مرّت عصور وأجيال، وانفتح المسلمون على واقع جدي،. فإذا بالنظريات الحديثة تندفع بجنون وقوّة، لتغزو بلادهم وتأخذ مركزها من تفكير شبابهم الطّالع، وإذا بأعداء الإسلام يندفعون في صميم المسلمين ليثيروا الشّبهات، ويهدّموا ما يستطيعون تهديمه من الجوانب الأساسيّة للعقيدة، ليسهل عليهم بعد ذلك تهديم الباق،. وإذا بالمدارس التي أُنشئت تحت ستار التّثقيف والتعليم، تتحوّل إلى مجالات للدّسّ والتّضليل وتشويه الإسلام في نفوس أبنائه، الذين لم يكونوا قد عرفوا عن الإسلام وأحكامه المعرفة التي يستطيعون بها الدفاع عن دينهم وعقيدتهم، وإذا بالإسلام يصبح ـ بوحي من المعاهد ـ في نظر كثير من خريجي هذه المعاهد من المسلمين، غولاً يتهدّد البشريّة، فيخنق الحريات، ويكمّ الأفواه، ويعطّل المواهب، ويُرجع العالم إلى عهود الرقّ والاستعباد والإقطاع! وإذا بالكتب والمؤلّفات الغربية التي نشرت في الوقت الّذي لم يكن المسلمون على اتصال بالعالم الغربي، تندفع إلينا بكثرة هائلة، فنجد فيها الإجرام الفكري يتمثّل في الأكاذيب والمفتريات التي جاء بها هؤلاء المؤلّفون والمفكرون عن إسلامنا ونبيّنا وتاريخنا بوجه عام .ويتجسّم هول هذه الجريمة في التضليل الذي قام به هؤلاء في إبعاد القارئ الغربيّ عن حقيقة الإسلام، وعن جوهره وروحيّته، حتى عاد الإسلام يمثّل في نظره الجهل والفوضى والعبودية والإقطاع والرجعيّة بأبشع صورها.
هذا هو الواقع الذي انفتح المسلمون عليه عند اتّصالهم بالعالم الغربي، وعند غزو الحضارة الأوروبيّة، بخلاعتها وفجورها الأخلاقي والفكري، لبلادهم. وهنا شعر الباحث المسلم بحاجته إلى أساليب وأدوات جديدة، يصدّ بها هذا الهجوم المفاجئ، وهذا السّيل الجارف من الأكاذيب والمفتريات، لينقذ أبناءه من جهة، وليفتح للإنسان الغربي طريق المعرفة الخالصة لحقيقة الدِّين وواقعه من جهة أخرى.
فكانت هناك محاولات كثيرة بدائيّة تعتمد على أسس قديمة في بعض حلولها، وجديدة في بعضها الآخر، ومهما قلنا في قيمتها من الناحية الفكرية، ومهما قلنا في قلّة جدواها وضعف تأثيرها، فليس لنا إلاَّ أن نقرّر أنها كانت بذرة لدراسات إسلاميّة جديدة، تحاول أن تقف أمام شبهات أعداء الإسلام وأكاذيبهم. وتوسّعت هذه الدراسات، لا سيّما بعد أن بدأ المسلمون يستفيدون من التقدّم العلمي العظيم الّذي حدث في هذا القرن، من جميع النواحي، فأصبح لهم من هذه العلوم سند في ما يفسرون وفي ما يعالجون من القضايا الإسلامية .وهكذا أصبح المسلم الواعي يملك من أدوات الدفاع الفكري ما يحميه ـ لو استعملها بإخلاص ـ من أيّ هجوم إلحاديّ غاشم، وأصبح للقارئ المسلم ما يكفيه من الكتب المختلفة التي تعالج قواعد الإسلام وتشريعاته على أساس البحث عن الحلول التي قدّمها لمشاكل الإنسان، ومقارنتها بالحلول التي قدّمتها المذاهب الأخرى لهذه المشاكل.
تلك هي قصّة الدّراسات الإسلاميّة التي تحاول أن تفسّر الإسلام وتعرضه للبشريّة بشكله الناصع المضيء. ولا تزال القصة في بدايتها، فإنَّ أمام هذه الدّراسات شوطاً بعيداً يتحتّم عليها أن تبلغه في سبيل الوصول إلى الكمال.
ومع هذه الملاحظة، كيف يمكننا اعتبارها أساساً للبحث والتّبرير؟ ولنا أن نشارك الباحثين مهمّتهم، فنحاول إلقاء الضّوء على بعض النقاط التي يلزمنا جلاؤها في سبيل هذه الغاية.
فنلاحظ على بعض هذه الدّراسات، أنَّ بعض الباحثين الإسلاميّين، كانوا يحاولون ـ بدافع من الخوف أو الضّعف، أو الرعاية لما يعتنقون من مبادئ، وما يؤمنون به من أفكار ـ إظهار الإسلام بمظهر الدِّين الذي ينسجم مع التفكير الأوروبي الحديث، فيخضعونه للدّيمقراطيّة تارةً، وللاشتراكيّة أخرى، وللرأسماليّة ثالثة. وهكذا دواليك، في عمليّة تفسير وتحليل تختلف وتتنوَّع، حسب اختلاف الميول وتنوّعها التي يمثّلها هذا الباحث أو ذاك، بدافع سيطرة هذا اللّون من التفكير على أذهانهم، حتى أصبحوا لا يعقلون أيّ قيمة لأيّ مبدأ لا ينسجم مع هذا التفكير.
وهناك نوع آخر من الباحثين يختلف عن هذا النوع، فهم مسلمون يؤمنون بالإسلام عن وعي واتزان، فلم تخدعهم زخارف الحضارة الحديثة، أو تلهيهم عن واقعها وأساسها المادّي المنهار، ولم تبهرهم الأشعة البرّاقة للمذاهب الاجتماعيّة الحديثة، أو تأخذ بأفكارهم، بل نظروا إليها بعين الناقد البصير الذي يتلمّس مواطن الضعف ومواطن القوّة بوعي وعمق، فناقشوها ونقدوها على أساس من علم وفكر. تلك هي صفة هؤلاء الباحثين، فهم مسلمون يؤمنون بأنَّ الإسلام نسيج وحده، فمن الخطأ أن نصفه بأيّ صفة، مما تعارف النّاس على إطلاقه عليه من أوصاف حديثه، لأنّه إذا اتفق مع بعض الأفكار ـ في بعض المجالات ـ فليس معنى ذلك أنّه ينسجم معها في أساس التّفكير، وهم يؤمنون، إلى جانب ذلك، كأيّ مسلم واع، بأن لا سعادة للبشرية إلاَّ بالإسلام.
ولكنّنا نأخذ عليهم طريقتهم في البحث، ووجهتهم الدّراسيّة؛ إنهم يحاولون صدّ الهجوم فحسب، فهم يكتفون بالدّفاع، والردّ على أعداء الإسلام في ما اتهموا به الإسلام، وفي ما ألصقوا به، فلا يدرسون الإسلام إلّا من الجوانب التي أثارها هؤلاء، ولا يعالجونه إلّا على أساس ملاحظة تلك الجوانب فيه.
إنَّنا نأخذ عليهم هذه الطّريقة، فإنها قد تضيّع علينا الكثير من واقع المفاهيم الإسلاميّة وجوانبها، لأنَّ ذلك يقصر نظرنا على الجوانب الخارجيّة للتّشريع، أمّا الجوانب الداخليّة التي ارتكز عليها التشريع في ذاته، وفي حقيقته، فإنها قد تضيع في هذه الطّريقة في غمار معالجة القضية، ضمن نطاق الأجواء الخاصّة التي ربما تبتعد بالفكرة عن مجالاتها، وتنقلها إلى مجالات أخرى لا ترتبط بها من قريب أو بعيد.
وقد ساعد هذا الاتجاه في إدخال كثير من المفاهيم الخاطئة إلى الدّراسات الإسلاميّة، التي انطلقت لتبرّر بعض التشريعات الإسلاميّة، على ضوء بعض النقاط المسلَّمة عند الآخرين، كسبيلٍ من سبل كسب عطف هؤلاء على الإسلام والمسلمين، من دون التفاتٍ إلى خطأ الأساس الذي بني عليه التّبرير، لأنَّ من الممكن أن لا تكون بديهيّات الآخرين التي انطلقت من ظروفهم وحياتهم الخاصّة، من الأمور البديهيّة عندنا.
مع هذه الملاحظة، كيف يمكننا اعتبارها أساساً للبحث والتَّبرير؟ وإذا كانت هذه الطريقة التي ألمحنا إليها، في ما أجملنا من حديث، تستدعي ضياع كثير من النقاط المهمّة في البحث، وفقدان كثير من الأجواء التي عاشها التشريع في نطاقه الذاتي، فمن الإخلاص للدّراسات الإسلامية، أن نجرّب طريقة أخرى، تدرس الفكرة أو التّشريع كشيء موضوعيّ مستقلّ في إطاره الإسلامي العامّ، ثُمَّ في إطار مشاكلنا الحياتيَّة، ومدى ما يستطيع أن يقدّمه إليها من حلول. فإذا استكملنا عناصر الدّراسة الذاتيّة للموضوع، واستطعنا أن نضعه حيث هو من أجوائه الخاصَّة، أمكننا بعد ذلك الالتفات إلى ما يُثار حوله من شبهات، وما يدور من مناقشات، أو التعرّف إلى بعض جوانب النّقص في الدّراسة، أو في الفهم العام للفكرة.
وبكلمة أكثر وضوحاً، إنّنا لا نريد للتّشريع الإسلامي أن يعيش أجواء التشريعات الوضعيّة الأخرى، أو أن يخضع لركائزها الفكرية من منطلقه الفكريّ، بل نريد له أن يعيش ضمن أجوائه التي جعلها الله له، وينطلق من الركائز التي ارتكز عليها في بنيانه الفكريّ.
ولن نستطيع أن نحافظ على هذا الخطّ إذا حاولنا دراسة الإسلام من خلال تعليق الآخرين عليه، ودراستهم له، بل المنهج السّليم هو محاولة فهمه في إطاره الإسلاميّ العام، بدون التفات إلى تلك الشّبهات أو النقود، إلّا بقدر ما يتعلّق بإلقاء الضّوء على تلك الدراسة، ليتسنّى لنا فهم الإسلام فهماً لا يخضع لمؤثّرات خارجيّة بعيدة عنه، بل يسير مع طبيعة البحث الواعي الخالص لذاته.
إننا ندرك أنَّ المسلم الواعي لا يحتاج في الإيمان بالإسلام والعمل بمقتضياته، إلى التحليل والتفسير، فحسبه أنّه يدرك أنه دين صادر من قبل الله ليؤمن به، ويجري وفق تعاليمه.
إنّنا ندرك ذلك، ولكنَّنا ندرك إلى جانبه، أنَّ الجيل الحاضر أصبح يتطلَّب ـ مع ذلك ـ الدّراسة الحديثة للإسلام الّتي تعتمد على تحليل تشريعاته وتفسيرها بأسلوب يتّصل بالحياة، ليتعرَّف ـ من خلال ذلك ـ إلى عظمة الإسلام وطبيعة حلوله، ليتمكّن من مواجهة التحدّي الذي يواجهه ـ كمسلم ـ من قبل التيّارات والمذاهب الحديثة التي غزت العالم باسم معالجة مشاكله.
وعلى ضوء هذا، لا بُدَّ لنا ـ استجابةً لهذه الحاجة الملحّة ـ أن ندرس الإسلام دراسةً جديدةً تنبع من داخله لا من خارجه، وتعتمد على البناء والتّركيز لا على مجرّد الهدم لما بناه الآخرون، فإنَّ عمليّة الهدم في الجانب الآخر، قد تشغلنا عن عملية البناء في هذا الجانب.
إنَّ البناء يركّز الأساس على قاعدة صلبة لا تنفع معها معاول الهدم والتّخريب مهما عملت ومهما كثرت.. وهنا، لا يملك الآخرون إلَّا أن يتضاءلوا ويتلاشوا أمام عظمة التّشريع الإسلامي وقاعدته المتينة. هذه بعض الملاحظات التي نرجو أن تجد سبيلها لدى الباحثين المسلمين.
*من كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام".