[يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه إذا ابتدأ بالدّعاء بالتَّحميد لله عزَّ وجلَّ:]
"والحَمْدُ لله... حمْداً نُعَمِّرُ بِهِ فِيمَنْ حَمِدَهُ مِنْ خَلْقِهِ، ونَسْبِقُ به مَنْ سَبَقَ إلى رِضاهُ وعَفْوِهِ، حمْداً يُضيءُ لنَا بِهِ ظُلُماتِ البَرْزَخِ، ويُسهِّلُ عليْنَا بِهِ سَبِيلَ المبْعَثِ، ويُشَرِّفُ بِهِ مَنازِلَنا عنْدَ مَواقِفِ الأشْهادِ، يوْمَ تُجْزَى كُلُّ نفْسٍ بِما كسَبَتْ وهُمْ لا يُظْلَمون، {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}، حمْداً يَرْتَفِعُ بِنا إلى أعْلَى عِلِّيين في كِتَابٍ مرْقُومٍ يشْهدُهُ المقرَّبُون، حمْداً تَقَرُّ بِهِ عُيُونُنا إذا بَرِقَتِ الأبْصارُ، وتَبْيَضُّ بِهِ وجُوهُنا إذا اسْوَدّت الأبْشَارُ، حمْداً نُعْتَقُ بِهِ مِنْ أليمِ نارِ اللهِ إلى كَريمِ جِوارِ الله، حمْداً نُزَاحِمُ بِهِ ملائِكَتَهُ المقرَّبينَ، ونُضَامُّ بِهِ أنْبِياءَهُ المُرْسَلينَ، فِي دارِ المُقَامةِ التي لا تَزولُ، ومَحَلِّ كَرَامَتِهِ الّتي لا تَحُولُ".
إنّنا نحمده على ذلك كلّه، ونتقرَّب إليه بهذا الحمد، لأنّه يمثِّل كلّ الإيمان به، والمحبّة له، والتطلّع إلى رحمته والقرب منه، لنحصل من هذا الحمد على الامتداد في العمر مع الحامدين له من خلقه، والسَّبق إلى الوصول إلى رضاه وعفوه، وعلى الإضاءة الروحيّة من نوره الذي يفيض على الوجود، فيضيء لنا ظلمات البرزخ التي قد تتراكم في داخلها أشباح الموت في المرحلة الّتي تفصل بين نهاية الحياة وبداية يوم القيامة الّتي قد يوحي بها قوله تعالى: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:100]، والّتي تتحدّث عنها الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت (ع).
وييسِّر لنا الطّريق إلى البعث في رحلتنا النهائيّة من الأحداث إلى يوم المحشر، فتكون الطّريق إليه مفتوحةً على رحمة الله ورضوانه، فلا نحسّ فيها جهداً ولا رهقاً، ويبلغ بنا درجة الشّرف والعلوّ والرّفعة في مواقعنا عند مواقف الأشهاد الّذين يشهدون للناس وعليهم بما قاموا به من أعمال الخير والشرّ، لننال بذلك النصر من الله سبحانه، على ما جاءت به الآية الكريمة: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر: 51]، حيث نقف بين يدي الله عُراةً إلّا من العمل الصّالح، والأمل الكبير برحمة الله ورضوانه، فلا يملك أحد أن ينقذنا من عذاب الله إذا أراد أن يعذِّبنا {يَوْمَ لَا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْـًٔا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}[الدّخان: 41].
وهكذا ينطلق هذا الحمد الإيماني المرتفع إلى الله من كلِّ قلوبنا، ليرتفع بنا إلى الدّرجات العليا في أعلى علّيّين، في كتاب مرقوم يشهده المقرَّبون، لنعيش هناك روحانيّة القرب؛ قرب الروح، وسعادة المحبَّة لله الّذي يمنحنا حبَّه من حيث يمنحنا قربه في ذلك العالم العلويّ الذي يتجلّى الله فيه لعباده المؤمنين الحامدين الشَّاكرين، فيفيض عليهم من رحمته ولطفه ورضوانه، ويغمرهم بالسَّعادة الروحيَّة، حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرَّة أعين.
فتقرّ بذلك عيوننا، وتشرق بالسّرور، وترتاح في نظرتها إلى الأفق الرَّحب أمامها بهدوء واطمئنان، في اليوم الَّذي تبرق الأبصار، وتتحيَّر فزعاً فلا تطرف، أو دهشة فلا تبصر.
وتبيضُّ به وجوهنا من خلال البهجة الروحيّة الّتي تنعكس نوراً على الوجوه، من خلال النتائج الطيّبة الفَرِحة بما يحصل عليه المؤمنون من ثواب الله في جنّته ورضوانه، في الوقت الَّذي تسودّ وجوه وجلود الآخرين الذين كفروا بالله، وتمرّدوا عليه، وانحرفوا عن خطّه المستقيم، من خلال النتائج السيئة المرعبة مما يتعرّض له الكافرون الضالّون من عقاب الله في سخطه وناره.
ويرتفع الحمد في نتائجه، فيعتقنا الله بسببه من أليم ناره إلى كريم جواره، لدلالة الحمد على عمق الإيمان بالله، والاستغراق في محامده والالتزام بطاعته.
وننطلق في هذا الجوّ في مجتمع الحامدين لله، الحائزين على رضوانه، المقرَّبين إليه، فنـزاحم الملائكة المقرَّبين الذين يحلّقون في الجنَّة في تسبيحهم وحمدهم له، وننضمّ إلى الأنبياء المرسلين الَّذين انفتحوا برسالاتهم على كلِّ مواقع الحمد له، وفتحوا العقول والقلوب عليه في حمده وتسبيحه وتهليله وتكبيره، فكانت دار الخلود ساحتهم التي لا تزول، ومحلّ كرامتهم التي لا تتغيَّر ولا تحول.
*من كتاب "آفاق الروح"، ج1.