يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. في هذا الشهر - شعبان - تمرّ أكثر من ذكرى لأهل البيت (ع)، ففي الثالث منه كانت ولادة الإمام الحسين بن عليّ (ع)، وفي الرابع منه كانت ولادة أبي الفضل العباس (ع)، وفي الخامس منه كانت ولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، وفي الخامس عشر منه ستمرّ ولادة الإمام الحجة(عج). ولادة الحسين (ع) ونحن عندما نتذكّر أهل البيت (ع)، فإننا نعيش كل هذا العطر الروحي الذي يتمثّل في روحانيتهم التي تعيش الفيض في الإخلاص لله ولعباد الله، وفي التضحية للإسلام كله وللمسلمين كلهم، كما نعيش كل آفاق السمو والرفعة والعصمة المتمثلة في الأئمة (ع). وعندما نتذكّر الحسين (ع) وليداً كثاني وليد لعليّ والزهراء (ع)، فإننا نتذكّر فرح رسول الله (ص) به، كفرحه بأخيه الحسن (ع) الذي سبقه في الولادة، وكان هذا الفرح يتجاوز الجانب العاطفي إلى الجانب القيمي، فقد كان رسول الله (ص) وهو يحتضن هذين الوليدين، يتطلع إلى العناصر الروحية الكامنة في شخصيتهما، ويتطلّع إلى المستقبل الذي ينطلقان فيه ليتحركا في خطّ رعاية دينه وشريعته، وليعطيا كل التضحية لذلك كله بعد أبيهما عليّ (ع) الذي أخلص للإسلام بعد رسول الله (ص) كما لم يخلص له أحد، فكان الإنسان الذي باع نفسه لله، فلم يكن لنفسه عند نفسه شيء، كان بكلّه لله، وقد أنزل الله تعالى فيه قرآناً: {وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ?بْتِغَاءَ مَرْضَاتِ ?للهِ وَ?للهُ رَءُوفٌ بِ?لْعِبَادِ}، وقد ذكر المفسِّرون أن هذه الآية نزلت في عليّ (ع) عندما بات على فراش رسول الله (ص) ليلة الهجرة. وكان رسول الله (ص) يحتضن الحسن والحسين (ع) بكلّ فرح الرّسالة والأبوّة، وكان يحملهما على ظهره ويرعاهما رعاية خاصّة، ويحدّث المسلمين عنهما وهما في سنّ الطفولة، فيقول: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة"، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا". وانطلق الحسنان (ع) في أحضان أمّهما الزهراء (ع)، السيدة المعصومة بعصمة الطهر؛ طهر العقل والقلب والجسد والسلوك، وهي سيدة نساء أهل الجنة وسيدة نساء العالمين، كما جاء الحديث بذلك عن رسول الله (ص)، وعاشا مع عليّ (ع) كل روحانيته وإخلاصه لربه وطهارة عقله وقلبه وحياته، وانطلقا بعد ذلك ليواجها أصعب التحديات، وكانا في مستوى الرسالة، وانطلق الحسن (ع) ليواجه الواقع الصعب الذي فَرَض عليه من أجل مصلحة المسلمين أن يصالح عدوّه، وسقط الحسين (ع) شهيداً، لم يعطِ بيده إعطاء الذّليل، ولم يقرّ إقرار العبيد، ولم يتنازل عن الرسالة عندما عُرض عليه أن يتنازل عن موقف الرّسالة، وقال لهم: "ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون". وتحوّل الحسين (ع) إلى رمز للرسالة وللجهاد ولكلّ القيم الروحية والأخلاقية، بحيث إننا نشعر الآن بعد أربعة عشر قرناً تقريباً، بأن الحسين (ع) حاضر فينا بكلّ معنى الرسالة والتضحية والعطاء والجهاد في سبيل الله، وبقي الحسين (ع) يوحي لنا بالتمرد على كل الظالمين والمستكبرين، وبقي الحسين (ع) فينا ليسير بنا في كل جيل، حتى نخرج دائماً في كل مواقعنا لنطلب الإصلاح في أمة جدّه (ص)، لنأمر بالمعروف كلّ من يترك المعروف، سواء كان معروفاً شرعياً أو حركياً أو سياسياً أو اجتماعياً، ولنقف ضد كلّ من يفعل المنكر، بقي الحسين (ع) لنا منهجاً وخطاً في كل موقع كان فيه للإسلام قضية وللمسلمين معركة. ولادة العبّاس (ع) وعندما نعيش مع الحسين (ع)، فإننا نعيش مع أخيه العباس بن عليّ (ع)، الذي كان الحسين (ع) بالنسبة إليه الإمام الذي يشعر بإمامته قبل أن يشعر بأخوّته، ولذلك أعطاه كلّ نفسه وأخوّته، وهذا ما عبّر عنه عندما انطلق في المعركة بعد أن قطعوا يمينه، ليؤكّد الدفاع عن الإمام، لا الدفاع عن الأخ من ناحية عاطفية، فيروى عنه أنّه قال، أو هو لسان حاله: والله إن قطعتـم يميني إني أحامي أبداً عن ديني وعن إمام صادق اليقين نجل النبيّ الطاهر الأمين إن هذين البيتين يوحيان لكلّ مسلم ينفتح على شخصية العباس (ع)، أن ما يملكه الإنسان من شجاعة وبطولة وقوّة، عليه أن يحوّلها من أجل حماية الدين، أن نشعر بأن الدين الإسلامي هو مسؤوليتنا، أن ندافع عنه أمام كل الذين يريدون الإضرار به وإضعافه والنيل منه، وأن نعمل على أن نحامي عن القيادات الإسلامية الصالحة التي تدعو إلى الله وتجاهد في سبيله، أن نحميها من أنفسنا ومن الآخرين، ومن الطبيعي أنّ حماية الدين تفرض حماية المسلمين، لأنّ الدين يتمثّل في الأمة الإسلامية، فقوّته بقوّة الأمّة، كما أن قوّتها بقوّته. ولذلك، فإنّ على الإنسان المسلم أن لا يعيش ذاتياته، بل أن يعيش معنى إسلامه، أن يعيش مسؤوليّته عن الإسلام في المسألة السياسية والعقيدية والشرعية والاجتماعية، أن نكون كما كان الحسين (ع)، وكما كان العباس وإخوته، وكما كان عليّ الأكبر وكلّ تلك الصفوة الطيّبة من أهل بيت الحسين (ع) وأصحابه، الذين انطلقوا من أجل حماية الإسلام في الداخل والخارج. هذا هو درس العباس (ع) إلينا، فليس العباس مجرّد بطل نعتزّ ببطولته، ولكن بطولته الإرادية أعظم من بطولته الجسدية، لأنّ قضيّة أن يعيش الإنسان بطولة الإرادة والموقف والتضحية في سبيل مبدئه، هي البطولة كل البطولة، وإن قيمة البطولة الجسديّة إنما هي في أن تتحرك في خط البطولة الروحية، لأن الإنسان بعقيدته ومبدئه وموقفه، وقد قال الإمام الصادق (ع) وهو يتحدث عن العباس في وعيه وصلابة إيمانه: "كان عمنا العباس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله الحسين (ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً". ولادة زين العابدين (ع) وعندما نقف مع الإمام عليّ بن الحسين (ع) زين العابدين، هذا الإمام الذي عاش مع أبيه في كربلاء وشاهد كلّ مآسيها، وعاشها في عقله وقلبه ومشاعره، كانت المشاهد بين يديه عندما رأى كيف قتل إخوته وأعمامه وأهل بيته وأصحابه، ورأى أباه الحسين (ع) بتلك الصورة المأساوية، ثم عاش السبي مع بنات الرّسالة، وواجه الموقف بكلّ قوّة وصلابة في مجلس "ابن زياد" ومجلس "يزيد"، وكأن الله تعالى أراد لهذه الشجرة المباركة أن تمتدّ، فكان (ع) مريضاً، ولذلك لم يبرز إلى القتال، وقد منعه الإمام الحسين من الخروج للمبارزة - كما تقول السيرة الحسينيّة - ثم بعد كربلاء، أسس الإمام زين العابدين (ع) نهجاً لاستمرار كربلاء في وجدان الناس، فكان يذكّرهم بالمأساة بين وقت وآخر حتى تتعمّق في وجدانهم، وحتى يتعمّق رفض الذين صنعوا المأساة، وليتعلّموا أنّ عليهم أن يرفضوا كلّ يزيد في كلّ موقع، وأن يكونوا مع كلّ حسين في كلّ موقع. ولذلك، فإن الإمام زين العابدين (ع) هو الذي أسّس لإقامة المجالس الحسينية التي أُريد لها أن تخلّد هذه السيرة، لتخلّد الخطّ الرّساليّ الذي انطلقت فيه. ثم انطلق الإمام زين العابدين (ع) في المجتمع الإسلامي معلّماً يعلّم الناس الإسلام في كلّ مواقعه العقيدية والروحية والأخلاقية والشرعية، ولو أنّنا درسنا تراث الإمام زين العابدين (ع)، لرأينا أنه كان إمام الثقافة الإسلاميّة في تلك المرحلة التي عاشها، وقد تلمّذ عليه الكثيرون ممن يُعتبرون من روّاد الثقافة الإسلاميّة. وقد أسس الإمام زين العابدين (ع) المنهج الإسلامي في الدعاء، فإننا عندما نقرأ أدعيته، نرى أنه حشد فيها الكثير من المعارف الإسلاميّة في العقيدة، سواء عقيدة التوحيد أو النبوّة أو المعاد، وحشد الكثير من القيم الأخلاقيّة التي ترتفع بالإنسان إلى المستوى الأعلى في مناقبيّته وأخلاقيّته، فنحن نقرأ في بعض أدعيته أنه (ع) يقول: "اللّهم صلِّ على محمد وآل محمد، واكسر شهوتي عن كلّ محرّم، وازوِ حرصي عن كلّ مأثم، وامنعني عن أذى كلّ مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة". إنه يطلب من الله تعالى أن يتدخّل بقوته ليضغط عليه إذا بدأ يفكر في إيذاء أي مؤمن أو مسلم أو مسلمة، كان يستعين بقوّة الله على نفسه، يعلّمنا أن الإنسان المؤمن إذا حاولت نفسه الأمّارة بالسوء أن تأمره بأن يؤذي أيّ مؤمن ومؤمنة، سواء كان ذلك في بيته أو في محلّته، أن يطلب من الله تعالى أن يبعده عن ذلك.. كان يعلّمنا أن على الناس الناجحين الذين ينجحون في حياتهم، فيحصلون على الموقع الاجتماعي والسياسي، وأنّ الأشخاص الذين تهتف الناس بأسمائهم ويحملونهم على أكتافهم، أن لا يشعروا بانتفاخ شخصيّتهم، فيأتي الشيطان ليثير الغرور والخيلاء في أنفسهم، فالإمام (ع) كان يطلب من ربّه في دعاء "مكارم الأخلاق": "اللّهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها"، كان يطلب من الله تعالى أن ينقذه من الظالمين، وأن ينقذ الناس من ظلمه إذا فكّر الإنسان في الظلم، فيقول (ع): "ولا أُظلَمن وأنت مطيق للدفع عني، ولا أَظلِمن وأنت القادر على القبض مني". وكان (ع) عندما يقف أمام مسألة طول العمر، وكلنا يحبّ أن يعمّر طويلاً، يعلّمنا أن على الإنسان عندما يفكّر في أن يعمّر كثيراً، أن يفكر بأن يكون عمره في طاعة الله لا في معصيته، أن يكون عمره ساحة لله لا ساحة للشّيطان، فيقول في دعاء "مكارم الأخلاق": "وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك - إني أطلب منك يا ربّ أن تعطيني العمر الطويل، مادام هذا العمر يتحرك بطاعتك، فيقوم بكلّ الواجبات ويبتعد عن كلّ معاصيك - فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان - عمر مليء بتجارة الحرام وأكل الحرام وبسياسة الحرام وبالشّهوات الحرام - فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ، أو يستحكم غضبك عليّ". وكان (ع) يطلب من الله أن يجعل تفكيره تفكيراً إسلامياً، وتقويمه للناس تقويماً إسلامياً، فنحن عادةً من خلال طبيعة التربية الاجتماعية السلبية، نعتبر الغني شريفاً والفقير حقيراً، نحتقر الفقير، فلا نقوم له ولا نصافحه ولا نعتني به، ولكن إذا جاء الغنيّ، تأهّلنا به وفرشنا له كلّ الطريق بالورود! كان من دعائه إذا نظر إلى أصحاب الدّنيا: "الحمد لله، رضيت بحكم الله، شهدت أنّ الله قسم معايش عباده بالعدل، وأخذ على جميع خلقه بالفضل، اللَّهمّ لا تفتنهم بما منعتني - لا تجعلهم، يا ربّ، يتكبّرون عندما يرون الفقراء، اجعلهم يتصوّرون الأمور بطريقة متوازنة، ويعتبرون أن الله عندما يعطي الغنيّ، فإن عليه أن يعتبر أنه يختبره بذلك ويدخله في الامتحان؛ هل يشكر أم يكفر، وهكذا عندما يمنع الفقير من المال، فإنّ الله لا يعاقبه بذلك، ولكن يختبره هل يصبر أو يسقط، فهل تنجح في الامتحان أيّها الغنيّ، فتشكر ربك وتعمل في مالك بما فرض الله عليك؟ وهل تنجح أيها الفقير في الامتحان، فتصبر على ذلك؟ - ولا تفتنّي بما أعطيتهم، فأحسد خلقك وأغمط حكمك، واعصمني من أن أظنّ بذي عدم خساسة - أن أرى الفقير حقيراً لأنه لا يملك موقعاً اجتماعياً - أو أظنّ بصاحب ثروة فضلاً، فإنّ الشّريف من شرّفته طاعتك - لأنها ترتفع به إلى أن يكون من أهل الجنّة، وما قيمة غنى الدّنيا كلّها إذا كانت النتيجة النّار - والعزيز من أعزّته عبادتك". لقد أعطانا الإمام زين العابدين (ع) مدرسة روحية أخلاقية اجتماعية سياسية في أدعيته، فأنت إذا كنت واعياً للدعاء الذي تقرأه، تشعر بأنّك تقرأ، فتدرس القيمة الاجتماعيّة والسياسية والروحية والإيمانية، فتتعلّم بالدّعاء كيف تكون المسلم الواعي المنفتح على كلّ قضايا الحياة. وانطلق الإمام زين العابدين (ع) ليجسّد الإسلام كلّه في سيرته وروحيته، وكان يدعو الله ويخشع له ويبكي بين يديه، حتى قال أحد الأشخاص: رأيت عليّ بن الحسين (ع) وهو في الكعبة في سجوده، فاقتربت منه لأرى كيف يتكلّم هذا الرجل الذي هو من صلحاء أهل البيت (ع)، وإذا بي أسمعه وهو يقول: "عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك"، ويقول هذا الرجل: ما دعوت بهذا الدعاء الذي تعلّمته من الإمام زين العابدين إلا وقضيت حاجاتي، بحسب التجربة. هؤلاء أهل البيت (ع)، هؤلاء أئمتنا، هؤلاء الإسلام الذي يتجسّد في كلماتهم وسيرتهم، هل تريدون أن تسيروا معهم؟ حاولوا أن تتعلّموا منهم كيف تقتربون من الله، وكيف تقفون مع الحق وتتحمّلون المسؤوليّة في خطّ كلّ مسؤولياتكم في الحياة، هم أئمتنا في الماضي والحاضر والمستقبل، وقد قال أبوهم وسيدهم وإمامنا أمير المؤمنين (ع): "ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم - ويشير إلى نفسه - قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن - ماذا تريد منا يا أمير المؤمنين، وقد أعطيت نفسك لله وللإنسان وللإسلام؟ ماذا تريد من أتباعك وشيعتك ومن المسلمين؟ - أعينوني - أعينوني على أنفسكم وشياطينكم - بورع - عن الحرام - واجتهاد - في طاعة الله - وعفّة - عما يُغضب الله - وسداد" في الرأي. هل نعين الأئمة في ذلك؟ لاتزال في العمر بقيّة، ولايزال الطريق إلى الله مفتوحاً، فهل نسير في طريق الله أو في طريق الشّيطان؟ {وَأَنَّ هَ?ذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}. *من أرشيف خطب الجمعه الدينيّة - العام 2000. ">