محاضرات
26/11/2023

في ذكرى ولادةِ الرَّسولِ (ص): مسؤوليَّةُ الالتزامِ بالإسلامِ في خطِّ العدل

في ذكرى ولادةِ الرَّسولِ (ص): مسؤوليَّةُ الالتزامِ بالإسلامِ في خطِّ العدل

إنّنا نعيش مع ذكرى مولد الرّسول (ص)، وهو سرُّ المستقبل كلّه، هذا المستقبل الَّذي نسعى إليه ونعمل له، ونريد له أن يكون مستقبل الإسلام؛ إسلام الفكر والعاطفة والحياة… بحيث ينفتح على الإنسان كلّه وعلى الحياة كلّها، لأنَّ مشكلة الإسلام فيما مضى، أنَّ بعض الَّذين حملوه، حبسوه في زنزانة تخلّفهم الفكريّ، وحاصروه بكلِّ ألوان الفهم المنغلق السيِّئ، حتّى شعر الكثير من النَّاس، من مسلمين وغير مسلمين، بأنّه لا يلبّي طموحاتهم، ولا يحلّ مشاكلهم، ولا يرتفع بهم إلى الآفاق الكبيرة في الحياة، في الوقت الَّذي كان النَّاس الَّذين ينحرفون عن خطِّ الإسلام، يعملون ويبدعون ويخترعون، ويقدِّمون إلى الحياة في كلِّ يوم نظريّةً جديدة واكتشافاً جديداً. لذلك، كانت المعركة ولا تزال هي معركة الماضي والمستقبل.
ونحن عندما نذكر الماضي، فنحن نعرف أنَّ هناك الشَّمس المشرقة الَّتي انطلقت من خلال رسول الله (ص) والأئمَّة الأطهار من أهل بيته، وكلّ حشد صحابته والمجاهدين معه، ولكنَّ رسول الله (ص) والأئمَّة الطَّاهرين الطيِّبين من أهل بيته، ليسوا جماعة الماضي؛ إنهم جماعة الحياة، لأنّهم جماعة الحقيقة، والحقيقة لا زمن لها، فهي الَّتي وُلدت من الحياة، وتبقى مع الحياة تبدع في كلِّ يوم وكلِّ مرحلة جديدة إبداعاً جديداً.
لكنَّنا نقول إنَّ هذا الماضي عشَّش التخلّف في الكثير من فكره، وضاقت آفاقه فعاشت في الزوايا المظلمة، حيث هناك صراع بين جيل الماضي الَّذي يحاول أن يختنق في حرفيَّة الكلمات، ويحاول أن يبتعد عن كلِّ الآفاق الواسعة، وجيل المستقبل الّذي يريد أن يصنع المستقبل على صورة الإسلام، وأن يحرِّك الإسلام من أجل أن يخاطب العصر بلغته، وأن يحلَّ مشاكل العصر، وأن يخاطب الإنسان المعاصر في كلِّ قضاياه، وأن يكون له في كلِّ طرح جديد فكرة جديدة، وأن يكون له في كلِّ حركة من حركات الحريَّة والعدالة موقع جديد ومنطلق جديد.
رسالةُ العدل
إنَّ مسؤوليَّتنا، ونحن ننتظر صاحب الزمان، أن نحدِّق به (عج)، باعتبار أنّه يحمل رسالة جدِّه وآبائه وأجداده الَّتي يحملها من أجل أن تنفتح على كلِّ واقع الإنسان في العالم، على أساس أنَّ العدل الشَّامل يشمل الإنسان في العالم كلِّه، فبعض النَّاس يتصوَّر العدل عدل الحكم، ولكنَّ للعدل عقله وعاطفته وسياسته واقتصاده وثقافته وحركته وصراعاته. فعندما نسمع قول رسول الله (ص) إنَّه: "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً"، فإنَّنا نفهم العدل بالمعنى الإسلاميّ الشَّامل، لأنَّ العدل هو خطُّ الَّتوازن في الحياة، وخطُّ الاستقامة فيها.
ينطلق الانسان ليبدأ من داخل نفسه، وعلى الإنسان ألّا يظلم نفسه، بل أن يكون العادل معها، وأن يكون العادل مع ربِّه، بأن يعطي ربَّه حقَّه، وأن يكون عادلاً مع النَّاس كلِّهم في واقع حياته كلّها.
وفي ضوء هذا، فإنَّ رسالة الإسلام هي رسالة العدل، بل إنَّ الإسلام كلَّه عدل كما أنزله الله في كتابه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]، فكلمة العدل تختصر كلَّ الديانات وكلَّ الرسالات، باعتبار أنّها تتَّصل بالإنسان في داخله وفي خارجه، وبحركيَّة حياته وانطلاقته.
فأن يكون الإنسان مسلماً أن يكون مع العدل؛ عادلاً في نفسه، ومع عائلته، ومع جيرانه، ومع كلّ الناس في الحياة، وأن يكون الإنسان ظالماً، حتى في الظّلم الصَّغير، يعني أنَّ هناك شيئاً ناقصاً في إسلامه. وإذا تطوَّر ظلمه، فأصبح يمثّل حجماً كبيراً في الواقع، فإنَّ معنى ذلك أنَّ عليه أن يعيد النَّظر في إسلامه، لأنَّه لا معنى أن تكون مسلماً وأن تكون ظالماً، لأنَّ العدل أساس الإسلام، فكلُّ ظلمٍ هو خروجٌ عن الإسلام.
رفضُ الظَّالمينَ والمستكبرين
وهكذا، ينبغي لنا أن نفهم مسألة الوقوف ضدَّ الظالمين وضدَّ المستكبرين. والاستكبار في كلِّ مضمونه وحركيَّته هو أعلى مواقع الظّلم، وعندما نتَّخذ ذلك خطّاً نسير عليه في رفض كلِّ ظلم، وفي رفض كلِّ استكبار، فإنَّنا لا ننطلق في ذلك من حالة سياسيَّة طارئة، ومن شعار سياسيّ محدود يمكن أن نغيّره بين وقت وآخر، بل إنّه يمثّل ديننا الَّذي ندين به، فديننا يوجِبُ أن نكون مع العدل كلّه ضدّ الظلم كلّه، فمن كان صديقاً ونصيراً وناطقاً ومشاركاً لأيِّ ظلم، فإنَّه يكون منحرفاً عن خطِّ الدين. ومن هنا نقول: إنَّ ديننا سياسة، وإنَّ سياستنا دين، نقولها من خلال أنَّ ديننا دين عدل، وعدلُنا دين، والسياسة هي حركة الإنسان من أجل أن يصنع العدلَ في العالم، ومن أجل أن يفتحَ الحياةَ على أساسِ العدل. ومن خلال ذلك، نحن ننتظر إمامَنا المهديّ (عج)، لنكون جيش العدل الَّذي إذا لم يُوفَّق لأن يكون جزءاً من جيشه بالمعنى الفعليّ، فإنّه يكون الجيش الَّذي يُهيِّي له الطَّريق والسَّاحة هنا وهناك.
معنى الالتزامِ بالإسلام
وعلى هذا، فإنَّ مسألة انتمائنا إلى الإسلام، يعني انتماءنا إلى هذا الخطِّ الحركيّ الَّذي ليس لديه إلَّا الإسلام، ونحن لا نعرف أن يكون الإنسان مسلماً، كما هو إسلام العقل وإسلام القلب وإسلام الروح، وينتمي إلى غير الإسلام في أيِّ خطٍّ فكريٍّ أو خطٍّ سياسيّ.
وعلى الإنسان أن يكون صريحاً في نفسه، واضحاً معها. أن تكون مسلماً، وقد أكمل الله لك الإسلام ديناً ورضيه لك خطّاً، أن تكون مسلماً، يعني لا فراغ في عقلك لغير الإسلام، ولا فراغ في قلبك لغير الإسلام، ولا فراغ في حياتك لغير الإسلام. وهذا ما قد يعتبره بعض النَّاس تعصّباً وتطرّفاً، لأنَّ ذلك لا ينسجم مع الانفتاح!
ولكن - أيّها الأحبّة - إنَّ مسألة الإسلام تحتاج إلى الوضوح والصَّفاء؛ فإذا كنت ملتزماً برأي، فإنَّ معنى التزامك بهذا الرأي ألَّا يكون لك رأي مغاير له. كلّ التيّارات في العالم تفصح وتقول لكلِّ الذين ينتمون إليها: إنَّ عليكم أن تكونوا جديرين في الانتماء، وأن يكون انتماؤكم انتماءً فكريّاً وعاطفيّاً وحركيّاً، وهي مسألة تشترك فيها كلُّ الديانات، فالإنسان لا يعيش شخصيَّتين، بل شخصيَّة واحدة، فإذا كان الإسلام يمثِّل كلَّ عناصر الشخصيَّة في فكره، فلا مكان لغير الإسلام فيه.
سياسةُ الانفتاح
والنّقطة الثّانية أن ننفتح على الآخرين ممّن يلتقون معنا في الرأي؛ ننفتح عليهم من خلال الإسلام. ونحن نقول دائماً لأهل الكتاب في انفتاحنا عليهم في وطننا هذا، وفي غير وطننا في العالم كلِّه، إنَّنا عندما ندعو إلى عيش مشترك أو تعايش مشترك، فإننا لا نطلق ذلك شعاراً سياسياً حسب الطَّوارئ السياسيّة الَّتي تجعلك تطرح شعاراً سياسيّاً اليوم لتسحبه غداً، ولكنَّنا ننطلق من عمق الخطِّ الإسلاميّ الَّذي ينفتح على الآخرين من خلال الكلمة السَّواء: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ}[آل عمران: 64]. نحن ننفتح من خلال إسلامنا وليس بعيداً منه. وهكذا استوحينا من الكلمة السَّواء، أننا يمكن لنا أن نلتقي مع العلمانيّين في بعض القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة، لأنَّ الكلمة السّواء تختلف حسب اختلاف المضمون الَّذي ننطلق فيه.
لذلك، أيّها الأحبّة، إنّنا نريد أن نكون مسلمين فقط، ومن خلال هذا الإسلام المنفتح، ننفتح على الآخرين، وعندما نلتقي بالإمام الحجَّة (عج) في إطلالته الروحيَّة علينا من خلال الغيب، فإننا نلتقي بالإمام الَّذي يدعونا أن نكون مسلمين، وأن نكون منفتحين بإسلامنا على الآخرين، ومسلمين نحبّ الناس جميعاً، ومسلمين مجاهدين ضدّ كلّ استكبار وضدّ كلّ ظلم.
تأكيدُ دورِ المرأةِ
في هذا الجوّ، ونحن هنا مع هذه البراعم الصَّغيرة المتفتّحة على الإسلام، هذا الجيل الَّذي بدأ ينطلق في خطِّ المستقبل، هذا الجيل الطيِّب الطَّاهر من فتياتنا، ونحن نعتبر أنَّ من مسؤوليَّتنا كمسلمين، أن نصنع للمرأة دورها الكبير في المجتمع، أن لا تكون على هامش المجتمع شيئاً بعيداً من ساحة الصِّراع والمسؤوليَّة، بل أن تكون في عمق الواقع تماماً كما هو الرَّجل، وقد أطلق الله المسألة في كتابه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، والمعروف كلّ خطٍّ ومنهجٍ وحكمِ ومفهومِ يتحرَّك من أجل ما يرفع مستوى النَّاس {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ}[التّوبة: 71]، وهو ما يمثِّل كلَّ ما يدمِّر حياة النَّاس الفكريّة والاجتماعيّة والنفسيّة والعمليّة.
لذلك، إنَّ دور المرأة كدور الرَّجل، أن يتكاملا في المواقع السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وإن كان لكلِّ واحد منهما خصوصيّة في ما أودع الله في شخصيَّته من عناصر يختلف فيها عن الآخر. لذلك، لا بدَّ لنا من أن نصنع للمرأة عقلها كما نصنع للرجل عقله، وأن نصنع للمرأة حركيّتها كما للرَّجل حركيّته، ولا بدَّ من أن تتحمَّل المرأة مسؤوليَّة الصِّراع في الواقع، سواء كان سياسيّاً أو ثقافيّاً أو جهاديّاً، وكلّ حسب إمكاناته.
وإنّنا حين نريد للمرأة الانطلاق لتكون عنصراً فاعلاً في السَّاحة، نريد للمرأة المسلمة أن تكون مسلمةً في عقلها، ومسلمةً في قلبها، ومسلمةً في حركتها، أن تعيش الإسلام، فإذا فكَّرت سياسيّاً، فعليها -كما الرجل- أن تفكِّر من موقع الخطِّ الإسلاميِّ في السياسة، وإذا فكَّرت عاطفياً، فعليها التَّفكير من خلال الخطِّ الإسلامي في العاطفة، وهكذا في المجالات كلِّها. ففي الإسلام الكثير من القواعد الّتي تموِّننا بكلِّ ما يمكن للإنسان أن ينتهجه في هذا المجال.
ونحن نريد أن نعيش في مؤسَّساتنا جميعاً - وكلُّ المؤسَّسات الإسلاميَّة هي مؤسَّساتنا، لا نفرِّق بين مؤسَّسةٍ وأخرى، لأنَّنا نريدُها أن تتكاملَ في العطاءِ والتَّخطيطِ والعملِ - نحن نريد لهذه المؤسَّسات أن تعمل من أجلِ صنع جيلِ المستقبل.
في خطِّ المسؤوليَّة
وفي هذه الذّكرى، أقول لكلِّ فتياتنا الصَّغيرات: يا عزيزاتي، يا بنيَّاتي، أتمنّى من الله أن يبارك لكنَّ هذه المرحلة الجديدة الَّتي تدخلن فيها، وقيمتها أنَّ الله حمَّلكنَّ مسؤوليَّة، والله تعالى جعل البنت تتحمَّل مسؤوليَّة أكثر من الذَّكر، لأنَّ سنَّ التكليف عند الفتاة يبدأ قبل سنِّ التَّكليف عند الصبيّ، وهذا معناه أنَّ الله كرَّمها قبل الصبيّ، لأنَّ الله أراد لها أن تبدأ قبله بالصَّلاة والصَّوم، والحشمة بجمال الحجاب، وتجنّب الحرام، وفعل الخير، والله يسجِّل الحسنات للفتيات قبل الذّكور، فلا تعتبرن أنَّ سنَّ التكليف مشقَّة، بل إنَّ أقصى شرف الإنسان حين يقبله الله تعالى ويحبّه، ويريد منه الوقوف أمامه، ويطلب منه الصَّلاة والعبادة والالتزام بالأوامر والنَّواهي. بعض فتياتنا الصَّغيرات يمكن أن يتعرَّضن لمواقف فيها سخرية، وأنا أقول لكنَّ، فلتكن قصَّة نوح عبرةً لنا جميعاً، فعندما كان يبني السَّفينة، كانوا يسخرون منه {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}[هود: 38]، ولكن من يضحك هو من يضحك أخيراً، {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}[المطفّفين: 34]...
إنَّ على كلِّ فرد منّا أن يقدِّم حساباته لله، وكتابه المليء بالأعمال، فمن أطاع الله من ذكر أو أنثى، والتزم أوامره ونواهيه، فإنَّ الجنَّة هي المأوى، وأمَّا من عصى الله تعالى وانحرف عن خطّه المستقيم، فإنَّ مصيره جهنَّم خالداً فيها...
مسؤوليّةُ الأهلِ
إنّنا نبارك لفتياتنا وبناتنا في عيد التَّكليف الشَّرعيّ، لأنَّ الله تعالى قبِل هذه الثلَّة المباركة، وهو الَّذي يرضى عن عباده ويحبّنا، وحين يحبّنا الله تعالى، فالله هو من يسعدنا في الدنيا والآخرة.
وإنَّني أسألُ المولى لكُنَّ يا بناتي المزيد من السَّعادة والصحَّة والعافية والتقدّم، ولآبائكنّ وأمَّهاتكنّ المزيد من الوعي والحكمة والفهم لنفسيَّات أطفالهم. ودعوتي للآباء والأمَّهات أن يفهموا أطفالهم.. قبل أن تربّوا أطفالكم، افهموا نفسيَّاتهم وعقليَّاتهم، ولاحقوهم بالملاحظة، حتّى تعرفوا اليوم ماذا اكتسب الطفل من كلمة جديدة، وعادة جديدة، لأنَّ قضيَّة الطّفل هي أن ننمِّي عقله وروحه لا جسده فقط، ونجعله من عباد الله الصَّالحين، فالتربية مسؤوليَّة يحتاج الأهل إلى كثير من الجهود والملاحظة والوعي لذلك كلِّه، لتكون الأسرة مسلمة في خطِّ العدل والاستقامة.
*محاضرة للسيِّد المرجع المجدِّد محمَّد حسين فضل الله بمناسبة ولادة الرَّسول وتكليف ثلّة من الفتيات.


إنّنا نعيش مع ذكرى مولد الرّسول (ص)، وهو سرُّ المستقبل كلّه، هذا المستقبل الَّذي نسعى إليه ونعمل له، ونريد له أن يكون مستقبل الإسلام؛ إسلام الفكر والعاطفة والحياة… بحيث ينفتح على الإنسان كلّه وعلى الحياة كلّها، لأنَّ مشكلة الإسلام فيما مضى، أنَّ بعض الَّذين حملوه، حبسوه في زنزانة تخلّفهم الفكريّ، وحاصروه بكلِّ ألوان الفهم المنغلق السيِّئ، حتّى شعر الكثير من النَّاس، من مسلمين وغير مسلمين، بأنّه لا يلبّي طموحاتهم، ولا يحلّ مشاكلهم، ولا يرتفع بهم إلى الآفاق الكبيرة في الحياة، في الوقت الَّذي كان النَّاس الَّذين ينحرفون عن خطِّ الإسلام، يعملون ويبدعون ويخترعون، ويقدِّمون إلى الحياة في كلِّ يوم نظريّةً جديدة واكتشافاً جديداً. لذلك، كانت المعركة ولا تزال هي معركة الماضي والمستقبل.
ونحن عندما نذكر الماضي، فنحن نعرف أنَّ هناك الشَّمس المشرقة الَّتي انطلقت من خلال رسول الله (ص) والأئمَّة الأطهار من أهل بيته، وكلّ حشد صحابته والمجاهدين معه، ولكنَّ رسول الله (ص) والأئمَّة الطَّاهرين الطيِّبين من أهل بيته، ليسوا جماعة الماضي؛ إنهم جماعة الحياة، لأنّهم جماعة الحقيقة، والحقيقة لا زمن لها، فهي الَّتي وُلدت من الحياة، وتبقى مع الحياة تبدع في كلِّ يوم وكلِّ مرحلة جديدة إبداعاً جديداً.
لكنَّنا نقول إنَّ هذا الماضي عشَّش التخلّف في الكثير من فكره، وضاقت آفاقه فعاشت في الزوايا المظلمة، حيث هناك صراع بين جيل الماضي الَّذي يحاول أن يختنق في حرفيَّة الكلمات، ويحاول أن يبتعد عن كلِّ الآفاق الواسعة، وجيل المستقبل الّذي يريد أن يصنع المستقبل على صورة الإسلام، وأن يحرِّك الإسلام من أجل أن يخاطب العصر بلغته، وأن يحلَّ مشاكل العصر، وأن يخاطب الإنسان المعاصر في كلِّ قضاياه، وأن يكون له في كلِّ طرح جديد فكرة جديدة، وأن يكون له في كلِّ حركة من حركات الحريَّة والعدالة موقع جديد ومنطلق جديد.
رسالةُ العدل
إنَّ مسؤوليَّتنا، ونحن ننتظر صاحب الزمان، أن نحدِّق به (عج)، باعتبار أنّه يحمل رسالة جدِّه وآبائه وأجداده الَّتي يحملها من أجل أن تنفتح على كلِّ واقع الإنسان في العالم، على أساس أنَّ العدل الشَّامل يشمل الإنسان في العالم كلِّه، فبعض النَّاس يتصوَّر العدل عدل الحكم، ولكنَّ للعدل عقله وعاطفته وسياسته واقتصاده وثقافته وحركته وصراعاته. فعندما نسمع قول رسول الله (ص) إنَّه: "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً"، فإنَّنا نفهم العدل بالمعنى الإسلاميّ الشَّامل، لأنَّ العدل هو خطُّ الَّتوازن في الحياة، وخطُّ الاستقامة فيها.
ينطلق الانسان ليبدأ من داخل نفسه، وعلى الإنسان ألّا يظلم نفسه، بل أن يكون العادل معها، وأن يكون العادل مع ربِّه، بأن يعطي ربَّه حقَّه، وأن يكون عادلاً مع النَّاس كلِّهم في واقع حياته كلّها.
وفي ضوء هذا، فإنَّ رسالة الإسلام هي رسالة العدل، بل إنَّ الإسلام كلَّه عدل كما أنزله الله في كتابه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]، فكلمة العدل تختصر كلَّ الديانات وكلَّ الرسالات، باعتبار أنّها تتَّصل بالإنسان في داخله وفي خارجه، وبحركيَّة حياته وانطلاقته.
فأن يكون الإنسان مسلماً أن يكون مع العدل؛ عادلاً في نفسه، ومع عائلته، ومع جيرانه، ومع كلّ الناس في الحياة، وأن يكون الإنسان ظالماً، حتى في الظّلم الصَّغير، يعني أنَّ هناك شيئاً ناقصاً في إسلامه. وإذا تطوَّر ظلمه، فأصبح يمثّل حجماً كبيراً في الواقع، فإنَّ معنى ذلك أنَّ عليه أن يعيد النَّظر في إسلامه، لأنَّه لا معنى أن تكون مسلماً وأن تكون ظالماً، لأنَّ العدل أساس الإسلام، فكلُّ ظلمٍ هو خروجٌ عن الإسلام.
رفضُ الظَّالمينَ والمستكبرين
وهكذا، ينبغي لنا أن نفهم مسألة الوقوف ضدَّ الظالمين وضدَّ المستكبرين. والاستكبار في كلِّ مضمونه وحركيَّته هو أعلى مواقع الظّلم، وعندما نتَّخذ ذلك خطّاً نسير عليه في رفض كلِّ ظلم، وفي رفض كلِّ استكبار، فإنَّنا لا ننطلق في ذلك من حالة سياسيَّة طارئة، ومن شعار سياسيّ محدود يمكن أن نغيّره بين وقت وآخر، بل إنّه يمثّل ديننا الَّذي ندين به، فديننا يوجِبُ أن نكون مع العدل كلّه ضدّ الظلم كلّه، فمن كان صديقاً ونصيراً وناطقاً ومشاركاً لأيِّ ظلم، فإنَّه يكون منحرفاً عن خطِّ الدين. ومن هنا نقول: إنَّ ديننا سياسة، وإنَّ سياستنا دين، نقولها من خلال أنَّ ديننا دين عدل، وعدلُنا دين، والسياسة هي حركة الإنسان من أجل أن يصنع العدلَ في العالم، ومن أجل أن يفتحَ الحياةَ على أساسِ العدل. ومن خلال ذلك، نحن ننتظر إمامَنا المهديّ (عج)، لنكون جيش العدل الَّذي إذا لم يُوفَّق لأن يكون جزءاً من جيشه بالمعنى الفعليّ، فإنّه يكون الجيش الَّذي يُهيِّي له الطَّريق والسَّاحة هنا وهناك.
معنى الالتزامِ بالإسلام
وعلى هذا، فإنَّ مسألة انتمائنا إلى الإسلام، يعني انتماءنا إلى هذا الخطِّ الحركيّ الَّذي ليس لديه إلَّا الإسلام، ونحن لا نعرف أن يكون الإنسان مسلماً، كما هو إسلام العقل وإسلام القلب وإسلام الروح، وينتمي إلى غير الإسلام في أيِّ خطٍّ فكريٍّ أو خطٍّ سياسيّ.
وعلى الإنسان أن يكون صريحاً في نفسه، واضحاً معها. أن تكون مسلماً، وقد أكمل الله لك الإسلام ديناً ورضيه لك خطّاً، أن تكون مسلماً، يعني لا فراغ في عقلك لغير الإسلام، ولا فراغ في قلبك لغير الإسلام، ولا فراغ في حياتك لغير الإسلام. وهذا ما قد يعتبره بعض النَّاس تعصّباً وتطرّفاً، لأنَّ ذلك لا ينسجم مع الانفتاح!
ولكن - أيّها الأحبّة - إنَّ مسألة الإسلام تحتاج إلى الوضوح والصَّفاء؛ فإذا كنت ملتزماً برأي، فإنَّ معنى التزامك بهذا الرأي ألَّا يكون لك رأي مغاير له. كلّ التيّارات في العالم تفصح وتقول لكلِّ الذين ينتمون إليها: إنَّ عليكم أن تكونوا جديرين في الانتماء، وأن يكون انتماؤكم انتماءً فكريّاً وعاطفيّاً وحركيّاً، وهي مسألة تشترك فيها كلُّ الديانات، فالإنسان لا يعيش شخصيَّتين، بل شخصيَّة واحدة، فإذا كان الإسلام يمثِّل كلَّ عناصر الشخصيَّة في فكره، فلا مكان لغير الإسلام فيه.
سياسةُ الانفتاح
والنّقطة الثّانية أن ننفتح على الآخرين ممّن يلتقون معنا في الرأي؛ ننفتح عليهم من خلال الإسلام. ونحن نقول دائماً لأهل الكتاب في انفتاحنا عليهم في وطننا هذا، وفي غير وطننا في العالم كلِّه، إنَّنا عندما ندعو إلى عيش مشترك أو تعايش مشترك، فإننا لا نطلق ذلك شعاراً سياسياً حسب الطَّوارئ السياسيّة الَّتي تجعلك تطرح شعاراً سياسيّاً اليوم لتسحبه غداً، ولكنَّنا ننطلق من عمق الخطِّ الإسلاميّ الَّذي ينفتح على الآخرين من خلال الكلمة السَّواء: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ}[آل عمران: 64]. نحن ننفتح من خلال إسلامنا وليس بعيداً منه. وهكذا استوحينا من الكلمة السَّواء، أننا يمكن لنا أن نلتقي مع العلمانيّين في بعض القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة، لأنَّ الكلمة السّواء تختلف حسب اختلاف المضمون الَّذي ننطلق فيه.
لذلك، أيّها الأحبّة، إنّنا نريد أن نكون مسلمين فقط، ومن خلال هذا الإسلام المنفتح، ننفتح على الآخرين، وعندما نلتقي بالإمام الحجَّة (عج) في إطلالته الروحيَّة علينا من خلال الغيب، فإننا نلتقي بالإمام الَّذي يدعونا أن نكون مسلمين، وأن نكون منفتحين بإسلامنا على الآخرين، ومسلمين نحبّ الناس جميعاً، ومسلمين مجاهدين ضدّ كلّ استكبار وضدّ كلّ ظلم.
تأكيدُ دورِ المرأةِ
في هذا الجوّ، ونحن هنا مع هذه البراعم الصَّغيرة المتفتّحة على الإسلام، هذا الجيل الَّذي بدأ ينطلق في خطِّ المستقبل، هذا الجيل الطيِّب الطَّاهر من فتياتنا، ونحن نعتبر أنَّ من مسؤوليَّتنا كمسلمين، أن نصنع للمرأة دورها الكبير في المجتمع، أن لا تكون على هامش المجتمع شيئاً بعيداً من ساحة الصِّراع والمسؤوليَّة، بل أن تكون في عمق الواقع تماماً كما هو الرَّجل، وقد أطلق الله المسألة في كتابه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، والمعروف كلّ خطٍّ ومنهجٍ وحكمِ ومفهومِ يتحرَّك من أجل ما يرفع مستوى النَّاس {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ}[التّوبة: 71]، وهو ما يمثِّل كلَّ ما يدمِّر حياة النَّاس الفكريّة والاجتماعيّة والنفسيّة والعمليّة.
لذلك، إنَّ دور المرأة كدور الرَّجل، أن يتكاملا في المواقع السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وإن كان لكلِّ واحد منهما خصوصيّة في ما أودع الله في شخصيَّته من عناصر يختلف فيها عن الآخر. لذلك، لا بدَّ لنا من أن نصنع للمرأة عقلها كما نصنع للرجل عقله، وأن نصنع للمرأة حركيّتها كما للرَّجل حركيّته، ولا بدَّ من أن تتحمَّل المرأة مسؤوليَّة الصِّراع في الواقع، سواء كان سياسيّاً أو ثقافيّاً أو جهاديّاً، وكلّ حسب إمكاناته.
وإنّنا حين نريد للمرأة الانطلاق لتكون عنصراً فاعلاً في السَّاحة، نريد للمرأة المسلمة أن تكون مسلمةً في عقلها، ومسلمةً في قلبها، ومسلمةً في حركتها، أن تعيش الإسلام، فإذا فكَّرت سياسيّاً، فعليها -كما الرجل- أن تفكِّر من موقع الخطِّ الإسلاميِّ في السياسة، وإذا فكَّرت عاطفياً، فعليها التَّفكير من خلال الخطِّ الإسلامي في العاطفة، وهكذا في المجالات كلِّها. ففي الإسلام الكثير من القواعد الّتي تموِّننا بكلِّ ما يمكن للإنسان أن ينتهجه في هذا المجال.
ونحن نريد أن نعيش في مؤسَّساتنا جميعاً - وكلُّ المؤسَّسات الإسلاميَّة هي مؤسَّساتنا، لا نفرِّق بين مؤسَّسةٍ وأخرى، لأنَّنا نريدُها أن تتكاملَ في العطاءِ والتَّخطيطِ والعملِ - نحن نريد لهذه المؤسَّسات أن تعمل من أجلِ صنع جيلِ المستقبل.
في خطِّ المسؤوليَّة
وفي هذه الذّكرى، أقول لكلِّ فتياتنا الصَّغيرات: يا عزيزاتي، يا بنيَّاتي، أتمنّى من الله أن يبارك لكنَّ هذه المرحلة الجديدة الَّتي تدخلن فيها، وقيمتها أنَّ الله حمَّلكنَّ مسؤوليَّة، والله تعالى جعل البنت تتحمَّل مسؤوليَّة أكثر من الذَّكر، لأنَّ سنَّ التكليف عند الفتاة يبدأ قبل سنِّ التَّكليف عند الصبيّ، وهذا معناه أنَّ الله كرَّمها قبل الصبيّ، لأنَّ الله أراد لها أن تبدأ قبله بالصَّلاة والصَّوم، والحشمة بجمال الحجاب، وتجنّب الحرام، وفعل الخير، والله يسجِّل الحسنات للفتيات قبل الذّكور، فلا تعتبرن أنَّ سنَّ التكليف مشقَّة، بل إنَّ أقصى شرف الإنسان حين يقبله الله تعالى ويحبّه، ويريد منه الوقوف أمامه، ويطلب منه الصَّلاة والعبادة والالتزام بالأوامر والنَّواهي. بعض فتياتنا الصَّغيرات يمكن أن يتعرَّضن لمواقف فيها سخرية، وأنا أقول لكنَّ، فلتكن قصَّة نوح عبرةً لنا جميعاً، فعندما كان يبني السَّفينة، كانوا يسخرون منه {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}[هود: 38]، ولكن من يضحك هو من يضحك أخيراً، {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}[المطفّفين: 34]...
إنَّ على كلِّ فرد منّا أن يقدِّم حساباته لله، وكتابه المليء بالأعمال، فمن أطاع الله من ذكر أو أنثى، والتزم أوامره ونواهيه، فإنَّ الجنَّة هي المأوى، وأمَّا من عصى الله تعالى وانحرف عن خطّه المستقيم، فإنَّ مصيره جهنَّم خالداً فيها...
مسؤوليّةُ الأهلِ
إنّنا نبارك لفتياتنا وبناتنا في عيد التَّكليف الشَّرعيّ، لأنَّ الله تعالى قبِل هذه الثلَّة المباركة، وهو الَّذي يرضى عن عباده ويحبّنا، وحين يحبّنا الله تعالى، فالله هو من يسعدنا في الدنيا والآخرة.
وإنَّني أسألُ المولى لكُنَّ يا بناتي المزيد من السَّعادة والصحَّة والعافية والتقدّم، ولآبائكنّ وأمَّهاتكنّ المزيد من الوعي والحكمة والفهم لنفسيَّات أطفالهم. ودعوتي للآباء والأمَّهات أن يفهموا أطفالهم.. قبل أن تربّوا أطفالكم، افهموا نفسيَّاتهم وعقليَّاتهم، ولاحقوهم بالملاحظة، حتّى تعرفوا اليوم ماذا اكتسب الطفل من كلمة جديدة، وعادة جديدة، لأنَّ قضيَّة الطّفل هي أن ننمِّي عقله وروحه لا جسده فقط، ونجعله من عباد الله الصَّالحين، فالتربية مسؤوليَّة يحتاج الأهل إلى كثير من الجهود والملاحظة والوعي لذلك كلِّه، لتكون الأسرة مسلمة في خطِّ العدل والاستقامة.
*محاضرة للسيِّد المرجع المجدِّد محمَّد حسين فضل الله بمناسبة ولادة الرَّسول وتكليف ثلّة من الفتيات.


اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية