لا يكتفي الإسلام بإثارة الأمل في نفس الإنسان من خلال الإيمان فحسب، لأنَّ ذلك
قد يفقد أثره ـــ في بعض الحالات ـــ ما لم يرتكز على أساس واقعيّ ملموس، فإنَّ
النّفس عادةً تتأثّر بالواقع المحسوس أكثر ممّا تتأثّر بالفكر النظري.
ولهذا، حاول القرآن الكريم أن يربط الإنسان بالإيمان بالغيب من خلال التفكير في
أسرار الحياة ودقائقها التي تربط الإنسان بالينبوع الخالد للإيمان. وعلى ضوء ذلك،
اتّخذ القرآن الكريم أسلوباً واقعياً في إثارة روح الأمل في الإنسان، انطلاقاً من
السُنّة الطبيعية التي أجرى الله عليها الحياة، من أنَّ الشدّة يعقبها الفرج،
والعسر يتبعه اليسر، فالحياة تحتضن المشاكل كما تحتضن الحلول، وتفرض الخسارة كما
تفرض الرّبح، وتزرع الابتسامات كما تهرق الدّموع.
وإذا لم يكن في الحياة حالة نهائيّة، فما معنى أن تتجمَّد في فكرك على هذه الحالة
وتغلق بصرك عن الحالات الأخرى.
إنَّك ـــ بذلك ـــ تنحرف عن التصوُّر الصّحيح للحياة، فتعطي للحياة غير معناها،
وتتّجه بها في غير طريقها الطّبيعي.
فإذا عصرتك ظروف الحياة الخانقة، وأحكمت الطّوق في عنقك حتّى الاختناق، فلا تتصوَّر
خلود هذه الظروف الصّعبة، بل التفت إلى حياتك الماضية أو حياة الآخرين، لتجد أكثر
من شاهد على أنَّ الظروف الصّعبة تتغيَّر إلى ظروف طيِّعة سهلة تمحو عن النّفس كلّ
آثار الصّعوبة.
وعلى ضوء هذا، فما الّذي يجعل من ظروفك القاسية الحالية بدعاً من الظروف, وما الذي
يغيِّر من حركة الحياة التي لا تستقرّ على حال؟
إنَّ القرآن، وهو يعرض للإنسان صور الحياة المتحرّكة في أكثر من اتّجاه، يحاول أن
يغيِّر نظرتك الضيّقة التي تتجمَّد في حدود اللَّحظة الحاضرة، لتشعر ـــ من خلال
ذلك ـــ بأنّه لا مانع من أن يتبدَّل الحاضر ليعيش المستقبل مع الخير كما عاش
الماضي معه ـــ في تجاربك الذاتيّة الماضية، أو تلتفت إلى حياة الآخرين الذين عاشوا
في ظروف مماثلة لظروفك، ومشاكل مشابهة لمشاكلك، ثمّ عادوا وتغلَّبوا على المشكلة
بأفضل الحلول التي اهتدوا إليها من خلال البحث والصّبر الإيجابي الواعي، وتمرَّدوا
على الظروف بإصرار المترقِّب للفرج، فانطلقوا مع الظروف الجديدة التي استطاعت أن
تخرجهم من الواقع الخانق إلى الواقع المنفتح على الحياة الواسعة بأرحب مجالاتها
ومنطلقاتها.
وقد نلمح هذه الفكرة في الآيات الكريمة التي تتحدَّث عن الإنسان الذي ييأس عندما
تنزع منه مظاهر رحمة الله، وآثار نعمة الله، دون أن يلتفت إلى أنَّ الذي نزع الرحمة
بعد أن وهبها، قادرٌ على أن يرجعها مرّة ثانية كما أرجعها في حالات مماثلة في حياة
الإنسان وحياة الآخرين.
ولنقرأ الآيات الكريمة:
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ
لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ}[هود: 9].
{لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ
قَنُوطٌ}[فصّلت: 49].
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوس}[الإسراء: 83].
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}[الرّوم: 36].
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ
مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْر}[الطّلاق: 7].
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْر}[الشّرح: 5 ـــ
6].
فهي تشجب في الإنسان يأسه وقنوطه أمام البلاء، وتدعوه إلى أن ينظر إلى الحياة نظرة
واقعيّة، فلا تطغيه النّعمة، ولا تصرعه النّقمة، بل يواجه الحالتين بروح المؤمن
الواعي الواثق بالفرج بعد الشدّة، والعارف بأنَّ الحياة لن تدوم على حالٍ واحدة.
وخلاصة الحديث: إنَّ اليأس من خلال ما قدَّمناه، موقف غير إسلاميّ، لأنّه يتنافى مع
الجذور الأساسيّة لعقيدة الإيمان بالله من جهة، ويتعارض مع النّظرة الواقعيّة التي
رسمها الإسلام للحياة.
*من كتاب "مفاهيم إسلاميّة عامّة".