أسمعت أحاديث مكّة وشعابها، يجتاح شيوخها، ويمرّ بكهولها، ذلك حديث فتى عبد
المطلب، ودعوته الجديدة.
- حديث شيّق يا أبا مناف ينساب إلى قلبي انسياب العطر.
- كفى. كفى يا وليد. أفيك قوى لتحمل سوط قريش ومكاويهم الحديدية. اسكت بحقّ صاحب
هذا البيت. هذا الشّيخ أقبل علينا، وأخشى أن يكون أحد من القوم فيصيبنا بسوء.
وأقبل الشّيخ يقترب رويداً رويداً، حتى إذا وضح لهما، فإذا به أبو رافع، مولى
العباس بن عبد المطلب، وقد عَلَت ثغره الأسود ابتسامة مشرقة، وانضمّ إلى صاحبيه.
كيف أنت يا أبا رافع اليوم؟ أذهبتَ إلى دار الأرقم؟ أسمعت من حديث الرسول محمد (صلى
الله عليه وآله) أعذبه وأنداه؟
لو أتيت هذه الليلة معنا يا أبا مناف، لرأيت من عطف نبي الرحمة الشيء الكثير، وظهر
على القوم دفعة أمية بن خلف، وقد علته موجة من السخط والكراهية، ومرّ بهذه الحلقة،
ويكاد لا يلتفت لها، وخيّم الوجوم على الجالسين، ولكن ما إن اجتاز الثلاثة بخطوات،
حتى عاد وألقى نظرة عليهم، وما إن وقعت على أبي رافع، حتى هجم عليه والشّرر يتطاير
من عينيه، وأخذ يلعب بسوطه على جسمه دون رحمة وشفقة، وأبو رافع يتلوّى بين يديه،
وإذا ما كلّت يداه من الضّرب، وقف وهو يسحب أنفاساً مهترئة، وهي تكاد تلفح وجهه
بلهيبها.
والتفت إليه وهو يهذر بصخب: لو عدت لدار الأرقم لكويتك بالحديد.
وزحف أبو رافع وهو يجمع قواه يئنّ من آلامه، ليذهب تواً إلى بيته، وعيناه قد شدت
إلى الكعبة، وهو يتمتم كلمات تكاد تموت على شفتيه لانهيار قواه.
كان أبو رافع يجتمع في بادئ أمره بإخوان له من موالي العرب، وكانت أحاديث دعوة محمد
تلهج بها أندية مكّة وحلقات سمرها، وأبو رافع يستمع لها بشيء من الاهتمام، وكلّما
تعرّف على جديد من تلك الأخبار، خفق لها قلبه، ونبض صدره، غير أنه لا يعرف سرّ هذا
الخفقان، وتلك النبضات المتوالية، وبمرور الزمن، انحاز إلى أخبار الدعوة الجديدة،
وتتبّع أحاديثها بكل شوق ولهفة، وحتى أصبح يوماً ما من جملة أعضائها.
ولكنّ أبا رافع ما كان في إمكانه - وفي وقته المبكر - أن يجهر بأمره، وإن كان في
الواقع في منعة من ظلم قريش، لأنّه مولى العباس بن عبد المطلب، وللعباس حرمة ومكانة.
وبطبيعة الحال، كانت قريش تستأثر بحديث الرّسول بالقسط الأوفر، من يومها، لأنّ
الأمر كان يتعلّق بهم قبل كل قبيلة، فهو إن جلس إلى فتيان أسياده، كان يلتهم
أحاديثهم عن الدعوة، وإن كان بعضهم لم يمل إليها، أو لم يعلن إسلامه بعد.
حتى كان يوم تحدثت مكة بصراحة عن إسلام العباس نفسه، فطار أبو رافع فرحاً بهذه
البشارة، وأزاح عن كاهله ثقلاً كبيراً، ثقل الكتمان والتستر.
وعرف الناس بعدئذٍ أنّ أبا رافع من جملة الذين انضمّوا إلى دعوة محمد رسول الله،
ودخل يومها أبو جهل إلى البيت وهو يحرق الإرم، والتقى بزمرته، وصاح بغضب متناه: حتى
أبو رافع، ذلك المولى القبطيّ، صبا لدين فتى عبد الله؟! وحقّ اللات والعزّى، إن
ظفرت به، لأتركه طعمة للوحوش، وأشفي بدمه غليلي.
ولكنّ رجلاً من القوم التفت إليه وقال: مهلاً يا أبا الحكم، لا تظهر قواك على
الموالي والضعفاء، أما علمت أنّ العباس نفسه قد تبع محمّداً؟ فلو كنت شجاعاً لذهبت
إليه، وتركت جسمه طعمةً للوحوش، كما نويت أن تعمله مع أبي رافع؟
وسكت أبو جهل على مضض، وفي قلبه شعلة من حقد، لقد ضاق ذرعاً بما يطوي عليه نفسه،
وقد أخذ أمر المسلمين يشيع وينتشر، ويتلقاه الناس بكلّ مسرة واستبشار، ويستقبلون كلّ
يوم اسماً جديداً ينداح لحوزة النبيّ، كما ينداح العطر في الروضة الغناء، فتلهج
أندية مكة بحديثه، حتى إذا ما أطلّ اسم جديد لهجت بذكره، ولاكت حديثه، والنّاس
توّاقة لكلّ جديد، وهكذا دواليك.
وتحدّث العرب عن اسم أبي رافع كشخص جديد لمع اسمه ثم حرّره الرّسول بشارة لإسلام
العباس، واستطال الحديث إلى أن هذه الدعوة تحاول تحرير الرقّ، وترك هذه العادة
السقيمة، وهذا ما يثير الرعب في قلوب الكثيرين.
وتكوّن لأبي رافع مكانة لدى الصفوة الطيّبة من المسلمين، وكيف لا تكون كذلك،
والرسول الأعظم يعطف عليه، لأنه من هذه المجموعة المستضعفَة التي اكتوت بعذاب قريش،
وهي تزداد صلابة كلّما تفنّن الكافر الأرعن في أساليب التعذيب والإبادة معهم. فأمس،
تحدّثت مكة عن أسلوب الطغاة في معاقبة ياسر وعمار وأمّه، وبعد برهة، تحدثت عن تعذيب
بلال والخباب، ولقد كانت مكاوي الحديد المجمرة تلمع في أيدي أبي جهل وجلاوزته، وهي
تترنح على أجسام هؤلاء المستضعفين الذين صبوا إلى دعوة الرسول، فلم ترقّ لهم قلوب،
ولم تلِنْ لهم نفوس.
وهاجر النبي إلى المدينة، تاركاً مكّة وقريش وحقدها وضغنها، ولم تمرّ الأشهر على
الطغاة بالشّروق والأمل، فقد عزَّ عليهم أن يسلم محمد وأصحابه، ويتوطّد أمر دعوته
في يثرب، وكانت تتحين المناسبة للهجوم عليه، حتى كانت (بدر)، وكان اجتماعهم في دار
الندوة عاجلاً للبتّ في طلب أبي سفيان، وقرروا الاستجابة للطلب، وكان من بدر ما كان.
وبقي في مكّة من بقي يتصيّد الأخبار، ويتعرف على المسافرين، علَّهم يحملون من أخبار
قريش ما يسعد يومهم وينير ليلهم. وعاشت مكة ردحاً من الزمن على أعصابها، لم يبلغها
قدوم أحد إلا وهرعت إليه، وانقطعت الأخبار، وكادت القلوب المتلهفة لسماع نبأ جيشها
تتقطع .
طال الانتظار، ودبَّ القلق، وانسابت الوساوس إلى الأذهان تحرك المشاعر وتثير
العواطف، ولحظة الانتظار أشدّ ما يعانيها الإنسان.
يحدثنا أبو رافع مولى رسول الله، فيقول: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان
الإسلام قد فشى فينا أهل البيت، فأسلم العبّاس، وأسلمت أمُّ الفضل زوجته، وكان
العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، فكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرّق في
قومه، وكان عدوّ الله أبو لهب قد تخلّف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام بن
المغيرة، وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلّف رجل إلا بعث مكانه رجلاً، فلما جاء الخبر عن
مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته (ذله) الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوّة وعزاً.
قال: وكنت رجلاً ضعيفاً، وكنت أعمل القدَاح، أنحتها في حُجرة زمزم، فوالله إني
لجالس أنحت أقداحي، وعندي أمّ الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل
الفاسق أبو لهب بجرّ رجليه بشرّ، حتى جلس إلى طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري،
فبينا هو جالس، إذ قال للنّاس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب قد قدم -
وكان شهد مع المشركين بدراً. -
فقال أبو لهب: هلمّ يا بن أخي، فعندك والله الخبر .
قال: فجلس إليه، والناس قيام حوله، فقال: يا بن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟
قال: لا شيء، والله إن هو إلا لقيناهم فمنحناهم أكتافنا، فقتلونا كيف شاؤوا،
وأسرونا كيف شاؤوا. وأيم الله، مع ذلك، ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضاً على خيل
بلق بين السّماء والأرض، لا والله ما تبقي شيئاً، ولا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: تلك والله الملائكة.
قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة ، ثم احتملني فضرب بي الأرض، ثم
برك عليَّ يضربني، وكنت رجلاً ضعيفاً .
فقامت أمّ الفضل إلى عمود من عُمد الحجرة، فأخذته فضربته على رأسه، فشجّته شجّة
منكرة، وقالت: استضعفته إذ غاب سيّده، فقام مولياً ذليلاً، فوالله ما عاش إلا سبع
ليال، حتى رماه الله بالعدسة، فقتله.
هكذا تلقى القرشيون خبر الهزيمة وخسران المعركة. ويقف أبو سفيان وهو مشدوه بما أصيب
من نكبة، يصيح والحقد يغلي في صدره: يا معشر قريش، لا تبكوا على قتلاكم، ولا تنح
عليهم نائحة، ولا يندبهم شاعر، وأظهروا الجلد والعزاء، فإنكم إذا نحتم عليهم
وبكيتموهم بالشّعر، أذهب ذلك غيظكم، فأكلّكم ذلك من عداوة محمد وأصحابه، مع أن
محمداً إن بلغه وأصحابه ذلك، شمتوا بكم، فتكون أعظم المصيبتين، ولعلكم تدركون ثأركم،
فالدهن والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمداً.
وإذ كان أبو سفيان يتنقل في بيوتات قريش، وهو مخذول مهزوم، يطلب منهم الجلد والصبر،
كانت زوجته هند بنت عتبة من جانب آخر تقول لنساء قريش ذهبن لتعزيتها، فقلن لها: ألا
تبكين على أبيك وأخيك وعمّك وأهل بيتك؟ فقالت: حلأني (منعني) أن أبكيهم، فيبلغ
محمّداً وأصحابه، فيشمتوا بنا وبنساء بني الخزرج، لا والله، حتى أثأر محمداً
وأصحابه، والدّهن عليّ حرام إن دخل رأسي حتى نغزو محمّداً، والله لو أعلم الحزن
يذهب عن قلبي لبكيت، ولكن بما لا يذهبه، إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبّة.
تقول الرواية: فمكثت على حالها لا تقرب الدّهن، ولا قربت فراش أبي سفيان من يوم
حلفت، حتى كانت وقعة أُحد.
لقد أخلص أبو رافع للنبي الأكرم، حتى أصبح جزءاً من صفوته، في ركابه بغزواته،
وموكلاً على ثقله، وأميناً على ماله، فقد قال رسول الله يوماً، وهو في جموع حاشدة
بين يديه: يا أيّها الناس، من أحبَّ أن ينظر إلى أميني على نفسي وأهلي، فهذا أبو
رافع أميني على نفسي .
وكان هذا أرفع وسام يقلّده رسول الله، وأعظم فخر يناله بشرف الإسلام.
وتمرّ الأيام ثقيلة السّير، مليئة بالأحداث، قد لبّى الرسول الأعظم نداء ربّه،
والزمن يطوي خطواته، وأبو رافع قد استقرّ في خيبر يزرع أرضاً له هناك.
وأعلن الإمام عليّ (ع) حربه - على معاوية، وفي الشدّة تعرف الرّجال - وأخذ يجمع
أصحابه من حوله ما يقتضيه لتلك الحرب.
وانتشر النبأ يسري كالبرق في أرجاء الجزيرة العربيّة، أنّ عليّاً عزم على قتال
معاوية، وعلم أبو رافع بجلية الأمر كما سمع غيره.
وعندما أصبح الصباح، أعلن أبو رافع بأنه عازم على السفر إلى علي (ع).
- يا أبا رافع، أنت شيخ طاعن في السنّ، أخذت من العقد التّاسع نصفه، وقد سقط
التكليف عن الشّيوخ، فالجهاد لغيرك.
- لا تتحدّث بمثل هذا أبداً، إن القتال مع عليّ عبادة، لقد أصبحت لا أحد بمنزلتي،
بايعت البيعتين: بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، وصلّيت القبلتين، وهاجرت الهجرات
الثلاث: مع جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، ومع رسول الله (ص) إلى المدينة، ومع على
بن أبي طالب سأهاجر إلى الكوفة.
- يا أبا رافع: وأرضك ودارك؟!
- غداً سأبيعها.
وكان ما أراد، وقف إلى جانب علي في حروبه مجاهداً صابراً، ومعاوية لم يتوان عن
إغراء أبي رافع بالمال، والمكانة، والسّلطان، ولكن صلابة هذا الصحابي الجليل،
وصموده الحديديّ العجيب في خدمة الإسلام، كانا أقوى من أن تنهار أمام أموال معاوية
ومواعيده المعسولة.
*من كتاب "بين يَدي الرسُول الأعظم (ص)".