كتابات
31/10/2021

الإعلامُ الكاذبُ ودورُهُ في توجيهِ الشّعوبِ والتّوظيفِ السياسيِّ

الإعلامُ الكاذبُ ودورُهُ في توجيهِ الشّعوبِ والتّوظيفِ السياسيِّ

بسم الله الرّحمن الرّحيم..

الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده المصطفى، ورسوله المنتجب، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون.

هل من كذبٍ حلال؟!

اعتاد الناس أن يجعلوا للكذب يوماً، فاعتبروا أوّل نيسان يوماً للكذب الأبيض، وربما كان لهذا معنى، لأنَّ الناس قد اعتادوا أن يجعلوا السنة كلّها للكذب الأسود، فهم لا يطيقون أن لا يكذبوا، ولكنّهم يريدون أن يستريحوا بعض الراحة من الكذب الذي يتعبهم، فيحتاجون إلى الكذب الذي يضحكهم.

والإسلام كان حاسماً في ذلك كلّه، كان حاسماً في قضيّة الكذب والصّدق؛ أن تكون صادقاً في كلّ حالاتك، ليس للكذب يوم، وليس للكذب لون، كلّ الكذب أسود، إلّا الكذب الذي يريد منك أن تبني من خلاله الحياة في بعض الحالات. أمَّا الكذب الذي ينطلق من مزاجك، فكلّه أسود، لأنّ الكذب يعني أنّك تخفي الحقيقة، وأنّك تخفي الحقّ، ويعني أنّك تظهر الباطل بصورة الحقّ.

والله عندما أقام السّماء والأرض، أقامهما على أساس الحقّ { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ... }[الدّخان: 38-39]. ليس هناك ظاهرة في السماوات، وليس هناك ظاهرة في الأرض، إلّا ولها سرّ ولها قانون يربطها بالحقّ. ليس هناك لعب في الكون، كلّ ظاهرة من الظّواهر إذا انطلقت إليها تعطيك حقيقتها؛ الينبوع يعطيك حقيقته، والنبات يعطيك حقيقته، والبذرة تعطيك حقيقتها... كلّ الأشياء الموجودة في الكون لا تعرف أن تغشّ، إلّا الإنسان، فإنه هو الذي يحاول أن يغشّك ويغشّ نفسه.. فالله خلق الأشياء واضحةً بيّنةً مشرقةً، وجعل على كلّ حقيقة نوراً، ولكنّ الإنسان يأتي من أجل أن يثير الضّباب حول النّور، ومن أجل أن يثير الظّلام حول النور.

لهذا، ليس هناك فرق في موضوع الكذب بين حالتي الهزل والجدّ؛ أن تكذب على إنسان في مقام الهزل، تماماً كما تكذب عليه في مقام الجدّ، هذا حرام وذاك حرام. الحديث يقول في وصيّة الإمام زين العابدين (ع) لأولاده: " اتّقوا الكذب، الصّغير منه والكبير، في كلّ جدّ وهزلٍ، فإنَّ الرّجل إذا كذب في الصّغير، اجترأ على الكبير "1 .

الكذبة الصغيرة تجرّك إلى الكذبة الكبيرة، والكذبة البيضاء تجرّك إلى الكذبة السوداء، والله يريد منك أن تكون صادقاً في نيّتك، صادقاً في كلمتك، صادقاً في موقفك، صادقاً في عملك، صادقاً في معاملاتك، صادقاً في علاقاتك... حتى تركِّز الحياة على أساس الصِّدق، لأنَّ قضيّة أن تكون كاذباً أو أن تكون صادقاً، ليست قضيَّتك أنت حتى تقول أنا حرّ.

حدودُ الحريّةِ

بعض الناس يعطون لأنفسهم الحريّة في بعض الأشياء، والله ما منح الإنسان الحريّة في الأشياء التي تضرّه. مثلاً، ليس للإنسان حريّة أن يقتل نفسه، أو أن يمرِّض نفسه، أو أن يأكل الأكل الّذي يتلف جسده أو عقله... أنت عبد الله، وليس لك الحريّة أن تفعل بالجسد الّذي يملكه الله إلا بما أراد الله. بعض الناس يقول أنا حرّ هذا جسدي، حرّ أن أقتل نفسي، حرّ أن أشرب السّمّ، حرّ أن أتعاطى المخدّرات، حرّ أن أعمل أيّ شيء... لا، لست حرّاً، يجب على الناس أن يمنعوك من أن تؤذي نفسك، لأن لا حقّ لك ولا حريّة في ذلك.. لك حريّة فيما يبني جسمك، فيما يبني عقلك، فيما يبني حياتك، فيما يبني إيمانك، فيما يبني حياة الناس... هناك مساحة جعلها الله وأراد من الإنسان أن ينطلق بها، أما أن تكون لك حريّة أن تهدِّم حتى نفسك، فليس لك ذلك.

بعض الناس يمكن أن يأخذوا لأنفسهم الحريّة في قضاياهم الشخصيّة؛ هذه نفسي وأنا حرّ فيها، هذا ابني أنا حرّ فيه، هذه ابنتي أنا حرّ فيها... لا! ابنك، ابنتك، نفسك، ليست كالمتاع الموجود في بيتك. أنت حرّ أن تتصرَّف في الكنبات الّتي عندك؛ أن تبقيهم في هذه الغرفة أو تلك، أو أن تبقيهم في هذا الجانب أو ذاك، لكنّ ابنك لست حرّاً أن تبقيه في المدرسة، مثلاً، على مزاجك، أنت يجب أن تبقيه في المدرسة التي تكون في مصلحته كإنسان.. لست حراً أن تربّي ابنك على مزاجك، يجب أن تربيه على الطريقة التي يكون فيها إنساناً طيّباً صالحاً، وكذلك ابنتك، وكذلك نفسك.. لست حراً أن تجعل نفسك تتخلّق بأيّ خلق معيّن، تحت عنوان هذه نفسي وأنا حرّ. لا، أنت في هذا المجال، يجب عليك أن تنمّي في نفسك الأخلاق الجيِّدة الطيّبة، الصفات الكبيرة، أنت لست حرّاً في هذا المجال أبداً. ولهذا، وجب جهاد النفس، ووجب محاسبة النفس، حتى تكتشف داخل نفسك، وكيف تنمو نفسك، حتى لا تعطي نفسك الحريّة في هذا المجال.

في الكذبِ جريمتان

إذاً، حريّة أن تكذب ليست قضيّة متّصلة في نفسك، هي متّصلة بك وبالآخرين، إنك إذا كذبت فقد أجرمت جريمتين؛ الجريمة الأولى، هي أنّك أدخلت الباطل إلى داخل شخصيَّتك، أن تكذب، يعني أن تتبنّى الباطل، أن تكذب، يعني أن تدعم الباطل، لأنّ الكذب يمثل الوجه الآخر المضادّ للحقيقة. عندما تكذب، معناه أنك ارتبطت بالباطل، معناه أنك دعمت الباطل، هذه جريمة تختصّ بك كإنسان مؤمن.

الجريمة الثانية، عندما تكذب، فإنّك تشوِّه الحقيقة في عيون النّاس الآخرين. في الناس من يثق بك، في الناس من يقبل قولك، في الناس من يأخذ رأيك... وعندما تشوّه الحقيقة في عيون الناس وفي قلوبهم، فإنهم يفهمون معنى الحياة من خلالك، وسينهجون على أساسها. لو جاء لك إنسان وسألك عن شخصٍ في أمر الزواج، في شركة ماليّة، في قضية سياسية، في أيّ جانب من الجوانب، سألك في هذه الحال كمؤمن، فلا بدَّ لك أن تقول له كلمة الحقّ، حتى لو كانت ضدّ مصلحتك وضدّ مزاجك وضدّ قناعاتك، لأنَّ الإنسان عندما يستشيرك، فمعناه أنّه جعل حياته ومستقبله وأوضاعه الماليّة في متناول يدك، وكأنّه عندما أراد منك أن تشير عليه، كأنّه قال لك أنا سلّمت بأمري، إذا قلت بأنّ فلاناً صالح فأنا أسير معه، وإذا قلت لي إنّ فلاناً خيّر فأنا أتشارك معه، وإذا قلت إنَّ فلاناً مخلص فأنا أدعمه وأؤيّده، وهكذا...

إذا كذبْتَ أجرمْتَ جريمتين؛ أدخلت الباطل إلى داخل شخصيَّتك، وشوّهت الحقيقة في عيون النّاس...

معنى ذلك أنك تخون الأمانة إذا حاولت أن تتكلّم بخلاف الواقع، من منطلق أنّ فلاناً قريبُك، وأنّ فلاناً صديقُك، أو لأنك تنتمي إلى السياسي الفلاني وأنت تعلم أنه سيّئ، ولكنك تريد أن تجلب الناس إليه لمصلحتك، أو أنّ الجهة الفلانيّة سيّئة، لكنّك تنتمي إليها وتريد أن تجلب النّاس إليها لمصلحتك، فإنك تكون قد جمعت كذباً وخيانةً للناس.

خيانةُ الأمانةِ!

هناك كذب ربما لا يتدخل في حياة الناس، لكنه يقلب الصورة، هناك كذب ينطلق من أجل أن يتدخل في حياة الناس فيخرّب حياتهم. لهذا، الكذب في هذا المجال يكون خيانة، وطبعاً الله سبحانه لا يحبُّ الخائنين. ولهذا، ورد عندنا: " من استشاره أخوه المؤمن، فلم يمحضه النّصيحة، سلبه الله رأيه ". لم تمحضه النّصيحة، بمعنى أنّك أعطيته نصيحة مغشوشة ولم تعطه نصيحة خالصة، فإنَّ الله يعاقبك على هذا في الدنيا، بأن يسلب منك هذه الطّاقة التي تجعلك محلّ ثقة النّاس، ويحوِّلك إلى إنسانٍ لا يدرك الرأي، لأنَّ الرأي أمانة.. رأيك، خبرتك، معرفتك، علمك... ليست لك، هي لك وللآخرين، ولا بدّ لك أن تعطيها للآخرين إذا احتاجك الآخرون. هكذا ينطلق الإسلام.

لهذا، الكذب يسيء إلى حياتك وإيمانك، ويسيء إلى حياة الناس وإيمانهم.

هذا في القضايا الصغيرة.. لو جاءك إنسان وطلب منك رأيك في أمر من الأمور، كما يحدث أحياناً، يأتي إليك شخص ويسألك: ما رأيك في فلانة؟ أريد أن أتزوّجها، وأنت تعلم أنّ فلانة ليست صالحةً في أخلاقها وفي سلوكها وفي أوضاعها، وقلت له تزوّجْها، فإنها من خيار النّساء.. إنّك بهذه الكذبة ربما أرضيت مزاجك، أرضيت قرابتك، ولكنَّك حطَّمت حياته وحياتها، لأنها يمكن أن تعيش مع إنسانٍ تنسجم معه، ويمكن له أن يعيش مع إنسانةٍ ينسجم معها، فأنت عندما ربطت بينهما بكذبتك، حطَّمت حياتهما، وحطَّمت حياة الناس الذين تتعلَّق حياتهما بحياتهم، ومعنى ذلك، أنَّ كلَّ شرٍّ يحدث من هذه العلاقة، فلك حصّةٌ منه عند الله، لأنّك أنت الذي زرعت أساس العلاقة بكذبتك. هل نستطيع أن نتحمَّل ذلك؟ أنت تكذب كذبةً بسيطةً، ينتج منها مشاكل في البيت، ومعارك بين الأهل، ويسقط بسببها قتلى، وتحدث مشاكل، وتكون أنت الّذي زرعت ذلك كلّه، لأنَّ " من سنَّ سنّةً سيّئةً، أو عملَ عملاً سيّئاً، كان له عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة ".

عندما نفكّر في الأشياء، أيّها الأحبّة، فلنفكّر في نتائجها، لأننا غالباً ما نخضع في قضايانا للمزاج؛ فلانة قريبتي، فلانة ابنة صديقي، فلانة ابنة جاري، إذاً عليّ أن أحسِّن الصورة جيّداً. وهكذا بالنّسبة إلى قضيّة لو كان المستشار شخصاً يريد أن يزوِّج ابنته من إنسان آخر، وهكذا في قضايا الشّركة، وهكذا في قضايا الصّداقة، شخص يريد أن يجعل من إنسان صديقاً، وهكذا في كلّ المجالات. عندما ينتمي إلى جهة من الجهات، وأنت عندك غرض وهدف شخصي وطمع، تقول له هذه الجهة خيّرة ومخلصة... هذه كلّها نتحمل مسؤوليّتها أمام الله.

الكذبُ السياسيّ

هناك أكاذيب كبيرة يتحمّل أصحابها مسؤوليّتهم أمام الله، مثل الأكاذيب التي تقع عندنا.. نحن غارقون منذ أكثر من شهرين في الأسلوب الذي يتعامل به السياسيّون في الداخل وفي الخارج بهذا البلد. منذ شهرين أو أكثر، ونحن نسمع تهويلاً، أنه ستكون هناك بين هذه المنطقة وتلك المنطقة مشاكل، وسيكون هناك اجتياح... ويقول العارفون بالسياسة، إنّ هذه الأشياء التي يتكلّمون عنها ليست مستحيلة، وممكن أن تحصل في أيّ وقت.. لكنَّ المرحلة السياسيّة تقتضي أن يخوَّف الناس ويهوَّل عليهم، أن تثار الأكاذيب، وأن تثار الإشاعات، حتى يترك كثير من النّاس أعمالهم، وحتى يعيش النّاس حالة ضغط نفسيّ، وحتى يعيشوا حالة ضغط سياسيّ، وحتى يتنازلوا عن مواقفهم السياسيّة وغيرها، تحت تأثير الرّعب والخوف.

هذه كذبات كبيرة تمسّ حياة النَّاس، لأنها تعطّل حياتهم، تجمّد الواقع، تفقد الناس الروح المعنويّة، تجعلهم يعيشون في حالة الخوف، حالة الرّعب. والناس الذين يتبرّعون بإشاعة هذه الأمور، يتحمَّلون أيضاً المسؤوليَّة، لأنّك أنت الآن، عندما تسمع خبراً مقلقاً، فليس لك أن تنشره قبل أن ترجع إلى الناس الذين يفهمونك خفايا الأخبار { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ }[النساء: 83]، أي أنّ على الإنسان أن لا ينشر كلّ كلمة يسمعها، لأنّك عندما تنشر الكلمة، فأنت تشارك الإنسان الّذي أطلق هذه الكلمة في كلّ نتائجها السلبيّة والإيجابيّة، فإذا كانت الكلمة خيراً، فأنت تشاركه بما فيها من خير، وإذا كانت الكلمة شراً، فأنت تشاركه فيما فيها من شرّ.

الارتهانُ للاستعمارِ

لهذا، في بعض الحالات، نحن نظهر أنفسنا كمجتمع يشتغل مجاناً مع الاستعمار. هناك بعض الناس يشتغل مقابل مال، عندما يقال له أطلق إشاعة يعطونه على ذلك مالاً. نحن نفعل ذلك مجّاناً، نحن إذا سمعنا أيّ خبر أو أيّ شيء، ننشره رأساً دون أن نفكّر فيه، فننشر الرعب الذي يريدنا الأعداء أن ينتشر فينا، وننشر الأمن الكاذب الذي يريد الأعداء أن ننشره. علينا أن لا نفكّر فقط في الكلمة التي نقولها، بل علينا أن نفكّر أيضاً في الكلمة التي ننشرها، لأنه صحيح أنّك لم تقل الكلمة، ولكنّك نشرت الكلمة، وساعدت الكاذب - إذا كانت الكلمة كذباً - أن يوصل كذبته إلى أكبر عدد ممكن من الناس.

الموقفُ من إشاعةِ الفاحشةِ

ولهذا، فإنَّ إشاعة الفاحشة ونشرها من الأعمال المحرّمة شرعاً، وهذه قضايا تمسّ حياتنا في الصّميم؛ حياتنا الخاصّة وحياتنا العامّة، ولا سيّما إذا كنا نعرف أنّ الأجهزة الموجودة في العالم هذه الأيّام عندها مصانع للكذب، كما هناك مصانع للسّلاح حتى يحاربونا به أو يجعلونا نتحارب به؛ البلاد الجبليّة لها سلاح معيّن، البلاد الصحراوية لها سلاح معيّن، البلاد التي هي بين السّهل والجبل، البلاد البحرية، البلاد النهرية... كلّ بلد له سلاح معيّن، ويصدَّر له السّلاح بحسب حاجته..

وكما هناك مصانع للسلاح، كذلك هناك مصانع للإعلام، أليس هناك وزارة إعلام في كلّ بلد؟ هناك أيضاً مصانع للإعلام في كلّ بلد، فيها علماء للنفس، وفيها علماء اجتماع، وفيها علماء دين، وفيها علماء من جميع الاختصاصات التي تتعلَّق بحياة الناس. مثلاً، الاختصاصيّون في الدّين، يدرسون ماذا يوجد في هذا البلد؛ يوجد فيه طوائف، فيه سنّة وفيه شيعة، إذاً ما هي الأشياء التي نثير فيها السنّة على الشيعة والشّيعة على السنّة؟ هذا البلد فيه مسيحيّون ومسلمون، يدرسون ذهنية المسيحيّين وذهنية المسلمين، كيف نستطيع أن نثير هؤلاء على هؤلاء، بكذب، أو بإثارة نقطة من نقاط الخلاف، وهكذا.. هذا البلد فيه أحزاب، كيف نستطيع أن نخلف فيما بينهم؟ هناك توتر بين هذا الحزب وذاك، وبين هذه الجهة وتلك، كيف نستطيع أن نجعلهم يتقاتلون، ونجعلهم يخرّبون بلدهم بأيديهم؟! يقولون لوكالة الأنباء انقلي الخبر الفلاني، ويقولون لوكالة الأنباء الأخرى انقلي خبراً آخر.. هناك خبر يتحوّل إلى مشكلة طائفية، وخبر يتحوّل إلى مشكلة سياسية، وخبر يصبح مشكلة اجتماعيّة... يقال لهذه الصحيفة هذه الفضيحة الاجتماعيّة انشروها بالخطّ الأحمر العريض، تلك المشكلة اخفوها...

الأجهزة الموجودة في العالم هذه الأيّام عندها مصانع للكذب.. وكما هناك مصانع للسلاح، هناك مصانع للإعلام...

لا تتصوَّروا أنَّ وكالات الأنباء أو الإذاعات أو الصّحف عندما تنشر ما تنشر، أنّها تنشره هكذا على الطّبيعة. لا، بل إنّها تخطّط حتى لطريقة الخبر؛ هذا الخبر في أول الصفحة أو في آخر الصفحة؟! هذا الخبر في الصّفحة الأولى أو في الصفحة الثانية؟! هذا الخبر ينشر بخطّ كبير أو بخطّ صغير؟!... لأنّ كل ذلك يدرس نفسيات الناس والخطّ السياسي الموجود في المجتمع، وتأثير هذا الخبر في نفسيّة الناس.

حتى وكالة الأنباء تخطِّط لأن تذكر الخبر في أوّل النشرة أو تذكره في آخرها. دقّقوا أنتم في الأخبار التي تتعلّق بالثورة الإسلاميّة في إيران مثلاً.. في بعض الحالات التي تفرض عليهم الظّروف أن ينقلوا كلا الخبرين، يتكلّمون مئة كلمة عن وكالات الأنباء المضادّة، ثم يتكلّمون عشر كلمات في الخبر الثّاني بنحو يضيع في هذا المجال، أو يعلنون عن هذا الخبر بالجزء الأوّل من النّشرة، وذاك الخبر في الجزء الأخير منها، أو بالعكس، حسب الوضع، لأنهم يريدون إذا اضطرّوا إلى قول الحقيقة، أن يخفّفوا من الحقيقة في نفوس الناس.

