أدار النبيّ (ص) العلاقة بين النبوَّة والبشريّة، كما صوَّرها الله في القرآن
الكريم، في أسلوبين:
الأسلوب الأوَّل: محاولة عرض الفكرة من خلال تاريخ النبوّات، وكيف كان الحوار يدور
في حياة الأنبياء السّابقين مع خصوم الرّسالات.
الأسلوب الثّاني: محاولة إدارة الحوار ـــ بشكل مستقلّ ـــ حول الفكرة الّتي
تتحدَّى النبوَّة من خلال هذا التصوّر المنحرف عن شخصه.
ونواجه ـــ في الأسلوب الأوَّل ـــ الآيات التي تتحدَّث عن الأنبياء السابقين الذين
كانوا محلّ احترام لدى المجتمع العربي الذي ولدت فيه الرسالة، ولا مانع من فرضية
أنّهم كانوا يؤمنون بهم كأنبياء. فقد تحدّثت هذه الآيات عن رفض الأمم السابقة
لهؤلاء الأنبياء، من خلال صفة البشرية التي كانت لا تنسجم مع صفة النبوّة في زعمهم؛
ولكنّ النبوّة كانت تفرض نفسها في نهاية المطاف، من خلال مواقفها ومعاجزها الخارقة
للعادة التي قام بها أولئك الأنبياء، ما يوجب تحطيم الاعتقاد الخاطئ الذي كانوا
يحملونه في أفكارهم.
ففي حديث القرآن عن نوح وقومه، يقول الله تعالى:
{فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً
مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ
الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ *
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي
رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا
كَارِهُونَ}[هود: ٢٧ - ٢٨].
وفي آية أخرى، تتحدّث عن أسلوب نوح ـــ في حواره معهم ـــ حول تجريد مفهوم النبوّة
في واقعها الأصيل من فكرة القدرات الخارقة التي يتمتّع بها النبيّ، أو صفة
الملائكيّة غير البشريّة:
{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا
أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ...}[الأنعام: ٥٠].
وتصرّح بعض الآيات بفكرة النبيّ ـــ الملك التي كانوا يزعمونها كأساس لرفض دعوته:
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ
مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}[المؤمنون: ٢٤].
وهكذا، يطرح القرآن قصّة نوح وقومه، ليؤكّد في أكثر من آية، من خلال الأدلّة التي
انطلقت فيها رسالته، خطأ الفكرة التي كان يزعمها قومه من التّنافي بين البشريّة
والرسالة.
وتمتدّ القضيّة إلى بقية الأنبياء، كما حدَّثنا بذلك عن قصّة هود وصالح، فقد جاء في
قوله تعالى عن قوم هود: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا
هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ
مِمَّا تَشْرَبُونَ}[المؤمنون: ٣٣].
وقال تعالى في قصّة صالح وقومه: {قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ *
مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ}[الشعراء: ١٥٣ – ١٥٤].
وقال تعالى في قصّة شعيب: {وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ
لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}[الشّعراء: ١٨٦].
ويلخّص القرآن الكريم الجانب التاريخيّ لرفض فكرة التنافي بين البشرية والنبوّة،
ليشمل تاريخ الأنبياء السّابقين، فيقرِّر أنّهم كانوا ـــ بأجمعهم ـــ بشراً لهم كلّ
صفات البشر الجسديّة، في كلّ ما يتضمّنه ذلك من ضعف وقوّة، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ
الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا
يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ}[الأنبياء: ٧ – ٨].
*من كتاب "الحوار في القرآن".