كتابات
01/02/2021

الثَّورة الإسلاميَّة دروسٌ وَعِبَرٌ

الثَّورة الإسلاميَّة دروسٌ وَعِبَرٌ

للحديث عن الثَّورة الإسلاميَّة في حياتنا طعمُ الحلمِ الكبيرِ الَّذي عشنا العمرَ من أجله، فكيف بنا ونحن نشاهده يطبع خطواته على الدَّرب. ولكنَّنا لا نريد أن نتحدَّث عنه بلغة الخيال والحلم، بل من حركة الحلم في الواقع، في عمليَّة تأمُّلٍ وتقويمٍ، فقد انطلقت الخطوات العمليَّة لتطرح الفكرة من خلال الشِّعار، وَتُحَرِّكَ الشِّعارَ في مشاعر الأُمَّة، فتحوَّلت الأُمَّةُ من خلال ذلك الفكر والشُّعور، إلى طاقةٍ تتحفَّز لِتُفَجِّرَ الواقعَ من خلال الإسلام، في كلمات الله ووحيه.

إنَّنا ـ هنا ـ من أجل أن نتعلَّم ونأخذ العبرة؛ لأنَّها تُمثِّل التَّجربة الإسلاميَّة الرَّائدة في الواقع المعاصر، فقد مرَّ زمانٌ طويلٌ انطلق فيه المتفلسفون، يفلسفون فيه الإسلام في نطاق المفهوم الدِّينيِّ على الطَّريقة الأوروبيَّة، فهو لا يزيد عن أن يكون عباداتٍ وطقوسًا تقليديَّةً، وأخلاقيَّاتٍ مثاليَّةً، قد تمنح الرَّاحةَ للفرد وللمجتمع من ناحيةٍ روحيَّةٍ، ولكنَّها لا تستطيع أن تمنحه القاعدة الثَّابتة الَّتي تتحرَّك منها قضايا الحكم والسِّياسة والاقتصاد والاجتماع. وبدأ بعض هؤلاء يطرح فكرة الحكم في الإسلام، كفكرةٍ لا أساس لها في المصادر الإسلاميَّة، ويرى ـ من خلال ذلك ـ أنَّه لا معنى للتَّحرُّك على أساس فكرة الدَّولة كإطارٍ، وتشريعٍ، وتخطيطٍ للاقتصاد وللسِّياسة والاجتماع، ولغير ذلك ممَّا تحتاجه الحياة في مسيرتها المتقدِّمة إلى الأمام.

ووقف المفكِّرون الإسلاميُّون يطرحون الفكرة الإسلاميَّة الَّتي تدعو إلى الإسلام كنظامٍ متكاملٍ، لا يترك جانبًا من جوانب الحياة إلَّا ولله فيه حكمٌ وتشريعٌ ومفهومٌ. وتحرَّكت التَّيَّارات الإسلاميَّة لتفرض هذا الفكر على الواقع، من خلال المعاناة، والممارسة العمليَّة الدَّامية في نطاق الجهاد. وانطلق الصِّراع في كلِّ اتِّجاهٍ يُقَدِّمُ الشُّهداء في كلِّ مكانٍ، في أكثر من موقعٍ. ولكنَّ الفكرة بقيت في جوِّ الفكرة، والتَّحرُّك المحدود الَّذي لا يزال يُفتِّش في الأُفق عن أرضٍ صلبةٍ يقف عليها الواقفون، ويجاهد من قاعدتها المجاهدون.

وجاءت الثَّورة الإسلاميَّة كالزِّلزال، لِتُلْغِيَ كلَّ ما استحدثه الصِّراع من أساليب الرَّفض والتَّأييد، لِتُجَسِّدَ الفكرةَ كواقعٍ حيٍّ.

إنَّه الإسلام يتقدَّمُ يحكمُ بمفاهيمه، وتشريعاته، ووسائله، وأهدافه.

وبذلك عاد الحكم الإسلاميُّ حقيقةً، بعد أن كان مجرَّدَ حلمِ فكرةٍ، أو فكرةً تعيش في متاهات الأحلام.

فماذا نستوحي من ذلك؟

إنَّنا نُريد أن نُثير في هذا الحديث عدَّة نقاطٍ، نحاول من خلالها استجلاء بعض جوانب الواقع، من خلال حركة هذه الثَّورة:

أسلوبٌ جديدٌ في التحرّك

إنَّ الثَّورة الإسلاميَّة الإيرانيَّة طرحت أسلوبًا جديدًا في التَّحرُّك الإسلاميِّ من أجل الوصول إلى الهدف، فقد انطلقت من واقع الحياة الإسلاميَّة الممتدَّة في كلِّ قطاعات الأُمَّة، فلم تحبس نفسها في نطاق طبقةٍ معيَّنةٍ، أو فئةٍ خاصَّةٍ، بل كانت ثورة كلِّ المستضعفين في الأُمَّة، سواءٌ منهم الَّذين عاشوا الاستضعاف في لقمة العيش، أو الَّذين عاشوا الاستضعاف في الواقع السِّياسيِّ والتَّربويِّ والاقتصاديِّ، ووقعوا في قبضة الاضطهاد الإمبراطوريِّ الَّذي عمل على إبعاد الأُمَّة عن عقيدتها، وتاريخها الإسلاميِّ، وهويَّتها الإسلاميَّة، بمختلف الأساليب التَّعسُّفيَّة والتَّحريفيَّة، وبذلك استطاعت أن تُبعد كلَّ الشَّخصيَّات المصطنعة عن شخصيَّة الثَّورة، وطرحت كلَّ الفلسفات الَّتي كانت تحبس الفكرَ الثَّوريَّ في قوالب معيَّنةٍ تريد أن تفرضها على الواقع، فجاءت هذه الثَّورة الإسلاميَّة لِتُحَطّمَ أسوارَ الواقع بأساليبَ جديدةٍ لا تخضع لأيِّ مصطلحٍ من هذه المصطلحات المألوفة لدى الثَّوريِّين الآخرين، وبذلك استطاعت أن تعطيَ لنفسها هويَّتها الحقيقيَّةَ المنطلقةَ من تحريك المصطلح القرآنيِّ في واقع النَّاس، كدليلٍ على واقعيَّة المصطلحات القرآنيَّة، ومرونتها العمليَّة، فكانت حدثًا جديدًا في تاريخ الثَّورة.

أهداف الثّورة

إنَّ الثَّورة الإسلاميَّة تحرَّكت في البداية من موقع الهدف المرحليِّ المحدَّد، وهو إسقاط نظام الشَّاه على أساس الشِّعارات الإسلاميَّة، لِتُحَقِّقَ من ذلك هدفين:

أحدهما: تربية القاعدة المسلمة على أن تتحرَّك في اتِّجاه الثَّورة من خلال المشكلة العميقة الَّتي تلامس أعماق الأُمَّة في مشاعرها القلقة.

ثانيهما: تجميع الفئات الأخرى الَّتي انفصلت عن جوِّ التَّفكير الإسلاميِّ، بالسَّير مع الخطوط الأخرى للتَّفكير؛ بحجَّة أنَّ الواقعَ الدِّينيَّ لا يُحقِّق أهدافَ الجماهير في الحرِّيَّة والاستقلال والعدالة، الأمر الَّذي يجعل من التفافها حول الشِّعار الإسلاميِّ في تغيير الواقع أساسًا لتبديلِ مسار التَّفكير لديهم، من موقع السَّاحة المتحرِّكة في خطِّ الثَّورة.

وفي هذا الجوِّ، بدأت عمليَّة تفجير الحسِّ الثَّوريِّ لدى الإنسان المسلم في الدَّاخل، بالأسلوب العمليِّ البسيط، فلم تخض معه الأحاديث النَّظريَّة الَّتي تطرح الفكرَ ونقيضه لتقوم بعمليَّة التَّوازن بعد ذلك، فتصل من خلاله إلى تحديد الموقف، كما تفعل بعض الحركات الثَّوريَّة السِّياسيَّة الَّتي تُغرق النَّاسَ بالنَّظريات المعقَّدة الَّتي تقود الذِّهن إلى ساحةٍ تختلط فيها المعمَّيات والألغاز النَّظريَّة الَّتي تُبعد الإنسانَ عن الوضوح في الرُّؤية، والصَّفاء في الشُّعور؛ لأنَّ مثل هذا الأسلوب قد يُعطِّل التَّحرُّك عن قوَّة الاندفاع الشُّعوريِّ الَّذي يُحرِّك الواقع، وقد يُفسح المجالَ لصراعاتٍ نظريَّةٍ في سائر مجالات العمل، ما قد يؤدِّي إلى الدُّخول في متاهاتٍ تجريديَّةٍ من قضايا النَّظريَّة والتَّطبيق.

لقد رفضت قيادة الثَّورة هذا الأسلوبَ النَّظريَّ، وفضَّلت الأسلوبَ الَّذي يتَّخذ من واقع الممارسة والمعاناة أساسًا لطرح النَّظريَّة، من خلال حركتها في الواقع التَّطبيقيِّ، وتوجيهِ الأُمَّة إلى استذكار مفاهيم الإسلام في الظُّلم والعدل والطُّغيان والتَّغيير، في عمق الظُّلم الَّذي يعيشونه في داخل حياتهم اليوميَّة، وفي وحشيَّة الطُّغيان الَّذي يجثم بثقله على كلِّ مقدَّرات الأُمَّة، ليكون ذلك التَّصوُّر للظُّلم والطُّغيان منطلقًا للتَّصوُّر البديل من ذلك في تغيير الواقع على أساسٍ من العدل، بعيدًا من كلِّ النَّظريَّات الفلسفيَّة حول تلك المفاهيم. ومن الطَّبيعيِّ أنَّ هناك فرقًا بين أن تطرح المفهوم من خلال الواقع، وبين أن تطرح الواقع من خلال المفهوم، فإنَّ الأوَّل يلامس الإحساس، بينما يتَّصل الثَّاني بالتَّصوُّر.

وقد ساهم ذلك في وجود جوٍّ جديدٍ لاستنطاق الآيات القرآنيَّة الكريمة في كلِّ موقعٍ من مواقع الجهاد ضدَّ الظُّلم، وفي طرح الشِّعارات الإسلاميَّة الأساسيَّة، كشعار "الله أكبر"، لتحمل في داخلها كلَّ الانفعالات والمشاعر والأفكار والتَّحدِّيات المطروحة على صعيد الواقع المُعاش للنَّاس، الأمر الَّذي يُساهم في تحويل تلك الآيات والشِّعارات إلى طاقةٍ تنفجر داخل الإنسان، لِتُفَجِّرَ الثَّورةَ من حوله.

وكان لجمهور الثَّورة قوُّته الرُّوحيَّة المندفعة الممتدَّة الَّتي جعلته ملتصقًا بمفاهيمه الدِّينيَّة المرتبطة بالشِّعارات، ما جعل التَّيَّارات الأخرى تتجمَّع حولها، من أجل أن تركب الموجة، أو تقودها، وسارت الثَّورة معها في عمليَّة وعيٍ وحذرٍ، حتَّى إذا استطاعت أن تستوعب كلَّ السَّاحة، وقفت أمام تلك التَّيَّارات في موقفٍ حاسمٍ لا يبتعد عن المرونة العمليَّة، فهو في الوقت الَّذي لا يمنع تلك التَّيَّارات أن تتحرَّك معه في السَّاحة، كان يعمل على أن يُحدِّد الفواصلَ الفكريَّة والعمليَّة الَّتي تفصل الحركة الإسلاميَّة عن غيرها، لتتحدَّد هويَّة الحركة من ناحيةٍ فكريَّةٍ وسياسيَّةٍ في مستوى الأسلوب، وفي طبيعة الحركة. وفي ضوء ذلك، كان الصِّراع الَّذي تخوضه الحركة الإسلاميَّة ضدَّ التَّيَّارات المنحرفة، أو اللَّاإسلاميَّة، لا يُؤخِّر سيرَ المعركة ضدَّ الظُّلم والطُّغيان.

وبدا الهدفُ المرحليُّ يغري القوى المضادَّة أن تقوم بحركة التفافٍ ضدَّ الثَّورة من داخل الهدف، من أجل تفريغها من قوَّة الاندفاع الشَّعبيَّة، فطرحت فكرة البديل من الشَّاه، مع إبقاء طبيعة النِّظام الإمبراطوريِّ، وانطلقت الدُّول الاستعماريَّة لِتُبارك هذا الهدف الَّذي يُحوِّل الموقفَ إلى انقلابٍ عاديٍّ يستجيب لرغبات الاستعمار في تغيير الوجوه الَّتي استهلكها الزَّمن، وتجاوزتها الأوضاع.

ولكنَّ الثَّورة [صمدت] في أشدِّ الظُّروف قساوةً، حتَّى بدأ أصدقاؤها يشكُّون في حكمة القيادة وواقعيَّتها، وفي مدى وعيها للظُّروف العالميَّة والدَّاخليَّة المحيطة بالهدف، وبدأ الشِّعار الَّذي فرض نفسه من خلال الهدف المرحليِّ الجديد، وهو إسقاط النِّظام الملكيِّ بالكامل بكلِّ مظاهره، حتَّى إنَّ قيادة الثَّورة رفضت الاجتماع بأيِّ مسؤولٍ من النِّظام إلَّا بعد إعلان براءته واستقالته منه. وهكذا فرضت الثَّورة نفسها على العالم، وحقَّقت الهدفَ المرحليَّ الجديد، وسقط النِّظامُ الملكيُّ.

وبدأ الكثيرون من أصحاب التَّيَّارات المنحرفة غير الإسلاميَّة يعملون على تطويق الثَّورة الإسلاميَّة بمختلف أساليب اللَّفِّ والدَّوران، بطرح فكرة الدِّيمقراطيَّة كصفةٍ للإسلام تارةً، وبالتَّحدُّث عن حرِّيَّة الشَّعب في اختيار النِّظام الَّذي يُمثِّل الإسلام أو غيره أخرى، وثارت الضَّوضاء من كلِّ جانبٍ، وتحرَّكت هيئات الدِّفاع عن الحرِّيَّات في العالم، وبدأ الاستعمار يلبس قناع الدِّفاع عن حقوق الإنسان، وعن حقِّه في الانطلاق مع الحياة في أجواءٍ حضاريَّةٍ جديدةٍ.

ورفضت القيادة الدُّخول في لعبة الألغام، وفي الرِّمال المتحرِّكة للسَّاحة السِّياسيَّة، وبدأت الرَّفضَ للسَّير بعيدًا في متاهات المصطلحات الغريبة الَّتي تُربك المفاهيمَ الأساسيَّة للإنسان المسلم، في عمليَّة التَّوفيق بينها وبين تلك المصطلحات في أسلوبٍ متكلِّفٍ، وطرحت الإسلامَ على الشَّعب من دون الدُّخول في تفاصيل البدائل الَّذي يُعطي لها شرعيَّة الموقف، فكانت القضيَّة على النَّحو التَّالي الحاسم: إمَّا الإسلام، وإمَّا غيره. وكان الشَّعب يفهم أنَّ الإسلام هو الَّذي انتصر على الطُّغيان بشعاراته المضمَّخة بدماء الشَّهادة، وروحيَّة التَّضحية الَّتي تحرَّكت في السَّاحة بشكلٍ لا مثيلَ له. وكانت القيادة تجاهد بكلِّ قوَّةٍ وإصرارٍ في أن تصل بالشَّعب إلى الهدف الأساسيّ، وهو إقامة النِّظام الإسلاميِّ على أنقاض النِّظام الإمبراطوريِّ المنحرف. وقال الشَّعب نعم للإسلام، وسقطت كلُّ الأقنعة، وعاشت الثَّورة الإسلاميَّة من أجل أن تبنيَ حكم الإسلام، وعادت الأُمَّة تحمل هاجسَ الحكم الإسلاميِّ كما يحمل الإنسان في قلبه حلم الأحلام.

هذه هي بعض ملامح الصُّورة عن الأساليب التَّدريجيَّة المرحليَّة في الوصول إلى الهدف، بطريقةٍ واقعيَّةٍ عمليَّةٍ تربط النَّاس بالهدف من حيث لا يحتسبون، من خلال تركيز المشاعر بشكلٍ منظَّمٍ متكاملٍ.

وربَّما كان هذا الأسلوب شيئًا جديدًا في التَّصوُّر الإسلاميِّ للعمل، فيما يطرحه المنظِّرون الإسلاميُّون الَّذين يتحرَّكون على أساس تقديم الواجهة الإسلاميَّة للسَّاحة بكلِّ تفاصيلها الفكريَّة والعمليَّة. وقد نحتاج أن نقف أمامه وقفة تأمُّلٍ عميقٍ واسعٍ، لنأخذ الدَّرس الَّذي يمنح الحركات الإسلاميَّة مرونةً أكثر على صعيد حركة الإسلام؛ من أجل أن لا تتعطَّل المسيرة في مشاكل الخلافات النَّظريَّة المعقَّدة. وقد يجب علينا ـ في هذا المجال ـ أن نتوقَّف طويلًا أمام عنصر المرجعيَّة، ودورها الكبير الفاعل في الرَّبط العضويِّ بين القيادة والأُمَّة، في أجواء القداسة الرُّوحيَّة من جهةٍ، والشُّعور بالانسجام مع خطِّ المسؤوليَّة الشَّرعيَّة المباشر لدى الأُمَّة من جهةٍ أخرى؛ فإنَّ للمرجعيَّة قداسةً في نفوس المقلِّدين والأتباع، على أساس تمثيلها للإمام المعصوم في القيادة وفي الفتوى الَّتي تجعل من كلِّ كلمةٍ تصدر منها قانونًا شرعيًّا يُبرِّر لها مواقفها أمام الله في يوم الحساب، ويجعل من قضيَّة الاندفاع في الجهاد بأوامرها معنًى روحيًّا يتَّصل بمعنى الشَّهادة.

وقد يجب أن نتوقَّف في استلهام الدَّرس العمليِّ أمام التَّعاون بين الثَّورة وبين الفئات الأخرى الَّتي تحمل مفهومًا مضادًّا في مجال العمل، لنجد أنَّه قد يتَّخذ عنصرَ الضَّرورة في بعض الحالات، كما قد يُمثِّل عنصرَ الخطر في الحالات الأخرى، فإذا كانت الثَّورة قويَّةً بقيادتها، وبسعة جماهيرها، بحيث لا تتأثَّر بالقوى الأخرى في طبيعة خطواتها وعلاقتها بالهدف، فإنَّ اللِّقاء يكون ضروريًّا لمنع الخلافات الدَّاخليَّة من أن تتحرَّك في السَّاحة كعنصرٍ تفجيريٍّ؛ أمَّا إذا كانت الثَّورة لا تملك القوَّة الذَّاتيَّة الَّتي تمنع من غلبة القوى الأخرى وسيطرتها على السَّاحة، فإنَّ التَّعاون يتحوَّل إلى عنصرٍ من عناصر احتواء الثَّورة من خلال قوى الانحراف باسم التَّحالف والتَّعاون، كما كان الكثيرون ممَّن لم ينفذوا إلى واقع الثَّورة في عمقها وامتدادها الرُّوحيِّ والفكريِّ في حياة الأُمَّة، يخافون عليها من أن تقع فريسةَ التَّيَّارات الأخرى غير الإسلاميَّة، وكانوا يُهَوِّلون على الحركة الإسلاميَّة بأنَّها تترك المجال للتَّيَّارات الكافرة بأن تكون البديل للنِّظام المنحرف الَّذي قد يحمل الظُّلم في داخله، ولكنَّه لا يعيش الكفر الصَّريح في سماته الدَّاخليَّة والخارجيَّة، ولكنَّ ذلك كان ناشئًا من السَّطحيَّة المُغرقة في هذا الاتِّجاه.

المدُّ الثَّقافيُّ الإسلاميُّ

لعلَّ من أفضل الدُّروس العمليَّة للثَّورة الإسلاميَّة في إيران، أنَّ القيادة الإسلاميَّة قد وضعت خطَّةً طويلةَ الأمد من أجل الامتداد الثَّقافيِّ الإسلاميِّ في حياة الأُمَّة، فقد عمل المرشدون من العلماء وطلَّاب العلوم الدِّينيَّة على تحويل المساجد إلى حركةٍ دائمةٍ للعمل الإسلاميِّ على الطَّريقة المعروفة، من توفير البرامج الَّتي تشتمل على تفسير القرآن، وتعليم الأحكام الشَّرعيَّة، ومعالجة قضايا الانحراف بالوعظ والإرشاد والتَّوجيه، بالأساليب الَّتي تخاطب العقل والعاطفة، حتَّى تحوَّلت الأُمَّة ـ بشكلٍ عامٍّ ـ إلى أُمَّةٍ ملتزمةٍ بالحكم الشَّرعيِّ، في الأمور العباديَّة، والماليَّة، والعلاقات الشَّخصيَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة، حتَّى إنَّ نظرتها إلى الواقع السِّياسيِّ والاقتصاديِّ والاجتماعيِّ والعسكريِّ كانت تنطلق من ارتباطها بالحكم الشَّرعيِّ، فيما يُمثِّله من الواجب والحرام والحلال، فكان مسارها العمليُّ في حياتها اليوميَّة سائرًا في هذا الاتِّجاه، وكان ارتباطها بالقيادة مرتكزًا على هذا الخطِّ، فهي تُحصي على القيادة ممارساتها العمليَّة في نطاق الحلال والحرام، كما تحصي عليها إخلاصها للمفاهيم العامَّة.

وقد يجدر بنا أن نشير في هذا المجال إلى الشَّرط الأساسيّ في شرعيَّة القيادة في صورة المرجعيَّة؛ أن يكون المرجع ذا كفاءةٍ اجتهاديَّةٍ بالمستوى الأعلى، كما يكون ذا عدالةٍ دينيَّةٍ تتمثَّل في استقامته في سلوكه العمليِّ على خطِّ الشَّرع في كلِّ جوانب حياته.

ولعلَّ هذه التَّربية الشَّرعيَّة للأُمَّة كانت من العناصر الأساسيَّة في التَّحرُّك، بل ربَّما اعتُبرت من أشدِّ العوامل تأثيرًا في السَّاحة؛ لأنَّها خلقت لدى كلِّ فردٍ من الأُمَّة ذهنيَّةً شرعيَّةً تتحرَّك بحسابٍ وتقف بحسابٍ، في خطَّةٍ عمليَّةٍ ترصد الواقع على هذا الأساس ولحسابه، فإذا عرفت أنَّ التَّكليف الشَّرعيَّ يدفعها إلى الانضباط في موقفٍ معيَّنٍ، وقفت عنده وقفةً حازمةً، وَإِنْ كان ذلك على خلاف رغباتها الذَّاتيَّة، وإذا رأت أنَّه يدعوها إلى التَّحرُّك والاستشهاد، كانت الشّهادة هدفًا كبيرًا من أهدافها الشَّرعيَّة، بعيدًا من كلِّ هَوَسٍ مزاجيٍّ أو انفعالٍ عاطفيٍّ.

وهذا هو ما نحتاج إلى أنْ نتعلَّمه في حياتنا العمليَّة في الدَّعوة إلى الله، والجهاد في سبيله؛ لأنَّنا درجنا في أساليبنا المتنوِّعة في الدَّعوة إلى الإسلام، أن نُقَدِّمَ المفاهيم الكبيرة والنَّظريَّات العامَّة الَّتي تملأ فكر الإنسان المسلم، ولكنَّها لا تستطيع أن تحفظ له خطاه في القضايا الجزئيَّة الصَّغيرة، ولا تُعَلِّمه كيف يُحَوِّلُ المفاهيم إلى واقعٍ، حتَّى انتهى بنا الأمر إلى أن أصبحنا نرى بعض الَّذين يتحمَّسون للإسلام، ويعملون له تنظيميًّا، ممَّن لا يمارسون العبادات اليوميَّة؛ لأنَّ ذلك مؤجَّلٌ إلى حين إقامة دولة الإسلام، وهكذا يكون الاعتذار في حالة ارتكابه للمحرَّمات وهو في أشدِّ حالات الانفعال والحماس للإسلام، حتَّى تحوَّل الإسلام ـ في وعيهم ـ إلى مجرَّد نظام حكمٍ كبقيَّة أنظمة الحكم الأخرى الَّتي يُراد لها أن تحلَّ مشاكل النَّاس الجزئيَّة والكلِّيَّة.

إنَّنا بحاجةٍ إلى ربط المسلمين بدينهم في حياتهم اليوميَّة، ولا سيَّما في القضايا الَّتي تنفتح بهم على الله سبحانه بطريقةٍ مباشرةٍ، كالعبادات؛ من أجل تحقيق الانضباط العمليِّ في ساحة الجهاد.

ولعلَّ من الأمور الَّتي يجب أن يعرفها المسلم، هي أنَّ الإسلام يختلف عن بقيَّة الأنظمة في نقطةٍ أساسيَّةٍ، وهي أنَّه جاء لتغيير الإنسان من الدَّاخل والخارج، على الصَّعيد الفرديِّ والاجتماعيِّ؛ ولذا، فإنَّه يفرض على النَّاس الالتزام بمفاهيمه وشرائعه في جميع المجالات الممكنة، حتَّى في حالة غياب الحكم الإسلاميِّ، بينما نجد أنَّ الأنظمة الأخرى لا تفرض على النَّاس مثل هذا الالتزام خارج التَّطبيق الكلِّيِّ للنَّظريَّة في جوانب الحكم والسِّياسة والاقتصاد، لأنَّهم يعتقدون أنَّ الانضباط الفرديَّ لا يحلُّ المشكلة العامَّة الَّتي جاءت الأنظمة لحلِّها في النِّطاق العمليِّ العام.

الانسجام بين علماء الدِّين والنَّاس

إنَّ من مظاهر الثَّورة الإسلاميَّة في إيران، هذا الانسجام الرَّائع بين علماء الإسلام وبين أبناء الأُمَّة في كلِّ قضايا المعاناة، فقد عاش العلماء وطُلَّاب العلوم الدِّينيَّة كلَّ ألوان الاضطهاد والتَّعذيب بالمستوى نفسه الَّذي عاشه الآخرون من أفراد الأُمَّة، بل ربَّما كانت المعاناة أشدَّ، وقد تعرَّض الكثيرون منهم للنَّفي والتَّشريد والإعدام والرَّمي بالرَّصاص، عندما كانوا يتقدَّمون المظاهرات، ويتحرَّكون في تنظيم الجماهير ضدَّ السُّلطة الطَّاغية، وينطلقون في كلِّ اتِّجاهٍ يستطيعون الانطلاق فيه من أجل القضيَّة، الأمر الَّذي جعل الأُمَّة تشعر بأنَّ الدَّعوة الَّتي يُثيرها الوسط الدِّينيُّ في قضيَّة الجهاد، ليست ترفًا فكريًّا ينطلق من الأبراج العاجيَّة، بل هو واقعٌ حيٌّ يعيشونه في حياتهم قبل أن يعيشه الآخرون.

وقد يكون من الضَّروريِّ أن يعمل العاملون في سبيل تكوين هذا الانسجام والحفاظ عليه في أيِّ موقعٍ من مواقع الثَّورة الإسلاميَّة، لتبقى للصِّفة الإسلاميَّة صفتها التَّمثيليَّة في حركة الواقع، وتأخذ حجمها الكبير في حياة النَّاس، من خلال ما يُمثِّله علماء الدِّين من رموزٍ كبيرةٍ مؤثِّرةٍ في واقع النَّاس الدِّينيِّ.

وإنَّنا لا ننطلق في هذا الطَّرح من نقطة التِّفريق بين فئة "رجال الدِّين"، وبين فئة "المدنيِّين"، أو "العلمانيِّين"، كما يحلو لوسائل الإعلام أن تطرح القضيَّة في بعض أوجه الصِّراع المزعوم بين الجماعتين، فنحن لا نؤمن بوجود مثل هذا التَّمييز في قضيَّة الجهاد من أجل الإسلام، بل ننطلق في ذلك من موقع اعتبار الوسط الدِّينيِّ المثقَّف أساسيًّا في مسيرة الأُمَّة؛ للحفاظ على سلامة القضيَّة في مواقعها الفكريَّة والتَّطبيقيَّة، وللحصول على الامتداد الشَّعبيِّ مع الثَّورة من خلال امتداده الطَّبيعيِّ مع خطِّ المرجعيَّة ومحيطها.

وفي ضوء ذلك، لا بُدَّ لنا من الوقوف بحزمٍ أمام المحاولات المشبوهة الَّتي يُراد من خلالها الفصل بين دور علماء الدِّين في الحياة العامَّة، وبين دور المثقَّفين الآخرين، فقد يُخيَّل إلينا أنَّ هذه المحاولات تُعتبر جزءًا من الخطَّة الَّتي تعمل على أن يدور علماء الدِّين في حلقةٍ مفرغةٍ من الواقع النَّظريِّ المجرَّد البعيد من قضايا الأُمَّة في العمق والشُّمول، كوجهٍ آخر من الفكرة الَّتي تقول بفصل الدِّين عن الدَّولة، في صورةٍ جديدةٍ تدعو إلى فصل علماء الدِّين عن الدَّولة. وقد لا نعني في هذا المجال، أن نعمد إلى إعطاء العلماء دورًا طبقيًّا يتميَّزون به عن الآخرين، فيما يقتضيه ذلك من امتيازاتٍ وحقوقٍ؛ لأنَّ الإسلام لا يُقِرُّ ذلك خارج نطاق "ولاية الفقيه" الَّتي لا تُمثِّل مركزًا طبقيًّا أو تشريفيًّا، بل تُمثِّل مركزًا متقدِّمًا في حساب المسؤوليَّة، من موقع الحفاظ على سلامة القيادة واستقامتها في الخطِّ النَّظريِّ والعمليِّ الصَّحيح.

إنَّ كلَّ ما نريد تقريره في هذا المجال، هو أنَّنا لا نوافق على عزل علماء الدِّين عن الحياة العامَّة، وإبعادهم عن ممارسة المسؤوليَّة، بل نعمل على أن يكونوا في عمق المسؤوليَّة وامتدادها، بشرط أن لا يكون لصفتهم الاجتماعيَّة أيُّ ضغطٍ على الموازين الأساسيَّة لقضيَّة الحقوق والواجبات، فيُحاسبوا كما يُحاسب أيُّ فردٍ آخر، ويُثابوا كما يُثاب الآخرون، من دون أيِّ تمييزٍ يتحوَّل إلى عقدةٍ، أو ينطلق من عقدةٍ، ذاتيَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ.

مفاهيم قرآنيّة في الواقع

إنَّ الثَّورة الإسلاميَّة قد استطاعت أن تُحدِّد للجماهير المفاهيمَ الأساسيَّة الحقيقيَّة للأشياء، في نطاق الكلمات القرآنيَّة الَّتي استخدمها القرآن للتَّعبير عنها، حتَّى كادت تتحوَّل إلى مصطلحاتٍ إسلاميَّةٍ تُحدِّد للشَّخص هويَّته من خلال استعمالها في حديثه، فكان أن ابتعدت، أو كادت تبتعد، الكلماتُ المرتبطة باتِّجاهاتٍ أخرى، عن اللُّغة الشَّائعة للنَّاس في حديثهم عن الواقع، فأصبحنا نسمع كلمة "المستضعفين" تعبيرًا عن الفئات المحرومة المسحوقة الضَّعيفة الَّتي لا تملك من أمرها شيئًا أمام "المتكبِّرين" الَّذين يملكون أعلى الامتيازات الَّتي لا يستحقُّونها، أو "المستكبرين" الَّذين يحاولون أن يعطوا لأنفسهم ذلك، أو يتظاهروا به، وبرزت في السَّاحة كلمة "الطَّاغوت"، تعبيرًا عن الطُّغيان في مواقع السِّياسة والاجتماع والاقتصاد، وتحرَّكت كلمة "الشَّيطان" في نطاق النَّماذج الشَّيطانيَّة اللَّاعبة بمصائر الأفراد والمجتمعات، في الدَّاخل وفي الخارج، في تعبير الشَّيطان الكبير عن الاستعمار والشَّيطان الصَّغير عن عملائه.

وبدأت هذه الكلمات تفعل فعل السِّحر في التَّصوُّر الإسلاميِّ للأشياء، فيما حمَّلها القرآن من مفاهيم وإيحاءاتٍ، وفيما حرَّكها في المواقع المختلفة، الأمر الَّذي جعل حركة اللَّفظ في الواقع تعني حركة الأحكام الشَّرعيَّة المرتبطة بها في حياة النَّاس، وإثارة المشاعر السَّلبيَّة والإيجابيَّة في داخل النَّفس أمامها، وبذلك أصبح الجوُّ الدَّاخليُّ في اللُّغة الشَّائعة جوًّا إسلاميًّا في تقييم الواقع، وفي حركة الشِّعارات الَّتي تؤكِّد قضيَّة المستضعفين في الأرض، وإذلال المستكبرين، وإبطال حكم الطَّاغوت، وتدمير مواقعه، بدلًا من كلمات "الطَّبقيَّة"، و"البرجوازيَّة"، و"الرَّأسماليَّة"، و"الكادحة"، وغيرها، ممَّا لا نتنكَّر لمدلوله من حيث طبيعة المعنى، ولكنَّنا نشعر بأنَّها وُلدت في غير الأجواء الإسلاميَّة، وتحرَّكت في خطوطٍ فكريَّةٍ معيَّنةٍ تتمثَّل في رموزٍ غير إسلاميَّةٍ من جانب الفكرة والمسار والهدف. وعادت للكلمات الإسلاميَّة حيويَّتها ونضارتها وفاعليَّتها، بعد أَنْ أبلاها الزَّمنُ غير الإسلاميِّ، وجعلها في متاحف الكلمات البائدة، حتَّى كان استعمالها يوحي بالشَّفقة والرِّثاء، من خلال نظرة التَّقدُّميِّين الَّذين يحاولون الإيحاء بأنَّ حركة التَّاريخ، في مدلولها الفلسفيِّ والاجتماعيِّ، لا تسمح بعودة هذه الكلمات؛ لأنَّها لا تسمح بعودة الأفكار الَّتي تُعَبِّرُ عنها وتدلُّ عليها.

وقد توفَّرت الثَّورة الإسلاميَّة ـ في هذا الاتِّجاه ـ على إبعاد الكلمات غير الإسلاميَّة المحمَّلة بمفاهيم قانونيَّةٍ وسياسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ تختلف عن المفاهيم الإسلاميَّة، وذلك مثل كلمة "الدِّيمقراطيَّة" الَّتي أصبحت من الكلمات المألوفة المحبَّبة لدى المسلمين، حيث اتَّخذت لنفسها في داخل أفكارهم صفةً تلتصق بالشَّخص، أو بالأسلوب، لِتُعَبِّرَ عنها، فيُقال: هذا شخصٌ ديمقراطيٌّ، بمعنى أنَّه متواضعٌ متسامحٌ، أو هذه طريقةٌ غير ديمقراطيَّةٍ، كتعبيرٍ عن الطَّريقة التَّعسُّفيَّة، وعاشت مع طبيعة الحكم ـ كما هي في الأصل ـ لِتُعَبِّرَ عن الحكم المرتبط بالشَّعب المتحرِّر من الدِّيكتاتوريَّة، وبذلك كانت المواقف المضادَّة لمفهوم هذه الكلمة تُعطي معنى القسوة والتَّعسُّف والاستبداد، وغاب المسلمون عن المعنى الحقيقيِّ للكلمة، حتَّى خُيِّلَ إليهم أنَّه يُحقِّق لهم الخيرَ، كلَّ الخير المنسجم مع الإسلام وتعاليمه. وقد حاول البعض من العلماء الكبار أن يتحدَّثوا عن الإسلام الديمقراطيِّ( )، وفي مقابل ذلك، كانت "الماركسيَّة" صفةً للإسلام لدى البعض الآخر، فيما يعنيه هذا المصطلح من الأخذ بالإسلام عقيدةً وعباداتٍ، وبالماركسيَّة اقتصادًا وتحليلًا للواقع( ).

ووقف قائد الثَّورة ليحسم الموقف، وَلِيُرْجِعَ الكلمتين وغيرهما، إلى أصولها الفكريَّة الَّتي تُمثِّل موقفًا في الحكم، وفي الفلسفة، والتَّاريخ، والاقتصاد، يختلف كلَّ الاختلاف عن الإسلام في مفاهيمه وتعاليمه.

الهجمة ضدَّ الإسلام

قد نجد في إيجابيَّات الثَّورة الإسلاميَّة، أنَّها استطاعت أن تُكَوِّنَ لنا فكرةً تفصيليَّةً وافيةً عن الحقيقة الاستعماريَّة، وهي خوف الاستعمار الكافر وعملائه من الإسلام عندما يتقدَّم إلى الحكم لِيُؤَكِّدَ قيمَه وشريعتَه في واقع الإنسان والحياة، فقد شاهدنا الهجمة الاستعماريَّة من كلِّ القوى الكافرة في العالم ضدَّ هذه الثَّورة؛ لأنَّهم يريدون لفكرة الحكم الإسلاميِّ أن تسير على طريقتهم الَّتي يُخَدِّرون فيها المسلمين ببعض الأحكام الشَّرعيَّة، كالحدود والعبادات، ثمَّ يتركون الواقعَ السِّياسيَّ والاجتماعيَّ والاقتصاديَّ لمطامع الحُكَّام المستعمرين، أمَّا الإسلام الَّذي يؤكِّد الاستقلاليَّة الحقيقيَّة، من موقع عزَّة الإسلام والمسلمين الَّتي لا يُريد الله للمسلم أن يتنازل عنها مهما كانت الظُّروف، أمَّا هذا الإسلام، فإنَّهم يرفضونه رفضًا قاطعًا، ويعتبرونه رجعيًّا مُتَخَلِّفًا من بقايا القرون الوسطى؛ لأنَّه يُحاكم على الطَّريقة الإسلاميَّة، ويرفض الطَّريقة الغربيَّة؛ ولأنَّه يدعو إلى إقامة حكم الله في كلِّ شأنٍ من شؤون الحياة، ولا يوافق على الأساليب الأوروبيَّة في التّنظيم والتَّشريع إذا كانت مخالفةً لحكم الله.

إنَّنا نعتقد بضرورة القيام بدراسةٍ مفصَّلةٍ عن كلِّ ما قيل عن الإسلام والمسلمين في نطاق مواجهة الثَّورة الإسلاميَّة في إيران، لنرصد من خلال ذلك اتِّجاهات الرِّياح القادمة من بعيدٍ، ولنعرف نقاط الضَّعف الَّتي يحاول العالم الكافر، أو العالم المسلم السَّائر في فلكه، أن يستغلَّها لتشويه صورة الإسلام في نفوس أتباعه، وفي وعي الآخرين، لندرسها في عمليَّة تصحيحٍ للمسار إن كان هناك خطأٌ فيه، وللمضمون إن كان فيه انحرافٌ عن الحقِّ، ثمَّ نحاول متابعة الدِّراسة للأساليب الَّتي يمكن أن نُقَدِّمَ بها الإسلامَ إلى العالم، أو نطرح فيها قضايانا أمامه؛ لأنَّ من الضَّروريِّ للفكرة أن تتحرَّك في أسلوبٍ مشرقٍ يحفظ لها صفاءَها ونقاءَها وإشراقها، فلا يجوز أن نُخْضِعَ مواقفَنا لأجواءٍ وأساليبَ استعراضيَّةٍ، قد تشارك في خلق الزَّهو بالواقع في النِّطاق المحلِّيِّ، ولكنَّها تترك آثارًا سلبيَّةً في امتداد الصُّورة في العالم، وبذلك نشعر بالحاجة إلى معرفة طريقةِ الإخراج للصُّورة قبلَ أن نبادر إلى عرضها في السَّاحة الواقعيَّة للأشياء.

وربَّما نشعر بأنَّ شبابنا المسلم الَّذي يعيش في أوروبّا وأميركا وروسيا، يحمل مسؤوليَّةَ متابعة الاتِّجاهاتِ المضادَّة وتحليلها ونقدها ـ حال أمكن ـ في نطاق القراءة الواعية الملتزمة الهادفة، لنحصل من ذلك على رؤيةٍ واضحةٍ لكلِّ جوانب الهجمة الاستعماريَّة الكافرة، ولكلِّ أساليبها السَّائرة في اتِّجاه أهداف الاحتواء الحضاريِّ من كلِّ جهاته.

والله متمُّ نوره

إنَّنا نتعلَّم من خطوات هذه الثَّورة، كيف تتوالى ألطاف الله على المسيرة الإسلاميَّة عندما تتقدَّم إلى الحياة في طريق الجهاد، وذلك في دراستنا للظُّروف الصَّعبة الَّتي عاشتها، فكان أَنْ هيَّأ اللهُ لها من الأجواء ما استطاعت من خلاله الخروجَ من كثيرٍ من المآزق والتَّحدِّيات من حيث لا تحتسب، وبالمزيد من التَّأييد والتَّسديد في خطوات القيادة، وفي حركة الأُمَّة. ولكنَّ ذلك لا يمنعنا من دراسة الظُّروف الموضوعيَّة للنَّجاح في طبيعة شخصيَّة القيادة، وفي صمود الخطِّ الثَّوريِّ على النَّهج الإسلاميِّ، وفي الأساليب العمليَّة الَّتي ساهمت في تفتيت المقاومة للحكم الطَّاغي، وفي الاستفادة من الظُّروف السِّياسيَّة المحيطة بالتَّحرُّك السِّياسيِّ الثَّوريِّ، وفي غير ذلك من الأسباب الواقعيَّة الخاضعة لسُنَّة الله في الكون. وبهذا، نفهم أنَّ هذه النَّظرة الَّتي نُريدها أن تحكم التَّوجُّهَ العمليَّ للمجاهدين الإسلاميِّين في كلِّ مكانٍ، لا تُلغي الظُّروف الموضوعيَّة للأشياء؛ لأنَّ مثل هذا التَّفسير لا يتنافى مع ألطاف الله الَّتي تخلق للسَّاحة ظروفها، على أساسٍ من الأسباب الخفيَّة والظَّاهرة للأشياء.

ولعلَّ هذا هو الأسلوب الَّذي يريده الإسلام للنَّظرة الإسلاميَّة للعمل، فلا يُريدها أن تغرق في الغيب الَّذي يجعلها تبتعد عن أسباب الواقع، ولا يُريدها أن ترتبط بالمحسوسات الَّتي تعزلها عن النَّظر إلى الغيب الَّذي قد يُرسل اللهُ من خلاله ألطافَه، بل تكون متوازنةً بين هاتين النُّقطتين، لتعرف أنَّ الغيب يُهيِّئ للواقع شروطَه غير المنتظرة في بعض الحالات، وأنَّ الواقع لا يتحرَّك إلَّا من خلال سُنَّةِ الله في الكون، فهو نتاج إرادة اللهِ الَّتي اقتضت أن لا تُوجد الأشياءُ إلَّا بأسبابها الطَّبيعيَّة، الظَّاهرة أو الخفيّة، فلا نغرق بعد ذلك في المجهول، أو نبتعد عن الواقع.

محاولات العرقلة

إنَّ من القضايا الَّتي تواجهنا في تصوُّرنا لمستقبل الثَّورة الإسلاميَّة من خلال الواقع المعاصر، أنَّ القوى المضادَّة في الدَّاخل، تحاول بأكثر من طريقةٍ أن تعرقل خطى الإسلام بكلِّ أساليب اللَّفِّ والدَّوران، وذلك في خطوات الشَّخصيَّات المصطنعة العرقيَّة والإقليميَّة، أو المحاور الشَّخصيَّة والمركزيَّة في الكيانات المعقَّدة الموجودة في السَّاحة الَّتي قد تلبس لبوس الإسلام، ما يجعلنا نكتشف طبيعة الصُّعوبات الَّتي تنتظر أيَّ ثورةٍ إسلاميَّةٍ مماثلةٍ في حركة الدَّاخل، فيما يحمل الدَّاخل من تعقيداتٍ، وفي حركة الخارج، في تخطيط القوى العالميَّة للإجهاز على الإسلام والمسلمين. إنَّ علينا أن لا نكتفي بمواجهة الواقع، في مشاكله وتعقيداته، بالعموميَّات الَّتي لا تدرس خصائص الأشياء وخلفيَّاتها؛ لأنَّ ذلك يُبعدنا عن فهم الواقع، ويُغرقنا في الضَّبابيَّات الفكريَّة، لنواجه المشكلة من خلال الحلول الواقعيَّة، لا المثاليَّة.

وبهذه المناسبة، نحبُّ أن نشير إلى النَّظرة الطُّوباويَّة لدى بعض العاملين للإسلام الَّذي يُصَوِّرُ الحكمَ الإسلاميَّ عند تحقُّقه كما لو كان حكمًا بلا مشاكل؛ لأنَّه يحلُّ كلَّ المشاكل العالقة للإنسان، إنَّنا نحبُّ أن نشير إلى عدم واقعيَّتها؛ لأنَّ المشاكل الواقعيَّة ترتبط بالطَّبيعة المعقَّدة للتَّركيب الإنسانيِّ الَّتي قد تُفرز الكثيرَ من الأوضاع القلقة باستمرارٍ، وتخلق لنا الكثير من الارتباكات، الأمر الَّذي يجعلنا نواجه فكرة إعادة الإسلام إلى الحياة كفكرةٍ تتعامل مع المشاكل تعاملًا واقعيًّا عادلًا، لا ينطلق من نظرةٍ سريعةٍ، أو تفكيرٍ معقَّدٍ، أو مصلحةٍ ذاتيَّةٍ محدودةٍ، بل ينطلق من النَّظرة الطَّبيعيَّة للأشياء، في رؤيةٍ شموليَّةٍ واقعيَّةٍ، وبذلك، يكون التَّحرُّك على أساس مواجهة المشاكل، لا على أساس إغفالها والهروب منها.

وهذا ما نعيشه في نطاق الثَّورة الإسلاميَّة في إيران الَّتي تتعامل مع المشاكل بحذرٍ وواقعيَّةٍ، من دون أن تسقط أمام المشكلة، فيما يريده الآخرون من تحريك الرِّمال المتحرِّكة تحت أقدامها. وهذا هو ما يجب أن يصبر عليه المخلصون للثَّورة، فلا ينهزموا أمامه، ولا يتعقَّدوا معه، بل يتعاملوا معه كحقيقةٍ واقعيَّةٍ للعمل والحياة.

حول الحرِّيَّة الفكريّة والسياسيّة

ربَّما نحتاج إلى وقفة تأمُّلٍ حول مفهوم الدَّولة الإسلاميَّة للحرِّيَّة الفكريَّة والسِّياسيَّة من خلال التَّجربة المعاصرة للحكم الإسلامي في إيران، فقد كانت الفكرة المطروحة في الأبحاث الإسلاميَّة، أنَّ الإسلام لا يمنح الحرِّيَّة الفكريَّة والسِّياسيَّة للتَّيَّارات والأفكار المضادَّة، على أساس أنَّه لا يمكن أن يوافق الإسلام على إفساح المجال للآخرين لكي يُحَطِّموا أُسُسَه الفكريَّة والسِّياسيَّة، ويُضَلِّلوا النَّاس عن طريقه، ويُبعدوهم عن الإيمان به؛ ولهذا أفتى الفقهاء بحرمة حفظ كتب الضَّلال وبيعها وشرائها، وفي ضوء هذه الفكرة، كانت الدِّعاية الموجَّهة ضدَّ الإسلام أنَّه لا يحترم حرِّيَّة الفكر في الإنسان، ولا يسمح للموقف المخالف أن يُعَبِّرَ عن نفسه. وكان المفكِّرون الإسلاميُّون يجيبون عن ذلك، بأنَّ الإسلام لا يؤمن بالحرِّيَّة على الطَّريقة الدِّيمقراطيَّة؛ لأنَّها لا تلتزم بفكرٍ خاصٍّ، بل هي الإطار الَّذي يحتضن أيَّ فكرٍ، مهما كان لونه، بشرط اختيار الشَّعب له من خلال ممثِّليه، بل يؤمن بالحرِّيَّة في إطار مصلحة الإنسان المستمدَّة من شريعة الله، فلا يُمكن أن يسمح بالحرِّيَّة المضادَّة لهذه المصلحة الإنسانيَّة.

ولكنَّنا الآن، وفي نطاق التَّجربة الإسلاميَّة المعاصرة، نشعر بأنَّ علينا أن نُفكِّر في القضيَّة بطريقةٍ جديدةٍ، فقد منحت الثَّورة الحرِّيَّةَ في العمل حتَّى للأحزاب السِّياسيَّة المضادَّة لفكرها وجهًا لوجهٍ، كالحزب الشُّيوعيِّ، ولكنَّها لم تتجمَّد أمامه، بل حاولت أن تدخل معه في صراع الفكر والحركة من موقعٍ جديدٍ، وهو دراسة السَّاحة السِّياسيَّة الَّتي تتحرَّك فيها الأُمَّة، حيث تشعر بأنَّ القوَّة الإسلاميَّة الممتدَّة، تستطيعُ أن تعطيَ القوى الأخرى حجمَها الطَّبيعيَّ، في عمليَّةِ مواجهةٍ هادئةٍ تُفرز القوى في السَّاحة بشكلٍ طبيعيٍّ، وبذلك تستطيع أن تقوم بعمليَّة التَّذويب بهدوءٍ، دون اللُّجوء إلى عمليَّة القهر والضَّغط والتَّصفية، بينما يمكن لهذه الأساليب أن تُنتج إعطاء الصُّورة بشكلٍ أضخم عن الواقع لهذه التَّيَّارات، أو تُكسبها عطفًا شعبيًّا يُساهم في تعاظمها السِّياسيِّ والشَّعبيِّ.

وفي نطاق هذه الفكرة، نجد أنَّ الثَّورة الإسلاميَّة لا تُلغي الهدف، وهو حماية الإسلام من مخطَّطات أعدائه، بل تلغي الوسيلة، وهي محاولة ممارسة الضَّغط الجسديِّ والمعنويِّ على الأفكار الأخرى، كسبيلٍ من سُبُلِ الوصول إلى تحقيق الهدف، لتكون الوسيلة الجديدة هي إبعادها عن وجدان الجماهير، على أساس تعريتها أمامها، في وسائلها وأهدافها وأفكارها. إنَّ هذه التَّجربة الجديدة جديرةٌ بالدَّرس والتَّأمُّل والملاحقة؛ من أجل مواجهة قضيَّة الحرِّيَّة في الإسلام بأسلوبٍ جديدٍ، وروحيَّةٍ جديدةٍ.

تجربةٌ جديرةٌ بالتَّأمُّل

ربَّما كانت التَّجربة الإسلاميَّة في إيران للحكم الإسلاميِّ، من التَّجارب الجديرة بالتَّأمُّل والدَّرس، فقد كانت الرُّؤية المطروحة للحكم الإسلاميِّ تختلف ـ حسب اختلاف الاجتهاد لدى المسلمين ـ بين رأيٍ يطرح القضيَّة في صورة الخلافة الإسلاميَّة الَّتي تُعتبر امتدادًا للخلافة السَّابقة، مع الاختلاف في بعض التَّفاصيل، وبين رأيٍ يطرح القضيَّة في صورة الشُّورى الَّتي تأخذ الشَّكل الدِّيمقراطيَّ مع تبديل المضمون، وبين رأيٍ يطرح ولاية الفقيه في صورة الحكم المطلق الَّذي يوحي بالاستبداد، والفرديَّة المقدَّسة الَّتي لا يمكن لأحدٍ مخالفتها والاعتراض عليها. وبذلك، كانت الفكرة المألوفة، أنَّ الحكم الإسلاميَّ لا يُمثِّل الصُّورة الواقعيَّة العصريَّة الَّتي تنسجم مع جوِّ العصر وأسلوبه ونظرته إلى الأشياء، بل يُمثِّل صورةً تعيش مع التَّاريخ في روحيَّة الماضي. وتحرَّكت الدِّعايات المضادَّة في الدَّاخل، حتَّى من بعض الرُّموز الكبيرة للمرجعيَّة، وفي الخارج، من الأجهزة الكافرة والمستعمِرة والضَّالَّة، لِتُعْطِيَ الصُّورةَ مزيدًا من الظَّلام والسَّواد والبدائيَّة.

وجاءت التَّجربة الإسلاميَّة الجديدة لِتطرحَ صورةً عصريَّةً لا تتنكَّر لفكرة ولاية الفقيه، ولا تتنكَّر للأساليب العصريَّة في تنظيم الحكم، ولا تسمح للاستبداد بأن يُشَوِّهَ وجهَ الحكم، وذلك في الصِّيغة المطروحة للتَّطبيق في السَّاحة الإيرانيَّة، بعد أن استكمل العلماء والفقهاء الأُسسَ الاجتهاديَّة لسلامتها فقهيًّا وشرعيًّا. إنَّنا نشعر بالحاجة إلى متابعة هذه التَّجربة بالدِّراسة، على ضوء الكتاب والسُّنَّة من جهةٍ، وعلى ضوء المصلحة الإسلاميَّة العليا، في حاضر الإسلام ومستقبله، ليستقيم للحكم الإسلاميِّ صورتُه الواضحة الكاملة المشرقة الَّتي تحتضن الكثيرَ من الإيجابيَّات، وتوفِّر علينا الكثير من السَّلبيَّات.

فضلُ الثَّورة الإسلاميَّة

وختامًا، إنَّنا نشعر بأنَّ الثَّورة الإسلاميَّة قد أعطت الكثير، بالرَّغم من عمرها القصير، فقد استطاعت أن توصل الإسلام إلى كلِّ مكانٍ في العالم من خلال الضَّجَّة الإعلاميَّة الَّتي انطلقت من أصوات المؤيِّدين والمعارضين، كما استطاعت أن تدفع بالعمل الإسلاميِّ إلى مجالاتٍ متقدِّمةٍ، من خلال الرُّوح الإسلاميَّة الجديدة الَّتي خلقتها في نفوس الجيل المسلم المعاصر.

ولا زلنا في انتظار جديدها في كلِّ يومٍ.

ولا تزال الرُّوح العظيمة المتمثِّلة بقيادتها الرَّائدة في شخص آية الله الخميني، تُقَدِّمُ لنا في كلِّ يومٍ دليلًا على الإخلاص في الفكر والثَّورة والمسار. حفظه الله رمزًا للوحدة وللجهاد، وحفظ الله للأُمَّة ثورتها الرَّائدة، وحفظكم جميعًا، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

*  نُشرت هذه المقالة في مجلَّة (الحكمة)، العدد الثَّامن، صفر 1401 هـ ـ كانون الأوَّل - ديسمبر 1980 م.

للحديث عن الثَّورة الإسلاميَّة في حياتنا طعمُ الحلمِ الكبيرِ الَّذي عشنا العمرَ من أجله، فكيف بنا ونحن نشاهده يطبع خطواته على الدَّرب. ولكنَّنا لا نريد أن نتحدَّث عنه بلغة الخيال والحلم، بل من حركة الحلم في الواقع، في عمليَّة تأمُّلٍ وتقويمٍ، فقد انطلقت الخطوات العمليَّة لتطرح الفكرة من خلال الشِّعار، وَتُحَرِّكَ الشِّعارَ في مشاعر الأُمَّة، فتحوَّلت الأُمَّةُ من خلال ذلك الفكر والشُّعور، إلى طاقةٍ تتحفَّز لِتُفَجِّرَ الواقعَ من خلال الإسلام، في كلمات الله ووحيه.

إنَّنا ـ هنا ـ من أجل أن نتعلَّم ونأخذ العبرة؛ لأنَّها تُمثِّل التَّجربة الإسلاميَّة الرَّائدة في الواقع المعاصر، فقد مرَّ زمانٌ طويلٌ انطلق فيه المتفلسفون، يفلسفون فيه الإسلام في نطاق المفهوم الدِّينيِّ على الطَّريقة الأوروبيَّة، فهو لا يزيد عن أن يكون عباداتٍ وطقوسًا تقليديَّةً، وأخلاقيَّاتٍ مثاليَّةً، قد تمنح الرَّاحةَ للفرد وللمجتمع من ناحيةٍ روحيَّةٍ، ولكنَّها لا تستطيع أن تمنحه القاعدة الثَّابتة الَّتي تتحرَّك منها قضايا الحكم والسِّياسة والاقتصاد والاجتماع. وبدأ بعض هؤلاء يطرح فكرة الحكم في الإسلام، كفكرةٍ لا أساس لها في المصادر الإسلاميَّة، ويرى ـ من خلال ذلك ـ أنَّه لا معنى للتَّحرُّك على أساس فكرة الدَّولة كإطارٍ، وتشريعٍ، وتخطيطٍ للاقتصاد وللسِّياسة والاجتماع، ولغير ذلك ممَّا تحتاجه الحياة في مسيرتها المتقدِّمة إلى الأمام.

ووقف المفكِّرون الإسلاميُّون يطرحون الفكرة الإسلاميَّة الَّتي تدعو إلى الإسلام كنظامٍ متكاملٍ، لا يترك جانبًا من جوانب الحياة إلَّا ولله فيه حكمٌ وتشريعٌ ومفهومٌ. وتحرَّكت التَّيَّارات الإسلاميَّة لتفرض هذا الفكر على الواقع، من خلال المعاناة، والممارسة العمليَّة الدَّامية في نطاق الجهاد. وانطلق الصِّراع في كلِّ اتِّجاهٍ يُقَدِّمُ الشُّهداء في كلِّ مكانٍ، في أكثر من موقعٍ. ولكنَّ الفكرة بقيت في جوِّ الفكرة، والتَّحرُّك المحدود الَّذي لا يزال يُفتِّش في الأُفق عن أرضٍ صلبةٍ يقف عليها الواقفون، ويجاهد من قاعدتها المجاهدون.

وجاءت الثَّورة الإسلاميَّة كالزِّلزال، لِتُلْغِيَ كلَّ ما استحدثه الصِّراع من أساليب الرَّفض والتَّأييد، لِتُجَسِّدَ الفكرةَ كواقعٍ حيٍّ.

إنَّه الإسلام يتقدَّمُ يحكمُ بمفاهيمه، وتشريعاته، ووسائله، وأهدافه.

وبذلك عاد الحكم الإسلاميُّ حقيقةً، بعد أن كان مجرَّدَ حلمِ فكرةٍ، أو فكرةً تعيش في متاهات الأحلام.

فماذا نستوحي من ذلك؟

إنَّنا نُريد أن نُثير في هذا الحديث عدَّة نقاطٍ، نحاول من خلالها استجلاء بعض جوانب الواقع، من خلال حركة هذه الثَّورة:

أسلوبٌ جديدٌ في التحرّك

إنَّ الثَّورة الإسلاميَّة الإيرانيَّة طرحت أسلوبًا جديدًا في التَّحرُّك الإسلاميِّ من أجل الوصول إلى الهدف، فقد انطلقت من واقع الحياة الإسلاميَّة الممتدَّة في كلِّ قطاعات الأُمَّة، فلم تحبس نفسها في نطاق طبقةٍ معيَّنةٍ، أو فئةٍ خاصَّةٍ، بل كانت ثورة كلِّ المستضعفين في الأُمَّة، سواءٌ منهم الَّذين عاشوا الاستضعاف في لقمة العيش، أو الَّذين عاشوا الاستضعاف في الواقع السِّياسيِّ والتَّربويِّ والاقتصاديِّ، ووقعوا في قبضة الاضطهاد الإمبراطوريِّ الَّذي عمل على إبعاد الأُمَّة عن عقيدتها، وتاريخها الإسلاميِّ، وهويَّتها الإسلاميَّة، بمختلف الأساليب التَّعسُّفيَّة والتَّحريفيَّة، وبذلك استطاعت أن تُبعد كلَّ الشَّخصيَّات المصطنعة عن شخصيَّة الثَّورة، وطرحت كلَّ الفلسفات الَّتي كانت تحبس الفكرَ الثَّوريَّ في قوالب معيَّنةٍ تريد أن تفرضها على الواقع، فجاءت هذه الثَّورة الإسلاميَّة لِتُحَطّمَ أسوارَ الواقع بأساليبَ جديدةٍ لا تخضع لأيِّ مصطلحٍ من هذه المصطلحات المألوفة لدى الثَّوريِّين الآخرين، وبذلك استطاعت أن تعطيَ لنفسها هويَّتها الحقيقيَّةَ المنطلقةَ من تحريك المصطلح القرآنيِّ في واقع النَّاس، كدليلٍ على واقعيَّة المصطلحات القرآنيَّة، ومرونتها العمليَّة، فكانت حدثًا جديدًا في تاريخ الثَّورة.

أهداف الثّورة

إنَّ الثَّورة الإسلاميَّة تحرَّكت في البداية من موقع الهدف المرحليِّ المحدَّد، وهو إسقاط نظام الشَّاه على أساس الشِّعارات الإسلاميَّة، لِتُحَقِّقَ من ذلك هدفين:

أحدهما: تربية القاعدة المسلمة على أن تتحرَّك في اتِّجاه الثَّورة من خلال المشكلة العميقة الَّتي تلامس أعماق الأُمَّة في مشاعرها القلقة.

ثانيهما: تجميع الفئات الأخرى الَّتي انفصلت عن جوِّ التَّفكير الإسلاميِّ، بالسَّير مع الخطوط الأخرى للتَّفكير؛ بحجَّة أنَّ الواقعَ الدِّينيَّ لا يُحقِّق أهدافَ الجماهير في الحرِّيَّة والاستقلال والعدالة، الأمر الَّذي يجعل من التفافها حول الشِّعار الإسلاميِّ في تغيير الواقع أساسًا لتبديلِ مسار التَّفكير لديهم، من موقع السَّاحة المتحرِّكة في خطِّ الثَّورة.

وفي هذا الجوِّ، بدأت عمليَّة تفجير الحسِّ الثَّوريِّ لدى الإنسان المسلم في الدَّاخل، بالأسلوب العمليِّ البسيط، فلم تخض معه الأحاديث النَّظريَّة الَّتي تطرح الفكرَ ونقيضه لتقوم بعمليَّة التَّوازن بعد ذلك، فتصل من خلاله إلى تحديد الموقف، كما تفعل بعض الحركات الثَّوريَّة السِّياسيَّة الَّتي تُغرق النَّاسَ بالنَّظريات المعقَّدة الَّتي تقود الذِّهن إلى ساحةٍ تختلط فيها المعمَّيات والألغاز النَّظريَّة الَّتي تُبعد الإنسانَ عن الوضوح في الرُّؤية، والصَّفاء في الشُّعور؛ لأنَّ مثل هذا الأسلوب قد يُعطِّل التَّحرُّك عن قوَّة الاندفاع الشُّعوريِّ الَّذي يُحرِّك الواقع، وقد يُفسح المجالَ لصراعاتٍ نظريَّةٍ في سائر مجالات العمل، ما قد يؤدِّي إلى الدُّخول في متاهاتٍ تجريديَّةٍ من قضايا النَّظريَّة والتَّطبيق.

لقد رفضت قيادة الثَّورة هذا الأسلوبَ النَّظريَّ، وفضَّلت الأسلوبَ الَّذي يتَّخذ من واقع الممارسة والمعاناة أساسًا لطرح النَّظريَّة، من خلال حركتها في الواقع التَّطبيقيِّ، وتوجيهِ الأُمَّة إلى استذكار مفاهيم الإسلام في الظُّلم والعدل والطُّغيان والتَّغيير، في عمق الظُّلم الَّذي يعيشونه في داخل حياتهم اليوميَّة، وفي وحشيَّة الطُّغيان الَّذي يجثم بثقله على كلِّ مقدَّرات الأُمَّة، ليكون ذلك التَّصوُّر للظُّلم والطُّغيان منطلقًا للتَّصوُّر البديل من ذلك في تغيير الواقع على أساسٍ من العدل، بعيدًا من كلِّ النَّظريَّات الفلسفيَّة حول تلك المفاهيم. ومن الطَّبيعيِّ أنَّ هناك فرقًا بين أن تطرح المفهوم من خلال الواقع، وبين أن تطرح الواقع من خلال المفهوم، فإنَّ الأوَّل يلامس الإحساس، بينما يتَّصل الثَّاني بالتَّصوُّر.

وقد ساهم ذلك في وجود جوٍّ جديدٍ لاستنطاق الآيات القرآنيَّة الكريمة في كلِّ موقعٍ من مواقع الجهاد ضدَّ الظُّلم، وفي طرح الشِّعارات الإسلاميَّة الأساسيَّة، كشعار "الله أكبر"، لتحمل في داخلها كلَّ الانفعالات والمشاعر والأفكار والتَّحدِّيات المطروحة على صعيد الواقع المُعاش للنَّاس، الأمر الَّذي يُساهم في تحويل تلك الآيات والشِّعارات إلى طاقةٍ تنفجر داخل الإنسان، لِتُفَجِّرَ الثَّورةَ من حوله.

وكان لجمهور الثَّورة قوُّته الرُّوحيَّة المندفعة الممتدَّة الَّتي جعلته ملتصقًا بمفاهيمه الدِّينيَّة المرتبطة بالشِّعارات، ما جعل التَّيَّارات الأخرى تتجمَّع حولها، من أجل أن تركب الموجة، أو تقودها، وسارت الثَّورة معها في عمليَّة وعيٍ وحذرٍ، حتَّى إذا استطاعت أن تستوعب كلَّ السَّاحة، وقفت أمام تلك التَّيَّارات في موقفٍ حاسمٍ لا يبتعد عن المرونة العمليَّة، فهو في الوقت الَّذي لا يمنع تلك التَّيَّارات أن تتحرَّك معه في السَّاحة، كان يعمل على أن يُحدِّد الفواصلَ الفكريَّة والعمليَّة الَّتي تفصل الحركة الإسلاميَّة عن غيرها، لتتحدَّد هويَّة الحركة من ناحيةٍ فكريَّةٍ وسياسيَّةٍ في مستوى الأسلوب، وفي طبيعة الحركة. وفي ضوء ذلك، كان الصِّراع الَّذي تخوضه الحركة الإسلاميَّة ضدَّ التَّيَّارات المنحرفة، أو اللَّاإسلاميَّة، لا يُؤخِّر سيرَ المعركة ضدَّ الظُّلم والطُّغيان.

وبدا الهدفُ المرحليُّ يغري القوى المضادَّة أن تقوم بحركة التفافٍ ضدَّ الثَّورة من داخل الهدف، من أجل تفريغها من قوَّة الاندفاع الشَّعبيَّة، فطرحت فكرة البديل من الشَّاه، مع إبقاء طبيعة النِّظام الإمبراطوريِّ، وانطلقت الدُّول الاستعماريَّة لِتُبارك هذا الهدف الَّذي يُحوِّل الموقفَ إلى انقلابٍ عاديٍّ يستجيب لرغبات الاستعمار في تغيير الوجوه الَّتي استهلكها الزَّمن، وتجاوزتها الأوضاع.

ولكنَّ الثَّورة [صمدت] في أشدِّ الظُّروف قساوةً، حتَّى بدأ أصدقاؤها يشكُّون في حكمة القيادة وواقعيَّتها، وفي مدى وعيها للظُّروف العالميَّة والدَّاخليَّة المحيطة بالهدف، وبدأ الشِّعار الَّذي فرض نفسه من خلال الهدف المرحليِّ الجديد، وهو إسقاط النِّظام الملكيِّ بالكامل بكلِّ مظاهره، حتَّى إنَّ قيادة الثَّورة رفضت الاجتماع بأيِّ مسؤولٍ من النِّظام إلَّا بعد إعلان براءته واستقالته منه. وهكذا فرضت الثَّورة نفسها على العالم، وحقَّقت الهدفَ المرحليَّ الجديد، وسقط النِّظامُ الملكيُّ.

وبدأ الكثيرون من أصحاب التَّيَّارات المنحرفة غير الإسلاميَّة يعملون على تطويق الثَّورة الإسلاميَّة بمختلف أساليب اللَّفِّ والدَّوران، بطرح فكرة الدِّيمقراطيَّة كصفةٍ للإسلام تارةً، وبالتَّحدُّث عن حرِّيَّة الشَّعب في اختيار النِّظام الَّذي يُمثِّل الإسلام أو غيره أخرى، وثارت الضَّوضاء من كلِّ جانبٍ، وتحرَّكت هيئات الدِّفاع عن الحرِّيَّات في العالم، وبدأ الاستعمار يلبس قناع الدِّفاع عن حقوق الإنسان، وعن حقِّه في الانطلاق مع الحياة في أجواءٍ حضاريَّةٍ جديدةٍ.

ورفضت القيادة الدُّخول في لعبة الألغام، وفي الرِّمال المتحرِّكة للسَّاحة السِّياسيَّة، وبدأت الرَّفضَ للسَّير بعيدًا في متاهات المصطلحات الغريبة الَّتي تُربك المفاهيمَ الأساسيَّة للإنسان المسلم، في عمليَّة التَّوفيق بينها وبين تلك المصطلحات في أسلوبٍ متكلِّفٍ، وطرحت الإسلامَ على الشَّعب من دون الدُّخول في تفاصيل البدائل الَّذي يُعطي لها شرعيَّة الموقف، فكانت القضيَّة على النَّحو التَّالي الحاسم: إمَّا الإسلام، وإمَّا غيره. وكان الشَّعب يفهم أنَّ الإسلام هو الَّذي انتصر على الطُّغيان بشعاراته المضمَّخة بدماء الشَّهادة، وروحيَّة التَّضحية الَّتي تحرَّكت في السَّاحة بشكلٍ لا مثيلَ له. وكانت القيادة تجاهد بكلِّ قوَّةٍ وإصرارٍ في أن تصل بالشَّعب إلى الهدف الأساسيّ، وهو إقامة النِّظام الإسلاميِّ على أنقاض النِّظام الإمبراطوريِّ المنحرف. وقال الشَّعب نعم للإسلام، وسقطت كلُّ الأقنعة، وعاشت الثَّورة الإسلاميَّة من أجل أن تبنيَ حكم الإسلام، وعادت الأُمَّة تحمل هاجسَ الحكم الإسلاميِّ كما يحمل الإنسان في قلبه حلم الأحلام.

هذه هي بعض ملامح الصُّورة عن الأساليب التَّدريجيَّة المرحليَّة في الوصول إلى الهدف، بطريقةٍ واقعيَّةٍ عمليَّةٍ تربط النَّاس بالهدف من حيث لا يحتسبون، من خلال تركيز المشاعر بشكلٍ منظَّمٍ متكاملٍ.

وربَّما كان هذا الأسلوب شيئًا جديدًا في التَّصوُّر الإسلاميِّ للعمل، فيما يطرحه المنظِّرون الإسلاميُّون الَّذين يتحرَّكون على أساس تقديم الواجهة الإسلاميَّة للسَّاحة بكلِّ تفاصيلها الفكريَّة والعمليَّة. وقد نحتاج أن نقف أمامه وقفة تأمُّلٍ عميقٍ واسعٍ، لنأخذ الدَّرس الَّذي يمنح الحركات الإسلاميَّة مرونةً أكثر على صعيد حركة الإسلام؛ من أجل أن لا تتعطَّل المسيرة في مشاكل الخلافات النَّظريَّة المعقَّدة. وقد يجب علينا ـ في هذا المجال ـ أن نتوقَّف طويلًا أمام عنصر المرجعيَّة، ودورها الكبير الفاعل في الرَّبط العضويِّ بين القيادة والأُمَّة، في أجواء القداسة الرُّوحيَّة من جهةٍ، والشُّعور بالانسجام مع خطِّ المسؤوليَّة الشَّرعيَّة المباشر لدى الأُمَّة من جهةٍ أخرى؛ فإنَّ للمرجعيَّة قداسةً في نفوس المقلِّدين والأتباع، على أساس تمثيلها للإمام المعصوم في القيادة وفي الفتوى الَّتي تجعل من كلِّ كلمةٍ تصدر منها قانونًا شرعيًّا يُبرِّر لها مواقفها أمام الله في يوم الحساب، ويجعل من قضيَّة الاندفاع في الجهاد بأوامرها معنًى روحيًّا يتَّصل بمعنى الشَّهادة.

وقد يجب أن نتوقَّف في استلهام الدَّرس العمليِّ أمام التَّعاون بين الثَّورة وبين الفئات الأخرى الَّتي تحمل مفهومًا مضادًّا في مجال العمل، لنجد أنَّه قد يتَّخذ عنصرَ الضَّرورة في بعض الحالات، كما قد يُمثِّل عنصرَ الخطر في الحالات الأخرى، فإذا كانت الثَّورة قويَّةً بقيادتها، وبسعة جماهيرها، بحيث لا تتأثَّر بالقوى الأخرى في طبيعة خطواتها وعلاقتها بالهدف، فإنَّ اللِّقاء يكون ضروريًّا لمنع الخلافات الدَّاخليَّة من أن تتحرَّك في السَّاحة كعنصرٍ تفجيريٍّ؛ أمَّا إذا كانت الثَّورة لا تملك القوَّة الذَّاتيَّة الَّتي تمنع من غلبة القوى الأخرى وسيطرتها على السَّاحة، فإنَّ التَّعاون يتحوَّل إلى عنصرٍ من عناصر احتواء الثَّورة من خلال قوى الانحراف باسم التَّحالف والتَّعاون، كما كان الكثيرون ممَّن لم ينفذوا إلى واقع الثَّورة في عمقها وامتدادها الرُّوحيِّ والفكريِّ في حياة الأُمَّة، يخافون عليها من أن تقع فريسةَ التَّيَّارات الأخرى غير الإسلاميَّة، وكانوا يُهَوِّلون على الحركة الإسلاميَّة بأنَّها تترك المجال للتَّيَّارات الكافرة بأن تكون البديل للنِّظام المنحرف الَّذي قد يحمل الظُّلم في داخله، ولكنَّه لا يعيش الكفر الصَّريح في سماته الدَّاخليَّة والخارجيَّة، ولكنَّ ذلك كان ناشئًا من السَّطحيَّة المُغرقة في هذا الاتِّجاه.

المدُّ الثَّقافيُّ الإسلاميُّ

لعلَّ من أفضل الدُّروس العمليَّة للثَّورة الإسلاميَّة في إيران، أنَّ القيادة الإسلاميَّة قد وضعت خطَّةً طويلةَ الأمد من أجل الامتداد الثَّقافيِّ الإسلاميِّ في حياة الأُمَّة، فقد عمل المرشدون من العلماء وطلَّاب العلوم الدِّينيَّة على تحويل المساجد إلى حركةٍ دائمةٍ للعمل الإسلاميِّ على الطَّريقة المعروفة، من توفير البرامج الَّتي تشتمل على تفسير القرآن، وتعليم الأحكام الشَّرعيَّة، ومعالجة قضايا الانحراف بالوعظ والإرشاد والتَّوجيه، بالأساليب الَّتي تخاطب العقل والعاطفة، حتَّى تحوَّلت الأُمَّة ـ بشكلٍ عامٍّ ـ إلى أُمَّةٍ ملتزمةٍ بالحكم الشَّرعيِّ، في الأمور العباديَّة، والماليَّة، والعلاقات الشَّخصيَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة، حتَّى إنَّ نظرتها إلى الواقع السِّياسيِّ والاقتصاديِّ والاجتماعيِّ والعسكريِّ كانت تنطلق من ارتباطها بالحكم الشَّرعيِّ، فيما يُمثِّله من الواجب والحرام والحلال، فكان مسارها العمليُّ في حياتها اليوميَّة سائرًا في هذا الاتِّجاه، وكان ارتباطها بالقيادة مرتكزًا على هذا الخطِّ، فهي تُحصي على القيادة ممارساتها العمليَّة في نطاق الحلال والحرام، كما تحصي عليها إخلاصها للمفاهيم العامَّة.

وقد يجدر بنا أن نشير في هذا المجال إلى الشَّرط الأساسيّ في شرعيَّة القيادة في صورة المرجعيَّة؛ أن يكون المرجع ذا كفاءةٍ اجتهاديَّةٍ بالمستوى الأعلى، كما يكون ذا عدالةٍ دينيَّةٍ تتمثَّل في استقامته في سلوكه العمليِّ على خطِّ الشَّرع في كلِّ جوانب حياته.

ولعلَّ هذه التَّربية الشَّرعيَّة للأُمَّة كانت من العناصر الأساسيَّة في التَّحرُّك، بل ربَّما اعتُبرت من أشدِّ العوامل تأثيرًا في السَّاحة؛ لأنَّها خلقت لدى كلِّ فردٍ من الأُمَّة ذهنيَّةً شرعيَّةً تتحرَّك بحسابٍ وتقف بحسابٍ، في خطَّةٍ عمليَّةٍ ترصد الواقع على هذا الأساس ولحسابه، فإذا عرفت أنَّ التَّكليف الشَّرعيَّ يدفعها إلى الانضباط في موقفٍ معيَّنٍ، وقفت عنده وقفةً حازمةً، وَإِنْ كان ذلك على خلاف رغباتها الذَّاتيَّة، وإذا رأت أنَّه يدعوها إلى التَّحرُّك والاستشهاد، كانت الشّهادة هدفًا كبيرًا من أهدافها الشَّرعيَّة، بعيدًا من كلِّ هَوَسٍ مزاجيٍّ أو انفعالٍ عاطفيٍّ.

وهذا هو ما نحتاج إلى أنْ نتعلَّمه في حياتنا العمليَّة في الدَّعوة إلى الله، والجهاد في سبيله؛ لأنَّنا درجنا في أساليبنا المتنوِّعة في الدَّعوة إلى الإسلام، أن نُقَدِّمَ المفاهيم الكبيرة والنَّظريَّات العامَّة الَّتي تملأ فكر الإنسان المسلم، ولكنَّها لا تستطيع أن تحفظ له خطاه في القضايا الجزئيَّة الصَّغيرة، ولا تُعَلِّمه كيف يُحَوِّلُ المفاهيم إلى واقعٍ، حتَّى انتهى بنا الأمر إلى أن أصبحنا نرى بعض الَّذين يتحمَّسون للإسلام، ويعملون له تنظيميًّا، ممَّن لا يمارسون العبادات اليوميَّة؛ لأنَّ ذلك مؤجَّلٌ إلى حين إقامة دولة الإسلام، وهكذا يكون الاعتذار في حالة ارتكابه للمحرَّمات وهو في أشدِّ حالات الانفعال والحماس للإسلام، حتَّى تحوَّل الإسلام ـ في وعيهم ـ إلى مجرَّد نظام حكمٍ كبقيَّة أنظمة الحكم الأخرى الَّتي يُراد لها أن تحلَّ مشاكل النَّاس الجزئيَّة والكلِّيَّة.

إنَّنا بحاجةٍ إلى ربط المسلمين بدينهم في حياتهم اليوميَّة، ولا سيَّما في القضايا الَّتي تنفتح بهم على الله سبحانه بطريقةٍ مباشرةٍ، كالعبادات؛ من أجل تحقيق الانضباط العمليِّ في ساحة الجهاد.

ولعلَّ من الأمور الَّتي يجب أن يعرفها المسلم، هي أنَّ الإسلام يختلف عن بقيَّة الأنظمة في نقطةٍ أساسيَّةٍ، وهي أنَّه جاء لتغيير الإنسان من الدَّاخل والخارج، على الصَّعيد الفرديِّ والاجتماعيِّ؛ ولذا، فإنَّه يفرض على النَّاس الالتزام بمفاهيمه وشرائعه في جميع المجالات الممكنة، حتَّى في حالة غياب الحكم الإسلاميِّ، بينما نجد أنَّ الأنظمة الأخرى لا تفرض على النَّاس مثل هذا الالتزام خارج التَّطبيق الكلِّيِّ للنَّظريَّة في جوانب الحكم والسِّياسة والاقتصاد، لأنَّهم يعتقدون أنَّ الانضباط الفرديَّ لا يحلُّ المشكلة العامَّة الَّتي جاءت الأنظمة لحلِّها في النِّطاق العمليِّ العام.

الانسجام بين علماء الدِّين والنَّاس

إنَّ من مظاهر الثَّورة الإسلاميَّة في إيران، هذا الانسجام الرَّائع بين علماء الإسلام وبين أبناء الأُمَّة في كلِّ قضايا المعاناة، فقد عاش العلماء وطُلَّاب العلوم الدِّينيَّة كلَّ ألوان الاضطهاد والتَّعذيب بالمستوى نفسه الَّذي عاشه الآخرون من أفراد الأُمَّة، بل ربَّما كانت المعاناة أشدَّ، وقد تعرَّض الكثيرون منهم للنَّفي والتَّشريد والإعدام والرَّمي بالرَّصاص، عندما كانوا يتقدَّمون المظاهرات، ويتحرَّكون في تنظيم الجماهير ضدَّ السُّلطة الطَّاغية، وينطلقون في كلِّ اتِّجاهٍ يستطيعون الانطلاق فيه من أجل القضيَّة، الأمر الَّذي جعل الأُمَّة تشعر بأنَّ الدَّعوة الَّتي يُثيرها الوسط الدِّينيُّ في قضيَّة الجهاد، ليست ترفًا فكريًّا ينطلق من الأبراج العاجيَّة، بل هو واقعٌ حيٌّ يعيشونه في حياتهم قبل أن يعيشه الآخرون.

وقد يكون من الضَّروريِّ أن يعمل العاملون في سبيل تكوين هذا الانسجام والحفاظ عليه في أيِّ موقعٍ من مواقع الثَّورة الإسلاميَّة، لتبقى للصِّفة الإسلاميَّة صفتها التَّمثيليَّة في حركة الواقع، وتأخذ حجمها الكبير في حياة النَّاس، من خلال ما يُمثِّله علماء الدِّين من رموزٍ كبيرةٍ مؤثِّرةٍ في واقع النَّاس الدِّينيِّ.

وإنَّنا لا ننطلق في هذا الطَّرح من نقطة التِّفريق بين فئة "رجال الدِّين"، وبين فئة "المدنيِّين"، أو "العلمانيِّين"، كما يحلو لوسائل الإعلام أن تطرح القضيَّة في بعض أوجه الصِّراع المزعوم بين الجماعتين، فنحن لا نؤمن بوجود مثل هذا التَّمييز في قضيَّة الجهاد من أجل الإسلام، بل ننطلق في ذلك من موقع اعتبار الوسط الدِّينيِّ المثقَّف أساسيًّا في مسيرة الأُمَّة؛ للحفاظ على سلامة القضيَّة في مواقعها الفكريَّة والتَّطبيقيَّة، وللحصول على الامتداد الشَّعبيِّ مع الثَّورة من خلال امتداده الطَّبيعيِّ مع خطِّ المرجعيَّة ومحيطها.

وفي ضوء ذلك، لا بُدَّ لنا من الوقوف بحزمٍ أمام المحاولات المشبوهة الَّتي يُراد من خلالها الفصل بين دور علماء الدِّين في الحياة العامَّة، وبين دور المثقَّفين الآخرين، فقد يُخيَّل إلينا أنَّ هذه المحاولات تُعتبر جزءًا من الخطَّة الَّتي تعمل على أن يدور علماء الدِّين في حلقةٍ مفرغةٍ من الواقع النَّظريِّ المجرَّد البعيد من قضايا الأُمَّة في العمق والشُّمول، كوجهٍ آخر من الفكرة الَّتي تقول بفصل الدِّين عن الدَّولة، في صورةٍ جديدةٍ تدعو إلى فصل علماء الدِّين عن الدَّولة. وقد لا نعني في هذا المجال، أن نعمد إلى إعطاء العلماء دورًا طبقيًّا يتميَّزون به عن الآخرين، فيما يقتضيه ذلك من امتيازاتٍ وحقوقٍ؛ لأنَّ الإسلام لا يُقِرُّ ذلك خارج نطاق "ولاية الفقيه" الَّتي لا تُمثِّل مركزًا طبقيًّا أو تشريفيًّا، بل تُمثِّل مركزًا متقدِّمًا في حساب المسؤوليَّة، من موقع الحفاظ على سلامة القيادة واستقامتها في الخطِّ النَّظريِّ والعمليِّ الصَّحيح.

إنَّ كلَّ ما نريد تقريره في هذا المجال، هو أنَّنا لا نوافق على عزل علماء الدِّين عن الحياة العامَّة، وإبعادهم عن ممارسة المسؤوليَّة، بل نعمل على أن يكونوا في عمق المسؤوليَّة وامتدادها، بشرط أن لا يكون لصفتهم الاجتماعيَّة أيُّ ضغطٍ على الموازين الأساسيَّة لقضيَّة الحقوق والواجبات، فيُحاسبوا كما يُحاسب أيُّ فردٍ آخر، ويُثابوا كما يُثاب الآخرون، من دون أيِّ تمييزٍ يتحوَّل إلى عقدةٍ، أو ينطلق من عقدةٍ، ذاتيَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ.

مفاهيم قرآنيّة في الواقع

إنَّ الثَّورة الإسلاميَّة قد استطاعت أن تُحدِّد للجماهير المفاهيمَ الأساسيَّة الحقيقيَّة للأشياء، في نطاق الكلمات القرآنيَّة الَّتي استخدمها القرآن للتَّعبير عنها، حتَّى كادت تتحوَّل إلى مصطلحاتٍ إسلاميَّةٍ تُحدِّد للشَّخص هويَّته من خلال استعمالها في حديثه، فكان أن ابتعدت، أو كادت تبتعد، الكلماتُ المرتبطة باتِّجاهاتٍ أخرى، عن اللُّغة الشَّائعة للنَّاس في حديثهم عن الواقع، فأصبحنا نسمع كلمة "المستضعفين" تعبيرًا عن الفئات المحرومة المسحوقة الضَّعيفة الَّتي لا تملك من أمرها شيئًا أمام "المتكبِّرين" الَّذين يملكون أعلى الامتيازات الَّتي لا يستحقُّونها، أو "المستكبرين" الَّذين يحاولون أن يعطوا لأنفسهم ذلك، أو يتظاهروا به، وبرزت في السَّاحة كلمة "الطَّاغوت"، تعبيرًا عن الطُّغيان في مواقع السِّياسة والاجتماع والاقتصاد، وتحرَّكت كلمة "الشَّيطان" في نطاق النَّماذج الشَّيطانيَّة اللَّاعبة بمصائر الأفراد والمجتمعات، في الدَّاخل وفي الخارج، في تعبير الشَّيطان الكبير عن الاستعمار والشَّيطان الصَّغير عن عملائه.

وبدأت هذه الكلمات تفعل فعل السِّحر في التَّصوُّر الإسلاميِّ للأشياء، فيما حمَّلها القرآن من مفاهيم وإيحاءاتٍ، وفيما حرَّكها في المواقع المختلفة، الأمر الَّذي جعل حركة اللَّفظ في الواقع تعني حركة الأحكام الشَّرعيَّة المرتبطة بها في حياة النَّاس، وإثارة المشاعر السَّلبيَّة والإيجابيَّة في داخل النَّفس أمامها، وبذلك أصبح الجوُّ الدَّاخليُّ في اللُّغة الشَّائعة جوًّا إسلاميًّا في تقييم الواقع، وفي حركة الشِّعارات الَّتي تؤكِّد قضيَّة المستضعفين في الأرض، وإذلال المستكبرين، وإبطال حكم الطَّاغوت، وتدمير مواقعه، بدلًا من كلمات "الطَّبقيَّة"، و"البرجوازيَّة"، و"الرَّأسماليَّة"، و"الكادحة"، وغيرها، ممَّا لا نتنكَّر لمدلوله من حيث طبيعة المعنى، ولكنَّنا نشعر بأنَّها وُلدت في غير الأجواء الإسلاميَّة، وتحرَّكت في خطوطٍ فكريَّةٍ معيَّنةٍ تتمثَّل في رموزٍ غير إسلاميَّةٍ من جانب الفكرة والمسار والهدف. وعادت للكلمات الإسلاميَّة حيويَّتها ونضارتها وفاعليَّتها، بعد أَنْ أبلاها الزَّمنُ غير الإسلاميِّ، وجعلها في متاحف الكلمات البائدة، حتَّى كان استعمالها يوحي بالشَّفقة والرِّثاء، من خلال نظرة التَّقدُّميِّين الَّذين يحاولون الإيحاء بأنَّ حركة التَّاريخ، في مدلولها الفلسفيِّ والاجتماعيِّ، لا تسمح بعودة هذه الكلمات؛ لأنَّها لا تسمح بعودة الأفكار الَّتي تُعَبِّرُ عنها وتدلُّ عليها.

وقد توفَّرت الثَّورة الإسلاميَّة ـ في هذا الاتِّجاه ـ على إبعاد الكلمات غير الإسلاميَّة المحمَّلة بمفاهيم قانونيَّةٍ وسياسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ تختلف عن المفاهيم الإسلاميَّة، وذلك مثل كلمة "الدِّيمقراطيَّة" الَّتي أصبحت من الكلمات المألوفة المحبَّبة لدى المسلمين، حيث اتَّخذت لنفسها في داخل أفكارهم صفةً تلتصق بالشَّخص، أو بالأسلوب، لِتُعَبِّرَ عنها، فيُقال: هذا شخصٌ ديمقراطيٌّ، بمعنى أنَّه متواضعٌ متسامحٌ، أو هذه طريقةٌ غير ديمقراطيَّةٍ، كتعبيرٍ عن الطَّريقة التَّعسُّفيَّة، وعاشت مع طبيعة الحكم ـ كما هي في الأصل ـ لِتُعَبِّرَ عن الحكم المرتبط بالشَّعب المتحرِّر من الدِّيكتاتوريَّة، وبذلك كانت المواقف المضادَّة لمفهوم هذه الكلمة تُعطي معنى القسوة والتَّعسُّف والاستبداد، وغاب المسلمون عن المعنى الحقيقيِّ للكلمة، حتَّى خُيِّلَ إليهم أنَّه يُحقِّق لهم الخيرَ، كلَّ الخير المنسجم مع الإسلام وتعاليمه. وقد حاول البعض من العلماء الكبار أن يتحدَّثوا عن الإسلام الديمقراطيِّ( )، وفي مقابل ذلك، كانت "الماركسيَّة" صفةً للإسلام لدى البعض الآخر، فيما يعنيه هذا المصطلح من الأخذ بالإسلام عقيدةً وعباداتٍ، وبالماركسيَّة اقتصادًا وتحليلًا للواقع( ).

ووقف قائد الثَّورة ليحسم الموقف، وَلِيُرْجِعَ الكلمتين وغيرهما، إلى أصولها الفكريَّة الَّتي تُمثِّل موقفًا في الحكم، وفي الفلسفة، والتَّاريخ، والاقتصاد، يختلف كلَّ الاختلاف عن الإسلام في مفاهيمه وتعاليمه.

الهجمة ضدَّ الإسلام

قد نجد في إيجابيَّات الثَّورة الإسلاميَّة، أنَّها استطاعت أن تُكَوِّنَ لنا فكرةً تفصيليَّةً وافيةً عن الحقيقة الاستعماريَّة، وهي خوف الاستعمار الكافر وعملائه من الإسلام عندما يتقدَّم إلى الحكم لِيُؤَكِّدَ قيمَه وشريعتَه في واقع الإنسان والحياة، فقد شاهدنا الهجمة الاستعماريَّة من كلِّ القوى الكافرة في العالم ضدَّ هذه الثَّورة؛ لأنَّهم يريدون لفكرة الحكم الإسلاميِّ أن تسير على طريقتهم الَّتي يُخَدِّرون فيها المسلمين ببعض الأحكام الشَّرعيَّة، كالحدود والعبادات، ثمَّ يتركون الواقعَ السِّياسيَّ والاجتماعيَّ والاقتصاديَّ لمطامع الحُكَّام المستعمرين، أمَّا الإسلام الَّذي يؤكِّد الاستقلاليَّة الحقيقيَّة، من موقع عزَّة الإسلام والمسلمين الَّتي لا يُريد الله للمسلم أن يتنازل عنها مهما كانت الظُّروف، أمَّا هذا الإسلام، فإنَّهم يرفضونه رفضًا قاطعًا، ويعتبرونه رجعيًّا مُتَخَلِّفًا من بقايا القرون الوسطى؛ لأنَّه يُحاكم على الطَّريقة الإسلاميَّة، ويرفض الطَّريقة الغربيَّة؛ ولأنَّه يدعو إلى إقامة حكم الله في كلِّ شأنٍ من شؤون الحياة، ولا يوافق على الأساليب الأوروبيَّة في التّنظيم والتَّشريع إذا كانت مخالفةً لحكم الله.

إنَّنا نعتقد بضرورة القيام بدراسةٍ مفصَّلةٍ عن كلِّ ما قيل عن الإسلام والمسلمين في نطاق مواجهة الثَّورة الإسلاميَّة في إيران، لنرصد من خلال ذلك اتِّجاهات الرِّياح القادمة من بعيدٍ، ولنعرف نقاط الضَّعف الَّتي يحاول العالم الكافر، أو العالم المسلم السَّائر في فلكه، أن يستغلَّها لتشويه صورة الإسلام في نفوس أتباعه، وفي وعي الآخرين، لندرسها في عمليَّة تصحيحٍ للمسار إن كان هناك خطأٌ فيه، وللمضمون إن كان فيه انحرافٌ عن الحقِّ، ثمَّ نحاول متابعة الدِّراسة للأساليب الَّتي يمكن أن نُقَدِّمَ بها الإسلامَ إلى العالم، أو نطرح فيها قضايانا أمامه؛ لأنَّ من الضَّروريِّ للفكرة أن تتحرَّك في أسلوبٍ مشرقٍ يحفظ لها صفاءَها ونقاءَها وإشراقها، فلا يجوز أن نُخْضِعَ مواقفَنا لأجواءٍ وأساليبَ استعراضيَّةٍ، قد تشارك في خلق الزَّهو بالواقع في النِّطاق المحلِّيِّ، ولكنَّها تترك آثارًا سلبيَّةً في امتداد الصُّورة في العالم، وبذلك نشعر بالحاجة إلى معرفة طريقةِ الإخراج للصُّورة قبلَ أن نبادر إلى عرضها في السَّاحة الواقعيَّة للأشياء.

وربَّما نشعر بأنَّ شبابنا المسلم الَّذي يعيش في أوروبّا وأميركا وروسيا، يحمل مسؤوليَّةَ متابعة الاتِّجاهاتِ المضادَّة وتحليلها ونقدها ـ حال أمكن ـ في نطاق القراءة الواعية الملتزمة الهادفة، لنحصل من ذلك على رؤيةٍ واضحةٍ لكلِّ جوانب الهجمة الاستعماريَّة الكافرة، ولكلِّ أساليبها السَّائرة في اتِّجاه أهداف الاحتواء الحضاريِّ من كلِّ جهاته.

والله متمُّ نوره

إنَّنا نتعلَّم من خطوات هذه الثَّورة، كيف تتوالى ألطاف الله على المسيرة الإسلاميَّة عندما تتقدَّم إلى الحياة في طريق الجهاد، وذلك في دراستنا للظُّروف الصَّعبة الَّتي عاشتها، فكان أَنْ هيَّأ اللهُ لها من الأجواء ما استطاعت من خلاله الخروجَ من كثيرٍ من المآزق والتَّحدِّيات من حيث لا تحتسب، وبالمزيد من التَّأييد والتَّسديد في خطوات القيادة، وفي حركة الأُمَّة. ولكنَّ ذلك لا يمنعنا من دراسة الظُّروف الموضوعيَّة للنَّجاح في طبيعة شخصيَّة القيادة، وفي صمود الخطِّ الثَّوريِّ على النَّهج الإسلاميِّ، وفي الأساليب العمليَّة الَّتي ساهمت في تفتيت المقاومة للحكم الطَّاغي، وفي الاستفادة من الظُّروف السِّياسيَّة المحيطة بالتَّحرُّك السِّياسيِّ الثَّوريِّ، وفي غير ذلك من الأسباب الواقعيَّة الخاضعة لسُنَّة الله في الكون. وبهذا، نفهم أنَّ هذه النَّظرة الَّتي نُريدها أن تحكم التَّوجُّهَ العمليَّ للمجاهدين الإسلاميِّين في كلِّ مكانٍ، لا تُلغي الظُّروف الموضوعيَّة للأشياء؛ لأنَّ مثل هذا التَّفسير لا يتنافى مع ألطاف الله الَّتي تخلق للسَّاحة ظروفها، على أساسٍ من الأسباب الخفيَّة والظَّاهرة للأشياء.

ولعلَّ هذا هو الأسلوب الَّذي يريده الإسلام للنَّظرة الإسلاميَّة للعمل، فلا يُريدها أن تغرق في الغيب الَّذي يجعلها تبتعد عن أسباب الواقع، ولا يُريدها أن ترتبط بالمحسوسات الَّتي تعزلها عن النَّظر إلى الغيب الَّذي قد يُرسل اللهُ من خلاله ألطافَه، بل تكون متوازنةً بين هاتين النُّقطتين، لتعرف أنَّ الغيب يُهيِّئ للواقع شروطَه غير المنتظرة في بعض الحالات، وأنَّ الواقع لا يتحرَّك إلَّا من خلال سُنَّةِ الله في الكون، فهو نتاج إرادة اللهِ الَّتي اقتضت أن لا تُوجد الأشياءُ إلَّا بأسبابها الطَّبيعيَّة، الظَّاهرة أو الخفيّة، فلا نغرق بعد ذلك في المجهول، أو نبتعد عن الواقع.

محاولات العرقلة

إنَّ من القضايا الَّتي تواجهنا في تصوُّرنا لمستقبل الثَّورة الإسلاميَّة من خلال الواقع المعاصر، أنَّ القوى المضادَّة في الدَّاخل، تحاول بأكثر من طريقةٍ أن تعرقل خطى الإسلام بكلِّ أساليب اللَّفِّ والدَّوران، وذلك في خطوات الشَّخصيَّات المصطنعة العرقيَّة والإقليميَّة، أو المحاور الشَّخصيَّة والمركزيَّة في الكيانات المعقَّدة الموجودة في السَّاحة الَّتي قد تلبس لبوس الإسلام، ما يجعلنا نكتشف طبيعة الصُّعوبات الَّتي تنتظر أيَّ ثورةٍ إسلاميَّةٍ مماثلةٍ في حركة الدَّاخل، فيما يحمل الدَّاخل من تعقيداتٍ، وفي حركة الخارج، في تخطيط القوى العالميَّة للإجهاز على الإسلام والمسلمين. إنَّ علينا أن لا نكتفي بمواجهة الواقع، في مشاكله وتعقيداته، بالعموميَّات الَّتي لا تدرس خصائص الأشياء وخلفيَّاتها؛ لأنَّ ذلك يُبعدنا عن فهم الواقع، ويُغرقنا في الضَّبابيَّات الفكريَّة، لنواجه المشكلة من خلال الحلول الواقعيَّة، لا المثاليَّة.

وبهذه المناسبة، نحبُّ أن نشير إلى النَّظرة الطُّوباويَّة لدى بعض العاملين للإسلام الَّذي يُصَوِّرُ الحكمَ الإسلاميَّ عند تحقُّقه كما لو كان حكمًا بلا مشاكل؛ لأنَّه يحلُّ كلَّ المشاكل العالقة للإنسان، إنَّنا نحبُّ أن نشير إلى عدم واقعيَّتها؛ لأنَّ المشاكل الواقعيَّة ترتبط بالطَّبيعة المعقَّدة للتَّركيب الإنسانيِّ الَّتي قد تُفرز الكثيرَ من الأوضاع القلقة باستمرارٍ، وتخلق لنا الكثير من الارتباكات، الأمر الَّذي يجعلنا نواجه فكرة إعادة الإسلام إلى الحياة كفكرةٍ تتعامل مع المشاكل تعاملًا واقعيًّا عادلًا، لا ينطلق من نظرةٍ سريعةٍ، أو تفكيرٍ معقَّدٍ، أو مصلحةٍ ذاتيَّةٍ محدودةٍ، بل ينطلق من النَّظرة الطَّبيعيَّة للأشياء، في رؤيةٍ شموليَّةٍ واقعيَّةٍ، وبذلك، يكون التَّحرُّك على أساس مواجهة المشاكل، لا على أساس إغفالها والهروب منها.

وهذا ما نعيشه في نطاق الثَّورة الإسلاميَّة في إيران الَّتي تتعامل مع المشاكل بحذرٍ وواقعيَّةٍ، من دون أن تسقط أمام المشكلة، فيما يريده الآخرون من تحريك الرِّمال المتحرِّكة تحت أقدامها. وهذا هو ما يجب أن يصبر عليه المخلصون للثَّورة، فلا ينهزموا أمامه، ولا يتعقَّدوا معه، بل يتعاملوا معه كحقيقةٍ واقعيَّةٍ للعمل والحياة.

حول الحرِّيَّة الفكريّة والسياسيّة

ربَّما نحتاج إلى وقفة تأمُّلٍ حول مفهوم الدَّولة الإسلاميَّة للحرِّيَّة الفكريَّة والسِّياسيَّة من خلال التَّجربة المعاصرة للحكم الإسلامي في إيران، فقد كانت الفكرة المطروحة في الأبحاث الإسلاميَّة، أنَّ الإسلام لا يمنح الحرِّيَّة الفكريَّة والسِّياسيَّة للتَّيَّارات والأفكار المضادَّة، على أساس أنَّه لا يمكن أن يوافق الإسلام على إفساح المجال للآخرين لكي يُحَطِّموا أُسُسَه الفكريَّة والسِّياسيَّة، ويُضَلِّلوا النَّاس عن طريقه، ويُبعدوهم عن الإيمان به؛ ولهذا أفتى الفقهاء بحرمة حفظ كتب الضَّلال وبيعها وشرائها، وفي ضوء هذه الفكرة، كانت الدِّعاية الموجَّهة ضدَّ الإسلام أنَّه لا يحترم حرِّيَّة الفكر في الإنسان، ولا يسمح للموقف المخالف أن يُعَبِّرَ عن نفسه. وكان المفكِّرون الإسلاميُّون يجيبون عن ذلك، بأنَّ الإسلام لا يؤمن بالحرِّيَّة على الطَّريقة الدِّيمقراطيَّة؛ لأنَّها لا تلتزم بفكرٍ خاصٍّ، بل هي الإطار الَّذي يحتضن أيَّ فكرٍ، مهما كان لونه، بشرط اختيار الشَّعب له من خلال ممثِّليه، بل يؤمن بالحرِّيَّة في إطار مصلحة الإنسان المستمدَّة من شريعة الله، فلا يُمكن أن يسمح بالحرِّيَّة المضادَّة لهذه المصلحة الإنسانيَّة.

ولكنَّنا الآن، وفي نطاق التَّجربة الإسلاميَّة المعاصرة، نشعر بأنَّ علينا أن نُفكِّر في القضيَّة بطريقةٍ جديدةٍ، فقد منحت الثَّورة الحرِّيَّةَ في العمل حتَّى للأحزاب السِّياسيَّة المضادَّة لفكرها وجهًا لوجهٍ، كالحزب الشُّيوعيِّ، ولكنَّها لم تتجمَّد أمامه، بل حاولت أن تدخل معه في صراع الفكر والحركة من موقعٍ جديدٍ، وهو دراسة السَّاحة السِّياسيَّة الَّتي تتحرَّك فيها الأُمَّة، حيث تشعر بأنَّ القوَّة الإسلاميَّة الممتدَّة، تستطيعُ أن تعطيَ القوى الأخرى حجمَها الطَّبيعيَّ، في عمليَّةِ مواجهةٍ هادئةٍ تُفرز القوى في السَّاحة بشكلٍ طبيعيٍّ، وبذلك تستطيع أن تقوم بعمليَّة التَّذويب بهدوءٍ، دون اللُّجوء إلى عمليَّة القهر والضَّغط والتَّصفية، بينما يمكن لهذه الأساليب أن تُنتج إعطاء الصُّورة بشكلٍ أضخم عن الواقع لهذه التَّيَّارات، أو تُكسبها عطفًا شعبيًّا يُساهم في تعاظمها السِّياسيِّ والشَّعبيِّ.

وفي نطاق هذه الفكرة، نجد أنَّ الثَّورة الإسلاميَّة لا تُلغي الهدف، وهو حماية الإسلام من مخطَّطات أعدائه، بل تلغي الوسيلة، وهي محاولة ممارسة الضَّغط الجسديِّ والمعنويِّ على الأفكار الأخرى، كسبيلٍ من سُبُلِ الوصول إلى تحقيق الهدف، لتكون الوسيلة الجديدة هي إبعادها عن وجدان الجماهير، على أساس تعريتها أمامها، في وسائلها وأهدافها وأفكارها. إنَّ هذه التَّجربة الجديدة جديرةٌ بالدَّرس والتَّأمُّل والملاحقة؛ من أجل مواجهة قضيَّة الحرِّيَّة في الإسلام بأسلوبٍ جديدٍ، وروحيَّةٍ جديدةٍ.

تجربةٌ جديرةٌ بالتَّأمُّل

ربَّما كانت التَّجربة الإسلاميَّة في إيران للحكم الإسلاميِّ، من التَّجارب الجديرة بالتَّأمُّل والدَّرس، فقد كانت الرُّؤية المطروحة للحكم الإسلاميِّ تختلف ـ حسب اختلاف الاجتهاد لدى المسلمين ـ بين رأيٍ يطرح القضيَّة في صورة الخلافة الإسلاميَّة الَّتي تُعتبر امتدادًا للخلافة السَّابقة، مع الاختلاف في بعض التَّفاصيل، وبين رأيٍ يطرح القضيَّة في صورة الشُّورى الَّتي تأخذ الشَّكل الدِّيمقراطيَّ مع تبديل المضمون، وبين رأيٍ يطرح ولاية الفقيه في صورة الحكم المطلق الَّذي يوحي بالاستبداد، والفرديَّة المقدَّسة الَّتي لا يمكن لأحدٍ مخالفتها والاعتراض عليها. وبذلك، كانت الفكرة المألوفة، أنَّ الحكم الإسلاميَّ لا يُمثِّل الصُّورة الواقعيَّة العصريَّة الَّتي تنسجم مع جوِّ العصر وأسلوبه ونظرته إلى الأشياء، بل يُمثِّل صورةً تعيش مع التَّاريخ في روحيَّة الماضي. وتحرَّكت الدِّعايات المضادَّة في الدَّاخل، حتَّى من بعض الرُّموز الكبيرة للمرجعيَّة، وفي الخارج، من الأجهزة الكافرة والمستعمِرة والضَّالَّة، لِتُعْطِيَ الصُّورةَ مزيدًا من الظَّلام والسَّواد والبدائيَّة.

وجاءت التَّجربة الإسلاميَّة الجديدة لِتطرحَ صورةً عصريَّةً لا تتنكَّر لفكرة ولاية الفقيه، ولا تتنكَّر للأساليب العصريَّة في تنظيم الحكم، ولا تسمح للاستبداد بأن يُشَوِّهَ وجهَ الحكم، وذلك في الصِّيغة المطروحة للتَّطبيق في السَّاحة الإيرانيَّة، بعد أن استكمل العلماء والفقهاء الأُسسَ الاجتهاديَّة لسلامتها فقهيًّا وشرعيًّا. إنَّنا نشعر بالحاجة إلى متابعة هذه التَّجربة بالدِّراسة، على ضوء الكتاب والسُّنَّة من جهةٍ، وعلى ضوء المصلحة الإسلاميَّة العليا، في حاضر الإسلام ومستقبله، ليستقيم للحكم الإسلاميِّ صورتُه الواضحة الكاملة المشرقة الَّتي تحتضن الكثيرَ من الإيجابيَّات، وتوفِّر علينا الكثير من السَّلبيَّات.

فضلُ الثَّورة الإسلاميَّة

وختامًا، إنَّنا نشعر بأنَّ الثَّورة الإسلاميَّة قد أعطت الكثير، بالرَّغم من عمرها القصير، فقد استطاعت أن توصل الإسلام إلى كلِّ مكانٍ في العالم من خلال الضَّجَّة الإعلاميَّة الَّتي انطلقت من أصوات المؤيِّدين والمعارضين، كما استطاعت أن تدفع بالعمل الإسلاميِّ إلى مجالاتٍ متقدِّمةٍ، من خلال الرُّوح الإسلاميَّة الجديدة الَّتي خلقتها في نفوس الجيل المسلم المعاصر.

ولا زلنا في انتظار جديدها في كلِّ يومٍ.

ولا تزال الرُّوح العظيمة المتمثِّلة بقيادتها الرَّائدة في شخص آية الله الخميني، تُقَدِّمُ لنا في كلِّ يومٍ دليلًا على الإخلاص في الفكر والثَّورة والمسار. حفظه الله رمزًا للوحدة وللجهاد، وحفظ الله للأُمَّة ثورتها الرَّائدة، وحفظكم جميعًا، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

*  نُشرت هذه المقالة في مجلَّة (الحكمة)، العدد الثَّامن، صفر 1401 هـ ـ كانون الأوَّل - ديسمبر 1980 م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية