الله له أن يقف عندها.

*من خطبة عاشورائيّة لسماحته، بتاريخ: 12/ 05/ 1997م.
 
هناك منكرات، أيُّها الأحبَّة، تكون فرديَّة، كما في شرب الخمر، أو قيام شخص بأعمال محرَّمة، وهناك منكرات تقصم المجتمع وتحطِّم تماسكه وانفتاحه بعضه على بعض، ولذلك اهتمَّ الإسلام بها اهتماماً كبيراً.
العصبيّة إضعاف للواقع الإسلاميّ
فمن بين الأمور التي ساهمت مساهمة كبيرة في إضعاف الواقع الإسلامي، منذ عهد ما بعد الرّسالة في المرحلة الثّانية، هي مسألة التعصُّب والعصبيَّة، فلو قرأنا الأحاديث الواردة بالنّسبة إلى العصبيّة، للاحظنا الأهميَّة الَّتي أولاها النبيّ (ص) والأئمَّة الهداة من أهل بيته (ع) في مسألة العصبيَّة.
عن الصَّادق (ع): "قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): مَنْ كَانَ فِي قَلْبِه حَبَّةٌ مِنْ خَرْدَلٍ - وهي من أصغر المقادير - مِنْ عَصَبِيَّةٍ، بَعَثَه اللَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ"، لأنَّ الجاهليّين كانوا يعيشون على العصبيَّة {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}[الفتح: 26]، والمقصود بها العصبيَّة الجاهليَّة.
وفي حديث الإمام جعفر الصَّادق (ع)، وحديثُهُ حديثُ رسول الله (ص)، كما هو حديث أيِّ إمامٍ من الأئمَّة (ع): "مَنْ تَعَصَّبَ أَوْ تُعُصِّبَ لَه - أي شجَّع الآخرين على أن يتعصَّبوا له - فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِيمَانِ مِنْ عُنُقِه"، فإذا دخلت العصبيَّة في عقل الإنسان ووجدانه، أو شجَّع النَّاسَ على أن يتعصَّبوا له، فكأنَّه خلعَ طوقَ الإيمانِ من عنقِهِ وأصبحَ بلا إيمان، لأنَّ العصبيَّة تأكل الإيمان.
الحديث الآخر عن الصَّادق (ع): "مَنْ تَعَصَّبَ، عَصَبَه اللَّه بِعِصَابَةٍ مِنْ نَارٍ".
وعن الإمام السّجَّاد (ع) قال: "لَمْ يُدْخِلِ الْجَنَّةَ حَمِيَّةٌ غَيْرُ حَمِيَّةِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ غَضَباً لِلنَّبِيِّ (ص) فِي حَدِيثِ السَّلى الَّذي أُلْقِيَ عَلَى النَّبيِّ (ص)".
حمزة بن عبد المطَّلب (رض)، وهو عمُّ النّبيّ (ص)، كان من الأشدَّاء، وينقل في التَّاريخ، ولا ندري مدى دقَّة الحديث، أنَّه لم يدخل في الإسلام في البداية، وفي الوقت نفسه، كان يحامي عن النَّبيِّ (ص)، حتَّى إذا كان النَّبيّ (ص) مرَّةً، إمَّا في صلاته، أو في طريقه، جاؤوا بأمعاء الشَّاة أو البقرة ورموها على ظهره، فرأى حمزة الموضوع، فأخذته الحميَّة العائليَّة، ووقف ودافع عن النَّبيِّ (ص)، ودفعته هذه الحميَّة إلى أن يدخل في الإسلام. يقول الإمام السّجَّاد (ع) إنَّ هذه الحميَّة شكرها الله له، لأنَّها حميَّةٌ قادته إلى الإسلام، والحميَّةُ المبغوضة هي الَّتي تقود الإنسان إلى الجاهليَّة.
وعن الإمام الصَّادق (ع)، وأغلب ثقافتنا الإسلاميَّة في خطِّ أهل البيت كانت من الإمام الصَّادق (ع)، نتيجة المساحة الَّتي كانت له من الحريَّة. يقول (ع): "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ إِبْلِيسَ مِنْهُمْ - لأنَّه دخل في مجتمع الملائكة، وكان يعبد الله مع الملائكة، ولم يكن لدى الملائكة فضول ليعرفوا عنه شيئاً، فكان في علمهم أنَّه منهم، يعبد ما يعبدون، ويخشع كما يخشعون - وكَانَ فِي عِلْمِ اللَّه أَنَّه لَيْسَ مِنْهُمْ - لأنَّ الله يقول: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}[الكهف: 50] - فَاسْتَخْرَجَ مَا فِي نَفْسِه بِالْحَمِيَّةِ والْغَضَبِ، فَقَالَ: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}"[الأعراف: 12]، وذلك عندما طلب الله منه أن يسجد لآدم تحيّةً له، فقادته عصبيَّته إلى رفض أمر الله، تعصُّباً لعنصره.
هل يجوزُ التَّعصُّبُ للحقِّ؟!
هنا، نحاول أن نجيب عن سؤال حول مسألة العصبيَّة، فقد يقال إنَّ هناك حقّاً وباطلاً، فالَّذي يتعصَّب للباطل ولشخص شرّير وظالم هو أمر مرفوض، ولكن ماذا عن التعصُّب للحقّ، وهو ما لا يمكن أن يكون مرفوضاً، لأنَّ الحقَّ يحتاج إلى شخص يقف معه ويشتدّ في الدّفاع عنه، وفي تأكيده بكلِّ المجالات العامَّة، فأيّ مانع أن يتعصَّب الإنسان لنبيٍّ أو لوصيٍّ أو لإمامٍ، أو لشخصيَّةٍ علميَّةٍ أو جهاديَّةٍ، أو لمؤمنٍ؟!
الجواب عن هذا، أنَّ العصبيَّة، بحسب مفهومها، هي حالة انفعاليَّة تتحرَّك من دون منطق عقلانيّ، ومن دون منطق فكريّ. يعني الآن عندما يتعصَّب شخص لعشيرته، فإنَّ التعصّب للعشيرة لا يمثِّل انفتاحاً على القيم الكبيرة الموجودة فيها، وإنَّما هو يتعصَّب لهذه المجموعة من البشر، باعتبار العلاقة العاطفيَّة أو المصلحيَّة الّتي تشدّه إليهم، كذلك الأمر في العصبيَّة القوميَّة، والَّتي تعني أنَّك تتعصَّب وتثور لهذه المجموعة من النَّاس الَّذين يتَّفقون معك في اللّغة، والأمر كذلك في العصبيَّات المذهبيَّة في داخل الواقع الإسلامي، والعصبيَّات الطَّائفيَّة في الواقع الدِّيني، والعصبيَّات الحزبيَّة في الواقع السياسيّ.
قد يبدأ الإنسان ملتزماً بالخطِّ؛ الخطّ العقيديّ، أو الخطّ الفكريّ، أو الخطّ السياسيّ، ولكنَّه بفعل الأوضاع الَّتي تعيشها العشيرة أو المذهب أو الطَّائفة أو الحزب أو الحركة، وبفعل هذه التَّعبئة النفسيَّة ضدَّ الآخر، يصبحُ الإنسانُ متعصِّباً للجماعة وليس للخطِّ.
لاحظوا الآن، عندما تسأل الإنسان الَّذي يتعصَّب طائفيّاً أو مذهبيّاً أو حزبيّاً، هل عنده وعيٌ للخطوط الفكريَّة لهذا المذهب أو لهذه الطَّائفة؟ وعندما يتعصَّب لحزبه أو لحركته أو لمنظَّمته أو لجمعيَّته أو لأيِّ شيء، هل يتعصَّب للخطِّ، أم أنَّه يتعصَّب للجماعة باعتباره جزءاً من الجماعة؟
ولذلك، العصبيَّة فيها شيء من الصَّنميَّة والوثنيَّة، لأنَّك عندما تتعصَّب، فأنت لا ترتبط بالجانب الفكريّ والثَّقافيّ والسياسيّ عن وعي، بمعنى أنَّك لا تدافع عن الخطّ، بل تدافع عن الجماعة، وربَّما تدفعك عصبيَّتك إلى أن تنحرف عن الخطِّ الَّذي قامَتْ عليه جماعتك من أجلِ الدِّفاعِ عنها. يعني افرض أنَّ هناك جماعة معيَّنة ننتمي إليها، وهناك جماعة أخرى، وقد اقتضت طبيعة الصِّراع بين الجماعتين، حتّى لو كان الجميع مسلمين أو كان الجميع شيعة، اقتضت أن نغتاب هؤلاء النَّاس، أو أن نكذب عليهم، أو أن نضربهم، أو أن نحاصرهم، والمفروض أنَّنا عندما نكون مسلمين، أو نكون سائرين في خطِّ أهل البيت (ع)، أنّه لا يجوز لنا أن نغتاب مؤمناً، ولا يجوز لنا أن نعتدي على ماله ولا على عرضه ولا عليه، ولكن عندما يأتي الجانب العصبيّ، يغفل الإنسان عن كلِّ الحدود الشَّرعيَّة في علاقته مع الإنسان الآخر.
هذا هو خطُّ العصبيَّة، يعني أنَّك تعبد عائلتك وعشيرتك، تعبد قوميَّتك، تعبد طائفتك، تعبد حزبك، تعبد حركتك أو منظَّمتك، يعني أنَّ العبادة أصبحت للإطار، لا للصّورة في داخل الإطار.
الالتزامُ بالحقِّ
أمَّا مسألة الانفتاح على الحقّ، فهذا يسمّونه الالتزام، فهناك فرق بين منطق العصبيَّة الَّذي يربط الإنسان بالجماعة، وبين منطق الالتزام الَّذي يربط الإنسان بالرِّسالة، فعندما تقف مع الحقّ، فأنت تتصوَّر الحقَّ أمامك، وأنَّ الله يحمِّلك مسؤوليَّة الدّفاع عنه، ولذلك تنصره من طريق الحقّ، ولا تنصره من طريق الباطل. يعني لا يجوز لك أن تنصر الحقَّ بمعصية الله، بل عليك أن تقف عند حدود الله سبحانه وتعالى.
الإمام الصَّادق (ع) كان يدرِّب أصحابه على أن يتحاوروا مع النَّاس الَّذين يأتون إليه أمامه، وينقدهم بعد ذلك، ليبيِّن لهم الخطأ من الصَّواب فيما قالوه. جاء شخصٌ مرَّةً من الشَّام، وكان يريد أن يحاورَ الإمام الصَّادق (ع) في أمر الإمامة، فاندفع أحدُ أصحاب الإمام (ع) إليه للمناقشة، وناقشه حتَّى أسكته. ولكنَّ الإمام (ع) بعد انتهاء النِّقاش، بدأ ينقد صاحبه، فقال له: "تَمْزُجُ الْحَقَّ مَعَ الْبَاطِلِ – يعني أنّك تغلّبت عليه، ولكنَّك لم تلتزم بحجج الحقّ، بل أتيت بحجج الحقِّ والباطل - وقَلِيلُ الْحَقِّ يَكْفِي عَنْ كَثِيرِ الْبَاطِلِ"، الإنسان عندما يكون الحقّ معه، ومقتنع بهذا الحقّ، فإنَّ الحقَّ يتولى الدِّفاع عن نفسه، لأنَّ عناصر القوَّة موجودة في داخله، أمَّا إذا استعنْتَ بالباطل من أجل أن تقوِّي حجَّة الحقّ، فمعنى ذلك أنَّ الحقَّ ضعيف، ولا يستطيع الدّفاع عن نفسه، بل يحتاج إلى الباطل ليدعمه. ثمَّ قال (ع) له: "مَا الفَرْقُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ إنَّهُ جَحَدَ حَقّاً وَجَحَدْتَ مثله، فَهُوَ جَحَدَ الحقَّ في النَّتائِجِ، وَأَنْتَ جَحَدْتَ الحَقَّ في الوَسِيلَةِ"، فليس من فرقٍ بينَكَ وبينَهُ.
لذلك، منطق الالتزام هو المنطق الَّذي ينطلق فيه الإنسان عندما يشتدّ ويقوى، وعندما يدخل ساحة الصِّراع، ويواجه التحدّيات، فلا تغيب الرّسالة عنه، بل تبقى أمامه، هذا الَّذي "لَمْ يُقَدِّمْ رِجْلاً، ولَمْ يُؤَخِّرْ رِجْلاً، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِلَّه رِضًا"، بحيث إنَّه يبقى واعياً لما يدافع عنه، وللحدود الَّتي يريد الله له أن يقف عندها.

*من خطبة عاشورائيّة لسماحته، بتاريخ: 12/ 05/ 1997م.
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية