يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33].
في بداية هذا الشَّهر، شهر شعبان، عدَّة ذكريات: ذكرى مولد الإمام الحسين (ع) في الثَّالث منه، وذكرى ولادة أبي الفضل العبّاس (ع) في الرابع منه، وذكرى ولادة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) في الخامس منه.
وعندما نعيش هذه الذّكريات، فإنّما نعيش الإسلام كلَّه في كلِّ قيمه ومعانيه، وكلّ حركته وكلّ أسرار التّضحية التي تمثّلت في كلّ واحد من هؤلاء الَّذين أغنوا الواقع الإسلاميّ بالأسرار التي أفاضت على التّاريخ الكثير من العلم والروحانيّة، والكثير من الحركيّة والقيم...
فقد كان العبَّاس بن عليّ (ع) مع أخيه الحسين (ع)، كما كان أبوه عليّ (ع) لرسول الله (ص). يقول الّذين كتبوا عنه: "كان العبّاس رجلاً وسيماً، جميلاً، فارساً، يركب الفرس المطهَّم ورجلاه تخطَّان الأرض، وكان لواء الحسين (ع) معه" .
وعن الإمام الصَّادق (ع): "كان عمّنا العبّاس بن عليّ نافذ البصيرة - كانت بصيرته بصيرة العارفين الَّذين يعرفون الأمور في أعماقها، كان عالماً قبل أن يكون شجاعاً، وكان يمثّل العقل الذي يتحرّك بالحقّ كلّه والحقيقة كلّها - صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله (ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً" . وعن الإمام زين العابدين (ع): "رحم الله العبّاس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه".
ولذلك، علينا أن نتصوَّر هذه الشّخصيَّة الرّساليَّة الإيمانيَّة للعبّاس قبل أن نتصوَّر جهاده، لأنَّ جهاده انطلق من رسالته، ولأنَّ تضحيته انطلقت من دينه؛ وبذلك يكون العبّاس قدوةً للمقاومين والمجاهدين، وقدوةً للّذين يحملون الرسالة ويواجهون كلّ أعدائها.
أمَّا الإمام عليّ بن الحسين (ع)، فيُروى عن الزّهري أنَّه قال: "ما رأيت هاشميَّاً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه" . وقال الإمام الشَّافعي: إنّه "أفقه أهل المدينة" . وقد استطاع أن يعلّم أساتذة العالم الإسلامي آنذاك، فهو أستاذ كلّ المرحلة التي عاشها، لأنّه كان يستقبلهم ويعطيهم من علمه علماً، ومن خشيته لله خشيةً، ومن ورعه ورعاً.
وعن سفيان بن عُيينة قال: "قلت للزَّهري: ألَقِيت عليَّ بن الحسين؟ قال: نعم، لقيته، وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا في العلانية. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأني لم أرَ أحداً، وإن كان يحبّه، إلَّا وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً، وإن كان يبغضه، إلَّا وهو لشدّة مداراته يداريه".
عاش الإمام زين العابدين (ع) مأساة كربلاء بكلّ تفاصيلها، وكان الصَّابر، وهو الّذي كان يجلس إليه أبوه الحسين (ع) بين وقتٍ وآخر، يعدّه ليكون خليفته من بعده، وليتسلَّم شؤون الإمامة.
عاش (ع) آلام السّبي، ووقف أمام ابن زياد ويزيد بكلِّ شجاعة وقوّة، حتى أسكتهما. ثم انطلق (ع) لتكون إمامته حركةً متنوّعة الأبعاد، فلم يكن مجرّد عابدٍ يعبد الله في اللّيل والنّهار، ولكنّه كان يعلّم الناس ويرشدهم، ولذلك كانت أدعيته أدعيةً ثقافيَّةً تعبّر تعبيراً عميقاً عن كلّ قيم الإسلام.
كان عليّ بن الحسين (ع) يعيش ليله ونهاره مشغولاً بالإسلام كلّه، يغرس في نفوس المجتمع الإسلاميّ الروحانيّة التي تربطه بالله، وبخوف الله، وبمحبّة الله، وبالجهاد في سبيل الله، واستطاع أن يجعل كلّ حياته مليئةً بالجهاد في مواقع الدّعوة الإسلاميَّة، كان كرسول الله وكأبيه الحسين وجدّه عليّ، ينطلق من موقع المسؤوليّة.
إنّ هؤلاء هم أئمّتنا، هم قادتنا، هم هدانا، هم الَّذين نواليهم من كلّ عقولنا موالاة العقل والقلب والحياة. ليست المسألة بيننا وبين أهل البيت (ع) مسألةً عاطفيَّةً، ولكنّها مسألة إماميّة إسلاميّة مسؤولة. إنَّ أهل البيت لا يريدون منّا أن نحبّهم حبّاً شخصياً، بل أن نحبّهم حبّاً رسالياً.
أمّا قضية بكاء الإمام زين العابدين (ع)، فإنّه كان يريد أن يثير قضيّة الحسين لتعيش في وجدان كلّ النّاس، لا من ناحية قرابته له، بل من ناحية أنّه يرى في الحسين الإمام الذي ورث آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد في الدّعوة إلى الله والإخلاص إليه.
هؤلاء هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
نسأل الله تعالى أن يشفّعهم فينا، ويحشرنا معهم في الآخرة. والسَّلام عليهم يوم وُلدوا، ويوم توفّوا، ويوم يبعثون أحياء.
*من خطبة جمعة لسماحته، بتارخ: 9 شعبان 1430 هـ/ الموافق: ٣١ /٧ / ٢٠٠٩.
***
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج45، ص 39.
2- عمدة الطّالب، ابن عنبة، ص 356.
3- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 68.
4- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص 297.
5- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج15، ص 274.
6- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج12، ص 203.
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33].
في بداية هذا الشَّهر، شهر شعبان، عدَّة ذكريات: ذكرى مولد الإمام الحسين (ع) في الثَّالث منه، وذكرى ولادة أبي الفضل العبّاس (ع) في الرابع منه، وذكرى ولادة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) في الخامس منه.
وعندما نعيش هذه الذّكريات، فإنّما نعيش الإسلام كلَّه في كلِّ قيمه ومعانيه، وكلّ حركته وكلّ أسرار التّضحية التي تمثّلت في كلّ واحد من هؤلاء الَّذين أغنوا الواقع الإسلاميّ بالأسرار التي أفاضت على التّاريخ الكثير من العلم والروحانيّة، والكثير من الحركيّة والقيم...
فقد كان العبَّاس بن عليّ (ع) مع أخيه الحسين (ع)، كما كان أبوه عليّ (ع) لرسول الله (ص). يقول الّذين كتبوا عنه: "كان العبّاس رجلاً وسيماً، جميلاً، فارساً، يركب الفرس المطهَّم ورجلاه تخطَّان الأرض، وكان لواء الحسين (ع) معه" .
وعن الإمام الصَّادق (ع): "كان عمّنا العبّاس بن عليّ نافذ البصيرة - كانت بصيرته بصيرة العارفين الَّذين يعرفون الأمور في أعماقها، كان عالماً قبل أن يكون شجاعاً، وكان يمثّل العقل الذي يتحرّك بالحقّ كلّه والحقيقة كلّها - صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله (ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً" . وعن الإمام زين العابدين (ع): "رحم الله العبّاس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه".
ولذلك، علينا أن نتصوَّر هذه الشّخصيَّة الرّساليَّة الإيمانيَّة للعبّاس قبل أن نتصوَّر جهاده، لأنَّ جهاده انطلق من رسالته، ولأنَّ تضحيته انطلقت من دينه؛ وبذلك يكون العبّاس قدوةً للمقاومين والمجاهدين، وقدوةً للّذين يحملون الرسالة ويواجهون كلّ أعدائها.
أمَّا الإمام عليّ بن الحسين (ع)، فيُروى عن الزّهري أنَّه قال: "ما رأيت هاشميَّاً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه" . وقال الإمام الشَّافعي: إنّه "أفقه أهل المدينة" . وقد استطاع أن يعلّم أساتذة العالم الإسلامي آنذاك، فهو أستاذ كلّ المرحلة التي عاشها، لأنّه كان يستقبلهم ويعطيهم من علمه علماً، ومن خشيته لله خشيةً، ومن ورعه ورعاً.
وعن سفيان بن عُيينة قال: "قلت للزَّهري: ألَقِيت عليَّ بن الحسين؟ قال: نعم، لقيته، وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا في العلانية. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأني لم أرَ أحداً، وإن كان يحبّه، إلَّا وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً، وإن كان يبغضه، إلَّا وهو لشدّة مداراته يداريه".
عاش الإمام زين العابدين (ع) مأساة كربلاء بكلّ تفاصيلها، وكان الصَّابر، وهو الّذي كان يجلس إليه أبوه الحسين (ع) بين وقتٍ وآخر، يعدّه ليكون خليفته من بعده، وليتسلَّم شؤون الإمامة.
عاش (ع) آلام السّبي، ووقف أمام ابن زياد ويزيد بكلِّ شجاعة وقوّة، حتى أسكتهما. ثم انطلق (ع) لتكون إمامته حركةً متنوّعة الأبعاد، فلم يكن مجرّد عابدٍ يعبد الله في اللّيل والنّهار، ولكنّه كان يعلّم الناس ويرشدهم، ولذلك كانت أدعيته أدعيةً ثقافيَّةً تعبّر تعبيراً عميقاً عن كلّ قيم الإسلام.
كان عليّ بن الحسين (ع) يعيش ليله ونهاره مشغولاً بالإسلام كلّه، يغرس في نفوس المجتمع الإسلاميّ الروحانيّة التي تربطه بالله، وبخوف الله، وبمحبّة الله، وبالجهاد في سبيل الله، واستطاع أن يجعل كلّ حياته مليئةً بالجهاد في مواقع الدّعوة الإسلاميَّة، كان كرسول الله وكأبيه الحسين وجدّه عليّ، ينطلق من موقع المسؤوليّة.
إنّ هؤلاء هم أئمّتنا، هم قادتنا، هم هدانا، هم الَّذين نواليهم من كلّ عقولنا موالاة العقل والقلب والحياة. ليست المسألة بيننا وبين أهل البيت (ع) مسألةً عاطفيَّةً، ولكنّها مسألة إماميّة إسلاميّة مسؤولة. إنَّ أهل البيت لا يريدون منّا أن نحبّهم حبّاً شخصياً، بل أن نحبّهم حبّاً رسالياً.
أمّا قضية بكاء الإمام زين العابدين (ع)، فإنّه كان يريد أن يثير قضيّة الحسين لتعيش في وجدان كلّ النّاس، لا من ناحية قرابته له، بل من ناحية أنّه يرى في الحسين الإمام الذي ورث آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد في الدّعوة إلى الله والإخلاص إليه.
هؤلاء هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
نسأل الله تعالى أن يشفّعهم فينا، ويحشرنا معهم في الآخرة. والسَّلام عليهم يوم وُلدوا، ويوم توفّوا، ويوم يبعثون أحياء.
*من خطبة جمعة لسماحته، بتارخ: 9 شعبان 1430 هـ/ الموافق: ٣١ /٧ / ٢٠٠٩.
***
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج45، ص 39.
2- عمدة الطّالب، ابن عنبة، ص 356.
3- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 68.
4- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص 297.
5- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج15، ص 274.
6- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج12، ص 203.