للشّعار في حياتنا دور العنوان الّذي يحمل الفكرة ـ في الخطّ العريض ـ لتدخل إلى الفكر من الباب الواسع، لتكون التفاصيل مرحلة ثانية في عملية الاختزان الداخليّ للوعي الذاتيّ للإنسان، لأنّ الجزئيات لا بدّ أن تنطلق من خلال الكلّيات التي تمثّل المبادئ العامة التي توجّهه إلى الساحات الكبيرة في الحياة، فيما يتميّز به فكرٌ عن فكرٍ، أو موقع عن موقع، ثمّ تبدأ عمليّة الحركة نحو الدّوائر الصّغيرة المتفرّعة عنها.
وهذا ما لاحظناه في الرسالات الإلهيّة، التي طرحت شعار التوجيه كواجهة للرّسالة، وطرحت شعار الرّسالة كواجهة للعقيدة والشّريعة، ليعرف الإنسان الحدود الفكريّة التي تميِّزه عن الآخرين، فيما يريد أن يؤكّده من ملامح الشخصية المميّزة في وجوده.
وهذا هو الدّور الإيجابيّ للشعار في بناء الإنسان، في تأثيره في دائرة التصوّر في الملامح الفكريّة للقضايا العامّة، حيث يملك الإنسان فيها الخطوط العريضة لما يحمله من فكر يتحرّك فيه من خطّ السير.. فلا يواجه الحيرة في تصوّراته كما يواجهها أولئك الذين يتحرّكون في الحياة من خلال التفاصيل الغارقة في الجزئيات الكثيرة البعيدة عن الكلّيات، بل يعرف كيف يحدّد لنفسه خطّ السّير من خلال ما يملكه من عناوين عامّة، كما يستطيع تحديد صورته لنفسه وللآخرين بكلّ وضوح، وتحريك خطواته في هذا الطّريق أو ذاك.
تأثير الشّعار
وإذا كان للشّعار دور العنوان الذي يحدِّد وجه الفكرة، فإنَّ له دوراً مهمّاً آخر، وهو تغذية الجانب الشعوري بالمشاعر المتنوّعة التي تختلف سلباً وإيجاباً حسب اختلاف الإيحاءات النفسية لهذه الفكرة أو تلك، فقد تلتقي بشعارٍ يثير في داخلك المشاعر الرّقيقة الحانية التي تدفعك إلى الانفتاح على الآخرين والالتقاء بهم، وقد تلتقي بشعار آخر يثير في داخلك المشاعر القاسية التي تتطلّب وتتحدّى وتهاجم وتدفعك إلى الانغلاق على الناس والانفصال عنهم.
ولنضرب لذلك مثلاً: في شعار السّلم الذي تحمله الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً...}[البقرة: 208].
إنّك ستقف أمام هذا النداء الشِّعار لتشعر بالأجواء الحميمة التي تقتحم كلّ فكرك ووجدانك وعاطفتك، إزاء هؤلاء الذين يواجهونك وتواجههم في ساحات الصّراع، وستعمل على توفير كلّ المناخات الملائمة التي تحتويك وتحتويهم، في حبّ ورحمة وحنان، لتربط بينك وبينهم في عمليّة توثيق للعلاقة، فيما تثيره كلمة "السِّلم" من مشاعرَ وأجواء، وفيما توحيه من وجود ساحة مفتوحة للجميع، لا تفصلها الحواجز، ولا تعقّدها الخلافات، بل ربّما تثير في داخلك الإرادة الحرّة في كسر كلّ حاجز ينتصب في السّاحة، وفي تذويب كلّ خلاف يطلُّ برأسه ليخرّب السّلام، وذلك من أجل أن يأخذ الشّعار مكانه الطبيعي في حياة الإنسان.
وهكذا نلتقي بهذه الأجواء في شعار "الصّداقة بين الشّعوب" و"المحبّة" و"الرّحمة" وغير ذلك.
ونقف في الاتجاه المقابل أمام شعارات الحرب والجهاد ونحوهما، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: 73]، {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}[التّوبة: 36].
فإنّك ستشعر بوجود أجواء حادّة تتداخل فيها الصرخات الحادّة بالكلمات المثيرة والمشاعر المتوتّرة التي تجعل منك إنساناً مفصولاً عن الآخرين وعن حياتهم، لتتحوّل إلى عنصر مدمِّر، يحاول أن يكتسح كلّ شيء في منطقة الانفعال وفي منطقة الواقع. وبذلك تفقد الكلمة الحلوة معناها في هذه الأجواء، وتعود الابتسامة حركة شاذّة لا تتناسب مع ما تحتاجه السّاحة من عبوس وإثارة. وبذلك، لا يجد الإنسان أمامه إلا المزيد من العنف والدماء والصراخ في ساحة الصراع.
ولا نريد أمام هذين الشّعارين أن ندخل في تقييم المشاعر الإيجابيّة أو السلبيّة التي تكون نتيجة طبيعيّة لهذا الشّعار أو ذاك، لنتحدّث عن حدود المشاعر الملائمة أو المضادّة، لئلا تفقد الحرب معناها الإنساني الذي يحفظ للحياة توازنها، أو يفقد السِّلم معناه الواقعيّ الذي يحفظ للواقع قوّته، فلذلك مجال آخر، بل كلّ ما نريده هو إعطاء الفكرة عن الجانب الشعوري، كالشّعار الذي يتدخّل في تكوين المشاعر الإنسانيّة للشخصيّة بطريقة شعورية أو لا شعوريّة، ممّا يقودنا في حركته داخل الذّات، إضافةً إلى حركته خارجها، وذلك من أجل رصد النتائج المتنوّعة في ساحة الواقع.
شروط الشّعار
وإذا كان للشّعار هذا الدور في الحالة الفكرية والوجدانية للإنسان، فقد ينبغي لنا أن ندقِّق جيّداً في نوعيّة الكلمات التي يحملها، وفي طبيعة الوجه الذي يمثّله، والأجواء التي يثيرها، والأسلوب الذي يهيمن عليه، لأنّ لذلك مدخلاً كبيراً في الجانب الإيجابيّ أو السلبيّ في حركة الشّعار في داخل الإنسان الذي يحمله في السّاحة التي يتحرّك فيها، وفي خدمة الفكرة التي يريد أن يوجّه الناس إليها، والغاية التي يعمل على إيصالهم إليها.
وربّما كان من الضروريّ في هذا المجال، أن ندرس الشروط الموضوعية والفكرية التي تسمح للشّعار بأن يدخل عقل النّاس وشعورهم، لأنّ هناك أفكاراً لا تستطيع أن تتقدّم في الساحة إلا إذا سبقتها أفكار أخرى. فإذا لم نلاحظ هذه النّاحية، فقد نجد هذه الفكرة أو تلك غريبة عن الواقع، ما يجعل منها عنصراً مرفوضاً فيه، لأنّه يصطدم ببعض القناعات الخاطئة التي تحتاج إلى إعدادٍ مسبق، من أجل إبعادها عن وعي النّاس.
إنّنا نريد أن نقرّر ـ في هذه الملاحظة ـ مبدأ التسلسل الطبيعيّ لحركة الفكر في الذهن وفي الواقع، من أجل أن لا تكون المسألة قفزةً في الفراغ فيما يحتاج إلى قاعدة ترتكز عليها الفكرة. ولا نريد بذلك الخوف من مواجهة التحدّيات الفكريّة الأخرى التي تفرض نفسها على الساحة، فتمنع غيرها من الدّخول إليها، لأنّ ذلك من الأمور الطبيعية في ساحة الصّراع، بل كلّ ما نريده، هو أن لا يفقد الشعار بعضاً من عناصره الذاتيّة في عمليّة إقناع الآخرين به في دائرة الوعي الوجدانيّ للفكرة.
الشّعار على أرض الواقع
وقد نجد ـ في هذا الاتجاه ـ نقطة أخرى جديرة بالتأمّل والملاحظة، هي مسألة حركة الشّعار على صعيد الواقع. فربّما كان بحاجة إلى أرض صالحة تنمو فيها البذور بشكلٍ طبيعيّ معقول، بحيث لا تتحوَّل الحركة إلى ضدّها كنتيجة لما يثيره الطّرح السّريع الذي لا ينتظر تكامل عناصر النّجاح، من أوضاع مضادّة تصنع للشّعار ألف حاجز وحاجز في الطّريق.
وقد لا تقتصر السلبيات ـ في هذه المسألة ـ على المشاكل التي تحدث للشعار من ناحية واقعيّة، بل قد تتعدّاه إلى أن يتحوّل في وعي الناس ـ إلى واجهة مثاليّة، لا تحمل أيّ فرصة معقولة لإمكانات النجاح، ولا سيّما إذا كان الطرح السريع يتضمّن تحديداً زمنيّاً للوصول إلى الغاية، لا يملك العاملون معه أيّ إمكانية لتحريك الفكرة، فضلاً عن الوصول إليها، وقد يؤدّي ذلك إلى اليأس الذي يدفع إلى الهزيمة والتّراجع على أكثر من صعيد.
الأرض الصّالحة للشّعار
وقد يطرح بعض الناس سؤالاً ـ في هذا المجال ـ وهو:
ماذا تعني بالأرض الصّالحة لنموّ البذور للفكرة؟
هل تريد بذلك أن تكون الأرض خالية من الأفكار الأخرى في صعيد الواقع، لأنّ ذلك يمنع عمليّة توزيع البذور بطريقة طبيعيّة كأيّ أرض مشغولة ببذور معيّنة بغراس خاصّة؟
ولكن، إذا كان المراد ذلك، فإنَّ معناه أن يبقى المشروع مجرّد فكرة في ذهن صاحبه، لأنّ أيّ فكرة جديدة لا بدّ أن تكون مسبوقة بفكرة أخرى متجذّرة في الفكر والواقع والشعور، ما يفرض الكثير من الصراع العنيف الذي يهزم كلّ عناصرها، ويزيل كلّ آثارها من أجل ولادة المشروع الجديد؟.
إنَّ مسؤوليّة الفكر الجديد أن يصدم الفكر القديم بقوَّة، وإنّ مهمة المشاريع الجديدة أن تواجه المشاريع القديمة بأكثر من عمليّة اقتحام وعنف؟
إنّ ذلك يعني أنّ الفكرة الجديدة هي التي تقوم بإصلاح الأرض، وليس من المفروض أن تجري عمليّة تنقية الأرض من الشّوائب بعيداً من حركة الفكرة في الواقع.
ونجيب عن ذلك، أنّ السؤال لا يقترب من جوّ الفكرة فيما أثرناه من ملاحظة، فإنّ هناك فرقاً كبيراً بين أن يطرح المشروع الجديد في المرحلة التي تريد أن تثير الوعي الجديد فيها، ليعيش الفكر في الوجدان في مستوى الحقيقة الفكرية والعملية للمستقبل، وبين أن تطرحه ليتحرّك في الساحة في المرحلة التي تريد له أن يدخل دائرة التنفيذ.
إنّنا في المرحلة الأولى نؤكّد ضرورة المواجهة الحاسمة للأفكار الأخرى بالطّريقة التي تجعل من الفكرة الجديدة قوّة كبيرة تقف في خطّ التحدّي، لتصارع وتقتتل وتناقش وتدفع الآخرين إلى الحوار بأيّ وسيلة ممكنة، وهذا هو خطّ الأنبياء والرّسل في إعلان كلمة الله على النّاس، ومواجهة الكفر والشّرك والضّلال بكلّ حسم وصراحة، ممّا أدّى إلى أن يخوضوا الصّراع بأقوى أشكاله، ويتحمَّلوا العذاب بأشدّ ألوانه.
إنّنا نؤكّد ذلك، لأنّ هذا هو السّبيل الوحيد الذي يمكن للرّسالة أن تدخل في ساحة الواقع من خلال الصّراع الحاسم، فإنّ الآخرين لا يسمحون لها بالدّخول إلى الحياة بسهولة.
* المصدر: "الحركة الإسلاميّة هموم وقضايا".