[يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه إذا ابتدأ بالدّعاء بالتَّحميد لله عزَّ وجلَّ:]
"والحَمْدُ لله الّذِي أغْلَقَ عنّا بابَ الحَاجَةِ إلّا إليه، فكيْفَ نُطيقُ حمْدَهُ، أمْ متَى نُؤدِّي شُكْرَه؟ لا، مَتى؟ والحمْدُ لله الَّذي ركَّبَ فينا آلاتِ البَسْطِ، وجَعَلَ لَنَا أدَوَاتِ القَبْضِ، ومتَّعَنا بأرْواحِ الحَياةِ، وأثْبَتَ فِينَا جَوَارِحَ الأعْمَالِ، وغَذَّانا بِطيِّبَاتِ الرِّزْقِ، وأغْنَانا بِفَضْلِهِ، وأقْنَانَا بمَنِّهِ، ثُمّ أمَرَنا لِيَخْتَبِرَ طَاعَتَنَا، ونَهَانَا لِيَبْتَلِيَ شُكْرَنَا، فخَالَفْنَا عَنْ طَرِيقِ أمْرِهِ، ورَكِبْنَا مُتُونَ زَجْرِهِ، فلَمْ يَبْتَدِرْنا بعُقُوبَتِهِ، ولَمْ يُعَاجِلْنا بِنِقْمَتِهِ، بلْ تأنَّانا بِرَحْمَتِهِ تَكَرُّماً، وانْتَظَرَ مُرَاجَعَتَنا بِرَأفَتِهِ حِلْماً".
ويتحرّك الحمد لله في وجداننا، في نظرتنا الشَّاملة إلى حركة وجودنا، ومتطلّبات حياتنا، وحيويّة إنسانيّتنا، لنكتشف أنَّ الله قد شمل كلَّ وجودنا وحياتنا في إنسانيّتنا، بكلّ حاجاتنا ومتطلّباتنا وحركيتنا، فكلّ نعمةٍ نتقلّب فيها هبة منه، وكلّ غنى في أمورنا وأوضاعنا هو من غناه، وكلّ قدرةٍ في حركتنا مما يسهّل لنا شؤون الحياة، هي مستمدَّة من قدرته بشكل مباشر أو غير مباشر، في شموليّة النعمة بكلّ أبعادها في امتداد عمرنا، فلم يحوجنا إلى غيره، ولم يُلجِئْنا إلى سواه، لأنَّ الناس كلّهم لا يملكون في ذاتهم أو في عطائهم إلّا ما ملّكهم من نعمه في كلّ شيء، فكيف نستطيع مواجهة ذلك كلّه بما لا نحصيه من نعمه وآلائه، وكيف نؤدّي شكره بأقوالنا وأعمالنا، والحمد نعمة تتجدَّد في وجودنا، والشّكر مِنّة تتحرّك في حياتنا، مما يستوجب فينا حمداً جديداً وشكراً جديداً؟!
والحمد لله على الحركة الإراديّة التي نملك بها أن نقبض ما نريد قبضه من أعضائنا، ونبسط ما نريد أن نبسطه منها، من خلال الآليّة التي ركّبها فيها، فقد جعل لنا ما ندير به حياتنا في حاجاتنا التي تفرض علينا أن نبسط يداً أو نقبضها، أو نحرّك رِجْلاً أو نوقفها، أو نمسك لساناً أو نطلقه، أو نغمض عيناً أو نفتحها... وهكذا في كلّ ما ركّبه الله في أجسادنا من آلات البسط وأدوات القبض الّتي هي وسائل الوجود في حركته.
والحمد لله على هذه الرّوح التي متّعنا بها، فتنوّعت في أبعادها وآثارها، في روح القدس والإيمان، وروح القوّة والشّهوة التي انطلقت لتدفع بالإنسان إلى أن يتوازن في حياته، ليفتح لنفسه أفق المعرفة، وحركة العبادة، وجهاد العدوّ، والحصول على المنافع في جهاد العمل، وعلى اللّذّة في الطّعام والنكاح ونحوهما، هذه الأرواح المتنوّعة التي تنطلق من روح الحياة فينا، التي نستروح فيها نسيم الرّاحة، وهدوء الطّمأنينة، واسترخاء الوجود، وحيويّة السعادة.
والحمد لله على هذه الأعضاء - الجوارح - التي هي وسائلنا الطبيعية للعمل الدنيوي والأخروي، مما يتصل بالوعي وحركة الحياة، فمنها الحركة وبها الحياة، وفي الأجهزة التي تضبط لنا أوضاعها كلّ انطلاقات الإبداع.
والحمد لله على هذا الغذاء المتنوّع بعناصره وخصائصه، الذي يمنح كلّ عضو فينا، وكلّ عصب في أجسادنا، حاجته الَّتي تصل إليه في نظامٍ دقيقٍ شاملٍ حكيم، ينفتح بنا على كلّ طيِّبات الرِّزق.
والحمد لله على ما زوَّدنا به من الغنى، في الكفاية والسّعة، فجعل حياتنا هيّنةً رخيّةً في حالةٍ طبيعيّة، وعلى ما أعطانا من مقتنيات الحياة مما نحتاجه في أمورنا وأوضاعنا، مما يرضينا في مواقع الرّضا من حياتنا العامّة والخاصّة، ويحقّق لنا النّتائج الحيّة في ذلك كلّه.
وهكذا فتح لنا كلّ أبواب الحياة، وأعطانا كلّ موارد الأمور ومصادرها، ومنحنا حرية الحركة، وقال لنا: أيّها الناس، إني لم أخلقكم عبثاً، ولم أجعل الحياة من حولكم وفي ساحتكم في دائرة الفوضى، بل جعلت لها نظاماً في إبداع القوانين الكونيّة الثابتة في كلّ تفاصيل الوجود، فكلّ الوجود مطيع لله بتكوينه، وأردت لكم أن تطيعوا أوامري ونواهيَّ في ما يصلح لكم حياتكم من الخير، ويبعدها عمّا يفسدها من الشرّ، ولتكونوا المطيعين في أعمالكم، الشَّاكرين في ثروتكم. وهكذا جعلت التكليف حركةً في اختبار الطاعة، ووسيلة من وسائل الشّكر، لينتظم الوجود، ويسير نحو أهدافه بطاعتكم الاختياريّة، كما انتظم بطاعة الظواهر الكونية التكوينية.
ولكنّنا لم نمتثل أوامره، ولم ننتهِ عن نواهيه، فابتعدنا عن خطِّ طاعته، واقتحمنا مواقع معصيته، فابتعدنا عن موارد أمره، واقتربنا من ساحات زجره، وكان من حقّه أن يعاقبنا، وأن ينتقم منّا، من دون إمهالٍ ولا تأخير، عدلاً من حكمه فينا، لأنّه أقام الحُجَّة علينا، ورغَّبنا في الطَّاعة بالإشارة إلى ثوابه، وأبعدنا عن المعصية بالتحذير من عقابه، ولكنَّه لم يبادرنا بما نستحقّه من العقوبة، ولم يعاجلنا بالنقمة، بل أمهلنا تكرّماً منه وفضلاً، ورحمةً ولطفاً، وتطوّلاً وامتناناً، لنرجع إليه من جديد بالتّوبة الصّادقة والعمل الصّالح، وانتظرنا في مواقع رأفته وحلمه ورحمته، لنسلك السّبيل الموصل إليه من جديد، سبيل الطّاعة التي هي سرّ رضاه.
*من كتاب "آفاق الرّوح".