كتابات
04/10/2021

الإيمانُ بين الحقِّ والمسؤوليّةِ

الإيمانُ بين الحقِّ والمسؤوليّةِ

سنكمل بعض الآيات التي بدأنا الحديث عنها فيما تقدّم من أسابيع:

{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(الشّورى: 41 – 42).

عرض الله لنا فيما تقدَّم من حديث، أنّ من صفات المؤمنين، أنّهم إذا أصابهم البغي فهم منتصرون. فالمؤمن ليس ذلك الإنسان الذي يرضخ للبغي والظّلم والعدوان، وإنّما هو الذي ينتصر لنفسه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}(الشورى: 39).

ولكنّ الإنسان المؤمن الذي يعيش حالة الانتصار ممن يبغي عليه، لا يظلم حتّى من يبغي عليه، لأنَّ الإنسان المؤمن هو الّذي يعيش العدالة لنفسه وللنّاس، فهو كما لا يفكّر في أن يعتدي على أحد، ولا يقبل بأن يعتدي عليه أحد، فهو لا يعتدي على أحد، ولا يقبل لنفسه بأن يعتدي على أحد، ولذلك عقّب الله قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}، بقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(الشورى: 40).

يعني إذا أردت أن تأخذ لنفسك حقّها أو تنتصر لها، فعليك أن لا تنتصر لنفسك بأكثر ممّا أراده الله لك في هذا المجال.

المؤمنُ الّذي يعيشُ حالةَ الانتصارِ ممّن يبغي عليه، لا يظلمُ حتّى من يبغي عليه، لأنَّه يعيشُ العدالة لنفسه وللنّاس

العدالةُ حقٌّ ومسؤوليّةٌ

فإذاً، الإنسان المؤمن عندما يعيش حسّ العدالة في الحياة، فهو لا يفكِّر كما يفكّر كثير من النّاس أنَّ العدالة حقٌّ له وليست مسؤوليّة عليه. في الإسلام، العدالة حقٌّ لك، والعدالة مسؤوليّة عليك؛ حقٌّ لك عندما تتعلّق القضيّة بتصرّف الآخرين معك، وهي مسؤوليَّة عليك عندما تتعلّق القضيّة بتصرّفك مع الآخرين.

وهكذا رأينا الإمام زين العابدين (ع) وهو يناجي ربّه في دعاء "مكارم الأخلاق": "وَلا أُظْلَمَنَّ وَأَنْتَ مُطِيقٌ لِلدَّفْعِ عَنِّي، وَلا أَظْلِمَنَّ وَأَنْتَ القَادِرُ عَلَى الْقَبْضِ مِنِّي". لا أُظلمَنَّ، ولا أَظلِمنَّ أحداً. ويقول لربّه في دعاء آخر: "اللَّهُمَّ فَكَمَا كَـرَّهْتَ إلَيَّ أَنْ أُظْلَمَ، فَقِنِي مِنْ أَنْ أَظْلِمَ"1، لا تجعلني أفكّر في القضايا على أساس مختلف، اجعلني أفكّر في النّاس ما أفكّر فيه لنفسي، لأنَّه "لا يؤمن أحدكم، حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"2.

ثمّ أراد الله سبحانه وتعالى أن يبيّن في القرآن الكريم الفاصل بين من عليه المسؤوليّة ومن له المسؤوليّة عند الله، بين من لديه الحقّ ومن عليه الحقّ غداً عند الله؛ من له الحقّ هو الإنسان المظلوم، إنّ له الحقَّ في أن ينتصر على ظالمه بعد ظلمه {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}(الشّورى: 41). إنَّ الذي ينتصر لظلمه في أيّ حالة من الحالات، إنْ على مستوى فرديّ، أو جماعيّ، أو دوليّ، هذا ليس عليه من سبيل. الذي ينتصر لحرّيّته ولعزّته وكرامته ممّن سلبَ حرّيّته وعزّته وكرامته، هؤلاء ليس عليهم من سبيل. الذين ينتصرون للُقمتهم ممّن سلبَ لُقمة العيش منهم وفرص الحياة الكريمة، فأولئك ما عليهم من سبيل...

وبهذا، أعطى الله سبحانه وتعالى كلّ مظلوم في الدّنيا، سواء كان مظلوماً على أساس سياسيّ، أو اقتصاديّ، أو اجتماعيّ، أو على أيّ أساس من أسس قضايا الحرّيّة والعزّة والكرامة في العالم، أعطاه الحقّ في أن يدافع عن ظلامته، وينتصر لنفسه ممّن ظلمه، مهما كان لونه ومهما كانت قوّته. {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}.

لا للتّمييزِ بينَ النّاسِ

وبهذا، لا بدَّ لكلّ إنسان مؤمن يعرف القرآن ويؤمن به ويفهمه، أن تكون عقليّته وذهنيّته وأحكامه تابعة للقرآن، فمن يكون قرآنيّاً في صلاته وصومه، ولا يكون قرآنيّاً في حكمه مع النّاس والأشياء، يرفضه الله.

الكثير من النّاس في بلدان العالم، يعطون الحقّ دائماً للقويّ، حتّى الضّعفاء منهم وليس الأقوياء فحسب. النبيّ (ص) يقول: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الّذين قَبْلَكُمْ، أَنَّهُم كانوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقاموا عليه الحدّ. وأيم الله، لَوْ أنّ فَاطِمَةُ بنت مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"3.

كذلك بعض النّاس، عندما يكون هناك جانٍ وضحيّة، يلوم النّاس الضّحيّة ولا يلومون المجرم، لأنّهم يستطيعون السّيطرة على الضّحيّة، ويستطيعون التهجّم عليها، ولكنّهم لا يستطيعون التهجّم على الجاني والمجرم. ولهذا، أصبح النّاس تحت أقدام المجرمين والجناة، لأنّهم لم يأخذوا بهذه الآية: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}(الشّورى: 41).

في كثير من حالات الواقع، إذا اعترض إنسانٌ على ظلم الدّول الكبرى أو الوسطى أو الصّغرى، فإنّه يوصف بأنّه إنسان يريد أن يخرّب البلاد والعباد، ويريد أن يخرّب الأمن وحياة النّاس، أمّا إذا مدح الظّالمين، فهو إنسان مريح ويجعل النّاس تعيش في مهد عيسى!

مراراً قلنا في كلّ المجالات بأنّنا ضدّ الفوضى، وضدّ المواقف الارتجاليّة، وضدّ المواقف الانفعاليّة، وضدّ كلّ عمل يخرّب حياة النّاس. ولكن أيضاً، وكما قلنا مراراً، نحن ضدّ التّمييز بين النّاس، فهناك من يُمسَك ويُحقَّق معه لفترة خمس دقائق ثمّ يُترَك (وكلّفنا خاطرك). أمّا البعض الآخر، ومن دون أن يُعرَف إذا كان متّهماً أو بريئاً أو مجرماً، يُضرَب بكلّ طريقة ويداس رأسُه، وبعد ذلك يبدأ التّحقيق معه. لو كان هذا الظّلم موحَّداً بين كلّ النّاس على حدٍّ سواء، لخفّت الوطأة، ولقال الإنسان: "حشرٌ مع النّاس عيد".. إذا أنا مظلوم كغيري لا بأس. في العالم كلّه: "المتَّهم بريء حتّى تثبت إدانته". لا يُضرَب الإنسان بمجرَّد اتّهامه بأمرٍ ما، هذا هو المتعارف عليه في كلّ دول العالم ودساتيرها. في العالم، يُكافَح الشّغب بالقنابل المسيلة للدّموع، وخراطيم المياه، لا يوجد في العالم كلّه من يطلق النّار على شخص لمجرّد أن يتكلّم بكلمة، وبعض النّاس تبرّر هذا الوضع، وهذا غير جائز.

{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}. السّبيل على من؟ المسؤوليّة على من؟ {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(الشّورى: 42). هذا كلام الله، وكلام سياسة. بعض النّاس حتّى القرآن يُزعجهم، سيأتي وقت حتّى لو استشهدَ أحدٌ ما بسورة من القرآن تتحدَّث عن اليهود والمنافقين، سيُمنَع بحُجّة أنّه يُسيء إلى العلاقات. يجب أن تعرفوا أنّ هذا شيء وارد، بأنّ عليكم أن تقرأوا قرآناً لا يُعطيكم فكرة سيّئة عن أيّ جهة من الجهات!

وكما قلنا مراراً، نحن في هذا البلد مستعدّون للعيش مع كلّ النّاس، ولكنّنا نرفض التّمييز ما بين مواطن وآخر، لا نريد ابن ستّ وابن جارية.. لا نريد في هذا البلد سياسة الغالب والمغلوب، نريد أن يحيا كلّ النّاس أحراراً، وأن ينعموا بالأمن والفرص المتساوية فيما بينهم، وبهذا يمكن أن يعيش النَّاس الاستقرار في هذا البلد.

لا نريد في هذا البلد سياسة الغالب والمغلوب، نريد أن يحيا كلّ النّاس أحراراً، وأن ينعموا بالأمن والفرص المتساوية

العدالةُ ورفضُ الظّلمِ

الاستقرار إنّما يأتي من خلال العدالة، ومن خلال المساواة وتكافؤ الفرص، ومن خلال شعور كلّ إنسانٍ بأنّه إذا كان بريئاً، فلا يمكن لأيِّ شخصٍ أن يعتديَ عليه أو مواجهته بأيِّ شيء. ولكن أن يؤذَى شخصٌ ويُضرَب ثمّ يُعتذَر منه، هذا لا يجوز أن يُسمَح به، وعلى كلّ النّاس استنكاره وعدم القبول به، ويجب أن يشعر كلّ النّاس بأنّ هذا شيء لا يعتبر أساساً من أسس الاستقرار والأمن في الحياة.

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ...}(الشّورى: 42).

هؤلاء هم مَن حمّلهم الله المسؤوليَّة. إنّ الله سبحانه وتعالى لا يُريد أن يُظلَم حتّى الكُفّار، وقد ورد في أحاديث أئمّة أهل البيت (ع): "إنَّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّ من أنبيائه في مملكة جبّارٍ من الجبّارين أن ائت هذا الجبّار فقل له: إنّني لم أستعملك على سفك الدّماء واتخاذ الأموال، وإنّما استعملتك لتكفَّ عني أصوات المظلومين، فانّي لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفّاراً"4. فأنا لن أسكت عن ظلم المظلومين حتّى لو كانوا كفّاراً وكان الظّالم مسلماً، لأنّ الله ينتقم للكافر من المسلم إذا كان المسلم ظالماً والكافر مظلوماً.

يجب أن تعرفوا ما قاله الإمام عليّ (ع) في هذا المجال، وأنتم من أتباع عليّ (ع) كما تقولون، فلنرَ منطق عليّ (ع) ونقارنه بمنطقنا في هذه الأيّام، فهو يقول: "الرّاضي بفعل قومٍ كالدّاخل فيه معهم، وعلى كلِّ داخل في باطل إثمان؛ إثم العمل به، وإثم الرّضا به"5. "من عذر ظالماً بظلمه، سلّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يُستجَب له، ولم يأجره على ظلامته"6. لماذا؟ لأنّك أنت إن عذرت الظّالم ورضيت بفعله، وأنا بدوري عذرته ورضيت بفعله، في آخر الأمر، سيمتدّ الظّالم في ظلمه ليظلمك بعد ذلك، عندها لن يستجيب الله لدعائك، لأنَّك عذرت فلاناً في ظلمه، فكيف إذا ظَلمَ الآخرين يكون معذوراً، وإذا ظلمك يكون مأزوراً؟!

الظّلم واحد، من يكره الظّلم ، عليه أن يكرهه لحساب نفسه ولحساب النّاس، ومن يقبل الظّلم، عليه أن يقبله لحساب نفسه ولحساب النّاس. هذا هو المنطق القرآني. هذا هو القرآن، وهذا هو الدّين، وهذا هو الإسلام.. الدّين ليس الاقتصار على الصّلاة والصّوم، في وقت لا تتعدّى حياتك أن تكون لعبة في يد من يبغون ويظلمون النّاس بغير حقّ.

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ...} في أيّ سبيل كان ذلك الظّلم، سواء كان في السّياسة، أو الاقتصاد، أو الدّين، أو الحياة الاجتماعية...؛ يظلمونهم في أكلهم وشربهم، وفي مختلف نواحي الحياة، {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدّنيا والآخرة. والله يعرف كيف يعذّب الإنسان بطرقه الخاصّة، لأنّ الله كما يرزق الإنسان من حيث لا يحتسب، يعاقبه من حيث لا يحتسب، ويضربه من حيث لا يحتسب، ويدمّره من حيث لا يحتسب، لأنّه سبحانه وتعالى محيط بالإنسان من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله. وإذا أراد الله أن يهلك إنساناً، فمن يجيره من الله سبحانه وتعالى؟!

انتصارُ المظلومِ لنفسِهِ

{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(الشّورى: 43).

للمظلوم أن يأخذ حقّه من ظالمه، وينتصر لنفسه منه، ومن {صَبَرَ وَغَفَرَ}، إن كان الظّالم يستحقّ الغفران {إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. الله يقول لك في قضاياك الشّخصيّة والاجتماعيّة، إذا غفرت لمن أساء إليك، فالغفران ليس ضعفاً؛ إنّه دليل على إرادة قويّة، وعزم قويّ. وأمّا في غير ذلك، فعليك أن توازن الأمور، كما قال الإمام زين العابدين (ع): "وأمّا حقّ من ساءك، فأن تعفو عنه، وإن رأيت أنّ العفو عنه يضرّه، انتصرت"7، أي أنّ العفو لا يكون دائماً هو الخيار الصّحيح، بل يتحقَّق ذلك عندما يكون فيه مصلحة لك وللآخرين وللحياة كلّها، أمّا عندما يكون العفو سبيلاً يشجّع الظّالم على الاستمرار في ظلمه، فإنَّ عليك أن تنتصر لنفسك وللنّاس.

{وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ}(الشّورى: 44).

هنا يقال إنّ المراد بالضّلال الهلكة، أيْ أنَّ من يضلّه الله، يتركه لنفسه ليضيع، فيتعلّق بالانحراف والكفر، لأنّ الله ما دام يحيط الإنسان برعايته، فسيكون قادراً على رؤية الطّريق الصّحيح واختياره. لكنّ الإنسان إذا تكبّر وعاند، وتركه الله سبحانه وتعالى لنفسه، فيضلّ، وإذا ضلّ الإنسان، فأين له الوليّ من دون الله سبحانه وتعالى؟!

حالُ الظالمينَ يومَ القيامةِ

ثمّ إنّ الله يعرّفنا عن الظّالمين الذين ظلموا أنفسهم والنّاس، بماذا سينطقون يوم القيامة؟ كيف هو موقفهم؟ وما هي أوضاعهم في ذلك اليوم؟

يجب أن نفكّر، لأنّنا الآن نظلم أنفسنا بالمعصية، ونظلم من هم أضعف منّا بالغلبة، كمن يظلم زوجته أو جاره... قد تكون الآن ظالماً صغيراً، وإذا حمّلت مسؤوليَّة أكبر تصبح ظالماً كبيراً. إذاً، قبل أن تصير ظالماً صغيراً أو كبيراً، فكّر في هذه الآيات إذا كنت تؤمن بآيات الله. الذي لا يؤمن بآيات الله قد أراح نفسه، لأنّه ينكر الآخرة. لكنَّ المؤمن بالله عليه أن يفكّر جيّداً، ويتأمّل في آيات الله، لأنّ الله سبحانه وتعالى، عندما يحدّثنا عن يوم القيامة ومواقفه، رغم كونه لمّا يأت بعد، إنّما يحدّثنا عنه ليعرّفنا أنّ المواقف هناك تنشأ من المواقف هنا. إذا أردت أن توفّر على نفسك المواقف الصّعبة يوم القيامة، فعليك أن توفّر على نفسك المواقف المنحرفة والباغية والظّالمة في الدّنيا.

{وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ...}. هؤلاء الظّالمون الّذين يعذّبون غيرهم في الدّنيا، لا يعرفون معنى العذاب، لأنّهم لم يعذِّبهم أحد من قبل، ولكن عندما يرون العذاب يوم القيامة، يفهمون معنى العذاب، ويشعرون بما كان يشعر به الآخرون.. هؤلاء الّذين كانوا يعذّبون الآخرين ويضحكون ويقهقهون وهم يسمعون صراخ الآخرين تحت تأثير السّياط والتّعذيب بالكهرباء. {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}، هل من الممكن أن نقدّم طلباً جديداً إلى الله، فنحن لم نكن نعرف الدّرس جيدّاً، نحن الآن عرفنا أنّ هناك عذاباً وعقاباً، فهل يرجعنا الله إلى الدّنيا حتّى نعمل عملاً صالحاً يوفّر علينا العذاب؟!

{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَ}. ليست النّار هي الّتي تعرَض عليهم، بل هم الّذين يُعرَضون على النّار.. فالله يصوّر المشركين يعرضون على النّار وهم خاشعون من الذّلّ، بعد كلّ تلك الخيلاء والكبر والتّرف والاستعراضات التي لا مجال لها في ذلك اليوم، لأنّ يوم القيامة هو {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ}(الانفطار: 19).

الآن، أنت تظلم لأنّك تملك ما يدعمك من مال، أو سلطة، أو جاه، أو عشيرة، أو سلاح، لكن يومها، لن تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً.

{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ}(الشّورى: 45). فهم يومها خاشعون خشوع الذّلّ، لا خشوع العبادة، خشوع الذّلّ أمام النّار، ينظرون من طرفٍ خفيٍّ نحو النّار، كمن يهاب ويخاف أمراً، فينظر إليه مواربةً.

الخسارةُ الحقيقيّةُ

في ذلك الوقت، ماذا يقول المؤمنون؟ {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...}.

يعني الخسارة ليست خسارة الدّنيا، حتّى لو فقدت شيئاً من مالك أو دمك أو حرّيّتك، لأنّ كلّ ذلك يمكن تعويضه لاحقاً، ففرص اليوم تذهب، وغداً تأتيك فرصٌ جديدة، لأنّ فرص الحياة متتابعة، فالله يمدّها لك في الحياة. لكن غداً في يوم القيامة، تقف وحدك، بلا عشيرتك، ولا عائلتك، ولا سلطتك، ولا جاهك، أنت يومها عارٍ من كلّ شيء، ولا يوجد إلّا موقفك أمام الله سبحانه وتعالى. في هذا المجال، الخسارة هي هذه الخسارة، لأنّه لا يوجد تعويض بعدها، كما يقول الإمام عليّ (ع): "اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل"8.

{وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ}. كيف يخسر الإنسان نفسه؟ يخسرها بالكُفر، والظّلم، وبالمعصية، والانحراف عن طريق الله، وبموالاة أعداء الله، ومعاداة أوليائه... فكلّ من يرى أنّ عنده شيئاً من هذه الأشياء، فإنّ عليه أن يعرف أنّه ممّن خسروا أنفسهم يوم القيامة.

بعض الناس [يعتبرون الخسارة شيئًا آخر في الدّنيا]، يقولون: خسرنا ابننا، كنّا نريد له أن ينطلق في الحياة، وأن يعيش مع النّاس، لكن مع الأسف، لقد بدأ يصلّي ويصوم، عندما يرجع إلى البيت يقول هذا الأكل حلال وهذا حرام، وهذا طاهر وهذا نجس! لا نعرف ما الذي حدث مع هذا الولد! والبنت أيضاً، بدل أن تخرج كرفيقاتها وقريباتها بأحسن زينتها، ويراها الشّباب، فيعجب بها هذا الشّابّ وذاك الشّابّ، وتُطلَب للزّواج، لا نعرف أيضاً ماذا أصابها في عقلها، صارت تتحجّب وكأنّها بنت ستّين سنة، صارت تصلّي وتصوم، إذا تقدَّم لها شخص يملك الكثير من المال ولكنّه يشرب الخمر، أو آخر يطلب منها خلع الحجاب، ترفض وتضيّع كلّ هذه الفرص...!

بعض النّاس يعتبرون هذه خسارة، وبأنّهم خسروا أبناءهم وبناتهم في مثل هذه الحالة، بعض الآباء يصلّي ويصوم ويذهب للحجّ، ولكنّه يمنع ابنته من أن تتستّر، أو أن تتديّن، أو أن تأتي إلى المسجد لسماع المحاضرات الدّينيّة، أو يمنع ابنه من الحضور إلى المسجد، لأنَّ المسألة بالنّسبة إليه مشكلة...

ألا يوجد بعض النّاس يتقبّلون فكرة ذهاب ابنهم إلى الملهى اللّيليّ وإلى أماكن الفجور، وليس مستعدّاً أن يذهب ابنه إلى المسجد أو أن يصلّي؟

الله يقول أيضاً، إنّك كما تخسر نفسك تخسر ابنك. لماذا؟ لأنَّ ابنك إذا عاش حياة الكفر والضّلال والفسوق، فإنّه سيكون طعمةً للنّار، وأيّ خسارة أعظم من أن يكون ابنك أو جسدك طعمة للنّار؟! هذا كلام الله وليس كلامي، أنا أفسّر لكم فقط آيات الله.

التّوبةُ قبلَ فواتِ الأوانِ!

{أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}، أي عذاب خالد مؤبَّد. الذي يفكّر في الظّلم، عليه أن يفكّر في هذه الآيات.

{وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ}(الشّورى: 46).

إذا أراد الله ان يلقي إنساناً في النّار، فمن الذي سينصره في ذلك الوقت؟ فكّر أيضاً في هذا عندما تفكّر في أقاربك، وجماعتك، وجوّك، عندما ترتاح في كلامك، وفي إصدار الأحكام على النّاس... ثمّ يضيف الله قائلاً: لطالما ناديتكم ودعوتكم أن تستجيبوا لربّكم، الله يناديكم {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ}.

لا تزالون تملكون الفرصة، لكن من غير المعروف إلى متى، ربّما سيذهب أحدنا إلى منزله وينام ويكون النّوم المؤبّد، لا أحد يضمن ما سيحدث معه على الطّريق، يمكن لأيّ منّا أن يصحو صباحاً وتأتيه الأمراض والمشاكل... لا يمكن لأحدٍ تقدير عمره. لذلك، هذه فرصة لكلّ إنسان: العمر ساعة، عجّلوا بالتّوبة قبل الموت، فالله يقول: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ}(الشورى: 47).

في الدّنيا، عندما يداهم الإنسان الخطر، يذهب إلى الملجأ، أو يجلس في زاوية البيت، أو يذهب إلى الجبل، أو ينزل إلى السّاحل... ولكن يوم القيامة أين الملجأ؟ يوم يقال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ}(الحاقة: 30- 33).

لا استنسابيّةَ في الإيمانِ

هذا الجوّ، أيّها الإخوة، لا بدَّ لنا أن نعيشه في أنفسنا إذا كنّا مؤمنين. كلّ ما أقوله لكم في هذا المجال: الذي يريد أن يكون مؤمناً، عليه أن يكون مؤمناً مئة في المئة، لا يمكن أن يصير الإيمان استنسابيّاً، بحيث نأخذ منه ما يعجبنا ويريحنا، ونرفض ما لا يناسبنا. {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ...}(البقرة: 85).

أقول لكم من خلال ما يتحدَّث به النّاس، لو أنَّ الحسين بن عليّ (ع)، وُجدَ في هذه الأيّام، ووقف أمام يزيد، لكان الكثيرون ممّن يصومون ويصلّون ويبرّرون للظّالمين ظلمهم، لكانوا ضدّ الحسين (ع)، ولقالوا ماذا يريد الحسين من كلّ هذه المشاكل؟! لماذا يقول الحسين (ع): "ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"9؟!. لماذا يفعل هكذا؟! فليلنْ، وليلملم الأوضاع لكي لا يُتعب النّاس!

أنا سأخبركم ما الفرق، قصّة الحسين (ع) هي مبادئه، وهو الذي قال: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ، فمن قبلني بقبول الحقّ، فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليّ أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين"10.

هذا هو كلام الحسين (ع)، لم يأت (ع) بكلام مخبّأ، بل برّر شرعيّة ثورته بهذه المبادئ الإسلاميّة.

فنحن عندما نقف ضدّ هذه المبادئ، ولا نرضى بأن يرفع إنسان صوته ضدّ إسرائيل وأمريكا وضدّ الظّالمين من أيّ جهة كانت، فهذا يعني التّخلّف عن مفهوم ثورة الحسين (ع).

لو أنَّ الحسين وُجدَ في هذه الأيّام، لكان الكثيرون ممّن يصومون ويصلّون ويبرّرون للظّالمين ظلمهم، ضدّ الحسين (ع)

العبّاس (ع) عندما صاح الشّمر: "أين بنو خالتنا؟".. كما يقول بعض النّاس، أنت ما دخلك؟ اجمع أقاربك وعائلتك وابق جانباً ولتخرب الدّنيا. الشّمر جاء للعبّاس وأعطاه الأمان على أن يترك الحسين (ع).. ونحن علينا أن ننقل قصّة الحسين للأجيال، حتّى يبقى النّاس في مقارنة بين الماضي والحاضر، وحتى يستفيدوا من قضيّة الحسين (ع). فانظروا إلى موقف العبّاس والشّمر وأنتم استنتجوا منها...

قال الشّمر: أين بنو خالتنا؟ أين العبّاس وإخوته؟. فلم يُجبه العبّاس ولا إخوته، فقال له الإمام الحسين (ع): "أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنّه بعض أخوالكم"11. فجاء إليه أبو الفضل العبّاس (ع) قائلاً: ما تريد يا شمر؟، قال: إنّ لكم الأمان، وهو صكٌّ من ابن زياد بأنَّ العبّاس وإخوته آمنون على أنفسهم وعيالهم إذا انصرفوا، فالحسين ليس أخ العبّاس من أمّه وأبيه، وهم أخواله، فليدعه لمصيره دون تعريض نفسه للخطر. فأجابه العبّاس (ع): "لعنك الله ولعن أمانك، أتُؤمِنُنا وابنُ رسول الله لا أمانَ له؟!"12. هذا أمانك مردود عليك ومرفوض.

هكذا هم بعض النّاس، يدعون إلى التّخلّي عن المسؤوليّات، وينأون بأنفسهم عن الأحداث، ويبرّرون هذا العمل وذاك، حتّى يبقى أهل الحقّ ومن ينادي به وحيدين في السّاحة، حتّى تكون أنت الّذي تنادي بالحقّ ضدّ النّاس الّذين ينادون بالحقّ.

مسؤوليّةُ التّفكيرِ

هذه الأمور فكّروا فيها، بعض الحالات تبعد الإنسان عن التّفكير بسبب بعض الأجواء التي يعيشها، والله يقول فكّروا، لا تجمّدوا عقولكم وتقتصروا على ما تسمعونه، بل اسمعوا وفكّروا واستنتجوا. عندما تسمع كلمة من الرّاديو، أو من أحد، أو تقرأ كلمة في الصّحيفة، فكّر فيها، الله يقول لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(الحجرات: 6).

الله غداً سيسألك كيف حكمت على القصّة، وأنت تقول سمعت. ممّن سمعت؟ ومن الذي قال لك؟ وكما قال الإمام عليّ (ع) :"بين الحقّ والباطل أربع أصابع؛ الباطل أن تقول سمعت، والحقّ أن تقول رأيت"13.

{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولً}(الإسراء: 36).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)(الحجرات: 12).

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

* (درس تفسير لسماحته، يتناول فيه سورة الشّورى، من الآية:41 حتّى الآية:47)، بتاريخ 19/05/1983.

[1]دعاؤه (ع) إذا اعتدي عليه أو رأى من الظّالمين ما لا يحبّ.

[2]الشّهيد الثّاني، منية المريد، ص 190.

[3]صحيح البخاري، ص 3475.

[4]الشّيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 333.

[5]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج87، ص 98.

[6]الكافي، ج2، ص 334.

[7]الإمام زين العابدين (ع)، رسالة الحقوق.

[8]نهج البلاغة، من خطبة له (ع).

[9]البحار، ج44، ص 325.

[10]البحار، ج44، ص 332.

[11]ابن طاووس، اللّهوف في قتلى الطّفوف، ص 54.

[12]ابن جرير، تاريخ الطّبري، ج4، ص 315.

[13]نهج البلاغة، ج2، ص 24.

سنكمل بعض الآيات التي بدأنا الحديث عنها فيما تقدّم من أسابيع:

{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(الشّورى: 41 – 42).

عرض الله لنا فيما تقدَّم من حديث، أنّ من صفات المؤمنين، أنّهم إذا أصابهم البغي فهم منتصرون. فالمؤمن ليس ذلك الإنسان الذي يرضخ للبغي والظّلم والعدوان، وإنّما هو الذي ينتصر لنفسه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}(الشورى: 39).

ولكنّ الإنسان المؤمن الذي يعيش حالة الانتصار ممن يبغي عليه، لا يظلم حتّى من يبغي عليه، لأنَّ الإنسان المؤمن هو الّذي يعيش العدالة لنفسه وللنّاس، فهو كما لا يفكّر في أن يعتدي على أحد، ولا يقبل بأن يعتدي عليه أحد، فهو لا يعتدي على أحد، ولا يقبل لنفسه بأن يعتدي على أحد، ولذلك عقّب الله قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}، بقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(الشورى: 40).

يعني إذا أردت أن تأخذ لنفسك حقّها أو تنتصر لها، فعليك أن لا تنتصر لنفسك بأكثر ممّا أراده الله لك في هذا المجال.

المؤمنُ الّذي يعيشُ حالةَ الانتصارِ ممّن يبغي عليه، لا يظلمُ حتّى من يبغي عليه، لأنَّه يعيشُ العدالة لنفسه وللنّاس

العدالةُ حقٌّ ومسؤوليّةٌ

فإذاً، الإنسان المؤمن عندما يعيش حسّ العدالة في الحياة، فهو لا يفكِّر كما يفكّر كثير من النّاس أنَّ العدالة حقٌّ له وليست مسؤوليّة عليه. في الإسلام، العدالة حقٌّ لك، والعدالة مسؤوليّة عليك؛ حقٌّ لك عندما تتعلّق القضيّة بتصرّف الآخرين معك، وهي مسؤوليَّة عليك عندما تتعلّق القضيّة بتصرّفك مع الآخرين.

وهكذا رأينا الإمام زين العابدين (ع) وهو يناجي ربّه في دعاء "مكارم الأخلاق": "وَلا أُظْلَمَنَّ وَأَنْتَ مُطِيقٌ لِلدَّفْعِ عَنِّي، وَلا أَظْلِمَنَّ وَأَنْتَ القَادِرُ عَلَى الْقَبْضِ مِنِّي". لا أُظلمَنَّ، ولا أَظلِمنَّ أحداً. ويقول لربّه في دعاء آخر: "اللَّهُمَّ فَكَمَا كَـرَّهْتَ إلَيَّ أَنْ أُظْلَمَ، فَقِنِي مِنْ أَنْ أَظْلِمَ"1، لا تجعلني أفكّر في القضايا على أساس مختلف، اجعلني أفكّر في النّاس ما أفكّر فيه لنفسي، لأنَّه "لا يؤمن أحدكم، حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"2.

ثمّ أراد الله سبحانه وتعالى أن يبيّن في القرآن الكريم الفاصل بين من عليه المسؤوليّة ومن له المسؤوليّة عند الله، بين من لديه الحقّ ومن عليه الحقّ غداً عند الله؛ من له الحقّ هو الإنسان المظلوم، إنّ له الحقَّ في أن ينتصر على ظالمه بعد ظلمه {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}(الشّورى: 41). إنَّ الذي ينتصر لظلمه في أيّ حالة من الحالات، إنْ على مستوى فرديّ، أو جماعيّ، أو دوليّ، هذا ليس عليه من سبيل. الذي ينتصر لحرّيّته ولعزّته وكرامته ممّن سلبَ حرّيّته وعزّته وكرامته، هؤلاء ليس عليهم من سبيل. الذين ينتصرون للُقمتهم ممّن سلبَ لُقمة العيش منهم وفرص الحياة الكريمة، فأولئك ما عليهم من سبيل...

وبهذا، أعطى الله سبحانه وتعالى كلّ مظلوم في الدّنيا، سواء كان مظلوماً على أساس سياسيّ، أو اقتصاديّ، أو اجتماعيّ، أو على أيّ أساس من أسس قضايا الحرّيّة والعزّة والكرامة في العالم، أعطاه الحقّ في أن يدافع عن ظلامته، وينتصر لنفسه ممّن ظلمه، مهما كان لونه ومهما كانت قوّته. {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}.

لا للتّمييزِ بينَ النّاسِ

وبهذا، لا بدَّ لكلّ إنسان مؤمن يعرف القرآن ويؤمن به ويفهمه، أن تكون عقليّته وذهنيّته وأحكامه تابعة للقرآن، فمن يكون قرآنيّاً في صلاته وصومه، ولا يكون قرآنيّاً في حكمه مع النّاس والأشياء، يرفضه الله.

الكثير من النّاس في بلدان العالم، يعطون الحقّ دائماً للقويّ، حتّى الضّعفاء منهم وليس الأقوياء فحسب. النبيّ (ص) يقول: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الّذين قَبْلَكُمْ، أَنَّهُم كانوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقاموا عليه الحدّ. وأيم الله، لَوْ أنّ فَاطِمَةُ بنت مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"3.

كذلك بعض النّاس، عندما يكون هناك جانٍ وضحيّة، يلوم النّاس الضّحيّة ولا يلومون المجرم، لأنّهم يستطيعون السّيطرة على الضّحيّة، ويستطيعون التهجّم عليها، ولكنّهم لا يستطيعون التهجّم على الجاني والمجرم. ولهذا، أصبح النّاس تحت أقدام المجرمين والجناة، لأنّهم لم يأخذوا بهذه الآية: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}(الشّورى: 41).

في كثير من حالات الواقع، إذا اعترض إنسانٌ على ظلم الدّول الكبرى أو الوسطى أو الصّغرى، فإنّه يوصف بأنّه إنسان يريد أن يخرّب البلاد والعباد، ويريد أن يخرّب الأمن وحياة النّاس، أمّا إذا مدح الظّالمين، فهو إنسان مريح ويجعل النّاس تعيش في مهد عيسى!

مراراً قلنا في كلّ المجالات بأنّنا ضدّ الفوضى، وضدّ المواقف الارتجاليّة، وضدّ المواقف الانفعاليّة، وضدّ كلّ عمل يخرّب حياة النّاس. ولكن أيضاً، وكما قلنا مراراً، نحن ضدّ التّمييز بين النّاس، فهناك من يُمسَك ويُحقَّق معه لفترة خمس دقائق ثمّ يُترَك (وكلّفنا خاطرك). أمّا البعض الآخر، ومن دون أن يُعرَف إذا كان متّهماً أو بريئاً أو مجرماً، يُضرَب بكلّ طريقة ويداس رأسُه، وبعد ذلك يبدأ التّحقيق معه. لو كان هذا الظّلم موحَّداً بين كلّ النّاس على حدٍّ سواء، لخفّت الوطأة، ولقال الإنسان: "حشرٌ مع النّاس عيد".. إذا أنا مظلوم كغيري لا بأس. في العالم كلّه: "المتَّهم بريء حتّى تثبت إدانته". لا يُضرَب الإنسان بمجرَّد اتّهامه بأمرٍ ما، هذا هو المتعارف عليه في كلّ دول العالم ودساتيرها. في العالم، يُكافَح الشّغب بالقنابل المسيلة للدّموع، وخراطيم المياه، لا يوجد في العالم كلّه من يطلق النّار على شخص لمجرّد أن يتكلّم بكلمة، وبعض النّاس تبرّر هذا الوضع، وهذا غير جائز.

{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}. السّبيل على من؟ المسؤوليّة على من؟ {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(الشّورى: 42). هذا كلام الله، وكلام سياسة. بعض النّاس حتّى القرآن يُزعجهم، سيأتي وقت حتّى لو استشهدَ أحدٌ ما بسورة من القرآن تتحدَّث عن اليهود والمنافقين، سيُمنَع بحُجّة أنّه يُسيء إلى العلاقات. يجب أن تعرفوا أنّ هذا شيء وارد، بأنّ عليكم أن تقرأوا قرآناً لا يُعطيكم فكرة سيّئة عن أيّ جهة من الجهات!

وكما قلنا مراراً، نحن في هذا البلد مستعدّون للعيش مع كلّ النّاس، ولكنّنا نرفض التّمييز ما بين مواطن وآخر، لا نريد ابن ستّ وابن جارية.. لا نريد في هذا البلد سياسة الغالب والمغلوب، نريد أن يحيا كلّ النّاس أحراراً، وأن ينعموا بالأمن والفرص المتساوية فيما بينهم، وبهذا يمكن أن يعيش النَّاس الاستقرار في هذا البلد.

لا نريد في هذا البلد سياسة الغالب والمغلوب، نريد أن يحيا كلّ النّاس أحراراً، وأن ينعموا بالأمن والفرص المتساوية

العدالةُ ورفضُ الظّلمِ

الاستقرار إنّما يأتي من خلال العدالة، ومن خلال المساواة وتكافؤ الفرص، ومن خلال شعور كلّ إنسانٍ بأنّه إذا كان بريئاً، فلا يمكن لأيِّ شخصٍ أن يعتديَ عليه أو مواجهته بأيِّ شيء. ولكن أن يؤذَى شخصٌ ويُضرَب ثمّ يُعتذَر منه، هذا لا يجوز أن يُسمَح به، وعلى كلّ النّاس استنكاره وعدم القبول به، ويجب أن يشعر كلّ النّاس بأنّ هذا شيء لا يعتبر أساساً من أسس الاستقرار والأمن في الحياة.

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ...}(الشّورى: 42).

هؤلاء هم مَن حمّلهم الله المسؤوليَّة. إنّ الله سبحانه وتعالى لا يُريد أن يُظلَم حتّى الكُفّار، وقد ورد في أحاديث أئمّة أهل البيت (ع): "إنَّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّ من أنبيائه في مملكة جبّارٍ من الجبّارين أن ائت هذا الجبّار فقل له: إنّني لم أستعملك على سفك الدّماء واتخاذ الأموال، وإنّما استعملتك لتكفَّ عني أصوات المظلومين، فانّي لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفّاراً"4. فأنا لن أسكت عن ظلم المظلومين حتّى لو كانوا كفّاراً وكان الظّالم مسلماً، لأنّ الله ينتقم للكافر من المسلم إذا كان المسلم ظالماً والكافر مظلوماً.

يجب أن تعرفوا ما قاله الإمام عليّ (ع) في هذا المجال، وأنتم من أتباع عليّ (ع) كما تقولون، فلنرَ منطق عليّ (ع) ونقارنه بمنطقنا في هذه الأيّام، فهو يقول: "الرّاضي بفعل قومٍ كالدّاخل فيه معهم، وعلى كلِّ داخل في باطل إثمان؛ إثم العمل به، وإثم الرّضا به"5. "من عذر ظالماً بظلمه، سلّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يُستجَب له، ولم يأجره على ظلامته"6. لماذا؟ لأنّك أنت إن عذرت الظّالم ورضيت بفعله، وأنا بدوري عذرته ورضيت بفعله، في آخر الأمر، سيمتدّ الظّالم في ظلمه ليظلمك بعد ذلك، عندها لن يستجيب الله لدعائك، لأنَّك عذرت فلاناً في ظلمه، فكيف إذا ظَلمَ الآخرين يكون معذوراً، وإذا ظلمك يكون مأزوراً؟!

الظّلم واحد، من يكره الظّلم ، عليه أن يكرهه لحساب نفسه ولحساب النّاس، ومن يقبل الظّلم، عليه أن يقبله لحساب نفسه ولحساب النّاس. هذا هو المنطق القرآني. هذا هو القرآن، وهذا هو الدّين، وهذا هو الإسلام.. الدّين ليس الاقتصار على الصّلاة والصّوم، في وقت لا تتعدّى حياتك أن تكون لعبة في يد من يبغون ويظلمون النّاس بغير حقّ.

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ...} في أيّ سبيل كان ذلك الظّلم، سواء كان في السّياسة، أو الاقتصاد، أو الدّين، أو الحياة الاجتماعية...؛ يظلمونهم في أكلهم وشربهم، وفي مختلف نواحي الحياة، {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدّنيا والآخرة. والله يعرف كيف يعذّب الإنسان بطرقه الخاصّة، لأنّ الله كما يرزق الإنسان من حيث لا يحتسب، يعاقبه من حيث لا يحتسب، ويضربه من حيث لا يحتسب، ويدمّره من حيث لا يحتسب، لأنّه سبحانه وتعالى محيط بالإنسان من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله. وإذا أراد الله أن يهلك إنساناً، فمن يجيره من الله سبحانه وتعالى؟!

انتصارُ المظلومِ لنفسِهِ

{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(الشّورى: 43).

للمظلوم أن يأخذ حقّه من ظالمه، وينتصر لنفسه منه، ومن {صَبَرَ وَغَفَرَ}، إن كان الظّالم يستحقّ الغفران {إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. الله يقول لك في قضاياك الشّخصيّة والاجتماعيّة، إذا غفرت لمن أساء إليك، فالغفران ليس ضعفاً؛ إنّه دليل على إرادة قويّة، وعزم قويّ. وأمّا في غير ذلك، فعليك أن توازن الأمور، كما قال الإمام زين العابدين (ع): "وأمّا حقّ من ساءك، فأن تعفو عنه، وإن رأيت أنّ العفو عنه يضرّه، انتصرت"7، أي أنّ العفو لا يكون دائماً هو الخيار الصّحيح، بل يتحقَّق ذلك عندما يكون فيه مصلحة لك وللآخرين وللحياة كلّها، أمّا عندما يكون العفو سبيلاً يشجّع الظّالم على الاستمرار في ظلمه، فإنَّ عليك أن تنتصر لنفسك وللنّاس.

{وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ}(الشّورى: 44).

هنا يقال إنّ المراد بالضّلال الهلكة، أيْ أنَّ من يضلّه الله، يتركه لنفسه ليضيع، فيتعلّق بالانحراف والكفر، لأنّ الله ما دام يحيط الإنسان برعايته، فسيكون قادراً على رؤية الطّريق الصّحيح واختياره. لكنّ الإنسان إذا تكبّر وعاند، وتركه الله سبحانه وتعالى لنفسه، فيضلّ، وإذا ضلّ الإنسان، فأين له الوليّ من دون الله سبحانه وتعالى؟!

حالُ الظالمينَ يومَ القيامةِ

ثمّ إنّ الله يعرّفنا عن الظّالمين الذين ظلموا أنفسهم والنّاس، بماذا سينطقون يوم القيامة؟ كيف هو موقفهم؟ وما هي أوضاعهم في ذلك اليوم؟

يجب أن نفكّر، لأنّنا الآن نظلم أنفسنا بالمعصية، ونظلم من هم أضعف منّا بالغلبة، كمن يظلم زوجته أو جاره... قد تكون الآن ظالماً صغيراً، وإذا حمّلت مسؤوليَّة أكبر تصبح ظالماً كبيراً. إذاً، قبل أن تصير ظالماً صغيراً أو كبيراً، فكّر في هذه الآيات إذا كنت تؤمن بآيات الله. الذي لا يؤمن بآيات الله قد أراح نفسه، لأنّه ينكر الآخرة. لكنَّ المؤمن بالله عليه أن يفكّر جيّداً، ويتأمّل في آيات الله، لأنّ الله سبحانه وتعالى، عندما يحدّثنا عن يوم القيامة ومواقفه، رغم كونه لمّا يأت بعد، إنّما يحدّثنا عنه ليعرّفنا أنّ المواقف هناك تنشأ من المواقف هنا. إذا أردت أن توفّر على نفسك المواقف الصّعبة يوم القيامة، فعليك أن توفّر على نفسك المواقف المنحرفة والباغية والظّالمة في الدّنيا.

{وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ...}. هؤلاء الظّالمون الّذين يعذّبون غيرهم في الدّنيا، لا يعرفون معنى العذاب، لأنّهم لم يعذِّبهم أحد من قبل، ولكن عندما يرون العذاب يوم القيامة، يفهمون معنى العذاب، ويشعرون بما كان يشعر به الآخرون.. هؤلاء الّذين كانوا يعذّبون الآخرين ويضحكون ويقهقهون وهم يسمعون صراخ الآخرين تحت تأثير السّياط والتّعذيب بالكهرباء. {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}، هل من الممكن أن نقدّم طلباً جديداً إلى الله، فنحن لم نكن نعرف الدّرس جيدّاً، نحن الآن عرفنا أنّ هناك عذاباً وعقاباً، فهل يرجعنا الله إلى الدّنيا حتّى نعمل عملاً صالحاً يوفّر علينا العذاب؟!

{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَ}. ليست النّار هي الّتي تعرَض عليهم، بل هم الّذين يُعرَضون على النّار.. فالله يصوّر المشركين يعرضون على النّار وهم خاشعون من الذّلّ، بعد كلّ تلك الخيلاء والكبر والتّرف والاستعراضات التي لا مجال لها في ذلك اليوم، لأنّ يوم القيامة هو {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ}(الانفطار: 19).

الآن، أنت تظلم لأنّك تملك ما يدعمك من مال، أو سلطة، أو جاه، أو عشيرة، أو سلاح، لكن يومها، لن تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً.

{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ}(الشّورى: 45). فهم يومها خاشعون خشوع الذّلّ، لا خشوع العبادة، خشوع الذّلّ أمام النّار، ينظرون من طرفٍ خفيٍّ نحو النّار، كمن يهاب ويخاف أمراً، فينظر إليه مواربةً.

الخسارةُ الحقيقيّةُ

في ذلك الوقت، ماذا يقول المؤمنون؟ {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...}.

يعني الخسارة ليست خسارة الدّنيا، حتّى لو فقدت شيئاً من مالك أو دمك أو حرّيّتك، لأنّ كلّ ذلك يمكن تعويضه لاحقاً، ففرص اليوم تذهب، وغداً تأتيك فرصٌ جديدة، لأنّ فرص الحياة متتابعة، فالله يمدّها لك في الحياة. لكن غداً في يوم القيامة، تقف وحدك، بلا عشيرتك، ولا عائلتك، ولا سلطتك، ولا جاهك، أنت يومها عارٍ من كلّ شيء، ولا يوجد إلّا موقفك أمام الله سبحانه وتعالى. في هذا المجال، الخسارة هي هذه الخسارة، لأنّه لا يوجد تعويض بعدها، كما يقول الإمام عليّ (ع): "اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل"8.

{وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ}. كيف يخسر الإنسان نفسه؟ يخسرها بالكُفر، والظّلم، وبالمعصية، والانحراف عن طريق الله، وبموالاة أعداء الله، ومعاداة أوليائه... فكلّ من يرى أنّ عنده شيئاً من هذه الأشياء، فإنّ عليه أن يعرف أنّه ممّن خسروا أنفسهم يوم القيامة.

بعض الناس [يعتبرون الخسارة شيئًا آخر في الدّنيا]، يقولون: خسرنا ابننا، كنّا نريد له أن ينطلق في الحياة، وأن يعيش مع النّاس، لكن مع الأسف، لقد بدأ يصلّي ويصوم، عندما يرجع إلى البيت يقول هذا الأكل حلال وهذا حرام، وهذا طاهر وهذا نجس! لا نعرف ما الذي حدث مع هذا الولد! والبنت أيضاً، بدل أن تخرج كرفيقاتها وقريباتها بأحسن زينتها، ويراها الشّباب، فيعجب بها هذا الشّابّ وذاك الشّابّ، وتُطلَب للزّواج، لا نعرف أيضاً ماذا أصابها في عقلها، صارت تتحجّب وكأنّها بنت ستّين سنة، صارت تصلّي وتصوم، إذا تقدَّم لها شخص يملك الكثير من المال ولكنّه يشرب الخمر، أو آخر يطلب منها خلع الحجاب، ترفض وتضيّع كلّ هذه الفرص...!

بعض النّاس يعتبرون هذه خسارة، وبأنّهم خسروا أبناءهم وبناتهم في مثل هذه الحالة، بعض الآباء يصلّي ويصوم ويذهب للحجّ، ولكنّه يمنع ابنته من أن تتستّر، أو أن تتديّن، أو أن تأتي إلى المسجد لسماع المحاضرات الدّينيّة، أو يمنع ابنه من الحضور إلى المسجد، لأنَّ المسألة بالنّسبة إليه مشكلة...

ألا يوجد بعض النّاس يتقبّلون فكرة ذهاب ابنهم إلى الملهى اللّيليّ وإلى أماكن الفجور، وليس مستعدّاً أن يذهب ابنه إلى المسجد أو أن يصلّي؟

الله يقول أيضاً، إنّك كما تخسر نفسك تخسر ابنك. لماذا؟ لأنَّ ابنك إذا عاش حياة الكفر والضّلال والفسوق، فإنّه سيكون طعمةً للنّار، وأيّ خسارة أعظم من أن يكون ابنك أو جسدك طعمة للنّار؟! هذا كلام الله وليس كلامي، أنا أفسّر لكم فقط آيات الله.

التّوبةُ قبلَ فواتِ الأوانِ!

{أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}، أي عذاب خالد مؤبَّد. الذي يفكّر في الظّلم، عليه أن يفكّر في هذه الآيات.

{وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ}(الشّورى: 46).

إذا أراد الله ان يلقي إنساناً في النّار، فمن الذي سينصره في ذلك الوقت؟ فكّر أيضاً في هذا عندما تفكّر في أقاربك، وجماعتك، وجوّك، عندما ترتاح في كلامك، وفي إصدار الأحكام على النّاس... ثمّ يضيف الله قائلاً: لطالما ناديتكم ودعوتكم أن تستجيبوا لربّكم، الله يناديكم {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ}.

لا تزالون تملكون الفرصة، لكن من غير المعروف إلى متى، ربّما سيذهب أحدنا إلى منزله وينام ويكون النّوم المؤبّد، لا أحد يضمن ما سيحدث معه على الطّريق، يمكن لأيّ منّا أن يصحو صباحاً وتأتيه الأمراض والمشاكل... لا يمكن لأحدٍ تقدير عمره. لذلك، هذه فرصة لكلّ إنسان: العمر ساعة، عجّلوا بالتّوبة قبل الموت، فالله يقول: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ}(الشورى: 47).

في الدّنيا، عندما يداهم الإنسان الخطر، يذهب إلى الملجأ، أو يجلس في زاوية البيت، أو يذهب إلى الجبل، أو ينزل إلى السّاحل... ولكن يوم القيامة أين الملجأ؟ يوم يقال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ}(الحاقة: 30- 33).

لا استنسابيّةَ في الإيمانِ

هذا الجوّ، أيّها الإخوة، لا بدَّ لنا أن نعيشه في أنفسنا إذا كنّا مؤمنين. كلّ ما أقوله لكم في هذا المجال: الذي يريد أن يكون مؤمناً، عليه أن يكون مؤمناً مئة في المئة، لا يمكن أن يصير الإيمان استنسابيّاً، بحيث نأخذ منه ما يعجبنا ويريحنا، ونرفض ما لا يناسبنا. {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ...}(البقرة: 85).

أقول لكم من خلال ما يتحدَّث به النّاس، لو أنَّ الحسين بن عليّ (ع)، وُجدَ في هذه الأيّام، ووقف أمام يزيد، لكان الكثيرون ممّن يصومون ويصلّون ويبرّرون للظّالمين ظلمهم، لكانوا ضدّ الحسين (ع)، ولقالوا ماذا يريد الحسين من كلّ هذه المشاكل؟! لماذا يقول الحسين (ع): "ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"9؟!. لماذا يفعل هكذا؟! فليلنْ، وليلملم الأوضاع لكي لا يُتعب النّاس!

أنا سأخبركم ما الفرق، قصّة الحسين (ع) هي مبادئه، وهو الذي قال: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ، فمن قبلني بقبول الحقّ، فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليّ أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين"10.

هذا هو كلام الحسين (ع)، لم يأت (ع) بكلام مخبّأ، بل برّر شرعيّة ثورته بهذه المبادئ الإسلاميّة.

فنحن عندما نقف ضدّ هذه المبادئ، ولا نرضى بأن يرفع إنسان صوته ضدّ إسرائيل وأمريكا وضدّ الظّالمين من أيّ جهة كانت، فهذا يعني التّخلّف عن مفهوم ثورة الحسين (ع).

لو أنَّ الحسين وُجدَ في هذه الأيّام، لكان الكثيرون ممّن يصومون ويصلّون ويبرّرون للظّالمين ظلمهم، ضدّ الحسين (ع)

العبّاس (ع) عندما صاح الشّمر: "أين بنو خالتنا؟".. كما يقول بعض النّاس، أنت ما دخلك؟ اجمع أقاربك وعائلتك وابق جانباً ولتخرب الدّنيا. الشّمر جاء للعبّاس وأعطاه الأمان على أن يترك الحسين (ع).. ونحن علينا أن ننقل قصّة الحسين للأجيال، حتّى يبقى النّاس في مقارنة بين الماضي والحاضر، وحتى يستفيدوا من قضيّة الحسين (ع). فانظروا إلى موقف العبّاس والشّمر وأنتم استنتجوا منها...

قال الشّمر: أين بنو خالتنا؟ أين العبّاس وإخوته؟. فلم يُجبه العبّاس ولا إخوته، فقال له الإمام الحسين (ع): "أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنّه بعض أخوالكم"11. فجاء إليه أبو الفضل العبّاس (ع) قائلاً: ما تريد يا شمر؟، قال: إنّ لكم الأمان، وهو صكٌّ من ابن زياد بأنَّ العبّاس وإخوته آمنون على أنفسهم وعيالهم إذا انصرفوا، فالحسين ليس أخ العبّاس من أمّه وأبيه، وهم أخواله، فليدعه لمصيره دون تعريض نفسه للخطر. فأجابه العبّاس (ع): "لعنك الله ولعن أمانك، أتُؤمِنُنا وابنُ رسول الله لا أمانَ له؟!"12. هذا أمانك مردود عليك ومرفوض.

هكذا هم بعض النّاس، يدعون إلى التّخلّي عن المسؤوليّات، وينأون بأنفسهم عن الأحداث، ويبرّرون هذا العمل وذاك، حتّى يبقى أهل الحقّ ومن ينادي به وحيدين في السّاحة، حتّى تكون أنت الّذي تنادي بالحقّ ضدّ النّاس الّذين ينادون بالحقّ.

مسؤوليّةُ التّفكيرِ

هذه الأمور فكّروا فيها، بعض الحالات تبعد الإنسان عن التّفكير بسبب بعض الأجواء التي يعيشها، والله يقول فكّروا، لا تجمّدوا عقولكم وتقتصروا على ما تسمعونه، بل اسمعوا وفكّروا واستنتجوا. عندما تسمع كلمة من الرّاديو، أو من أحد، أو تقرأ كلمة في الصّحيفة، فكّر فيها، الله يقول لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(الحجرات: 6).

الله غداً سيسألك كيف حكمت على القصّة، وأنت تقول سمعت. ممّن سمعت؟ ومن الذي قال لك؟ وكما قال الإمام عليّ (ع) :"بين الحقّ والباطل أربع أصابع؛ الباطل أن تقول سمعت، والحقّ أن تقول رأيت"13.

{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولً}(الإسراء: 36).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)(الحجرات: 12).

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

* (درس تفسير لسماحته، يتناول فيه سورة الشّورى، من الآية:41 حتّى الآية:47)، بتاريخ 19/05/1983.

[1]دعاؤه (ع) إذا اعتدي عليه أو رأى من الظّالمين ما لا يحبّ.

[2]الشّهيد الثّاني، منية المريد، ص 190.

[3]صحيح البخاري، ص 3475.

[4]الشّيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 333.

[5]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج87، ص 98.

[6]الكافي، ج2، ص 334.

[7]الإمام زين العابدين (ع)، رسالة الحقوق.

[8]نهج البلاغة، من خطبة له (ع).

[9]البحار، ج44، ص 325.

[10]البحار، ج44، ص 332.

[11]ابن طاووس، اللّهوف في قتلى الطّفوف، ص 54.

[12]ابن جرير، تاريخ الطّبري، ج4، ص 315.

[13]نهج البلاغة، ج2، ص 24.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية