كتابات
04/10/2013

أبعاد مختلفة لعبادات الإسلام

أبعاد مختلفة لعبادات الإسلام

إنّ مشكلة الإسلام، في تجارب المفكّرين المسلمين، هي في النّظرة التّجزيئيّة الّتي حاولت أن تنظر إلى الإسلام كأجزاء بأبعاد مستقلّة، فنقرأ عن البعد الرّوحيّ، وعن البعد الاجتماعيّ، وعن البعد السياسيّ، وعن البعد الاقتصاديّ، كما لو كان كلّ واحدٍ منها موضوعاً مستقلاً في طبيعته، ما أدَّى إلى بعض الانعكاسات السلبيَّة على واقع التصوّر الإسلاميّ، والممارسة العمليَّة للإنسان المسلم في التزامه ببعض الجوانب دون بعضها الآخر.

النّظرة التّجزيئيّة إلى الإسلام

وهذه النّظرة تبعدنا عن الفهم الشّموليّ للإسلام؛ لأنّه يختزن في كلّ جانب من جوانبه العناصر الأُخرى، فنحن مثلاً عندما ندرس النّاحية الاقتصاديّة في الإسلام، فإنّنا لا نجد فيها جوّاً مادّياً يتحدَّث عن العلاقات الاقتصاديَّة، وطريقة تحرّكها في علاقات الإنتاج والتّوزيع، وما إلى ذلك فقط، بل نجد ـ إلى جانب ذلك ـ عمقاً روحيّاً ومنهاجاً أخلاقيّاً، وحركةً اجتماعيّةً في نطاق حركة الفرد والمجتمع، يوحي إلينا بأنَّ هذه الأبعاد كلّها تتكامل لتكوّن البعد الاقتصاديّ في المنهج وفي النظريّة.. وعلى ضوء ذلك، فإنّنا لا نستطيع أن نفصل الجانب الذّاتيّ عن الجانب الموضوعيّ في المسألة الاقتصاديّة.

وإذا أردنا أن ندرس البعد الأخلاقيّ في الإسلام، فإنّنا لا نستطيع دراسته في نطاق النظرية الأخلاقيّة من الجانب الفلسفي، بل لا بدّ لنا من استحضار المجالات الفرديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة كافّة، حتّى نقف على الجانب العباديّ، لنجد الخطوط الأخلاقيّة تمتدّ إليها من جهة، وتنطلق منها من جهةٍ أُخرى.

وهكذا لا نجد الجانب الرّوحيّ مفصولاً عن الجانب المادّيّ، بل نجد لوناً من التّزاوج الواقعي والعملي، والتّفاعل النظريّ بينهما على مستوى التصوّر في تركيز النظريّة الإسلاميّة في تفسير الكون والحياة والإنسان.

إنَّنا ندعو إلى دراسة هذه المسألة بعمقٍ؛ لنصل إلى النَّتيجة الحاسمة الّتي نخرج منها بالفكرة القائلة: إنَّ الإسلام كيان فكريّ وتشريعيّ عمليّ يتغذَّى من كلّ عناصره، تماماً كما هو الجسد الّذي يتكامل ويتغذَّى من كلّ أجهزته، فلا يستطيع أيّ جهازٍ أن يعطي الحياة الإنسانيَّة شيئاً إلاّ من خلال الطّاقة الّتي تمدّها بها بقيّة الأجهزة، في ما تحمل من عناصر القوّة والحياة.

وعلى هذا الأساس، نستطيع أن ندخل إلى الواقع الإسلاميّ للإنسان المسلم من خلال الحالة التكامليّة، لنوجّه السّلوك العمليّ إلى مواجهة المسألة من هذا الموقع، لنتخلّص من الخطط الّتي أثارها الكفر في وعي الأمّة، وحرّكها الاستعمار في حياتها، عندما فصل الإسلام عن الواقع، من خلال الفصل بين أجزاء الواقع ومفرداته، فجعل القضيّة المطروحة، هي أنّ هناك ديناً ودنيا، وأنّ للدّين دائرته، وللدّنيا دائرتها، فآفاق الدّين هي آفاق الغيب والرّوح والمثال، الّتي تنطلق معها العبادة في أجواء الصّلاة والصّوم والحجّ والدّعاء والابتهال والتصوّف وغيبوبة الذّات عن الواقع. أمّا آفاق الدّنيا، فهي آفاق الحياة العامّة والخاصّة في أجوائها الماديّه، في اجتماعيّاتها وذاتيّاتها، وسياستها واقتصادها، وحربها وسلمها، وشهواتها وملذّاتها. فللدّين ربّه، وللدّنيا ربّها... والله هو ربّ الدّين، وقيصر هو ربّ الدّنيا، فليس لله أن يتدخّل في صلاحيّات القيصر وشؤونه، وليس للقيصر أن يدخل إلى ملكوت الله وساحته.. وهكذا دخل الإسلام هذه الدّائرة، وبقيت الدّوائر الأُخرى تنتظر الفكر الآخر، والقوّة الأُخرى الّتي لا مكان فيها للإسلام.

وقد نلاحظ أنّ عصور التخلّف التقليديّة استطاعت أن تهيّئ الأرضيّة الصّالحة لمثل هذا الاتجاه في الذهنيّة الإسلاميّة، وذلك فيما لاحظناه من الأبحاث العباديّة الّتي عاشتها التّجارب الإسلاميّة الفكريّة والفقهيّة الّتي حاولت أن تعتبر العبادات كياناً مستقلاً مفصولاً عن الجوانب الأُخرى، فنشأت عندنا شخصيّة الإنسان المسلم العابد الّذي يستغرق في عبادته، فينسى كلّ ما حوله ومَن حوله.. حتّى «العرفان» الّذي انطلق في الدّائرة الروحيّة الإسلاميّة، كفكر وممارسةٍ، من أجل أن يكون أسلوباً متقدّماً في صنع الشخصيّة الإسلاميّة المتحرّرة من كلّ القيود، والسّاعية لتحقيق الأهداف الكبيرة.. ليرتبط الإنسان بالحياة من خلال الحريّة الداخليّة المنفتحة على الله، المتحرِّكة في الحياة من خلاله؛ ليكون إنسان الحياة، الحرّ في فكره وفي إرادته، وفي حركة الحياة من حوله، حتّى العرفان هذا، دخلت فيه الفلسفة اليونانيّة والهنديّة وغيرهما، فجعلت منه ـ في وعي الكثيرين في السّاحة الإسلاميّة ـ فكراً منفصلاً عن الحياة، بحيث يستغرق فيه الإنسان ـ في الأجواء الإلهيّة الّتي يعيش فيها ـ في هواجسه وتأمّلاته وابتهالاته مع الله، من دون أن ينفتح من خلال ذلك على الحياة.

وقد رأينا ـ في تاريخنا وفي حاضرنا ـ الكثيرين ممن أخذوا بالعرفان كفلسفةٍ وسلوكٍ واتجاهٍ، فابتعدوا عن الحياة، وعن قضاياها وهمومها ومشاكلها وحركتها في ساحة الصّراع، واستغرقوا في الفكرة الانعزاليّة الّتي تعتبر ذلك كلّه شأناً مادّياً لا يتناسب مع الانطلاقة الروحيّة المجرّدة الّتي يعيشها العارف؛ لأنّها تشغله عن الله..

وقد لاحظنا في بعض هؤلاء، أنّهم لا يدقّقون في قضايا الشّرع فيما يمارسونه من أساليب الرّياضة الرّوحيّة وفيما يفعلون وفيما يتركون، ممّا قد يعيش الإنسان فيه الابتعاد عن التكليف الشرعيّ فيما يحلّ الله وفيما يحرّم ، وربما وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار الشّرع حالة في الظاهر لا ترتفع إلى مستوى العرفان، الّذي هو عمق الوعي الرّوحيّ في الباطن.

ولكنّنا نعرف أنّ «العرفان الإسلاميّ» قد انطلق من خلال مفاهيم القرآن، الّتي تلحظ في الإنسان ارتباطه بالله، الّذي يطلّ به على مسؤوليّته في الحياة عن الحياة كلّها، وعن الإنسان كلّه، في المنهج الفكريّ الّذي أقامه الإسلام للحياة، وفي الخطّ التّشريعيّ الّذي أراد للنّاس أن يسيروا عليه، وفي الأجواء العامّة الّتي وجّههم إلى أن يعيشوا في داخلها وفي ساحاتها، ما يمثّل بذلك الإعداد الفكريّ والعمليّ للدّخول إلى ساحة الإسلام في الحياة من خلال الله.

فليست هناك خلفيّة فلسفيّة يمكن للعرفان أن ينتمي إليها، أو ينطلق منها بعيداً عن المفاهيم القرآنيّة الإسلاميّة، الّتي أكّدت تحرّك الإنسان المسلم في الحياة؛ ليكون خليفة الله في الأرض، ليبني الكون في دائرة قدرته، على النّهج الّذي يحب الله أن يكون فيه، بعيداً عن كلّ ما يثقله؛ ليكون الإنسان الحرّ من الدّاخل، من أجل أن يؤكّد حريّته في الخارج.

تكامل الأبعاد في الإسلام

من جهة ثانية، إنّنا نريد ـ من خلال شموليّة النظرة الإسلاميّة إلى الحياة ـ أن نقترب من الأبعاد العباديّة الّتي تنفتح على الأبعاد السياسيّة والاجتماعية في الحجّ، كما نفهم ذلك من خلال كلّ عباداتنا؛ لنصل إلى تأكيد فكرتنا في تكامل الإسلام في كلّ مفرداته.. فنجد أنّ العبادة تلتقي بالسياسة في مفهومها الواسع، كما تطلّ على ساحة الحياة الاجتماعيّة، وبذلك تدخل قلب الحياة، بدلاً من أن تنفصل عنه.

فإذا دقّقنا في الصّلاة، في كلماتها وأفعالها وإيحاءاتها، وإذا درسنا الصّوم فيما يثيره من أجواء نفسيّة، وفيما يؤكّده من قوّةٍ حركيّة، ولاحظنا ما في الحجّ من معطيات ومؤثّراتٍ وأجواء ونتائج، فإنّنا نجد أنّها تلتقي في ارتفاعها بالإنسان إلى صفاء إنسانيّته، وفي توجيهه إلى ما يحقّق توازن حركته الإنسانيّة في الحياة، لأنّ سرّ المشكلة الإنسانيّة هو هذا الاستغراق فيما حوله من الحياة الدّنيا، بعيداً عن كلّ هدف كبير ينطلق من مواقع القيم الخيّرة في حركة الرّسالات.. إنّها مسألة القضايا الكبيرة الّتي تأكلها أو تستنزف طاقاتها القضايا الصّغيرة، الّتي تطوف بالإنسان في دائرة شهواته وملذّاته وأطماعه الذاتيّة.

وكانت الفكرة الإسلاميّة تتحرّك على أساس أن يجعل الإنسان دنياه آخرةً، وأن تكون آخرته منطلقةً من حركة مسؤوليّته في بناء الدّنيا على النّهج الّذي يحبّه الله، فلا تمثّل الآخرة ـ في هذه النّظرة ـ منطقة مستقلّة عن الدّنيا، بل تمثّل أهداف الدّنيا الكبيرة الّتي تخضع لها حركتها الصّاعدة إلى الله.

فإذا أردت أن تفكّر، كمسلم، يريد أن يمارس دوره في الدّنيا، فكّر ما هو هدفك منها، لا مانع من أن تنطلق معها، وتتحرّك في داخلها، وتحتوي مواقعها ومصادرها ومواردها، لكن، فكّر لنفسك بالسّؤال التّالي: ما هو هدفك منها؟

إنّ الآية الكريمة تقول لك: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: 77].

اجعل الدّار الآخرة هدفاً لكلّ ما أعطاك الله من علم أو من مال أو من قوّة، ولكلّ ما أعطاك من الحياة، وعش حياتك من خلال حاجاتك الجسديّة، وأحسن إلى الآخرين، فقد أعطاك الله النّموذج الأكمل للإحسان فيما أحسن الله إليك، لتعرف كيف تحسن إلى الآخرين، ولا تبغ الفساد في الأرض في كلّ المفردات الّتي تملكها مما تستطيع أن تستخدمه في طريق الفساد، كما تستطيع أن تستخدمه في طريق الصّلاح والإصلاح، لأنّ الله لا يحبّ المفسدين. وهكذا نجد أنّ العبادة يمكن أن تكون نافذةً واسعةً تطلّ على كلّ ما في الدّنيا من قضايا ومشاكل للحياة والإنسان، من حيث هي نافذة تتحرّك في آفاق الغيب، مع الله، وفي نتائج المسؤوليّة في الدّار الآخرة.

[المصدر: رسالة الحجّ]

إنّ مشكلة الإسلام، في تجارب المفكّرين المسلمين، هي في النّظرة التّجزيئيّة الّتي حاولت أن تنظر إلى الإسلام كأجزاء بأبعاد مستقلّة، فنقرأ عن البعد الرّوحيّ، وعن البعد الاجتماعيّ، وعن البعد السياسيّ، وعن البعد الاقتصاديّ، كما لو كان كلّ واحدٍ منها موضوعاً مستقلاً في طبيعته، ما أدَّى إلى بعض الانعكاسات السلبيَّة على واقع التصوّر الإسلاميّ، والممارسة العمليَّة للإنسان المسلم في التزامه ببعض الجوانب دون بعضها الآخر.

النّظرة التّجزيئيّة إلى الإسلام

وهذه النّظرة تبعدنا عن الفهم الشّموليّ للإسلام؛ لأنّه يختزن في كلّ جانب من جوانبه العناصر الأُخرى، فنحن مثلاً عندما ندرس النّاحية الاقتصاديّة في الإسلام، فإنّنا لا نجد فيها جوّاً مادّياً يتحدَّث عن العلاقات الاقتصاديَّة، وطريقة تحرّكها في علاقات الإنتاج والتّوزيع، وما إلى ذلك فقط، بل نجد ـ إلى جانب ذلك ـ عمقاً روحيّاً ومنهاجاً أخلاقيّاً، وحركةً اجتماعيّةً في نطاق حركة الفرد والمجتمع، يوحي إلينا بأنَّ هذه الأبعاد كلّها تتكامل لتكوّن البعد الاقتصاديّ في المنهج وفي النظريّة.. وعلى ضوء ذلك، فإنّنا لا نستطيع أن نفصل الجانب الذّاتيّ عن الجانب الموضوعيّ في المسألة الاقتصاديّة.

وإذا أردنا أن ندرس البعد الأخلاقيّ في الإسلام، فإنّنا لا نستطيع دراسته في نطاق النظرية الأخلاقيّة من الجانب الفلسفي، بل لا بدّ لنا من استحضار المجالات الفرديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة كافّة، حتّى نقف على الجانب العباديّ، لنجد الخطوط الأخلاقيّة تمتدّ إليها من جهة، وتنطلق منها من جهةٍ أُخرى.

وهكذا لا نجد الجانب الرّوحيّ مفصولاً عن الجانب المادّيّ، بل نجد لوناً من التّزاوج الواقعي والعملي، والتّفاعل النظريّ بينهما على مستوى التصوّر في تركيز النظريّة الإسلاميّة في تفسير الكون والحياة والإنسان.

إنَّنا ندعو إلى دراسة هذه المسألة بعمقٍ؛ لنصل إلى النَّتيجة الحاسمة الّتي نخرج منها بالفكرة القائلة: إنَّ الإسلام كيان فكريّ وتشريعيّ عمليّ يتغذَّى من كلّ عناصره، تماماً كما هو الجسد الّذي يتكامل ويتغذَّى من كلّ أجهزته، فلا يستطيع أيّ جهازٍ أن يعطي الحياة الإنسانيَّة شيئاً إلاّ من خلال الطّاقة الّتي تمدّها بها بقيّة الأجهزة، في ما تحمل من عناصر القوّة والحياة.

وعلى هذا الأساس، نستطيع أن ندخل إلى الواقع الإسلاميّ للإنسان المسلم من خلال الحالة التكامليّة، لنوجّه السّلوك العمليّ إلى مواجهة المسألة من هذا الموقع، لنتخلّص من الخطط الّتي أثارها الكفر في وعي الأمّة، وحرّكها الاستعمار في حياتها، عندما فصل الإسلام عن الواقع، من خلال الفصل بين أجزاء الواقع ومفرداته، فجعل القضيّة المطروحة، هي أنّ هناك ديناً ودنيا، وأنّ للدّين دائرته، وللدّنيا دائرتها، فآفاق الدّين هي آفاق الغيب والرّوح والمثال، الّتي تنطلق معها العبادة في أجواء الصّلاة والصّوم والحجّ والدّعاء والابتهال والتصوّف وغيبوبة الذّات عن الواقع. أمّا آفاق الدّنيا، فهي آفاق الحياة العامّة والخاصّة في أجوائها الماديّه، في اجتماعيّاتها وذاتيّاتها، وسياستها واقتصادها، وحربها وسلمها، وشهواتها وملذّاتها. فللدّين ربّه، وللدّنيا ربّها... والله هو ربّ الدّين، وقيصر هو ربّ الدّنيا، فليس لله أن يتدخّل في صلاحيّات القيصر وشؤونه، وليس للقيصر أن يدخل إلى ملكوت الله وساحته.. وهكذا دخل الإسلام هذه الدّائرة، وبقيت الدّوائر الأُخرى تنتظر الفكر الآخر، والقوّة الأُخرى الّتي لا مكان فيها للإسلام.

وقد نلاحظ أنّ عصور التخلّف التقليديّة استطاعت أن تهيّئ الأرضيّة الصّالحة لمثل هذا الاتجاه في الذهنيّة الإسلاميّة، وذلك فيما لاحظناه من الأبحاث العباديّة الّتي عاشتها التّجارب الإسلاميّة الفكريّة والفقهيّة الّتي حاولت أن تعتبر العبادات كياناً مستقلاً مفصولاً عن الجوانب الأُخرى، فنشأت عندنا شخصيّة الإنسان المسلم العابد الّذي يستغرق في عبادته، فينسى كلّ ما حوله ومَن حوله.. حتّى «العرفان» الّذي انطلق في الدّائرة الروحيّة الإسلاميّة، كفكر وممارسةٍ، من أجل أن يكون أسلوباً متقدّماً في صنع الشخصيّة الإسلاميّة المتحرّرة من كلّ القيود، والسّاعية لتحقيق الأهداف الكبيرة.. ليرتبط الإنسان بالحياة من خلال الحريّة الداخليّة المنفتحة على الله، المتحرِّكة في الحياة من خلاله؛ ليكون إنسان الحياة، الحرّ في فكره وفي إرادته، وفي حركة الحياة من حوله، حتّى العرفان هذا، دخلت فيه الفلسفة اليونانيّة والهنديّة وغيرهما، فجعلت منه ـ في وعي الكثيرين في السّاحة الإسلاميّة ـ فكراً منفصلاً عن الحياة، بحيث يستغرق فيه الإنسان ـ في الأجواء الإلهيّة الّتي يعيش فيها ـ في هواجسه وتأمّلاته وابتهالاته مع الله، من دون أن ينفتح من خلال ذلك على الحياة.

وقد رأينا ـ في تاريخنا وفي حاضرنا ـ الكثيرين ممن أخذوا بالعرفان كفلسفةٍ وسلوكٍ واتجاهٍ، فابتعدوا عن الحياة، وعن قضاياها وهمومها ومشاكلها وحركتها في ساحة الصّراع، واستغرقوا في الفكرة الانعزاليّة الّتي تعتبر ذلك كلّه شأناً مادّياً لا يتناسب مع الانطلاقة الروحيّة المجرّدة الّتي يعيشها العارف؛ لأنّها تشغله عن الله..

وقد لاحظنا في بعض هؤلاء، أنّهم لا يدقّقون في قضايا الشّرع فيما يمارسونه من أساليب الرّياضة الرّوحيّة وفيما يفعلون وفيما يتركون، ممّا قد يعيش الإنسان فيه الابتعاد عن التكليف الشرعيّ فيما يحلّ الله وفيما يحرّم ، وربما وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار الشّرع حالة في الظاهر لا ترتفع إلى مستوى العرفان، الّذي هو عمق الوعي الرّوحيّ في الباطن.

ولكنّنا نعرف أنّ «العرفان الإسلاميّ» قد انطلق من خلال مفاهيم القرآن، الّتي تلحظ في الإنسان ارتباطه بالله، الّذي يطلّ به على مسؤوليّته في الحياة عن الحياة كلّها، وعن الإنسان كلّه، في المنهج الفكريّ الّذي أقامه الإسلام للحياة، وفي الخطّ التّشريعيّ الّذي أراد للنّاس أن يسيروا عليه، وفي الأجواء العامّة الّتي وجّههم إلى أن يعيشوا في داخلها وفي ساحاتها، ما يمثّل بذلك الإعداد الفكريّ والعمليّ للدّخول إلى ساحة الإسلام في الحياة من خلال الله.

فليست هناك خلفيّة فلسفيّة يمكن للعرفان أن ينتمي إليها، أو ينطلق منها بعيداً عن المفاهيم القرآنيّة الإسلاميّة، الّتي أكّدت تحرّك الإنسان المسلم في الحياة؛ ليكون خليفة الله في الأرض، ليبني الكون في دائرة قدرته، على النّهج الّذي يحب الله أن يكون فيه، بعيداً عن كلّ ما يثقله؛ ليكون الإنسان الحرّ من الدّاخل، من أجل أن يؤكّد حريّته في الخارج.

تكامل الأبعاد في الإسلام

من جهة ثانية، إنّنا نريد ـ من خلال شموليّة النظرة الإسلاميّة إلى الحياة ـ أن نقترب من الأبعاد العباديّة الّتي تنفتح على الأبعاد السياسيّة والاجتماعية في الحجّ، كما نفهم ذلك من خلال كلّ عباداتنا؛ لنصل إلى تأكيد فكرتنا في تكامل الإسلام في كلّ مفرداته.. فنجد أنّ العبادة تلتقي بالسياسة في مفهومها الواسع، كما تطلّ على ساحة الحياة الاجتماعيّة، وبذلك تدخل قلب الحياة، بدلاً من أن تنفصل عنه.

فإذا دقّقنا في الصّلاة، في كلماتها وأفعالها وإيحاءاتها، وإذا درسنا الصّوم فيما يثيره من أجواء نفسيّة، وفيما يؤكّده من قوّةٍ حركيّة، ولاحظنا ما في الحجّ من معطيات ومؤثّراتٍ وأجواء ونتائج، فإنّنا نجد أنّها تلتقي في ارتفاعها بالإنسان إلى صفاء إنسانيّته، وفي توجيهه إلى ما يحقّق توازن حركته الإنسانيّة في الحياة، لأنّ سرّ المشكلة الإنسانيّة هو هذا الاستغراق فيما حوله من الحياة الدّنيا، بعيداً عن كلّ هدف كبير ينطلق من مواقع القيم الخيّرة في حركة الرّسالات.. إنّها مسألة القضايا الكبيرة الّتي تأكلها أو تستنزف طاقاتها القضايا الصّغيرة، الّتي تطوف بالإنسان في دائرة شهواته وملذّاته وأطماعه الذاتيّة.

وكانت الفكرة الإسلاميّة تتحرّك على أساس أن يجعل الإنسان دنياه آخرةً، وأن تكون آخرته منطلقةً من حركة مسؤوليّته في بناء الدّنيا على النّهج الّذي يحبّه الله، فلا تمثّل الآخرة ـ في هذه النّظرة ـ منطقة مستقلّة عن الدّنيا، بل تمثّل أهداف الدّنيا الكبيرة الّتي تخضع لها حركتها الصّاعدة إلى الله.

فإذا أردت أن تفكّر، كمسلم، يريد أن يمارس دوره في الدّنيا، فكّر ما هو هدفك منها، لا مانع من أن تنطلق معها، وتتحرّك في داخلها، وتحتوي مواقعها ومصادرها ومواردها، لكن، فكّر لنفسك بالسّؤال التّالي: ما هو هدفك منها؟

إنّ الآية الكريمة تقول لك: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: 77].

اجعل الدّار الآخرة هدفاً لكلّ ما أعطاك الله من علم أو من مال أو من قوّة، ولكلّ ما أعطاك من الحياة، وعش حياتك من خلال حاجاتك الجسديّة، وأحسن إلى الآخرين، فقد أعطاك الله النّموذج الأكمل للإحسان فيما أحسن الله إليك، لتعرف كيف تحسن إلى الآخرين، ولا تبغ الفساد في الأرض في كلّ المفردات الّتي تملكها مما تستطيع أن تستخدمه في طريق الفساد، كما تستطيع أن تستخدمه في طريق الصّلاح والإصلاح، لأنّ الله لا يحبّ المفسدين. وهكذا نجد أنّ العبادة يمكن أن تكون نافذةً واسعةً تطلّ على كلّ ما في الدّنيا من قضايا ومشاكل للحياة والإنسان، من حيث هي نافذة تتحرّك في آفاق الغيب، مع الله، وفي نتائج المسؤوليّة في الدّار الآخرة.

[المصدر: رسالة الحجّ]

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية