لبنان عالم منفتح
هذا عالمٌ لا بدَّ لنا من أن نصنعه، لأنَّ كلَّ جيلٍ يصنَعُ عالَمه، أن نصنع الإنسان الّذي يمكن أن يضيء ويتوهَّج وينفتح ويسمو ويبدِع، حتّى نشعر بأنَّ إنسانيّتنا تنتج، تتحرّك، تتغيّر، تغيّر الواقع نحو الأفضل...
هذا عالمٌ لا بدَّ لنا من أن نصنع فيه معنى القيمة، وأن نعيش رحابته، فلا نتقوقع في زاويةٍ هنا وزاويةٍ هناك، ولا نحرّك الحقد لينفتح على ما سمّيناه قداسة، حقد أتباع هذا الدّين على أتباع ذاك الدّين، أو حقد هذا الخطّ السّياسيّ على الخطّ السّياسيّ الآخر.
هذا عالمٌ لا بدَّ من أن نعيش رحابته، تماماً كرحابة الشّمس الّتي تطلع على البرِّ والفاجر، وكما هي رحابة الينبوع في عطائه عندما يتدفّق على الأرض الخصبة والجدبة. لا بدَّ لنا من أن نفكّر، لأنَّ كلَّ هذا الضّجيج الّذي يفترس كلّ طهر الهدوء في عقولنا وفي قلوبنا وفي حياتنا، يمنعنا من أن نفكّر... أن يكون فكرنا فكراً يعيش رحابة الحياة، ويخطّط لرحابة المستقبل.
إنتاج الحقد والعصبيّات
وفي ضوء ذلك، نلتقي بالمشاكل الّتي نواجهها، ولا أتحدَّث عن بلدٍ هنا أو بلدٍ هناك، حيث إنّنا عندما ندرس كلّ هذا الواقع في الشّرق كلّه، نجد أنَّ الخطر الدّاهم ينتج في داخل نفوسنا، فنحن نضع أدياننا في الواجهة ثم نغلقها على العصبيَّة، فيخيّل إلينا أنّنا كلّما تعصّبنا أكثر، كنّا متديّنين أكثر، وهذا بخلاف ما يقوله السيّد المسيح(ع): "الله المحبّة"، وما سمعناه من الرّسول الأعظم(ص) وهو يحدِّث عن الرّحمة والرّحماء. والرّحمة تلتقي بالمحبّة، لأنّك عندما ترحم إنساناً، فأنت تنطلق من محبَّتك له، لأنّ المحبّة تتفاعل مع الرّحمة. وإذا ما تجاوزنا ذلك، نجد أنَّ كلَّ الأديان تتحدّث عن الوحدة بالله والإنسان: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ}[آل عمران: 64].
نحن نلتقي بالله الواحد ولا نشرك به شيئاً، ونحن نلتقي بالإنسان الواحد الّذي لا يعلو فيه إنسانٌ على إنسان {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}[آل عمران: 64]، ولكنّنا نتحرّك في كلّ كهوف التخلّف الّذي أدمنّاه وورثناه، والّذي جعل كلّ واحد منّا يعمل على إلغاء الآخر.
ولو درسنا كلّ ما نحن فيه، سواء كنّا نتحرّك في واجهات دينيّة أو علمانيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة، فماذا نرى؟ نرى أنّك تلغي الإنسان الّذي لا يلتقي معك، لأنّك تختنق في دائرة الزّنزانة السياسيّة الدينيّة والاجتماعيّة الّتي حبست نفسك فيها. ولذلك فأنت تعلِّم جمهورك العصبيّة ضدّ الآخر وإلغاءه، وتحاول أن تشرِّع ذلك لهم بطريقةٍ دينيّةٍ أو علمانيّة أو وطنيّة أو قوميّة...
إنَّنا ننتج الحقد في المجتمع ولا ننفتح على أخلاقيَّة ما ننتمي إليه. عندما نجدُ أنّ كلّ الأديان تدعو إلى الحوار، فلماذا لا نتحاور، لماذا نتعصّب لأفكارنا، سواء تلك الّتي ورثناها عن آبائنا، أو تلك الّتي اخترناها بأنفسنا؟ لماذا لا يكون لدى كلّ منّا الاستعداد للتّنازل عن فكره لمصلحة فكرٍ آخر يمكن أن يثبت أنّه الحقّ؟ لماذا نحاول إثارة غرائز الجماهير؟ لماذا نربطهم بالغريزة؟! ألأنّ الكثيرين منّا يخافون من الجماهير عندما تعقل وعندما تفكّر، لأنّها تكتشف الحقيقة؟!
لذلك، نحن نحاول دائماً أن نثير الغرائز، ونخاف من أيّة مشكلةٍ سياسيّةٍ حتّى لو كانت عاديّةً، لأنّ الغرائز كلّها تتجمّع من أجل أن تصنع فتنةً هنا ومشكلةً هناك. نحن مسلمون ننفتح على كلّ قيم الإسلام، ومسيحيّون ننفتح على كلّ قيم المسيحيّة، وحضاريّون نحاول أن ننفتح على كلّ قيم الحضارة. لكن، لماذا تتحرّك كلّ هذه العناوين في مسجدٍ هنا ومسجدٍ هناك، وكنيسةٍ هنا وكنيسةٍ هناك، ونادٍ ثقافيّ هنا ونادٍ ثقافيّ هنالك؟ ولماذا لا يعيش النّاس الموضوعيّة والعقلانيّة عندما يختلفون دينيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً...
ولذلك، يجب أن نتحلَّى بميزة أخلاق المواطنة، فنحن في هذا البلد أو في أيِّ بلدٍ آخر مواطنون، لكلٍّ منّا موقع في بلده، ولد فيه وعاش، ولا بدّ من أن يعيش مع الآخر، فالأرض تنتج للجميع، والينابيع تسقي الجميع. وهكذا في الحياة، فلماذا لا نعيش أخلاق المواطنة، ونشعر بأنّنا نرتبط ببعضنا البعض ارتباطاً عضويّاً؟ لماذا يحاول كلّ واحدٍ منّا أن يقيس وطنه على عصبيّته، ويسقط الوطن، ونظلّ نتحاور عن الوفاق الوطنيّ والحريّة والاستقلال، وغيرها من العناوين الّتي فرّغناها من مضمونها أو أطلقنا كلّ الضّباب في داخلها؟
الوفاق الوطني في دائرة الطائفيّة
أيّها الأحبّة، لست في موقع نقديّ يحاول إثارة الاتهامات، ولكن لماذا نحن متعصّبون؟ لماذا نصنع سياسة التعصّب؟ ولماذا لا نحاول أن ننفتح على القواسم المشتركة فيما بيننا؟!
ففي المسألة السياسيّة، نجد أنّ كلّ السياسيّين من الموالين والمعارضين يجتمعون معاً في المجلس النيابي والنّوادي المتنوّعة والمناسبات الاجتماعيّة، فلماذا لا يتحدّثون مع بعضهم البعض عن الوطن؟! لماذا يبقى الحديث عن حقوق هذه الطّائفة وتلك الطّائفة بعيداً عن مسألة الوطن؟! لماذا لا نحدّد المصطلحات؟ فالكلّ يقول: إنّ مشكلتنا أنّه ليس هناك وفاقٌ وطنيّ، وأنا لا أفهم ما هو مصطلح الوفاق الوطني عند كلّ هؤلاء؟
إنّ النّاس تعيش مع بعضها البعض ـ وأنا لا أريد تبسيط المسألة ـ وتتعاون وتتحرّك وتتحالف...والسّؤال: ما هو الوفاق الوطني؟ هل أن يكون لهذه الطّائفة أو تلك أكثر من مدير عام؟ أو أن يكون للوطن، وهو لكلّ الطّوائف، مكانٌ في النّفوس؟! كيف يمكن للوطن أن يبني مصانعه، ويُمَكْنِن مزارعه، وينتج الحلول لمشاكله؟... إنّ الطّوائف تأخذ حقوقها عندما يأخذ الوطن حقّه، أمّا عندما تأخذ الطّوائف حقوقها في الدّائرة الضيّقة، فإنّ الوطن هو الّذي يخسر، وعند ذلك، سوف يتحوّل الوطن إلى أوطان.
لذلك نجد أنّ كلّ هذه المجالس المنتشرة هنا وهناك تمثّل ولايات، تحاول من خلالها كلّ طائفة أن تجمع سياسيّيها ورجال دينها ومثقّفيها ليبحثوا في منطقة لهم، ولا يجوز للسياسيّين الآخرين من الطائفة الأخرى أن يزحفوا إليها، حيث لا يبقى ساعتئذٍ شيء اسمه لبنان، حتى إنّ هذا الموقع امتدّ ليشمل المواقع الدّينيّة والقمم الرّوحيّة. ولا أدري هل هناك روحٌ تجتمع مع روحٍ على مستوى القمّة!! فكلّنا بشر، وليس هناك أشخاصٌ روحيّون، وأشخاص مادّيّون، {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر: 26-29]. كلّنا قبضة من الطّين، ونفخة من روح الله، فلو كانت عندنا قممٌ روحيّة، لحوّلت لبنان إلى معنًى للرّوح ينفذ إلى كلّ عقول النّاس وقلوبهم ليكونوا روحاً واحدةً، ولكنّها قممٌ، مع كلّ الاحترام للمقامات العالية، تعيش في الدّوائر الطائفيّة التي صنعت هذا وذاك.
أزماتنا أخلاقيّة
إنّ الأزمة عندنا ليست أزمةً اقتصاديّةً فحسب، بل هي أزمة أخلاق، فهل إنّ الهدر ينحصر في الجانب الاقتصاديّ فقط، وهكذا في أمور الفساد والإثراء غير المشروع واختزال كلّ منّا لطائفته!!
فمنذ الخمسينات ونحن نسمع عن قانون "من أين لك هذا؟" ولكن من يجرؤ على محاكمة من لا يحاكم. ولقد قالها رسول الله(ص): "إنما أهلك من كان قبلكم، أنّهم كانوا إذا سرق الشّريف تركوه، وإذا سرق الضّعيف أقاموا عليه الحدّ".
عندما تريد محاسبة مسؤول كبير، فإنّ الطّائفة تثور لغرائزيّتها، لأنّك تعرّضت لرمز الطّائفة هنا وهناك. لذلك فليُرجِعوا كلّ ما سرقوه من ثروة البلاد كلّها، وعند ذلك، لن نحتاج إلى مؤتمر أصدقاء لبنان، ولا إلى مؤتمر باريس(2).
الأمّة الحالمة
أيّها الأحبّة، استمعنا إلى البراعم الّذين تحدّثوا عن بائع الأحلام، وقد عشنا هذه الأحلام الخياليّة على مستوى الاستعمار الّذي سقط العرب تحت تأثيره، وهكذا عشنا أحلام الدّول الشّرقيّة والغربيّة الّتي صنعت أحلامها، واندفعت لتعيش صراع اليسار واليمين دون اقتناع، وانطلقنا مع المواقع الكبيرة، حتّى خيّل إلينا أنّها خشبة الخلاص، فلم نحصل إلا على أحلام خياليّة، ونحن أمّة تعيش الأحلام البعيدة عن الواقع.
أمّا الآن، فالمطلوب أن تُسرق أحلامنا دوليّاً بقيادة أمريكا، ومناطقيّاً بقيادة إسرائيل، وأن لا نحلم بالقوّة ولا نفكّر فيها، بل أن نصطدم بالواقع، ونسقط تحت تأثير القوّة السّاحقة!
فما هي مشكلة فلسطين الآن؟ المشكلة عربيّاً وأوروبيّاً وأمريكيّاً وروسيّاً هي في أن يقتنع الفلسطينيّون بأنّهم لا يستطيعون الحصول من خلال الانتفاضة على أيّة نتيجة في معنى التّحرير، في ظلّ صمتٍ عربيّ ودوليّ، وممارسةٍ قصوى للضّغط السياسيّ والأمنيّ والإعلاميّ...
وفي ظلّ هذا الصّمت العربيّ، سمعنا في هذا اليوم تصريحاً لكوفي أنان، وممثّل الاتحاد الأوروبي والرّوسي والأميركي، بإدانة عمليّة الخليل الّتي قُتِل فيها عدد من العسكريّين الصّهاينة، واعتبارها عمليّةً وحشيّةً إرهابيّةً... بينما لم نسمع تصريحاً واحداً في القتل والحصار والدّمار الّذي يمارسه الاحتلال الصّهيوني بحقّ الشّعب الفلسطينيّ، بأطفاله ونسائه وشيوخه يوميّاً. فحين يقوم المجاهدون في الانتفاضة بعمليّةٍ، يقف العالم ليتابع ماذا تقرّر إسرائيل أو الحكومة الصّهيونيّة من ردود أفعالٍ على هذه العمليّة، لكن عندما تقوم إسرائيل بكلّ الأعمال الإرهابيّة، فلا استنكار لذلك... إنّهم يسرقون أحلامنا.
أمريكا تمارس الإرهاب
وعندما نواجه المسألة على المستوى الدّوليّ، نجد أنّ أمريكا الّتي كانت تمارس الإرهاب ما قبل 11 أيلول، زادت من حدّته بعد هذا التّاريخ. أمريكا هذه وقفت أمام العالم لتهدّد العرب والمسلمين تحت عنوان نزع أسلحة الدّمار الشّامل منهم، ومن اللافت حديث رئيس مصر في مناقشة أسلحة الدّمار الشّامل في مجلس الأمن والّتي تملكها إسرائيل، ولكن، هل يجرؤ حاكم عربيّ أن يتقدّم بطلبٍ إلى مجلس الأمن لمناقشة هذا الموضوع؟ إنّه كلام للاستهلاك.
علينا أن ننطلق لحماية مستقبلنا، لأنّه يُسرق قبل ولادته، فالقضيّة هي أنّه مطلوب منّا أن نسقط تحت تأثير الصّفقات الّتي تتمّ بين الكبار. فما هي خلفيّة القرار 1441؟! وما هي خلفيّة اللّجنة الرباعيّة؟! لقد شكّلت أمريكا هذه اللّجنة حتى تضبط حركة الاتحاد الأوروبي الّذي كان يتحرّك بشكل يملك فيه بعض الحرية في استنكار بعض أعمال إسرائيل، ولذلك لم نسمع أصواتهم كما في السّابق.
القوم يعقدون الصّفقات ويخطّطون، ونحن مع هذا البلد الصّغير بحجمه، والّذي يمكن أن يكون كبيراً بدوره، لا نخطّط. فتعالوا، أحزاباً وطوائف ومجتمعات، لنلتقي ولو في هذه المرحلة ونصنع شيئاً للمنطقة، تعالوا لنعيد هذا البلد مركزاً للإشعاع الفكريّ، وموقعاً متقدّماً للتّوازن السياسيّ، ونقدّم تجربة هذا النّوع من التّكامل بين الأديان والمذاهب. فهل نفكر بهذه الطّريقة؟! ارجعوا إلى كلّ مواقعكم واطردوا الشخصانيّة والعصبيّة، فهل يمكن لنا أن نتجاوز هذه المرحلة الصّعبة جدّاً على كلّ المستويات، أو أنّنا نعيش في دوّامةٍ يسعى فيه التنّين الأميركي لأكلنا، بينما ننشغل بالعسل الطّائفيّ والحزبيّ والشّخصيّ، وجرذ إسرائيل يقرض كلّ أغصان وحدتنا وأوطاننا؟!
*
محاضرة في بلدة "علي النّهري"، البقاع ، لبنان 1425هـ 2003 م