الدّورُ السّلبيُّ للإعلامِ

الآن، هذه الانتصارات التي تحقّقت، والتي أجبرت كلّ وكالات الأنباء في العالم على نقلها، والّتي خلقت الآن قلقاً أمريكيّاً على الوضع في الخليج، حتى هذه الآن، جنود الإسلام لم يتقدَّموا، ولكن التكتيك العسكري الاستراتيجي هو الذي أعطاهم فرصة أن يتقدّموا عدّة كيلومترات، أصبحتم تلاحظون أنّه حتى الصحف المتّزنة عندنا – التي يسمّونها متّزنة، ولكنّ المال يلغي كلّ اتّزان – حتّى هذه الصّحف، تذكر أنّه "بعد التقدّم الإيراني الذي انطلق من خلال التكتيك العسكري الذي قامت به القوّات العراقيّة"! حتى يفهم الناس أنَّ هذا التقدّم ليس بقوّتهم [الإيرانيّين]، إنما هو تقدّم نتيجة الخطّة العسكريّة الجديدة.

الإعلام العالميّ يحاول أن يصوّر أنّ الثورة الإسلاميّة مثل بقيّة الثورات، وهي ليست مثل كلّ الثورات الموجودة في العالم، لكن نقول إن فيها إيجابيات وفيها سلبيات، فيها حسنات وفيها سيّئات، فيها أخطاء وفيها إصابات، فيها كلّ شيء. حتى الجماعة في إيران لا يقولون بأنّهم معصومون، لا أحد يقول إنّه معصوم، حتى السيد الخميني (حفظه الله) يقول أنا لست معصوماً.. ولكن لاحظوا الإعلام العالمي كلّه؛ في أيام الانتصارات التي حصلت، وأنا كنت أسمع إذاعتنا الرسمية المحترمة، كانت الانتصارات تنطلق بكلّ قوّة، والجماعة يقولون إنّه وقعت في أذربيجان مشكلة بين الحرس الثّوري وبين المعارضين وقتل كذا، حتى يوحوا بأنهم يقتلون بعضهم بعضاً، كما بعض قادة الثّورة عندنا، فيما عندنا من ثورة، عندما سئل عن إيران قال إنهم يقتلون بعضهم بعضاً، على أساس أنّ هذا الوضع الموجود معارضة..

إنّهم يحاولون أن يركّزوا على الأخبار الصّغيرة التي تنقل فكرة أنّ الوضع مهتزّ والوضع غير مستقرّ، الوضع مقلق وغير مرضيّ عنه. طبعاً، عندما يكون البلد فيه 35 مليون، وفيه عشرات الألوف من الكيلومترات، لا يمكن أن يخلو من سلبيَّات ومن مشاكل ومن قضايا صغيرة هنا وهناك.

التحقّقُ من الخبرِ

لهذا، نحن في هذا المجال، علينا أمام هذه الأكاذيب العالميّة أن نتحفَّظ، وأن ندرس، مثلما علّمنا الله كيف نفوِّت الفرصة على الكاذبين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُو }[الحجرات: 6]؛ هذه الجريدة صاحبها فاسق، وهذه الإذاعة صاحبها فاسق، وهذه وكالة أنباء أصحابها فسقة يباعون ويشترون.

إذاً مبدئيّاً، لا بأس بأن نسمع، لكن علينا أن لا نقبل ما نسمع، وإنما علينا، كما قال الله، أن نتبيّن، يعني افحصوا الحقيقة بأنفسكم، اعرضوها على أنفسكم، ادرسوها، وكما تستمعون إلى وجهة النظر هذه، استمعوا إلى وجهة النظر الأخرى، حتى تستطيعوا أن تصلوا إلى بعض الحقيقة، إذا لم تستطيعوا أن تصلوا إلى كلّ الحقيقة.

بماذا تفيدنا هذه المسألة؟ فائدتها أنها تعلّمنا كشعب وكأمّة أن نفكّر، وأن لا نندفع بمجرّد أن نسمع الكلمة، أو بمجرّد أن نسمع الخبر، لأنّ طريقتنا اندفاعيّة؛ نسمع الكلمة، وإذ بنا نخرج في مظاهرة، نسمع الخبر، وإذ بنا نخوض معركة، نسمع حديثاً عن شخص، وإذ بنا ننطلق في فتنة طائفية...

عندما يقول لنا الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُو }، يعني حاولوا أن تحصّلوا قناعاتكم بأنفسكم.. هذا يعطينا ثقافة جديدة، لأنه يعلّمنا أن نسعى إلى الحقيقة بأنفسنا، يعلّمنا أن نحاول الوصول إلى الحقيقة بوسائل جديدة، وليس من خلال الوسائل الموجودة، معنى ذلك أنَّ كلّ أعداء الله لا يستطيعون أن يفرضوا علينا وسائلهم وأجهزة إعلامهم.

الآن، مشكلة الناس في أمريكا، ومشكلة الناس في أوروبّا، هي أنَّ كلَّ واحد منهم لا يقرأ إلّا في جريدة معيّنة ولا يقرأ غيرها. ولهذا، ينطبع فكره وعقله ومشاعره ومواقفه لكلّ القضايا العالمية من خلال هذه الجريدة، ليس مستعدّاً أن يتسلّم زمام المبادرة، وليس مستعدّاً أن يرى حتى جريدة ثانية، ليس مستعدّاً أن يناقش الأفكار الموجودة في الجريدة. لهذا، يستطيعون أن يغسلوا أدمغة شعوبهم من خلال جرائد معيّنة.

الله يعلّمنا أن لا نكون هكذا هنا، أن لا نعتبر أنّ كلّ ما نقرأه في الجريدة هو الحقّ، وأنّ الإذاعة الفلانيّة لا تكذب... علينا أن نعرف أنّ كلّ الصحف شركات مساهمة ودكاكين، صحف تقوم على الإعلانات، الذي ينشر إعلانات أكثر يمكن أن يقدِّموه أكثر، الذي يدفع أكثر، يعطونه حريّة أن ينشر أخباره أكثر.

الله يعلّمنا ويقول لنا لا تغمضوا عيونكم، ولا يقول لنا كما تقول لنا بعض الأنظمة الموجودة عندنا، بأنّه لا يجوز أن تقرأوا ولا يجوز أن تسمعوا... الآن عندنا بعض الأنظمة العربيّة تحكم على الذي يسمع إذاعة إيران أن يسجن أو يعدم، أو الذي يسمع الإذاعة الفلانيّة بكذا، الذي يقرأ وجهة النظر الأخرى كذا... كنا في بعض البلاد العربيّة سابقاً، ولمدَّة عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة، ممنوع علينا أن نعرف أيّ شيء عن إسرائيل.. ممنوع أن نفهم شيئاً عن عدوّنا، لأنه ممنوع أن نعرف عن عدوّنا.

الله يقول لنا اطّلعوا على كلّ شيء، لكن بعد اطّلاعكم على كلّ شيء، فكّروا أنَّ عندكم عقلاً وفكراً، وأنَّ عليكم أن تستخدموا عقلكم وفكركم في كلّ ما تقرأونه وما تسمعونه. {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُو}، يعني استوضحوا القضيّة بأنفسكم، حتى تصبح عندكم إمكانات أن تعطوا رأياً في القضايا، وأن تركّزوا مواقفكم من القضايا على أساس الفهم، وعلى أساس الوعي لكلّ ما يقال، وبعد ذلك، لن تكونوا تحت رحمة الإشاعات، تقيمكم إشاعة وتقعدكم إشاعة، تنقلكم إشاعة وتهزمكم إشاعة، بل عندما تأتي الإشاعة، يتلقّفها الناس ويحلّلونها ويطيّرونها في الهواء إذا لم يكن لها أساس.

وهذا كلّه قصّة أن نكون مع الصّدق، نصدق ونحاول أن نكون مع الصّادقين، ولا نكذب ونكون مع الكاذبين، لأنّه كما قلنا، نحن نتحمّل مسؤوليّة نشر الكذبة، كما نتحمّل مسؤوليّة قول الكذب. وبهذا، علينا أن لا نحكم على كلّ ما هو موجود في العالم إلّا على أساس أن نتوثّق ونطمئنّ.

تلفيقُ التّهمِ للمؤمنين

الآن، يوجد قضيّة أحبّ أن أنبِّه إليها، لأنها قويّة وتمسّ أناساً مؤمنين. في هذه الأيّام والظّروف، هناك مشكلة موجودة، سمعتم أنَّه في البحرين جرت محاولة انقلاب وتلقّفتها دول الخليج، وتلقّفتها حتى الحركات التقدمية والثورية عندنا. واحد من الثوريّين جداً يقول نحن لا نسمح لإيران بأن تتدخّل في أنظمة الخليج!

وفي هذه المناسبة، الناس الثوريون يريدون أن يحرّروا العالم، ويريدون أن يحرّروا بلدهم، ولكنّهم يدعمون الظّلم في بلاد الآخرين! كيف يمكن أن تكون أنت حراً ومتحرِّراً وتقدّميّاً، وتدعم نظاماً مثل أنظمة الإمارات الموجودة؟ لقد أصبح كلّ رئيس عشيرة يقيم دولة، ويتصرف هو وعشيرته بالدولة، وصارت الدولة عبارة عن العشيرة، ورئيسها رئيس العشيرة. ومع ذلك، تعالوا وانظروا تصريحات التقدميّين والثوريّين وكلّ الناس الموجودين في هذا العالم الثّالث، أغلبهم يقولون إنّ إيران هي الّتي تريد أن تحدث الانقلاب.

وعلى هذا الأساس، جمعوا الكثير من الشباب وأودعوهم السّجون تحت طائلة التعذيب، والبعض مات في السّجون تحت التعذيب. التّصريحات انطلقت من كلّ جانب، والواقع أنّ إيران صرَّحت بأنّنا قادرون على إحداث انقلاب، لكنّ هذه القضيّة الآن ليس لنا دور فيها، وطلبت إثباتات، ولم يستطع الجماعة أن يقدّموا أيّ إثبات. قالت إنه ليس لنا أيّ دور في هذا الموضوع، والواقع أنه ليس هناك أيّ شيء اسمه محاولة انقلاب، هناك ظنٌّ أنّ هناك خلافاً بين أفراد العائلة، لكن كيف يتصرّفون؟ اجعلوا المسألة في رأس هؤلاء المؤمنين المحسوبين على إيران بعد أن رتّبوها، لأنّ كلّ واحد يريد أن يكون وليّ العهد. حاوَلوا أن يجعلوها في هذا الإطار، وإلّا من يقدر أن يدخل شيئاً إلى البحرين التي هي جزيرة في البحر، والذي يحكم الأمن فيها مسؤول بريطاني – مسؤول الأمن هناك ليس عربياً - وهي محاصرة من جميع الجهات؟! لا يمكن أن يدخل شيء من الخارج. لكن ماذا نقول للنّاس؟ فلنختلق لهؤلاء الناس قصّة، فلنحتو الأكثرية المعارضة. هناك الأكثرية الرافضة فلنحتوها، هي رافضة من جهتين، نحتوي هذه الأكثرية بأيّ طريقة، فلنلبسهم هذا القناع بأنهم جماعة قاموا بانقلاب، والآن هم يتقدَّمون إلى المحاكمة تحت أشدّ حالات المحاكمة، محاكمة سريّة وليست علنيّة. وهذه الأشياء عندما انطلقت، انطلقت من موقع كاذب وغير دقيق، لكنّ الكثير من الناس الذين يتحدّثون بأعلى الشّعارات حاولوا أن يتبنّوها.

كما قلت لكم، بعض الناس الذين يعتبرون أنفسهم في قمّة الثوريّة، ويريدون من العالم أن يساعدهم، ويريدون من العالم أن لا يشوّهوا موقفهم، لا يمانعون أن يؤيّدوا الأنظمة الظّالمة حتى فيما تكذب فيه، وحتى فيما تظلم فيه. عندما تؤيّد الظّلم في بلد، فلا بدّ أن يتحوّل الظلم إليك ليظلمك بعد ذلك. إنّ الذين يطلبون الحريّة ويطلبون العدالة من الظّالمين، سوف يخسرون كلّ ما عندهم من حريّة ومن عدالة. ولهذا، من يرد الصدق، فعليه أن يصدق ويكون مع الصادقين، وأن لا يكون مع الكاذبين.

بعض الناس يعتبرون أنفسهم في قمّة الثوريّة، لكنّهم لا يمانعون أن يؤيّدوا الأنظمة الظّالمة...

التدخّلُ مسموحٌ أم ممنوعٌ؟!

نحن، طبعاً، نعرف الذين اضطُهدوا والّذين سُجِنوا والّذين عذِّبوا، هم أبرياء، وإن كانت الثورة على الحكم الظّالم ليست جريمة. لا نقول إنهم أبرياء على أساس أنّ الثورة على الحكم الظالم جريمة، ليست جريمة أبداً، التدخّل في أيّ بلد ظالم لرفع الظلم هو تدخل مبرَّر إسلامياً، والإسلام لا يعترف بفكرة عدم التدخل في شؤون البلاد الأخرى الداخليّة إذا كانت هذه الشؤون على أساس الظلم والطغيان. نحن الآن نعتبر أنَّ من لا يهتمّ بشؤون المسلمين ليس مسلماً.. أيّ مسلم في العالم، إذا استطعنا أن ننصره فعلينا أن ننصره، وإن كانت الحدود بيننا وبينه آلاف الكيلومترات.. إذا استطعنا أن نرفع ظلماً عن مسلم، فعلينا أن نرفع الظلم عنه، وعلينا أن نقف معه.

صحيح أنّ كلّ جماعة منا تعيش في دولة، ولكنّ الاهتمام بأمور المسلمين لا يعرف حدوداً. النبيّ محمّد (ص) كان أول من جاء ليصدّر الثورة إلى العالم كلّه؛ الثورة ضدّ الكفر، والثورة ضدّ الشرك، والثورة ضدّ الظلم والطغيان وضدّ الجهل. فهل نقول للنبيّ محمّد (ص) لقد اشتغلت وأقمت دولة في الجزيرة العربية؛ مكّة، المدينة، الطّائف... فليس لك حقّ أن تتدخّل في نجد ولا أن تتدخّل في اليمن، ليس لك الحقّ أن تتدخّل في أيّ شيء؟... لماذا هذا التدخّل في الشؤون الداخليّة؟!!

إذا أردنا أن نتّخذ هذا المنطق السياسيّ الذي يعتبر أنَّ أيّ ثورة على الظّلم في أيّ بلد من قبل أيّ مسؤول، ومن قبل أيّ مؤمن، هو تدخّل في شؤون البلد الداخليّة، فيعني أنّ علينا أن نقف ولا ندعم أيّ شعب إذا أراد أن يطالب بحرّيته؛ بحريّته لا من أميركا فقط، فهناك أمريكا في الخارج، وهناك أمريكا في الداخل. فعندما نريد أن نحرر بلداً من أمريكا، فيقولون هذا تدخّل في شؤون الولايات المتحدة الداخليّة، لأن أمريكا أيضاً لها مصالح اقتصاديّة في هذا المجال!

ولكن، كما قلنا في الأسبوع الماضي، العدل لا يعرف وطناً، والحقّ لا يعرف وطناً، والإيمان لا يعرف وطناً... لا نريد أن نتمرّد الآن على الواقع الموجود، لكنّنا نقول إنّ علينا أن نتمرّد على الحواجز النفسية التي خلقها الكفر والاستعمار في أنفسنا، فأراد أن يفصل المؤمنين بعضهم عن بعض.

وبهذه الروح، نحن نشعر بأنّ من حقّ كلّ مسلم مسؤول في كلّ بلد في العالم أن يعمل بما يكفل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى.

الإسلام يشرّع الجهاد؛ أن ينطلق المسلمون إلى العالم، كلّ العالم، من أجل أن يفتحوا العالم على كلمة الله.

قضيّة مفهوم الحرية التي أتتنا من الغرب، ومفهوم الأوضاع الشرعيّة الدولية التي أتتنا من الغرب، لا نتعرّف عليها كمسلمين، إذا أردنا أن نكون مسلمين. ليس معناه أن ندخل في الفوضى، لكن عندما نريد أن ننطلق، ننطلق بشكل معقول على أساس الحكمة، من منطلق أنَّ " مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى بعضه، تداعى سائره بالسّهر والحمّى "2 .

معَ المجاهدين ضدَّ العدوِّ

نحن مع الصدق في كلّ مكان، ونحن ضدّ الكذب في كلّ مكان، نحن مع صدق الكلمة، ومع صدق النية، ومع صدق الفكرة، ومع صدق الموقف. وكما كنّا في إيران مع المؤمنين هناك، نظلّ معهم، ونعمل معهم، ونجاهد معهم، لأنهم جاؤوا بالصّدق وصدَّقوا به، لأنَّ الله قال لنا كونوا مع الصّادقين، { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }[الحجرات: 15]، ونحن معهم لأننا نريد أن نكون الصادقين، نحن مع كلّ نداء حقّ ينطلق في وجه أيّ ظالم، لأنّ نداء الحقّ هو نداء الصّدق، نحن مع كلّ موقف حقّ ينطلق في وجه الظلم والطغيان، لأننا مع الصدق.

وعلى هذا الأساس، نقول في آخر كلمتنا، نحن مع المجاهدين في الضفّة الغربيّة الّذين يقفون ضدّ العدوّ الصهيوني بلحمهم العاري. لقد تعلّموا من الثورة الإسلاميّة في إيران، أنّ الشعب إذا أراد أن يقف أمام الظّلم، وأمام الطّغيان، وأمام القوّة الكبيرة، أنَّ عليه أن لا ينهزم أمام القوّة الكبيرة لأنّه لا يحمل سلاحاً، وأنّ عليه أن لا ينهزم أمام القوّة الكبيرة لأنه لا يملك تغطية سياسية أو عسكرية.. لقد شعروا بأنّ عليهم أن يقفوا بلحمهم العاري، ووقفوا أمام جنود إسرائيل بلحمهم العاري، بالحجارة، بكلّ ما عندهم، واستطاعوا أن يثبتوا للعالم أنّ الإسلام إذا عاش في وعي شعب، [يستطيع أن يواجه ويتحدّى].

ونحن نعرف أنَّ هؤلاء انطلقوا من منطلقات إيمانيّة إسلاميّة، ولم ينطلقوا من كلّ تلك المنطلقات التي نعرفها.. انطلقوا من ذلك، وهم يقولون إنّهم تعلّموا من الثّورة الإسلاميّة التي وقفت أمام إسرائيل التي كانت في إيران، وأميركا الّتي كانت في إيران، أن يقفوا أمام إسرائيل كما وقف الشّعب الإيراني أمام الطّاغوت الأكبر والطّاغوت الأصغر، وكما انتصر الشّعب الإيراني بالإيمان، يفكّرون أن ينتصروا بالإيمان..

ونحن مع الإيمان، مع الإسلام، بعيداً من كلّ الطروحات الإقليميّة والقوميّة وغيرها، مع الإسلام عندما يتحرَّك في إيران، مع الإسلام عندما يتحرّك في الجنوب، ومع الإسلام عندما يتحرَّك في فلسطين، ومع الإسلام لأنّنا مسلمون على ما يريده الله ورسوله، عندما قال لإبراهيم، وقال لنا: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }[البقرة: 131].. مع الإسلام الذي يريدنا الله أن نكون حياتنا كلّها له: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }[الأنعام: 162- 163].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }[التّوبة: 119]. والحمد لله ربّ العالمين.

*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ 2/4/1982م.

[1] وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج12، ص 250.

[2]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 58، ص 150.

بسم الله الرّحمن الرّحيم..

الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده المصطفى، ورسوله المنتجب، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون.

هل من كذبٍ حلال؟!

اعتاد الناس أن يجعلوا للكذب يوماً، فاعتبروا أوّل نيسان يوماً للكذب الأبيض، وربما كان لهذا معنى، لأنَّ الناس قد اعتادوا أن يجعلوا السنة كلّها للكذب الأسود، فهم لا يطيقون أن لا يكذبوا، ولكنّهم يريدون أن يستريحوا بعض الراحة من الكذب الذي يتعبهم، فيحتاجون إلى الكذب الذي يضحكهم.

والإسلام كان حاسماً في ذلك كلّه، كان حاسماً في قضيّة الكذب والصّدق؛ أن تكون صادقاً في كلّ حالاتك، ليس للكذب يوم، وليس للكذب لون، كلّ الكذب أسود، إلّا الكذب الذي يريد منك أن تبني من خلاله الحياة في بعض الحالات. أمَّا الكذب الذي ينطلق من مزاجك، فكلّه أسود، لأنّ الكذب يعني أنّك تخفي الحقيقة، وأنّك تخفي الحقّ، ويعني أنّك تظهر الباطل بصورة الحقّ.

والله عندما أقام السّماء والأرض، أقامهما على أساس الحقّ { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ... }[الدّخان: 38-39]. ليس هناك ظاهرة في السماوات، وليس هناك ظاهرة في الأرض، إلّا ولها سرّ ولها قانون يربطها بالحقّ. ليس هناك لعب في الكون، كلّ ظاهرة من الظّواهر إذا انطلقت إليها تعطيك حقيقتها؛ الينبوع يعطيك حقيقته، والنبات يعطيك حقيقته، والبذرة تعطيك حقيقتها... كلّ الأشياء الموجودة في الكون لا تعرف أن تغشّ، إلّا الإنسان، فإنه هو الذي يحاول أن يغشّك ويغشّ نفسه.. فالله خلق الأشياء واضحةً بيّنةً مشرقةً، وجعل على كلّ حقيقة نوراً، ولكنّ الإنسان يأتي من أجل أن يثير الضّباب حول النّور، ومن أجل أن يثير الظّلام حول النور.

لهذا، ليس هناك فرق في موضوع الكذب بين حالتي الهزل والجدّ؛ أن تكذب على إنسان في مقام الهزل، تماماً كما تكذب عليه في مقام الجدّ، هذا حرام وذاك حرام. الحديث يقول في وصيّة الإمام زين العابدين (ع) لأولاده: " اتّقوا الكذب، الصّغير منه والكبير، في كلّ جدّ وهزلٍ، فإنَّ الرّجل إذا كذب في الصّغير، اجترأ على الكبير "1 .

الكذبة الصغيرة تجرّك إلى الكذبة الكبيرة، والكذبة البيضاء تجرّك إلى الكذبة السوداء، والله يريد منك أن تكون صادقاً في نيّتك، صادقاً في كلمتك، صادقاً في موقفك، صادقاً في عملك، صادقاً في معاملاتك، صادقاً في علاقاتك... حتى تركِّز الحياة على أساس الصِّدق، لأنَّ قضيّة أن تكون كاذباً أو أن تكون صادقاً، ليست قضيَّتك أنت حتى تقول أنا حرّ.

حدودُ الحريّةِ

بعض الناس يعطون لأنفسهم الحريّة في بعض الأشياء، والله ما منح الإنسان الحريّة في الأشياء التي تضرّه. مثلاً، ليس للإنسان حريّة أن يقتل نفسه، أو أن يمرِّض نفسه، أو أن يأكل الأكل الّذي يتلف جسده أو عقله... أنت عبد الله، وليس لك الحريّة أن تفعل بالجسد الّذي يملكه الله إلا بما أراد الله. بعض الناس يقول أنا حرّ هذا جسدي، حرّ أن أقتل نفسي، حرّ أن أشرب السّمّ، حرّ أن أتعاطى المخدّرات، حرّ أن أعمل أيّ شيء... لا، لست حرّاً، يجب على الناس أن يمنعوك من أن تؤذي نفسك، لأن لا حقّ لك ولا حريّة في ذلك.. لك حريّة فيما يبني جسمك، فيما يبني عقلك، فيما يبني حياتك، فيما يبني إيمانك، فيما يبني حياة الناس... هناك مساحة جعلها الله وأراد من الإنسان أن ينطلق بها، أما أن تكون لك حريّة أن تهدِّم حتى نفسك، فليس لك ذلك.

بعض الناس يمكن أن يأخذوا لأنفسهم الحريّة في قضاياهم الشخصيّة؛ هذه نفسي وأنا حرّ فيها، هذا ابني أنا حرّ فيه، هذه ابنتي أنا حرّ فيها... لا! ابنك، ابنتك، نفسك، ليست كالمتاع الموجود في بيتك. أنت حرّ أن تتصرَّف في الكنبات الّتي عندك؛ أن تبقيهم في هذه الغرفة أو تلك، أو أن تبقيهم في هذا الجانب أو ذاك، لكنّ ابنك لست حرّاً أن تبقيه في المدرسة، مثلاً، على مزاجك، أنت يجب أن تبقيه في المدرسة التي تكون في مصلحته كإنسان.. لست حراً أن تربّي ابنك على مزاجك، يجب أن تربيه على الطريقة التي يكون فيها إنساناً طيّباً صالحاً، وكذلك ابنتك، وكذلك نفسك.. لست حراً أن تجعل نفسك تتخلّق بأيّ خلق معيّن، تحت عنوان هذه نفسي وأنا حرّ. لا، أنت في هذا المجال، يجب عليك أن تنمّي في نفسك الأخلاق الجيِّدة الطيّبة، الصفات الكبيرة، أنت لست حرّاً في هذا المجال أبداً. ولهذا، وجب جهاد النفس، ووجب محاسبة النفس، حتى تكتشف داخل نفسك، وكيف تنمو نفسك، حتى لا تعطي نفسك الحريّة في هذا المجال.

في الكذبِ جريمتان

إذاً، حريّة أن تكذب ليست قضيّة متّصلة في نفسك، هي متّصلة بك وبالآخرين، إنك إذا كذبت فقد أجرمت جريمتين؛ الجريمة الأولى، هي أنّك أدخلت الباطل إلى داخل شخصيَّتك، أن تكذب، يعني أن تتبنّى الباطل، أن تكذب، يعني أن تدعم الباطل، لأنّ الكذب يمثل الوجه الآخر المضادّ للحقيقة. عندما تكذب، معناه أنك ارتبطت بالباطل، معناه أنك دعمت الباطل، هذه جريمة تختصّ بك كإنسان مؤمن.

الجريمة الثانية، عندما تكذب، فإنّك تشوِّه الحقيقة في عيون النّاس الآخرين. في الناس من يثق بك، في الناس من يقبل قولك، في الناس من يأخذ رأيك... وعندما تشوّه الحقيقة في عيون الناس وفي قلوبهم، فإنهم يفهمون معنى الحياة من خلالك، وسينهجون على أساسها. لو جاء لك إنسان وسألك عن شخصٍ في أمر الزواج، في شركة ماليّة، في قضية سياسية، في أيّ جانب من الجوانب، سألك في هذه الحال كمؤمن، فلا بدَّ لك أن تقول له كلمة الحقّ، حتى لو كانت ضدّ مصلحتك وضدّ مزاجك وضدّ قناعاتك، لأنَّ الإنسان عندما يستشيرك، فمعناه أنّه جعل حياته ومستقبله وأوضاعه الماليّة في متناول يدك، وكأنّه عندما أراد منك أن تشير عليه، كأنّه قال لك أنا سلّمت بأمري، إذا قلت بأنّ فلاناً صالح فأنا أسير معه، وإذا قلت لي إنّ فلاناً خيّر فأنا أتشارك معه، وإذا قلت إنَّ فلاناً مخلص فأنا أدعمه وأؤيّده، وهكذا...

إذا كذبْتَ أجرمْتَ جريمتين؛ أدخلت الباطل إلى داخل شخصيَّتك، وشوّهت الحقيقة في عيون النّاس...

معنى ذلك أنك تخون الأمانة إذا حاولت أن تتكلّم بخلاف الواقع، من منطلق أنّ فلاناً قريبُك، وأنّ فلاناً صديقُك، أو لأنك تنتمي إلى السياسي الفلاني وأنت تعلم أنه سيّئ، ولكنك تريد أن تجلب الناس إليه لمصلحتك، أو أنّ الجهة الفلانيّة سيّئة، لكنّك تنتمي إليها وتريد أن تجلب النّاس إليها لمصلحتك، فإنك تكون قد جمعت كذباً وخيانةً للناس.

خيانةُ الأمانةِ!

هناك كذب ربما لا يتدخل في حياة الناس، لكنه يقلب الصورة، هناك كذب ينطلق من أجل أن يتدخل في حياة الناس فيخرّب حياتهم. لهذا، الكذب في هذا المجال يكون خيانة، وطبعاً الله سبحانه لا يحبُّ الخائنين. ولهذا، ورد عندنا: " من استشاره أخوه المؤمن، فلم يمحضه النّصيحة، سلبه الله رأيه ". لم تمحضه النّصيحة، بمعنى أنّك أعطيته نصيحة مغشوشة ولم تعطه نصيحة خالصة، فإنَّ الله يعاقبك على هذا في الدنيا، بأن يسلب منك هذه الطّاقة التي تجعلك محلّ ثقة النّاس، ويحوِّلك إلى إنسانٍ لا يدرك الرأي، لأنَّ الرأي أمانة.. رأيك، خبرتك، معرفتك، علمك... ليست لك، هي لك وللآخرين، ولا بدّ لك أن تعطيها للآخرين إذا احتاجك الآخرون. هكذا ينطلق الإسلام.

لهذا، الكذب يسيء إلى حياتك وإيمانك، ويسيء إلى حياة الناس وإيمانهم.

هذا في القضايا الصغيرة.. لو جاءك إنسان وطلب منك رأيك في أمر من الأمور، كما يحدث أحياناً، يأتي إليك شخص ويسألك: ما رأيك في فلانة؟ أريد أن أتزوّجها، وأنت تعلم أنّ فلانة ليست صالحةً في أخلاقها وفي سلوكها وفي أوضاعها، وقلت له تزوّجْها، فإنها من خيار النّساء.. إنّك بهذه الكذبة ربما أرضيت مزاجك، أرضيت قرابتك، ولكنَّك حطَّمت حياته وحياتها، لأنها يمكن أن تعيش مع إنسانٍ تنسجم معه، ويمكن له أن يعيش مع إنسانةٍ ينسجم معها، فأنت عندما ربطت بينهما بكذبتك، حطَّمت حياتهما، وحطَّمت حياة الناس الذين تتعلَّق حياتهما بحياتهم، ومعنى ذلك، أنَّ كلَّ شرٍّ يحدث من هذه العلاقة، فلك حصّةٌ منه عند الله، لأنّك أنت الذي زرعت أساس العلاقة بكذبتك. هل نستطيع أن نتحمَّل ذلك؟ أنت تكذب كذبةً بسيطةً، ينتج منها مشاكل في البيت، ومعارك بين الأهل، ويسقط بسببها قتلى، وتحدث مشاكل، وتكون أنت الّذي زرعت ذلك كلّه، لأنَّ " من سنَّ سنّةً سيّئةً، أو عملَ عملاً سيّئاً، كان له عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة ".

عندما نفكّر في الأشياء، أيّها الأحبّة، فلنفكّر في نتائجها، لأننا غالباً ما نخضع في قضايانا للمزاج؛ فلانة قريبتي، فلانة ابنة صديقي، فلانة ابنة جاري، إذاً عليّ أن أحسِّن الصورة جيّداً. وهكذا بالنّسبة إلى قضيّة لو كان المستشار شخصاً يريد أن يزوِّج ابنته من إنسان آخر، وهكذا في قضايا الشّركة، وهكذا في قضايا الصّداقة، شخص يريد أن يجعل من إنسان صديقاً، وهكذا في كلّ المجالات. عندما ينتمي إلى جهة من الجهات، وأنت عندك غرض وهدف شخصي وطمع، تقول له هذه الجهة خيّرة ومخلصة... هذه كلّها نتحمل مسؤوليّتها أمام الله.

الكذبُ السياسيّ

هناك أكاذيب كبيرة يتحمّل أصحابها مسؤوليّتهم أمام الله، مثل الأكاذيب التي تقع عندنا.. نحن غارقون منذ أكثر من شهرين في الأسلوب الذي يتعامل به السياسيّون في الداخل وفي الخارج بهذا البلد. منذ شهرين أو أكثر، ونحن نسمع تهويلاً، أنه ستكون هناك بين هذه المنطقة وتلك المنطقة مشاكل، وسيكون هناك اجتياح... ويقول العارفون بالسياسة، إنّ هذه الأشياء التي يتكلّمون عنها ليست مستحيلة، وممكن أن تحصل في أيّ وقت.. لكنَّ المرحلة السياسيّة تقتضي أن يخوَّف الناس ويهوَّل عليهم، أن تثار الأكاذيب، وأن تثار الإشاعات، حتى يترك كثير من النّاس أعمالهم، وحتى يعيش النّاس حالة ضغط نفسيّ، وحتى يعيشوا حالة ضغط سياسيّ، وحتى يتنازلوا عن مواقفهم السياسيّة وغيرها، تحت تأثير الرّعب والخوف.

هذه كذبات كبيرة تمسّ حياة النَّاس، لأنها تعطّل حياتهم، تجمّد الواقع، تفقد الناس الروح المعنويّة، تجعلهم يعيشون في حالة الخوف، حالة الرّعب. والناس الذين يتبرّعون بإشاعة هذه الأمور، يتحمَّلون أيضاً المسؤوليَّة، لأنّك أنت الآن، عندما تسمع خبراً مقلقاً، فليس لك أن تنشره قبل أن ترجع إلى الناس الذين يفهمونك خفايا الأخبار { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ }[النساء: 83]، أي أنّ على الإنسان أن لا ينشر كلّ كلمة يسمعها، لأنّك عندما تنشر الكلمة، فأنت تشارك الإنسان الّذي أطلق هذه الكلمة في كلّ نتائجها السلبيّة والإيجابيّة، فإذا كانت الكلمة خيراً، فأنت تشاركه بما فيها من خير، وإذا كانت الكلمة شراً، فأنت تشاركه فيما فيها من شرّ.

الارتهانُ للاستعمارِ

لهذا، في بعض الحالات، نحن نظهر أنفسنا كمجتمع يشتغل مجاناً مع الاستعمار. هناك بعض الناس يشتغل مقابل مال، عندما يقال له أطلق إشاعة يعطونه على ذلك مالاً. نحن نفعل ذلك مجّاناً، نحن إذا سمعنا أيّ خبر أو أيّ شيء، ننشره رأساً دون أن نفكّر فيه، فننشر الرعب الذي يريدنا الأعداء أن ينتشر فينا، وننشر الأمن الكاذب الذي يريد الأعداء أن ننشره. علينا أن لا نفكّر فقط في الكلمة التي نقولها، بل علينا أن نفكّر أيضاً في الكلمة التي ننشرها، لأنه صحيح أنّك لم تقل الكلمة، ولكنّك نشرت الكلمة، وساعدت الكاذب - إذا كانت الكلمة كذباً - أن يوصل كذبته إلى أكبر عدد ممكن من الناس.

الموقفُ من إشاعةِ الفاحشةِ

ولهذا، فإنَّ إشاعة الفاحشة ونشرها من الأعمال المحرّمة شرعاً، وهذه قضايا تمسّ حياتنا في الصّميم؛ حياتنا الخاصّة وحياتنا العامّة، ولا سيّما إذا كنا نعرف أنّ الأجهزة الموجودة في العالم هذه الأيّام عندها مصانع للكذب، كما هناك مصانع للسّلاح حتى يحاربونا به أو يجعلونا نتحارب به؛ البلاد الجبليّة لها سلاح معيّن، البلاد الصحراوية لها سلاح معيّن، البلاد التي هي بين السّهل والجبل، البلاد البحرية، البلاد النهرية... كلّ بلد له سلاح معيّن، ويصدَّر له السّلاح بحسب حاجته..

وكما هناك مصانع للسلاح، كذلك هناك مصانع للإعلام، أليس هناك وزارة إعلام في كلّ بلد؟ هناك أيضاً مصانع للإعلام في كلّ بلد، فيها علماء للنفس، وفيها علماء اجتماع، وفيها علماء دين، وفيها علماء من جميع الاختصاصات التي تتعلَّق بحياة الناس. مثلاً، الاختصاصيّون في الدّين، يدرسون ماذا يوجد في هذا البلد؛ يوجد فيه طوائف، فيه سنّة وفيه شيعة، إذاً ما هي الأشياء التي نثير فيها السنّة على الشيعة والشّيعة على السنّة؟ هذا البلد فيه مسيحيّون ومسلمون، يدرسون ذهنية المسيحيّين وذهنية المسلمين، كيف نستطيع أن نثير هؤلاء على هؤلاء، بكذب، أو بإثارة نقطة من نقاط الخلاف، وهكذا.. هذا البلد فيه أحزاب، كيف نستطيع أن نخلف فيما بينهم؟ هناك توتر بين هذا الحزب وذاك، وبين هذه الجهة وتلك، كيف نستطيع أن نجعلهم يتقاتلون، ونجعلهم يخرّبون بلدهم بأيديهم؟! يقولون لوكالة الأنباء انقلي الخبر الفلاني، ويقولون لوكالة الأنباء الأخرى انقلي خبراً آخر.. هناك خبر يتحوّل إلى مشكلة طائفية، وخبر يتحوّل إلى مشكلة سياسية، وخبر يصبح مشكلة اجتماعيّة... يقال لهذه الصحيفة هذه الفضيحة الاجتماعيّة انشروها بالخطّ الأحمر العريض، تلك المشكلة اخفوها...

الأجهزة الموجودة في العالم هذه الأيّام عندها مصانع للكذب.. وكما هناك مصانع للسلاح، هناك مصانع للإعلام...

لا تتصوَّروا أنَّ وكالات الأنباء أو الإذاعات أو الصّحف عندما تنشر ما تنشر، أنّها تنشره هكذا على الطّبيعة. لا، بل إنّها تخطّط حتى لطريقة الخبر؛ هذا الخبر في أول الصفحة أو في آخر الصفحة؟! هذا الخبر في الصّفحة الأولى أو في الصفحة الثانية؟! هذا الخبر ينشر بخطّ كبير أو بخطّ صغير؟!... لأنّ كل ذلك يدرس نفسيات الناس والخطّ السياسي الموجود في المجتمع، وتأثير هذا الخبر في نفسيّة الناس.

حتى وكالة الأنباء تخطِّط لأن تذكر الخبر في أوّل النشرة أو تذكره في آخرها. دقّقوا أنتم في الأخبار التي تتعلّق بالثورة الإسلاميّة في إيران مثلاً.. في بعض الحالات التي تفرض عليهم الظّروف أن ينقلوا كلا الخبرين، يتكلّمون مئة كلمة عن وكالات الأنباء المضادّة، ثم يتكلّمون عشر كلمات في الخبر الثّاني بنحو يضيع في هذا المجال، أو يعلنون عن هذا الخبر بالجزء الأوّل من النّشرة، وذاك الخبر في الجزء الأخير منها، أو بالعكس، حسب الوضع، لأنهم يريدون إذا اضطرّوا إلى قول الحقيقة، أن يخفّفوا من الحقيقة في نفوس الناس.

الدّورُ السّلبيُّ للإعلامِ

الآن، هذه الانتصارات التي تحقّقت، والتي أجبرت كلّ وكالات الأنباء في العالم على نقلها، والّتي خلقت الآن قلقاً أمريكيّاً على الوضع في الخليج، حتى هذه الآن، جنود الإسلام لم يتقدَّموا، ولكن التكتيك العسكري الاستراتيجي هو الذي أعطاهم فرصة أن يتقدّموا عدّة كيلومترات، أصبحتم تلاحظون أنّه حتى الصحف المتّزنة عندنا – التي يسمّونها متّزنة، ولكنّ المال يلغي كلّ اتّزان – حتّى هذه الصّحف، تذكر أنّه "بعد التقدّم الإيراني الذي انطلق من خلال التكتيك العسكري الذي قامت به القوّات العراقيّة"! حتى يفهم الناس أنَّ هذا التقدّم ليس بقوّتهم [الإيرانيّين]، إنما هو تقدّم نتيجة الخطّة العسكريّة الجديدة.

الإعلام العالميّ يحاول أن يصوّر أنّ الثورة الإسلاميّة مثل بقيّة الثورات، وهي ليست مثل كلّ الثورات الموجودة في العالم، لكن نقول إن فيها إيجابيات وفيها سلبيات، فيها حسنات وفيها سيّئات، فيها أخطاء وفيها إصابات، فيها كلّ شيء. حتى الجماعة في إيران لا يقولون بأنّهم معصومون، لا أحد يقول إنّه معصوم، حتى السيد الخميني (حفظه الله) يقول أنا لست معصوماً.. ولكن لاحظوا الإعلام العالمي كلّه؛ في أيام الانتصارات التي حصلت، وأنا كنت أسمع إذاعتنا الرسمية المحترمة، كانت الانتصارات تنطلق بكلّ قوّة، والجماعة يقولون إنّه وقعت في أذربيجان مشكلة بين الحرس الثّوري وبين المعارضين وقتل كذا، حتى يوحوا بأنهم يقتلون بعضهم بعضاً، كما بعض قادة الثّورة عندنا، فيما عندنا من ثورة، عندما سئل عن إيران قال إنهم يقتلون بعضهم بعضاً، على أساس أنّ هذا الوضع الموجود معارضة..

إنّهم يحاولون أن يركّزوا على الأخبار الصّغيرة التي تنقل فكرة أنّ الوضع مهتزّ والوضع غير مستقرّ، الوضع مقلق وغير مرضيّ عنه. طبعاً، عندما يكون البلد فيه 35 مليون، وفيه عشرات الألوف من الكيلومترات، لا يمكن أن يخلو من سلبيَّات ومن مشاكل ومن قضايا صغيرة هنا وهناك.

التحقّقُ من الخبرِ

لهذا، نحن في هذا المجال، علينا أمام هذه الأكاذيب العالميّة أن نتحفَّظ، وأن ندرس، مثلما علّمنا الله كيف نفوِّت الفرصة على الكاذبين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُو }[الحجرات: 6]؛ هذه الجريدة صاحبها فاسق، وهذه الإذاعة صاحبها فاسق، وهذه وكالة أنباء أصحابها فسقة يباعون ويشترون.

إذاً مبدئيّاً، لا بأس بأن نسمع، لكن علينا أن لا نقبل ما نسمع، وإنما علينا، كما قال الله، أن نتبيّن، يعني افحصوا الحقيقة بأنفسكم، اعرضوها على أنفسكم، ادرسوها، وكما تستمعون إلى وجهة النظر هذه، استمعوا إلى وجهة النظر الأخرى، حتى تستطيعوا أن تصلوا إلى بعض الحقيقة، إذا لم تستطيعوا أن تصلوا إلى كلّ الحقيقة.

بماذا تفيدنا هذه المسألة؟ فائدتها أنها تعلّمنا كشعب وكأمّة أن نفكّر، وأن لا نندفع بمجرّد أن نسمع الكلمة، أو بمجرّد أن نسمع الخبر، لأنّ طريقتنا اندفاعيّة؛ نسمع الكلمة، وإذ بنا نخرج في مظاهرة، نسمع الخبر، وإذ بنا نخوض معركة، نسمع حديثاً عن شخص، وإذ بنا ننطلق في فتنة طائفية...

عندما يقول لنا الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُو }، يعني حاولوا أن تحصّلوا قناعاتكم بأنفسكم.. هذا يعطينا ثقافة جديدة، لأنه يعلّمنا أن نسعى إلى الحقيقة بأنفسنا، يعلّمنا أن نحاول الوصول إلى الحقيقة بوسائل جديدة، وليس من خلال الوسائل الموجودة، معنى ذلك أنَّ كلّ أعداء الله لا يستطيعون أن يفرضوا علينا وسائلهم وأجهزة إعلامهم.

الآن، مشكلة الناس في أمريكا، ومشكلة الناس في أوروبّا، هي أنَّ كلَّ واحد منهم لا يقرأ إلّا في جريدة معيّنة ولا يقرأ غيرها. ولهذا، ينطبع فكره وعقله ومشاعره ومواقفه لكلّ القضايا العالمية من خلال هذه الجريدة، ليس مستعدّاً أن يتسلّم زمام المبادرة، وليس مستعدّاً أن يرى حتى جريدة ثانية، ليس مستعدّاً أن يناقش الأفكار الموجودة في الجريدة. لهذا، يستطيعون أن يغسلوا أدمغة شعوبهم من خلال جرائد معيّنة.

الله يعلّمنا أن لا نكون هكذا هنا، أن لا نعتبر أنّ كلّ ما نقرأه في الجريدة هو الحقّ، وأنّ الإذاعة الفلانيّة لا تكذب... علينا أن نعرف أنّ كلّ الصحف شركات مساهمة ودكاكين، صحف تقوم على الإعلانات، الذي ينشر إعلانات أكثر يمكن أن يقدِّموه أكثر، الذي يدفع أكثر، يعطونه حريّة أن ينشر أخباره أكثر.

الله يعلّمنا ويقول لنا لا تغمضوا عيونكم، ولا يقول لنا كما تقول لنا بعض الأنظمة الموجودة عندنا، بأنّه لا يجوز أن تقرأوا ولا يجوز أن تسمعوا... الآن عندنا بعض الأنظمة العربيّة تحكم على الذي يسمع إذاعة إيران أن يسجن أو يعدم، أو الذي يسمع الإذاعة الفلانيّة بكذا، الذي يقرأ وجهة النظر الأخرى كذا... كنا في بعض البلاد العربيّة سابقاً، ولمدَّة عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة، ممنوع علينا أن نعرف أيّ شيء عن إسرائيل.. ممنوع أن نفهم شيئاً عن عدوّنا، لأنه ممنوع أن نعرف عن عدوّنا.

الله يقول لنا اطّلعوا على كلّ شيء، لكن بعد اطّلاعكم على كلّ شيء، فكّروا أنَّ عندكم عقلاً وفكراً، وأنَّ عليكم أن تستخدموا عقلكم وفكركم في كلّ ما تقرأونه وما تسمعونه. {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُو}، يعني استوضحوا القضيّة بأنفسكم، حتى تصبح عندكم إمكانات أن تعطوا رأياً في القضايا، وأن تركّزوا مواقفكم من القضايا على أساس الفهم، وعلى أساس الوعي لكلّ ما يقال، وبعد ذلك، لن تكونوا تحت رحمة الإشاعات، تقيمكم إشاعة وتقعدكم إشاعة، تنقلكم إشاعة وتهزمكم إشاعة، بل عندما تأتي الإشاعة، يتلقّفها الناس ويحلّلونها ويطيّرونها في الهواء إذا لم يكن لها أساس.

وهذا كلّه قصّة أن نكون مع الصّدق، نصدق ونحاول أن نكون مع الصّادقين، ولا نكذب ونكون مع الكاذبين، لأنّه كما قلنا، نحن نتحمّل مسؤوليّة نشر الكذبة، كما نتحمّل مسؤوليّة قول الكذب. وبهذا، علينا أن لا نحكم على كلّ ما هو موجود في العالم إلّا على أساس أن نتوثّق ونطمئنّ.

تلفيقُ التّهمِ للمؤمنين

الآن، يوجد قضيّة أحبّ أن أنبِّه إليها، لأنها قويّة وتمسّ أناساً مؤمنين. في هذه الأيّام والظّروف، هناك مشكلة موجودة، سمعتم أنَّه في البحرين جرت محاولة انقلاب وتلقّفتها دول الخليج، وتلقّفتها حتى الحركات التقدمية والثورية عندنا. واحد من الثوريّين جداً يقول نحن لا نسمح لإيران بأن تتدخّل في أنظمة الخليج!

وفي هذه المناسبة، الناس الثوريون يريدون أن يحرّروا العالم، ويريدون أن يحرّروا بلدهم، ولكنّهم يدعمون الظّلم في بلاد الآخرين! كيف يمكن أن تكون أنت حراً ومتحرِّراً وتقدّميّاً، وتدعم نظاماً مثل أنظمة الإمارات الموجودة؟ لقد أصبح كلّ رئيس عشيرة يقيم دولة، ويتصرف هو وعشيرته بالدولة، وصارت الدولة عبارة عن العشيرة، ورئيسها رئيس العشيرة. ومع ذلك، تعالوا وانظروا تصريحات التقدميّين والثوريّين وكلّ الناس الموجودين في هذا العالم الثّالث، أغلبهم يقولون إنّ إيران هي الّتي تريد أن تحدث الانقلاب.

وعلى هذا الأساس، جمعوا الكثير من الشباب وأودعوهم السّجون تحت طائلة التعذيب، والبعض مات في السّجون تحت التعذيب. التّصريحات انطلقت من كلّ جانب، والواقع أنّ إيران صرَّحت بأنّنا قادرون على إحداث انقلاب، لكنّ هذه القضيّة الآن ليس لنا دور فيها، وطلبت إثباتات، ولم يستطع الجماعة أن يقدّموا أيّ إثبات. قالت إنه ليس لنا أيّ دور في هذا الموضوع، والواقع أنه ليس هناك أيّ شيء اسمه محاولة انقلاب، هناك ظنٌّ أنّ هناك خلافاً بين أفراد العائلة، لكن كيف يتصرّفون؟ اجعلوا المسألة في رأس هؤلاء المؤمنين المحسوبين على إيران بعد أن رتّبوها، لأنّ كلّ واحد يريد أن يكون وليّ العهد. حاوَلوا أن يجعلوها في هذا الإطار، وإلّا من يقدر أن يدخل شيئاً إلى البحرين التي هي جزيرة في البحر، والذي يحكم الأمن فيها مسؤول بريطاني – مسؤول الأمن هناك ليس عربياً - وهي محاصرة من جميع الجهات؟! لا يمكن أن يدخل شيء من الخارج. لكن ماذا نقول للنّاس؟ فلنختلق لهؤلاء الناس قصّة، فلنحتو الأكثرية المعارضة. هناك الأكثرية الرافضة فلنحتوها، هي رافضة من جهتين، نحتوي هذه الأكثرية بأيّ طريقة، فلنلبسهم هذا القناع بأنهم جماعة قاموا بانقلاب، والآن هم يتقدَّمون إلى المحاكمة تحت أشدّ حالات المحاكمة، محاكمة سريّة وليست علنيّة. وهذه الأشياء عندما انطلقت، انطلقت من موقع كاذب وغير دقيق، لكنّ الكثير من الناس الذين يتحدّثون بأعلى الشّعارات حاولوا أن يتبنّوها.

كما قلت لكم، بعض الناس الذين يعتبرون أنفسهم في قمّة الثوريّة، ويريدون من العالم أن يساعدهم، ويريدون من العالم أن لا يشوّهوا موقفهم، لا يمانعون أن يؤيّدوا الأنظمة الظّالمة حتى فيما تكذب فيه، وحتى فيما تظلم فيه. عندما تؤيّد الظّلم في بلد، فلا بدّ أن يتحوّل الظلم إليك ليظلمك بعد ذلك. إنّ الذين يطلبون الحريّة ويطلبون العدالة من الظّالمين، سوف يخسرون كلّ ما عندهم من حريّة ومن عدالة. ولهذا، من يرد الصدق، فعليه أن يصدق ويكون مع الصادقين، وأن لا يكون مع الكاذبين.

بعض الناس يعتبرون أنفسهم في قمّة الثوريّة، لكنّهم لا يمانعون أن يؤيّدوا الأنظمة الظّالمة...

التدخّلُ مسموحٌ أم ممنوعٌ؟!

نحن، طبعاً، نعرف الذين اضطُهدوا والّذين سُجِنوا والّذين عذِّبوا، هم أبرياء، وإن كانت الثورة على الحكم الظّالم ليست جريمة. لا نقول إنهم أبرياء على أساس أنّ الثورة على الحكم الظالم جريمة، ليست جريمة أبداً، التدخّل في أيّ بلد ظالم لرفع الظلم هو تدخل مبرَّر إسلامياً، والإسلام لا يعترف بفكرة عدم التدخل في شؤون البلاد الأخرى الداخليّة إذا كانت هذه الشؤون على أساس الظلم والطغيان. نحن الآن نعتبر أنَّ من لا يهتمّ بشؤون المسلمين ليس مسلماً.. أيّ مسلم في العالم، إذا استطعنا أن ننصره فعلينا أن ننصره، وإن كانت الحدود بيننا وبينه آلاف الكيلومترات.. إذا استطعنا أن نرفع ظلماً عن مسلم، فعلينا أن نرفع الظلم عنه، وعلينا أن نقف معه.

صحيح أنّ كلّ جماعة منا تعيش في دولة، ولكنّ الاهتمام بأمور المسلمين لا يعرف حدوداً. النبيّ محمّد (ص) كان أول من جاء ليصدّر الثورة إلى العالم كلّه؛ الثورة ضدّ الكفر، والثورة ضدّ الشرك، والثورة ضدّ الظلم والطغيان وضدّ الجهل. فهل نقول للنبيّ محمّد (ص) لقد اشتغلت وأقمت دولة في الجزيرة العربية؛ مكّة، المدينة، الطّائف... فليس لك حقّ أن تتدخّل في نجد ولا أن تتدخّل في اليمن، ليس لك الحقّ أن تتدخّل في أيّ شيء؟... لماذا هذا التدخّل في الشؤون الداخليّة؟!!

إذا أردنا أن نتّخذ هذا المنطق السياسيّ الذي يعتبر أنَّ أيّ ثورة على الظّلم في أيّ بلد من قبل أيّ مسؤول، ومن قبل أيّ مؤمن، هو تدخّل في شؤون البلد الداخليّة، فيعني أنّ علينا أن نقف ولا ندعم أيّ شعب إذا أراد أن يطالب بحرّيته؛ بحريّته لا من أميركا فقط، فهناك أمريكا في الخارج، وهناك أمريكا في الداخل. فعندما نريد أن نحرر بلداً من أمريكا، فيقولون هذا تدخّل في شؤون الولايات المتحدة الداخليّة، لأن أمريكا أيضاً لها مصالح اقتصاديّة في هذا المجال!

ولكن، كما قلنا في الأسبوع الماضي، العدل لا يعرف وطناً، والحقّ لا يعرف وطناً، والإيمان لا يعرف وطناً... لا نريد أن نتمرّد الآن على الواقع الموجود، لكنّنا نقول إنّ علينا أن نتمرّد على الحواجز النفسية التي خلقها الكفر والاستعمار في أنفسنا، فأراد أن يفصل المؤمنين بعضهم عن بعض.

وبهذه الروح، نحن نشعر بأنّ من حقّ كلّ مسلم مسؤول في كلّ بلد في العالم أن يعمل بما يكفل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى.

الإسلام يشرّع الجهاد؛ أن ينطلق المسلمون إلى العالم، كلّ العالم، من أجل أن يفتحوا العالم على كلمة الله.

قضيّة مفهوم الحرية التي أتتنا من الغرب، ومفهوم الأوضاع الشرعيّة الدولية التي أتتنا من الغرب، لا نتعرّف عليها كمسلمين، إذا أردنا أن نكون مسلمين. ليس معناه أن ندخل في الفوضى، لكن عندما نريد أن ننطلق، ننطلق بشكل معقول على أساس الحكمة، من منطلق أنَّ " مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى بعضه، تداعى سائره بالسّهر والحمّى "2 .

معَ المجاهدين ضدَّ العدوِّ

نحن مع الصدق في كلّ مكان، ونحن ضدّ الكذب في كلّ مكان، نحن مع صدق الكلمة، ومع صدق النية، ومع صدق الفكرة، ومع صدق الموقف. وكما كنّا في إيران مع المؤمنين هناك، نظلّ معهم، ونعمل معهم، ونجاهد معهم، لأنهم جاؤوا بالصّدق وصدَّقوا به، لأنَّ الله قال لنا كونوا مع الصّادقين، { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }[الحجرات: 15]، ونحن معهم لأننا نريد أن نكون الصادقين، نحن مع كلّ نداء حقّ ينطلق في وجه أيّ ظالم، لأنّ نداء الحقّ هو نداء الصّدق، نحن مع كلّ موقف حقّ ينطلق في وجه الظلم والطغيان، لأننا مع الصدق.

وعلى هذا الأساس، نقول في آخر كلمتنا، نحن مع المجاهدين في الضفّة الغربيّة الّذين يقفون ضدّ العدوّ الصهيوني بلحمهم العاري. لقد تعلّموا من الثورة الإسلاميّة في إيران، أنّ الشعب إذا أراد أن يقف أمام الظّلم، وأمام الطّغيان، وأمام القوّة الكبيرة، أنَّ عليه أن لا ينهزم أمام القوّة الكبيرة لأنّه لا يحمل سلاحاً، وأنّ عليه أن لا ينهزم أمام القوّة الكبيرة لأنه لا يملك تغطية سياسية أو عسكرية.. لقد شعروا بأنّ عليهم أن يقفوا بلحمهم العاري، ووقفوا أمام جنود إسرائيل بلحمهم العاري، بالحجارة، بكلّ ما عندهم، واستطاعوا أن يثبتوا للعالم أنّ الإسلام إذا عاش في وعي شعب، [يستطيع أن يواجه ويتحدّى].

ونحن نعرف أنَّ هؤلاء انطلقوا من منطلقات إيمانيّة إسلاميّة، ولم ينطلقوا من كلّ تلك المنطلقات التي نعرفها.. انطلقوا من ذلك، وهم يقولون إنّهم تعلّموا من الثّورة الإسلاميّة التي وقفت أمام إسرائيل التي كانت في إيران، وأميركا الّتي كانت في إيران، أن يقفوا أمام إسرائيل كما وقف الشّعب الإيراني أمام الطّاغوت الأكبر والطّاغوت الأصغر، وكما انتصر الشّعب الإيراني بالإيمان، يفكّرون أن ينتصروا بالإيمان..

ونحن مع الإيمان، مع الإسلام، بعيداً من كلّ الطروحات الإقليميّة والقوميّة وغيرها، مع الإسلام عندما يتحرَّك في إيران، مع الإسلام عندما يتحرّك في الجنوب، ومع الإسلام عندما يتحرَّك في فلسطين، ومع الإسلام لأنّنا مسلمون على ما يريده الله ورسوله، عندما قال لإبراهيم، وقال لنا: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }[البقرة: 131].. مع الإسلام الذي يريدنا الله أن نكون حياتنا كلّها له: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }[الأنعام: 162- 163].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }[التّوبة: 119]. والحمد لله ربّ العالمين.

*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ 2/4/1982م.

[1] وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج12، ص 250.

[2]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 58، ص 150.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية