كتابات
20/06/2013

المشاكل الّتي تواجه الحركات الإسلاميَّة

المشاكل الّتي تواجه الحركات الإسلاميَّة

دخل العالم في تطوّرات جديدةٍ كبرى، منذ حرب الخليج الثّانية، وسقوط الاتّحاد السّوفياتي، وتحوّل الاستكبار العالميّ إلى الدّولة الوحيدة المتمثّلة بأميركا، بعد أن كان ثنائيّاً، وبدأ الحديث عن النّظام العالميّ الجديد الخاضع للسّيطرة الأميركيّة الّتي استطاعت أن تضغط على الأمم المتّحدة لتحويلها إلى قاعدةٍ للنّفوذ الأميركيّ، لتمارس دورها في أيّ موقعٍ في العالم، من خلال ضعف الدّول الكبرى الأخرى أمام الواقع الجديد، أو التقاء مصالحها بالمصالح الأميركيّة في مواجهة حركات الشّعوب الباحثة عن الحرّيّة، ولا سيّما الحركات الإسلاميّة. وشاع الحديث عن الخطر الإسلاميّ، أو عن «الأصوليّة الإسلاميّة» في العالم الثّالث، كعدوٍّ جديدٍ للغرب أو للاستكبار العالميّ في مصالحه الكبرى، على أساس أنّ «الأصوليّة الإسلاميّة» تتحرّك بأُسلوب العنف في خطّ مواجهة الاستكبار، ما يؤدّي إلى إرباك حركته المتنوّعة في سياسته الاقتصاديّة والأمنيّة، حتّى إنّ أصواتاً غربيّةً رسميّةً تحدّثت عن ضرورة بقاء «الحلف الأطلسي» لمواجهة الخطر الإسلاميّ، بعد سقوط الخطر السّوفياتي.
ولذلك، بدأت الحملة الإعلاميّة مِنْ جهة، والسياسيّة من جهةٍ أخرى، والأمنيّة من جهةٍ ثالثة، ضدّ الإسلاميّين في كلّ موقعٍ من مواقع الحركة الإسلاميّة، تثير المشاكل الدّاخليّة والخارجيّة، والفتن الأمنيّة الحادّة، في حربٍ متعدّدة الأصوات والمواقع والأساليب. وهكذا وقفت الحركات الإسلاميّة أمام التحدّيات الكبرى من خلال المتغيّرات العالميّة، لتواجه عدّة مشاكل داخليّة وخارجيّة في مضمون وجودها الحركيّ الفاعل على صعيد الحاضر والمستقبل.

المشكلة الأولى: فقدان الوحدة العضويّة بين الحركات الإسلاميّة، سواءٌ في ذلك الخطّ الفكريّ، والمنهج الحركيّ، والأسلوب الإعلاميّ، والعنوان السياسيّ، والوسائل العمليّة، ما جعل المسألة تتّخذ بُعداً سلبيّاً لا يخلو من الخطورة، لأنّ كلّ حركةٍ إسلاميّة تعيش مفصولةً عن الحركات الإسلاميّة الأخرى في الوعي والممارسة والعمق والامتداد، ما يمنع العاملين في هذا الموقع من تقديم الدَّعم للعاملين الآخرين في الموقع الآخر، ليواجهوا الموقف وحدهم أمام التحدّيات القاسية.
وإذا كانت القضيّة تفقد الوحدة في السّاحة الواقعيّة، فإنّها تفقد التّنسيق العمليّ حتّى على المستوى الإعلاميّ، ما يزيد المشاكل العالقة تعقيداً، والنّتائج الحادّة إرباكاً للواقع.

وقد نلمح في هامش ذلك كلّه، النّزاع المذهبيّ الإسلاميّ في بعض تفاصيل الخطاب الإسلاميّ في هذه الحركة الإسلاميّة أو تلك، بالطّريقة التّقليديّة المتخلِّفة الّتي تحاول مصادرة الحاضر على أساس خلافات الماضي، ما يثير الشّكوك والتشنّجات النّفسيّة في ساحة الواقع الإسلاميّ الحركيّ، بالطّريقة الّتي قد تساهم في إسقاط عناصر القوّة في خطّ المسيرة العام.

المشكلة الثّانية: وهي الأهمّ والأخطر، هي عدم وجود برنامج تفصيليّ يتناول التصوّر الإسلاميّ للعناوين الإسلاميّة الكبيرة، في الخطّ السياسيّ، والنّهج الاقتصاديّ، والأسلوب الإعلاميّ، والحركة الأمنيّة، حتى إنّ بعض الحركات الإسلاميّة الّتي تحوّلت إلى دولة، لا تزال تنطلق في تقنينها الإسلاميّ من المفردات الفقهيّة المتناثرة هنا وهناك، من دون منهجٍ عام تتوزّع خطوطه على كلّ المواقع الاقتصاديّة أو غيرها.

كما أنّ مشكلة الانفتاح والانغلاق على القوى المضادّة للإسلام عقائديّاً أو سياسيّاً، لا تزال تتخبَّط في الوجدان الحركيّ، بين فريقٍ يرى الانغلاق هو الأصل للحفاظ على نقاء الخطّ الإسلاميّ الّذي يمكن أن يتلوّث بفعل المداخلات المنحرفة الّتي تفرضها الخطوط الأخرى في الفكرة والوسيلة، والّتي قد تؤدِّي إلى تشجيع الباطل وتقوية الكفر أو الانحراف من خلال الغطاء الإسلاميّ الّذي يحصل عليه في خطّ الانفتاح، وفريقٍ يرى الانفتاح هو الأصل، على أساس عنوان «الكلمة السّواء» الّتي لا تقتصر على العناوين العقيديّة، بل تمتدّ إلى العناوين السياسيّة والأمنيّة. بل ربّما نستوحي ذلك من إغفال الخلاف في المسائل السياسيّة والأمنيّة للسّبب ذاته، مع ملاحظةٍ مهمّة، وهي أنَّ الواقع المعقَّد، والتحدّي الخطير الّذي تواجهه الحركات الإسلاميّة في قضايا المصير، قد لا يسمحان للمسلمين بالحصول على النّتائج الإيجابيّة في خطّ النّصر، لأنّ القوى المضادّة تتمتّع بقوّة مادّيّة أكبر، وبامتداداتٍ سياسيّةٍ أوسع، وبضغطٍ إعلاميّ أقوى، وبوسائل أمنيّةٍ أكثر خطورةً، ما لا يفسح في المجال لمواجهتها بقوّة، إلا بالتّحالف مع القوى الأخرى الّتي تتّفق معنا في الهدف المرحليّ أو في بعض خطوات الطّريق، مع تحديد المساحة الفكريّة والعمليّة للتّحالف أو التّنسيق أو اللّقاء، بما لا يهدّد القاعدة الفكريّة أو السّياسيّة أو الواقع الأمنيّ الحيويّ، في الوقت الّذي يعطي الواقع قوّةً مضاعفةً جديدةً تتخطّى الصّعوبات، وتقف في مستوى التّحدّيات الكبرى، بحيث تنطلق القضيّة، في شرعيّتها الإسلاميّة، من موقع تحقيق المصالح الإسلاميّة العليا، من دون أن يشوّه ذلك الصّورة الجميلة، أو يلوّث النّقاء الطّاهر، من خلال التحفّظات الواعية الّتي تتحرّك في خطّ الدّعوة والتّوعية الثّقافية أو الرّوحيّة، ولا يزال الخلاف المذكور يهدّد وحدة كلّ حركةٍ إسلاميّةٍّ في الدّاخل بطريقةٍ وبأخرى.

هذا إضافةً إلى العناوين الجديدة التي فرضتها التطوّرات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، كقضايا حقوق الإنسان، والبيئة والتّنمية، والمتغيّرات الواقعة في الواقع الإداريّ والقانونيّ والاجتماعيّ الّذي يبحث عن أجوبةٍ فقهيّةٍ أو فكريّةٍ للكثير من علامات الاستفهام الّتي تتحدّى الجميع، ليثبت أصحاب العقائد الوضعيّة، أنّ خطوطهم الفكريّة تملك القدرة على رعاية كلّ حاجات الإنسان في واقع المتغيّرات العامّة أو الخاصّة، كوسيلةٍ من وسائل مواجهة كلّ التّحدّيات المتنوّعة على كلّ صعيد.
المشكلة الثّالثة: هي مسألة العنف كعنوانٍ كبيرٍ للأسلوب العمليّ الّذي تعتمده الحركة الإسلاميّة في خطّ المواجهة، باعتباره الوسيلة الوحيدة في حركيّتها السياسيّة، بحسب الإعلام الاستكباريّ الّذي يعمل على الإيحاء بذلك، والّذي ينطلق أتباعه من المواقف الجهاديّة أو الاستشهاديّة الّتي يقوم بها الإسلاميّون في مواجهة الصّهيونيّة والاستكبار العالميّ أو الأنظمة الظّالمة في بلاد المسلمين، تماماً كما لو كان العنف هو الخصوصيَّة المميَّزة لنشاط الإسلاميّين، في حين أنّ هؤلاء لا يختلفون عن غيرهم في أساليب المواجهة الثّوريّة أو الدّفاعيّة أو الوقائيّة، فهم ليسوا بدعاً من النّاس في ذلك كلّه. ولعلّ المواجهات المعادية الّتي فرضت عليهم ضغوطاً قاسيةً، وحصاراً محكماً، واضطهاداً وحشيّاً، جعلتهم يقفون في الموقف الدّفاعيّ الّذي يعمل على حماية الوجود الإنساني الشّرعيّ لحياتهم العامّة والخاصّة.

ولعلّ النّاس يعرفون، من خلال حركة الإعلام السياسيّ اليوميّ، أنّ الإسلاميّين يعانون من إلغاء حريّاتهم السياسيّة، كمصادرة مواقعهم الجديدة في اللّعبة الديمقراطيّة، على غرار ما حدث لهم في الجزائر في الانتخابات الشّعبيّة الّتي حصلوا فيها على الثقة الشعبيّة الواسعة، حذراً من أن يتسلّموا زمام الحكم ليقيموا الدّولة الإسلاميّة، بحيث كان العنف عنف السّلطة، لا عنف الإسلاميّين الّذين اضطرّوا تحت تأثير الاعتقال والقتل والملاحقة الوحشيّة إلى الوقوف في موقع الدّفاع الشّرعيّ لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعيّ في البلد.

وهكذا نرى الإسلاميّين في بلد آخر، مثل مصر، يواجهون النّظام المصري بأسلوب العنف، على أساس أنّه فرض عليهم الابتعاد عن الحياة السياسيّة تحت العنوان الإسلاميّ، بحجَّة أنَّ الإسلام لا يمكن أن يكون واجهةً لحزبٍ سياسيّ، لأنّه يوحي بأنّ الخارجين عنه ليسوا مسلمين. وهي حجّةٌ لا معنى لها، لأنّ ذلك يعني أنّ علينا إلغاء الحزب الوطني من خلال الإيحاء بأنّ الّذين لا ينتمون إليه ليسوا وطنيّين. ولكنّها الأجهزة الاستكباريّة الكافرة الّتي تخشى من الإسلام السياسيّ الحركيّ على مصالحها، فتبادر إلى توكيل بعض الحاكمين للقيام بإلغاء حريّات الإسلاميّين السياسيّة تحت أيّ عنوانٍ وطنيٍّ أو قوميّ أو غير ذلك.

وكان العنوان الجديد الّذي حاول الإعلام الاستكباريّ الدّاخليّ أو الخارجيّ تحريكه ضدّ الإسلاميّين، هو عنوان «الأصوليّة»؛ هذه الكلمة الّتي تختزن في داخلها فكرة العنف كوسيلةٍ وحيدةٍ للحركة، وفكرة إلغاء الآخر، وذلك من خلال التّجربة التاريخيّة الغربيّة الّتي عاشَ فيها بعض النّاس في هذا الاتجاه. ومن هنا، انطلقت كلمات «التعصّب» و«التطرّف» و«الإرهاب» في أجواء العنوان الأصوليّ الّذي يوحي بذلك بطريقةٍ وبأخرى، ليستهلكها الجوّ السياسيّ الدّاخليّ والخارجيّ، كمصطلحاتٍ سياسيّةٍ يؤكّدها الصّراع بين الأنظمة والإسلاميّين، في الوقت الّذي يتحدّث الإعلام عن وجهة نظر الأنظمة بالطّريقة التي تشوّه فيها صورة هؤلاء الإسلاميّين، وتنسب إليهم الكثير من الأعمال البعيدة عن التّوازن الأخلاقيّ، كما لو كانوا وحوشاً تتحرّك ضدّ الثّقافة والعلم والمجتمع، في عمليّة حقدٍ دفينٍ ثائرٍ على كلّ عناصر التقدّم والرّقيّ والإبداع والنّظام المدنيّ الإنسانيّ العامّ!

ويتمّ ذلك بشكلٍ فنّيّ، في غياب الإمكانات الإعلاميّة الواسعة لدى الإسلاميّين في حركتهم، بالمستوى الّذي يتولّون فيه الدّفاع عن الواقع الّذي يعيشون فيه دائرة الصِّراع، الأمر الّذي جعل الأنظمة وحلفاءها الدّوليّين يمارسون القمع الأمنيّ والإعلاميّ والسّياسيّ ضدّ الحركة الإسلاميّة هنا أو هناك.

وهكذا نلاحظ أنّ الأجهزة المخابراتيّة الدّوليّة تعمل على توزيع الاتّهامات على الحركة الإسلاميّة في نطاق الدّولة، كالجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، متّهمةً إيّاها بدعم الإرهاب، وتشجيعها العنف الدّامي في هذا الموقع أو ذاك، الأمر الّذي قد يثير أمامها الكثير من المشاكل السّياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، كوسيلةٍ ضاغطةٍ لإبعاد القوّة الإسلاميّة في هذه الدّولة أو تلك عن دعم الحركات الإسلاميّة في العالم.

المشكلة الرّابعة: الحرب العالميّة الّتي تقودها دول الاستكبار العالميّ، وفي مقدّمها الولايات المتّحدة الأميركيّة ودول أوروبّا الغربيّة، ضدّ الإسلام الحركيّ، بحيث تعمل على محاصرة معتنقيه في مواقعهم ومواقفهم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بهدف الزّيادة في إضعافهم، وتقييد حركتهم، وإسقاط مصداقيّتهم، ومصادرة حريّاتهم، وتشويه صورتهم بمختلف الأساليب الإعلاميّة والسّياسيّة والأمنيّة والثّقافيّة والدّينيّة، حتى إنّها وظّفت بعض علماء المسلمين القريبين من مواقع الأنظمة، لإثارة الاتّهامات المختلفة، والكلمات المضلّلة، بحيث إنَّ الإنسان قد يلاحظ لدى بعضهم حقداً على الإسلاميّين يزيد على حقدهم على الملحدين، فهم قد يقبلون بعض الأعذار لأولئك، بينما لا يقبلون أيّ مبرّر للمؤمنين الحركيّين في تفسير بعض أوضاعهم أو ممارساتهم، وربّما يبتدعون بعض الفتاوى لحساب هذا الحاكم أو ذاك، أو هذه الدّولة أو تلك.

وفي ضوء هذا، تجد الحركات الإسلاميّة نفسها محاصرةً من الدّاخل والخارج، من المواقع الرّسميّة وبعض المواقع الدّينيّة، ما يجعلها في حال طوارئ متحرّكة في أكثر من اتّجاه، وعلى أكثر من صعيد.

هذه هي بعض المشاكل الصّعبة التي تواجه الحركات الإسلاميّة في الواقع الإسلاميّ العامّ، ولكنّها لا تعني فقدان التّوازن في الكثيرِ من الإيجابيّات، فقد نجدُ أنَّ هناك الكثير من الأبحاث والدّراسات الّتي تحاول تأصيل المفاهيم والخطوط الإسلاميّة على قاعدة الحاجات الإنسانيّة المعاصرة، وتعمل على مواجهة المشاكل الجديدة، والمتغيِّرات المتنوّعة، بالحلول والأفكار الّتي تقدّم إلى الإنسان المعاصر أكثر من جوابٍ على أكثر من علامة استفهام في مختلف القضايا والأوضاع، كما نلاحظ وجود أكثر من تجربةٍ مقنّنة تشريعيّاً في نظام الدّولة الإسلاميّة المعاصرة. ولكنّنا نشعر بضرورة تحقيق المزيد من ذلك، لأنّ هناك جوانب كثيرة من النّقص حول الإثارات الفكريّة والقانونيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ممّا قد نحتاج فيه إلى دراساتٍ فرديّةٍ أو جماعيّةٍ، من أجل تقديم الصّورة التفصيليّة للإسلام في مختلف جوانب الحياة، لإفساح المجال أمام الآخرين لكي يدخلوا في عمليّة مقارنةٍ بين الطّرح الإسلاميّ والطّروحات العلمانيّة الأخرى، فما لدينا من الدّراسات قد لا يكون كافياً لتلبية الحاجات الملحّة المتطوّرة في نطاق المتغيِّرات، مع التّقدير لكلّ الدّراسات القديمة والحديثة، والّتي قد تحتاج إلى تركيزٍ في الشّكل والمضمون بما يتوافق مع آفاق التّفكير المعاصر.
أمّا مسألة مشروع وحدة الحركة الإسلاميّة العالميّة، فقد يكون ذلك هو طموحنا الكبير، ولكنّه لا يزال محكوماً بالكثير من التّعقيدات المذهبيّة والإقليميّة والذاتيّة، الأمر الّذي يحتاج إلى الجهد الكبير، بحيث يتجاوز الظّروف الموضوعيّة المحيطة بالسّاحة الإسلاميّة.

لذلك، فقد يكون من الأفضل، أو من الواقعيّ، العمل على إيجاد حالةٍ من الاتّصالات الفكريّة والسياسيّة والإعلاميّة الّتي قد تُفسح في المجال للتّنسيق في نطاق خطّةٍ مشتركة، أو تصوّرٍ متقارب، كوسيلةٍ من وسائل اكتشاف الوحدة في كثيرٍ من الأفكار والبرامج والمناهج والأساليب، بحيث تتمثّل أمامهم الصّورة الإسلاميّة للمشروع الإسلاميّ، مع التنوّع في دائرة الوحدة، أو الوحدة في خطّ التنوّع، ما يسهّل للوحدة ظروفها الثّقافيّة في انتظار تكامل ظروفها النّفسيّة والواقعيّة، والوصول إلى مزيدٍ من التّعاطف والتّواصل والتّلاقي على أكثر من قضيّةٍ كبيرة.

وإنّنا نجد في لقاءات القيادات الإسلاميّة المتواترة من جهة، وفي وحدة القضايا المصيريّة المشتركة، وفي الآلام والتحدّيات القاسية الّتي تصيب هذا الجسم الإسلاميّ هنا، فيتفاعل معها الجسم الإسلاميّ هناك، نجد حركةً إيجابيّةً في اتجاه الانفتاح الواسع على الواقع الإسلاميّ كلّه، على مستوى العاطفة المتفاعلة مع النّتائج السلبيّة أو الإيجابيّة، والموقف الحاسم في نصرة الخطّ والموقع بطريقةٍ وبأخرى. وربّما كان على الإسلاميّين الحركيّين الاستفادة من هذه الإيجابيّات الرّوحيّة والفكريّة والعمليّة، لتوسيع التّجربة وتعميقها والإكثار من نماذجها، وإبعاد الأوضاع القلقة الّتي تحاول دائماً بفعل عناصر التخلّف، التّركيز على مواقع الخلاف بدلاً من مواقع اللّقاء.

أمّا مسألة الرّفق والعنف، فهي مسألة الأسلوب الإسلاميّ المتنوّع في نطاق الحكمة التي قد تفرض هذا في موقع، وذاك في موقعٍ آخر، فالرّفق هو الموقف الصّحيح في ظرفٍ معيّن، كما يكون العنف هو الخطّ المستقيم في ظرفٍ آخر، وهكذا تتحرّك مسألة الانفتاح والانغلاق في دراسةٍ عميقةٍ واسعةٍ للمصلحة الإسلاميّة العليا في القضايا المصيريّة الإسلاميّة الّتي قد تتوقّف على الاستفادة من اللّقاء بالآخرين في الموقع الّذي لا نجد فيه فرصةً ملائمةً للدّخول في المعركة وحدنا، مع توفّر الفرص الإيجابيّة للانتصار في المواجهة، من دون أيّة سلبيّاتٍ كبرى على مستوى المفاهيم الأصيلة للإسلام، وربّما لا نجد هناك أيّة إيجابيّةٍ في ذلك، لأنَّ الآخرين قد يستفيدون من الغطاء الإسلاميّ المرحليّ لحركتهم، في إضعاف الواقع الإسلاميّ من الدّاخل، أو تقوية مواقعهم من الخارج، الأمر الّذي يفرض الوقوف منهم موقفاً سلبيّاً، مع التّدقيق في الواقع الإسلاميّ، من حيث دراسة الظّروف الموضوعيّة للتحرّك في مواجهة التحدّيات.

ولنا ملاحظة على بعض المفردات الّتي يتحرّك بها بعض الإسلاميّين في خطّ المواجهة، ما قد يترك تأثيراته السّلبيّة على حضاريّة السّلوك الإسلاميّ وأخلاقيّته، ويشارك في تشويه الصّورة المشرقة للوجه الإسلاميّ الحركيّ، بحيث يتحوّل التحرّك إلى لونٍ من ألوان ردّ الفعل لأساليب الآخرين الّذين قد يعملون على جرّ الإسلاميّين المجاهدين إلى الوقوع في أخطارٍ مميتةٍ يفقدون فيها الثّقة الشّعبيّة، ولا سيّما إذا لم يكن هناك وضوحٌ في شرعيَّة هذا التصرّف أو ذاك، ليثير في نفوس المسلمين الطيّبين الشكّ في إسلاميّة الحركة على صعيد أسلوبها العمليّ.

إنّنا ندرك الضّرورات الميدانيّة الّتي قد تقود الإسلاميّين إلى بعض ألوان السّلوك الحادّ في خطّ المواجهة، من خلال الحصار القاسي الّذي تفرضه القوى المضادّة حولهم لتحشرهم في دائرةٍ مغلقة، ولكنّنا نتصوّر أنّ من الضّروريّ عدم الاستغراق في الواقع بشكلٍ معقّد أو مغلق، لأنّ ذلك قد يؤدّي بنا إلى خسارة السّاحة الإسلاميّة من جهة، والرأي العام الذي نريد أن نربح عاطفته نحو الإسلام وأهله من جهةٍ أخرى، في الوقت الّذي يعرف الجميع أنّ الأجهزة الاستكباريّة تتحرّك في خطّةٍ خبيثةٍ مدروسةٍ لإبعاد الحركة الإسلاميّة عن التعمّق في وجدان الأمّة، وفي وعي الرّأي العام العالميّ، لينطلق الموقف إلى حالةٍ مضادّة، في نطاق الواقع السّلبيّ تجاهها.

إنّ العالم يتحرّك بسرعةٍ في خطّ المتغيّرات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والأمنيّة، ما يؤدّي إلى التبدّل في كثيرٍ من المواقف والأوضاع العامّة، ويترك تأثيراته المتنوّعة على الواقع الإنسانيّ العام. ولا بدَّ للإسلام، في مجال الدّعوة والحركة والجهاد، من أن يدرس ذلك كلّه، ليواكب المسيرة الإنسانيّة في تحريك مفاهيمه وتصوّراته وشرائعه وأساليبه، بحيث لا يقف غريباً عن الذّهنيّة المعاصرة الجديدة، لأنّ علينا أن نفهم أنّ الذّهنيّة لغة خاصّة، كما أنّ الكلمات لغة خاصّة، فمن لا يفهم ذهنيّة العصر، لا يفهم خطابه، ولا يدرك طريقة التّفاهم مع أهله، ومن يفهم روحه، ويعش ذهنيّته، ويمتلك حسَّ المعاصرة، يملك الدّخول إليه من الباب الواسع، ليجد لديه المكان والموقع والامتداد.

ولنتذكّر الحديث الشّريف: «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم»، ولنعرف السرّ في حديث الله في القرآن الكريم عن الكتاب والحكمة، فالكتاب هو الخطّ العام للنّظريّة، والحكمة هي الخطّ الحركيّ في نطاق دراسة التّطبيق في خطّ الواقع العمليّ المتحرّك في آفاق المتغيّرات.

 

*المصدر: كتاب "الحركة الإسلاميّة: ما لها وما عليها"


دخل العالم في تطوّرات جديدةٍ كبرى، منذ حرب الخليج الثّانية، وسقوط الاتّحاد السّوفياتي، وتحوّل الاستكبار العالميّ إلى الدّولة الوحيدة المتمثّلة بأميركا، بعد أن كان ثنائيّاً، وبدأ الحديث عن النّظام العالميّ الجديد الخاضع للسّيطرة الأميركيّة الّتي استطاعت أن تضغط على الأمم المتّحدة لتحويلها إلى قاعدةٍ للنّفوذ الأميركيّ، لتمارس دورها في أيّ موقعٍ في العالم، من خلال ضعف الدّول الكبرى الأخرى أمام الواقع الجديد، أو التقاء مصالحها بالمصالح الأميركيّة في مواجهة حركات الشّعوب الباحثة عن الحرّيّة، ولا سيّما الحركات الإسلاميّة. وشاع الحديث عن الخطر الإسلاميّ، أو عن «الأصوليّة الإسلاميّة» في العالم الثّالث، كعدوٍّ جديدٍ للغرب أو للاستكبار العالميّ في مصالحه الكبرى، على أساس أنّ «الأصوليّة الإسلاميّة» تتحرّك بأُسلوب العنف في خطّ مواجهة الاستكبار، ما يؤدّي إلى إرباك حركته المتنوّعة في سياسته الاقتصاديّة والأمنيّة، حتّى إنّ أصواتاً غربيّةً رسميّةً تحدّثت عن ضرورة بقاء «الحلف الأطلسي» لمواجهة الخطر الإسلاميّ، بعد سقوط الخطر السّوفياتي.
ولذلك، بدأت الحملة الإعلاميّة مِنْ جهة، والسياسيّة من جهةٍ أخرى، والأمنيّة من جهةٍ ثالثة، ضدّ الإسلاميّين في كلّ موقعٍ من مواقع الحركة الإسلاميّة، تثير المشاكل الدّاخليّة والخارجيّة، والفتن الأمنيّة الحادّة، في حربٍ متعدّدة الأصوات والمواقع والأساليب. وهكذا وقفت الحركات الإسلاميّة أمام التحدّيات الكبرى من خلال المتغيّرات العالميّة، لتواجه عدّة مشاكل داخليّة وخارجيّة في مضمون وجودها الحركيّ الفاعل على صعيد الحاضر والمستقبل.

المشكلة الأولى: فقدان الوحدة العضويّة بين الحركات الإسلاميّة، سواءٌ في ذلك الخطّ الفكريّ، والمنهج الحركيّ، والأسلوب الإعلاميّ، والعنوان السياسيّ، والوسائل العمليّة، ما جعل المسألة تتّخذ بُعداً سلبيّاً لا يخلو من الخطورة، لأنّ كلّ حركةٍ إسلاميّة تعيش مفصولةً عن الحركات الإسلاميّة الأخرى في الوعي والممارسة والعمق والامتداد، ما يمنع العاملين في هذا الموقع من تقديم الدَّعم للعاملين الآخرين في الموقع الآخر، ليواجهوا الموقف وحدهم أمام التحدّيات القاسية.
وإذا كانت القضيّة تفقد الوحدة في السّاحة الواقعيّة، فإنّها تفقد التّنسيق العمليّ حتّى على المستوى الإعلاميّ، ما يزيد المشاكل العالقة تعقيداً، والنّتائج الحادّة إرباكاً للواقع.

وقد نلمح في هامش ذلك كلّه، النّزاع المذهبيّ الإسلاميّ في بعض تفاصيل الخطاب الإسلاميّ في هذه الحركة الإسلاميّة أو تلك، بالطّريقة التّقليديّة المتخلِّفة الّتي تحاول مصادرة الحاضر على أساس خلافات الماضي، ما يثير الشّكوك والتشنّجات النّفسيّة في ساحة الواقع الإسلاميّ الحركيّ، بالطّريقة الّتي قد تساهم في إسقاط عناصر القوّة في خطّ المسيرة العام.

المشكلة الثّانية: وهي الأهمّ والأخطر، هي عدم وجود برنامج تفصيليّ يتناول التصوّر الإسلاميّ للعناوين الإسلاميّة الكبيرة، في الخطّ السياسيّ، والنّهج الاقتصاديّ، والأسلوب الإعلاميّ، والحركة الأمنيّة، حتى إنّ بعض الحركات الإسلاميّة الّتي تحوّلت إلى دولة، لا تزال تنطلق في تقنينها الإسلاميّ من المفردات الفقهيّة المتناثرة هنا وهناك، من دون منهجٍ عام تتوزّع خطوطه على كلّ المواقع الاقتصاديّة أو غيرها.

كما أنّ مشكلة الانفتاح والانغلاق على القوى المضادّة للإسلام عقائديّاً أو سياسيّاً، لا تزال تتخبَّط في الوجدان الحركيّ، بين فريقٍ يرى الانغلاق هو الأصل للحفاظ على نقاء الخطّ الإسلاميّ الّذي يمكن أن يتلوّث بفعل المداخلات المنحرفة الّتي تفرضها الخطوط الأخرى في الفكرة والوسيلة، والّتي قد تؤدِّي إلى تشجيع الباطل وتقوية الكفر أو الانحراف من خلال الغطاء الإسلاميّ الّذي يحصل عليه في خطّ الانفتاح، وفريقٍ يرى الانفتاح هو الأصل، على أساس عنوان «الكلمة السّواء» الّتي لا تقتصر على العناوين العقيديّة، بل تمتدّ إلى العناوين السياسيّة والأمنيّة. بل ربّما نستوحي ذلك من إغفال الخلاف في المسائل السياسيّة والأمنيّة للسّبب ذاته، مع ملاحظةٍ مهمّة، وهي أنَّ الواقع المعقَّد، والتحدّي الخطير الّذي تواجهه الحركات الإسلاميّة في قضايا المصير، قد لا يسمحان للمسلمين بالحصول على النّتائج الإيجابيّة في خطّ النّصر، لأنّ القوى المضادّة تتمتّع بقوّة مادّيّة أكبر، وبامتداداتٍ سياسيّةٍ أوسع، وبضغطٍ إعلاميّ أقوى، وبوسائل أمنيّةٍ أكثر خطورةً، ما لا يفسح في المجال لمواجهتها بقوّة، إلا بالتّحالف مع القوى الأخرى الّتي تتّفق معنا في الهدف المرحليّ أو في بعض خطوات الطّريق، مع تحديد المساحة الفكريّة والعمليّة للتّحالف أو التّنسيق أو اللّقاء، بما لا يهدّد القاعدة الفكريّة أو السّياسيّة أو الواقع الأمنيّ الحيويّ، في الوقت الّذي يعطي الواقع قوّةً مضاعفةً جديدةً تتخطّى الصّعوبات، وتقف في مستوى التّحدّيات الكبرى، بحيث تنطلق القضيّة، في شرعيّتها الإسلاميّة، من موقع تحقيق المصالح الإسلاميّة العليا، من دون أن يشوّه ذلك الصّورة الجميلة، أو يلوّث النّقاء الطّاهر، من خلال التحفّظات الواعية الّتي تتحرّك في خطّ الدّعوة والتّوعية الثّقافية أو الرّوحيّة، ولا يزال الخلاف المذكور يهدّد وحدة كلّ حركةٍ إسلاميّةٍّ في الدّاخل بطريقةٍ وبأخرى.

هذا إضافةً إلى العناوين الجديدة التي فرضتها التطوّرات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، كقضايا حقوق الإنسان، والبيئة والتّنمية، والمتغيّرات الواقعة في الواقع الإداريّ والقانونيّ والاجتماعيّ الّذي يبحث عن أجوبةٍ فقهيّةٍ أو فكريّةٍ للكثير من علامات الاستفهام الّتي تتحدّى الجميع، ليثبت أصحاب العقائد الوضعيّة، أنّ خطوطهم الفكريّة تملك القدرة على رعاية كلّ حاجات الإنسان في واقع المتغيّرات العامّة أو الخاصّة، كوسيلةٍ من وسائل مواجهة كلّ التّحدّيات المتنوّعة على كلّ صعيد.
المشكلة الثّالثة: هي مسألة العنف كعنوانٍ كبيرٍ للأسلوب العمليّ الّذي تعتمده الحركة الإسلاميّة في خطّ المواجهة، باعتباره الوسيلة الوحيدة في حركيّتها السياسيّة، بحسب الإعلام الاستكباريّ الّذي يعمل على الإيحاء بذلك، والّذي ينطلق أتباعه من المواقف الجهاديّة أو الاستشهاديّة الّتي يقوم بها الإسلاميّون في مواجهة الصّهيونيّة والاستكبار العالميّ أو الأنظمة الظّالمة في بلاد المسلمين، تماماً كما لو كان العنف هو الخصوصيَّة المميَّزة لنشاط الإسلاميّين، في حين أنّ هؤلاء لا يختلفون عن غيرهم في أساليب المواجهة الثّوريّة أو الدّفاعيّة أو الوقائيّة، فهم ليسوا بدعاً من النّاس في ذلك كلّه. ولعلّ المواجهات المعادية الّتي فرضت عليهم ضغوطاً قاسيةً، وحصاراً محكماً، واضطهاداً وحشيّاً، جعلتهم يقفون في الموقف الدّفاعيّ الّذي يعمل على حماية الوجود الإنساني الشّرعيّ لحياتهم العامّة والخاصّة.

ولعلّ النّاس يعرفون، من خلال حركة الإعلام السياسيّ اليوميّ، أنّ الإسلاميّين يعانون من إلغاء حريّاتهم السياسيّة، كمصادرة مواقعهم الجديدة في اللّعبة الديمقراطيّة، على غرار ما حدث لهم في الجزائر في الانتخابات الشّعبيّة الّتي حصلوا فيها على الثقة الشعبيّة الواسعة، حذراً من أن يتسلّموا زمام الحكم ليقيموا الدّولة الإسلاميّة، بحيث كان العنف عنف السّلطة، لا عنف الإسلاميّين الّذين اضطرّوا تحت تأثير الاعتقال والقتل والملاحقة الوحشيّة إلى الوقوف في موقع الدّفاع الشّرعيّ لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعيّ في البلد.

وهكذا نرى الإسلاميّين في بلد آخر، مثل مصر، يواجهون النّظام المصري بأسلوب العنف، على أساس أنّه فرض عليهم الابتعاد عن الحياة السياسيّة تحت العنوان الإسلاميّ، بحجَّة أنَّ الإسلام لا يمكن أن يكون واجهةً لحزبٍ سياسيّ، لأنّه يوحي بأنّ الخارجين عنه ليسوا مسلمين. وهي حجّةٌ لا معنى لها، لأنّ ذلك يعني أنّ علينا إلغاء الحزب الوطني من خلال الإيحاء بأنّ الّذين لا ينتمون إليه ليسوا وطنيّين. ولكنّها الأجهزة الاستكباريّة الكافرة الّتي تخشى من الإسلام السياسيّ الحركيّ على مصالحها، فتبادر إلى توكيل بعض الحاكمين للقيام بإلغاء حريّات الإسلاميّين السياسيّة تحت أيّ عنوانٍ وطنيٍّ أو قوميّ أو غير ذلك.

وكان العنوان الجديد الّذي حاول الإعلام الاستكباريّ الدّاخليّ أو الخارجيّ تحريكه ضدّ الإسلاميّين، هو عنوان «الأصوليّة»؛ هذه الكلمة الّتي تختزن في داخلها فكرة العنف كوسيلةٍ وحيدةٍ للحركة، وفكرة إلغاء الآخر، وذلك من خلال التّجربة التاريخيّة الغربيّة الّتي عاشَ فيها بعض النّاس في هذا الاتجاه. ومن هنا، انطلقت كلمات «التعصّب» و«التطرّف» و«الإرهاب» في أجواء العنوان الأصوليّ الّذي يوحي بذلك بطريقةٍ وبأخرى، ليستهلكها الجوّ السياسيّ الدّاخليّ والخارجيّ، كمصطلحاتٍ سياسيّةٍ يؤكّدها الصّراع بين الأنظمة والإسلاميّين، في الوقت الّذي يتحدّث الإعلام عن وجهة نظر الأنظمة بالطّريقة التي تشوّه فيها صورة هؤلاء الإسلاميّين، وتنسب إليهم الكثير من الأعمال البعيدة عن التّوازن الأخلاقيّ، كما لو كانوا وحوشاً تتحرّك ضدّ الثّقافة والعلم والمجتمع، في عمليّة حقدٍ دفينٍ ثائرٍ على كلّ عناصر التقدّم والرّقيّ والإبداع والنّظام المدنيّ الإنسانيّ العامّ!

ويتمّ ذلك بشكلٍ فنّيّ، في غياب الإمكانات الإعلاميّة الواسعة لدى الإسلاميّين في حركتهم، بالمستوى الّذي يتولّون فيه الدّفاع عن الواقع الّذي يعيشون فيه دائرة الصِّراع، الأمر الّذي جعل الأنظمة وحلفاءها الدّوليّين يمارسون القمع الأمنيّ والإعلاميّ والسّياسيّ ضدّ الحركة الإسلاميّة هنا أو هناك.

وهكذا نلاحظ أنّ الأجهزة المخابراتيّة الدّوليّة تعمل على توزيع الاتّهامات على الحركة الإسلاميّة في نطاق الدّولة، كالجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، متّهمةً إيّاها بدعم الإرهاب، وتشجيعها العنف الدّامي في هذا الموقع أو ذاك، الأمر الّذي قد يثير أمامها الكثير من المشاكل السّياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، كوسيلةٍ ضاغطةٍ لإبعاد القوّة الإسلاميّة في هذه الدّولة أو تلك عن دعم الحركات الإسلاميّة في العالم.

المشكلة الرّابعة: الحرب العالميّة الّتي تقودها دول الاستكبار العالميّ، وفي مقدّمها الولايات المتّحدة الأميركيّة ودول أوروبّا الغربيّة، ضدّ الإسلام الحركيّ، بحيث تعمل على محاصرة معتنقيه في مواقعهم ومواقفهم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بهدف الزّيادة في إضعافهم، وتقييد حركتهم، وإسقاط مصداقيّتهم، ومصادرة حريّاتهم، وتشويه صورتهم بمختلف الأساليب الإعلاميّة والسّياسيّة والأمنيّة والثّقافيّة والدّينيّة، حتى إنّها وظّفت بعض علماء المسلمين القريبين من مواقع الأنظمة، لإثارة الاتّهامات المختلفة، والكلمات المضلّلة، بحيث إنَّ الإنسان قد يلاحظ لدى بعضهم حقداً على الإسلاميّين يزيد على حقدهم على الملحدين، فهم قد يقبلون بعض الأعذار لأولئك، بينما لا يقبلون أيّ مبرّر للمؤمنين الحركيّين في تفسير بعض أوضاعهم أو ممارساتهم، وربّما يبتدعون بعض الفتاوى لحساب هذا الحاكم أو ذاك، أو هذه الدّولة أو تلك.

وفي ضوء هذا، تجد الحركات الإسلاميّة نفسها محاصرةً من الدّاخل والخارج، من المواقع الرّسميّة وبعض المواقع الدّينيّة، ما يجعلها في حال طوارئ متحرّكة في أكثر من اتّجاه، وعلى أكثر من صعيد.

هذه هي بعض المشاكل الصّعبة التي تواجه الحركات الإسلاميّة في الواقع الإسلاميّ العامّ، ولكنّها لا تعني فقدان التّوازن في الكثيرِ من الإيجابيّات، فقد نجدُ أنَّ هناك الكثير من الأبحاث والدّراسات الّتي تحاول تأصيل المفاهيم والخطوط الإسلاميّة على قاعدة الحاجات الإنسانيّة المعاصرة، وتعمل على مواجهة المشاكل الجديدة، والمتغيِّرات المتنوّعة، بالحلول والأفكار الّتي تقدّم إلى الإنسان المعاصر أكثر من جوابٍ على أكثر من علامة استفهام في مختلف القضايا والأوضاع، كما نلاحظ وجود أكثر من تجربةٍ مقنّنة تشريعيّاً في نظام الدّولة الإسلاميّة المعاصرة. ولكنّنا نشعر بضرورة تحقيق المزيد من ذلك، لأنّ هناك جوانب كثيرة من النّقص حول الإثارات الفكريّة والقانونيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ممّا قد نحتاج فيه إلى دراساتٍ فرديّةٍ أو جماعيّةٍ، من أجل تقديم الصّورة التفصيليّة للإسلام في مختلف جوانب الحياة، لإفساح المجال أمام الآخرين لكي يدخلوا في عمليّة مقارنةٍ بين الطّرح الإسلاميّ والطّروحات العلمانيّة الأخرى، فما لدينا من الدّراسات قد لا يكون كافياً لتلبية الحاجات الملحّة المتطوّرة في نطاق المتغيِّرات، مع التّقدير لكلّ الدّراسات القديمة والحديثة، والّتي قد تحتاج إلى تركيزٍ في الشّكل والمضمون بما يتوافق مع آفاق التّفكير المعاصر.
أمّا مسألة مشروع وحدة الحركة الإسلاميّة العالميّة، فقد يكون ذلك هو طموحنا الكبير، ولكنّه لا يزال محكوماً بالكثير من التّعقيدات المذهبيّة والإقليميّة والذاتيّة، الأمر الّذي يحتاج إلى الجهد الكبير، بحيث يتجاوز الظّروف الموضوعيّة المحيطة بالسّاحة الإسلاميّة.

لذلك، فقد يكون من الأفضل، أو من الواقعيّ، العمل على إيجاد حالةٍ من الاتّصالات الفكريّة والسياسيّة والإعلاميّة الّتي قد تُفسح في المجال للتّنسيق في نطاق خطّةٍ مشتركة، أو تصوّرٍ متقارب، كوسيلةٍ من وسائل اكتشاف الوحدة في كثيرٍ من الأفكار والبرامج والمناهج والأساليب، بحيث تتمثّل أمامهم الصّورة الإسلاميّة للمشروع الإسلاميّ، مع التنوّع في دائرة الوحدة، أو الوحدة في خطّ التنوّع، ما يسهّل للوحدة ظروفها الثّقافيّة في انتظار تكامل ظروفها النّفسيّة والواقعيّة، والوصول إلى مزيدٍ من التّعاطف والتّواصل والتّلاقي على أكثر من قضيّةٍ كبيرة.

وإنّنا نجد في لقاءات القيادات الإسلاميّة المتواترة من جهة، وفي وحدة القضايا المصيريّة المشتركة، وفي الآلام والتحدّيات القاسية الّتي تصيب هذا الجسم الإسلاميّ هنا، فيتفاعل معها الجسم الإسلاميّ هناك، نجد حركةً إيجابيّةً في اتجاه الانفتاح الواسع على الواقع الإسلاميّ كلّه، على مستوى العاطفة المتفاعلة مع النّتائج السلبيّة أو الإيجابيّة، والموقف الحاسم في نصرة الخطّ والموقع بطريقةٍ وبأخرى. وربّما كان على الإسلاميّين الحركيّين الاستفادة من هذه الإيجابيّات الرّوحيّة والفكريّة والعمليّة، لتوسيع التّجربة وتعميقها والإكثار من نماذجها، وإبعاد الأوضاع القلقة الّتي تحاول دائماً بفعل عناصر التخلّف، التّركيز على مواقع الخلاف بدلاً من مواقع اللّقاء.

أمّا مسألة الرّفق والعنف، فهي مسألة الأسلوب الإسلاميّ المتنوّع في نطاق الحكمة التي قد تفرض هذا في موقع، وذاك في موقعٍ آخر، فالرّفق هو الموقف الصّحيح في ظرفٍ معيّن، كما يكون العنف هو الخطّ المستقيم في ظرفٍ آخر، وهكذا تتحرّك مسألة الانفتاح والانغلاق في دراسةٍ عميقةٍ واسعةٍ للمصلحة الإسلاميّة العليا في القضايا المصيريّة الإسلاميّة الّتي قد تتوقّف على الاستفادة من اللّقاء بالآخرين في الموقع الّذي لا نجد فيه فرصةً ملائمةً للدّخول في المعركة وحدنا، مع توفّر الفرص الإيجابيّة للانتصار في المواجهة، من دون أيّة سلبيّاتٍ كبرى على مستوى المفاهيم الأصيلة للإسلام، وربّما لا نجد هناك أيّة إيجابيّةٍ في ذلك، لأنَّ الآخرين قد يستفيدون من الغطاء الإسلاميّ المرحليّ لحركتهم، في إضعاف الواقع الإسلاميّ من الدّاخل، أو تقوية مواقعهم من الخارج، الأمر الّذي يفرض الوقوف منهم موقفاً سلبيّاً، مع التّدقيق في الواقع الإسلاميّ، من حيث دراسة الظّروف الموضوعيّة للتحرّك في مواجهة التحدّيات.

ولنا ملاحظة على بعض المفردات الّتي يتحرّك بها بعض الإسلاميّين في خطّ المواجهة، ما قد يترك تأثيراته السّلبيّة على حضاريّة السّلوك الإسلاميّ وأخلاقيّته، ويشارك في تشويه الصّورة المشرقة للوجه الإسلاميّ الحركيّ، بحيث يتحوّل التحرّك إلى لونٍ من ألوان ردّ الفعل لأساليب الآخرين الّذين قد يعملون على جرّ الإسلاميّين المجاهدين إلى الوقوع في أخطارٍ مميتةٍ يفقدون فيها الثّقة الشّعبيّة، ولا سيّما إذا لم يكن هناك وضوحٌ في شرعيَّة هذا التصرّف أو ذاك، ليثير في نفوس المسلمين الطيّبين الشكّ في إسلاميّة الحركة على صعيد أسلوبها العمليّ.

إنّنا ندرك الضّرورات الميدانيّة الّتي قد تقود الإسلاميّين إلى بعض ألوان السّلوك الحادّ في خطّ المواجهة، من خلال الحصار القاسي الّذي تفرضه القوى المضادّة حولهم لتحشرهم في دائرةٍ مغلقة، ولكنّنا نتصوّر أنّ من الضّروريّ عدم الاستغراق في الواقع بشكلٍ معقّد أو مغلق، لأنّ ذلك قد يؤدّي بنا إلى خسارة السّاحة الإسلاميّة من جهة، والرأي العام الذي نريد أن نربح عاطفته نحو الإسلام وأهله من جهةٍ أخرى، في الوقت الّذي يعرف الجميع أنّ الأجهزة الاستكباريّة تتحرّك في خطّةٍ خبيثةٍ مدروسةٍ لإبعاد الحركة الإسلاميّة عن التعمّق في وجدان الأمّة، وفي وعي الرّأي العام العالميّ، لينطلق الموقف إلى حالةٍ مضادّة، في نطاق الواقع السّلبيّ تجاهها.

إنّ العالم يتحرّك بسرعةٍ في خطّ المتغيّرات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والأمنيّة، ما يؤدّي إلى التبدّل في كثيرٍ من المواقف والأوضاع العامّة، ويترك تأثيراته المتنوّعة على الواقع الإنسانيّ العام. ولا بدَّ للإسلام، في مجال الدّعوة والحركة والجهاد، من أن يدرس ذلك كلّه، ليواكب المسيرة الإنسانيّة في تحريك مفاهيمه وتصوّراته وشرائعه وأساليبه، بحيث لا يقف غريباً عن الذّهنيّة المعاصرة الجديدة، لأنّ علينا أن نفهم أنّ الذّهنيّة لغة خاصّة، كما أنّ الكلمات لغة خاصّة، فمن لا يفهم ذهنيّة العصر، لا يفهم خطابه، ولا يدرك طريقة التّفاهم مع أهله، ومن يفهم روحه، ويعش ذهنيّته، ويمتلك حسَّ المعاصرة، يملك الدّخول إليه من الباب الواسع، ليجد لديه المكان والموقع والامتداد.

ولنتذكّر الحديث الشّريف: «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم»، ولنعرف السرّ في حديث الله في القرآن الكريم عن الكتاب والحكمة، فالكتاب هو الخطّ العام للنّظريّة، والحكمة هي الخطّ الحركيّ في نطاق دراسة التّطبيق في خطّ الواقع العمليّ المتحرّك في آفاق المتغيّرات.

 

*المصدر: كتاب "الحركة الإسلاميّة: ما لها وما عليها"

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية