[يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه إذا ابتدأ بالدّعاء بالتّحميد لله عزَّ
وجلَّ:]
"ابْتَدَعَ بقُدْرَتِهِ الخَلْقَ ابْتِداعاً، واخْتَرَعَهُمْ على مَشِيَّتِهِ
اخْتِراعاً، ثُمّ سَلَكَ بِهِمْ طَريقَ إرادَتِهِ، وبَعَثَهُم فِي سَبِيلِ
مَحَبَّتِهِ، لا يَمْلِكونَ تَأخيراً عَمَّا قَدَّمَهُم إلَيْهِ، وَلاَ
يَسْتَطِيعونَ تَقدّماً إلى ما أخَّرَهُم عَنْهُ، وجَعَلَ لِكُلِّ رُوحٍ مِنْهُم
قُوتاً مَعْلُوماً مَقْسوماً مِنْ رِزْقِهِ، لا يَنْقُصُ مَنْ زَادَهُ ناقِصٌ، ولا
يَزيدُ مَنْ نَقَصَ مِنْهُم زَائِدٌ
".
لم يكن هناك أحدٌ غيره، وكان العدم ينفتح على قدرته ليكون الوجود، ولم يكن هناك
نموذج للصّورة أو مثال للخلق، لذلك، كان الوجود في تفاصيله ابتداعاً في الخلق من
موقع القدرة في ذاته، واختراعاً للصّورة في ملامحها التفصيلية الرائعة من خلال
مشيئته، فالخلق كلّه منه؛ المادة والصورة، فهو الّذي أبدع الفكرة، واخترع الوجود،
فكان الإنسان، هذا الخلق الّذي أراده الله ليكون الموجود الحيّ العاقل الذي يحوّل
العقل إلى علم، ويحرّك العلم في اتجاه اكتشاف أسرار الكون وقوانينه وحركيّته،
والإبداع في طريقة استلهامه في حركة الحياة التي تصنع منه شيئاً جديداً لا يبتعد عن
سنن الله في الوجود.
وقال للإنسان، بعد ذلك، إنَّه خليفته في الأرض، وعرَّف الملائكة سرّ هذا الاختيار،
وسرّ المعرفة الواسعة المتحرّكة في هذا المخلوق الجديد المتحرِّك بإرادته، الذي قد
يتحوَّل إلى موجود مشاغب، ولكن شغبه لا يُسقط التجربة كلّها، بل يُغنيها من جانب
معيّن.
وحدَّد له خطّ السير في الطريق الذي يؤدِّي إلى تجسيد إرادة الله في الحياة، من
خلال ما يريده للحياة من شرائع ونظم، في الجانب الّذي يُصلح كلّ أوضاعها، ويفجّر كلّ
طاقاتها، ويحرّك كلّ موجوداتها، وفي ما يريده للإنسان من الأهداف التي تطلّ بها
الدنيا على الآخرة، منطلقاً في مسيرة التّكامل التي تأخذ من الدّنيا ماديّتها، ومن
الآخرة روحيّتها، فهي - من جهةٍ - تبني للإنسان حياته من خلال حاجاتها وتطلّعاتها،
ومن جهةٍ أخرى، تفتح له أبواب الخلود في النّتائج الكبرى التي ترتبط بالطّاعة لله
في أوامره ونواهيه، فلا ينفصل الإنسان في تطلّعاته الأخرويّة عن دنياه، ولا يبتعد
في حاجاته الطبيعيّة في دنياه عن آخرته.
وهكذا، حرّك كلَّ خطواته إلى الانطلاق في سبيل الحصول على محبّته، لأنّه يريد
للإنسان أن يعيش الحبّ لربّه، لا لحاجةٍ منه تعالى إلى ذلك، ولكن لحكمةٍ في وجود
الإنسان، لينمو ويتوازن ويسمو إلى الدّرجات العليا، عندما يعيش في العمق الأعمق من
شخصيّته هذا الإحساس الحميم بالله، وهذا التطلّع الواله نحوه، وهذا الشّوق المحرق
إليه، فيجعل كلّ حركةٍ من حركاته انفتاحاً على مواقع رضاه، وطريقاً للوصول إلى سرّ
الحبّ في سرّ إنسانيّته الباحثة أبداً عن الحبّ الطّاهر النقيّ الصّافي، في حبّه
لله، وفي سرّ الألوهيّة تجاه الخلق في حبّ الله له، وتلك هي سعادته في ينابيع
الصّفاء، وأنهار الطّهر، وأجواء النقاء.
وإذا كان للإنسان أن يحيا في حركيّة إرادته حرّاً مختاراً، فليس معنى ذلك أنّه يملك
الحرية المطلقة في تأخير ما يريد تقديمه، أو تقديم ما يريد تأخيره، لأنه مرتبط - في
وجوده - بالنظام الكونيّ الذي يدري الله حركته، ويحرِّك ظواهره، ويخطِّط لسننه
وقوانينه، فلا يملك أحد أن يغيّر في معنى التّكوين شيئاً، ولكنه يملك حرية الحركية،
وتنوّع الإرادة في داخل الكون، فوجوده مرتبط بالكون من حوله، فلا يملك تقديم شيءٍ
أراد الله تأخيره، أو تأخير شيء أراد الله تقديمه، ولكنّه بإنسانيّته حرّ في تحريك
طاقاته في المساحة الواسعة التي أراد الله أن يمارس فيها دوره، ويقوم فيها
بمسؤوليّته، وبذلك التقت حركة المسؤولية في حياته بحركة الحريّة في ذاته، وهكذا
اجتمعت له الجبريّة في نظام وجوده، والحريّة في خصوصية إنسانيّته، وهو - في
الحالتين - يعيش عبوديّته لله، وخضوعه له، في انفعال وجوده بإرادة الله القاهرة،
وحركة اختياره في مواقع رضى الله، وبهذا كان الأفضل في الوجود، لأنّه يمارس فيه دور
المنفعل في ذاته، والفاعل في حركته.
والإنسان ـ بعد ذلك ـ جسدٌ حيّ، يختزن الرّوح في داخله، هذا الشّيء الخفيّ في سرّه،
البارز في أثره، وللرّوح المتجسّدة حاجاتها في فاعليّة الوجود واستمراريّة البقاء،
ولا يملك الإنسان في قدرته الخاصّة أن يوفّر لنفسه تلك الحاجات، لأنّها ليست من
ذاتيات وجوده، بل هي حركة وجود آخر في النّبات والحيوان والهواء والماء والأرض، وما
يتحرّك فيها من تفاصيل الحاجات للمخلوقات كلّها.
وقد جعل الله لكلّ روحٍ من هذه الأرواح المتجسّدة في المادة نصيباً معيّناً من
رزقه، في نظامٍ متوازن شامل، يضع لكلٍّ منها حاجاتها، ويقسم لكلِّ واحدة منها
رزقها، من خلال الأسباب التي أودعها في الكون مما يتَّصل بإرادة الإنسان أو وجوده،
فلا يملك - هو ولا غيره - أن يزيد شيئاً على قسمة الله، أو ينقص شيئاً من ذلك،
لأنَّ هذه القضيّة ـ في نطاقها الوجوديّ العام - من شؤون التّكوين، لا من شؤون
الإرادة الإنسانيّة، فليس للإرادة أن تتحرَّك إلَّا في دائرتها، فلا مجال لها في
الخروج منها بأيِّ وسيلةٍ كانت.
*من كتاب "آفاق الرّوح"، ج1.