إذا كنّا نريد أن ننطلق بالمسيحيّة والإسلام كفكرين يختلفان في المفاهيم، فإننا نجد أن الحوار الفكري العلمي الموضوعي بين المسيحية والإسلام يمكن أن يتحرّك في المؤتمرات العلمية والثقافية، على أساس الموضوعيّة التي تبحث عن نقاط اللّقاء التي تتفق عليها، وعن نقاط الخلاف لتتحاور فيها، لأنّ قضيّة أن تقنع إنساناً بأيّ فكر، لا بدّ لك أن تحرّك له الفكر بطريقة منهجيّة، لتدخل إلى عقله أو لتدخل إلى قلبه، وسنكتشف إذا استطعنا أن نتحرّك بالحوار الإسلامي ـ المسيحي بطريقة موضوعيّة لا بطريقة استعراضية إعلانيّة، فإننا سنكتشف أنّ مسألة القيمة الإنسانية، وأنّ مسألة القيمة الحياتية، تلتقي في المسيحية والإسلام بنسبة ثمانين في المئة.. قد تختلف بعض تفاصيل القيمة هنا وبعض تفاصيل القيمة هناك، ولكنّنا إذا فهمناها فهماً حقيقيّاً عميقاً، فإننا نجد أنّه ليس هناك اختلاف في القيمة.
وأظنّ أنّ بعض أحاديثي ألمحت إلى أنّ بعض الناس عندما يطلقون كلمة السيد المسيح (ع): "من ضربك على خدّك الأيمن، فأدر له خدّك الأيسر"، يظنّون أنها تمثّل الكلمة التي تشجّع على الضعف، ولهذا رأينا شاعراً كبيراً كالشّاعر القروي يخاطب السيّد المسيح، ويخرج عن التهذيب في خطابه للسيّد المسيح (ع)، عندما يقول في قصيدته المعروفة:
إذا حاولْتَ رفعَ الضَّيم فاضربْ بسيفِ محمّدٍ واهجُر يسوعَا
فيا حَمَلاً وديعاً لم يُخلِّفْ سوانا في الورى حَملاً وديعا
أجرنا من عذاب النَّير لا من عذابِ النّار إن تكُ مُستطيعا
إنّه يفهم المسألة مسألة ضعف، ولكنّي أفهمها مسألة ارتفاع في سموّ الرّوح التي تبلغ من المحبّة إلى المستوى الذي تكون فيه مهيّأة أنّها إذا ضربها أحدهم على خدّها الأيمن، فإنها تدير له الأيسر. إنها مسألة نوع من أنواع الارتفاع بالرّوح إلى المستوى الذي تتخفّف من كلّ أثقال ردود الفعل المتشنّجة، بحيث لو أرادت أن تعفو فإنها تعفو.
وبذلك تلتقي هذه القيمة المسيحيّة الرساليّة بالقيمة الإسلاميّة التي تقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} لك الحقّ في أن تردَّ العدوان {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، ولكن اترك في قلبك مساحة من العفو. كن الإنسان الذي يشعر بأنّه صاحب حقّ، ولكن كن صاحب الحقّ الذي يتحسّس روح العفو في نفسه، فيعفو عن حقّه عندما تكون المصلحة الإنسانيّة أن يعفو عن حقّه.
ولذلك، نلتقي في هذا المجال ـ لتوضيح الصّورة ـ بكلمة لأحد أئمّة أهل البيت (ع)، الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) يقول: "وأمّا حقّ مَن ساءك فأن تعفو عنه، فإن رأيت أنّ العفو عنه يضرّه انتصرت لنفسك". أن تعفو عنه ما دام العفو لا يشجّعه على العدوان، فإذا رأيت أنّ العفو يشجّعه على العدوان، انتصرت لنفسك في هذا المجال.
لذلك، قد يكون الحوار الموضوعيّ هو الذي يشترك فيه المسلمون في فهم مصادر المسيحيّة في قيمها، ويشترك المسيحيّون في فهم مصادر الإسلام وقِيَمه، فلا يقل المسيحي للمسلم: ليس من حقّك أن تجتهد في الإنجيل أو تجتهد في المسيحية، لأنّ هذا يمثّل تدخّلاً في الشؤون الداخليّة على الطريقة السياسية، أو يقول المسلم للمسيحي: ليس من حقّك أن تجتهد في القرآن أو في الإسلام، لأنّ هذا يمثّل تدخّلاً في شؤون المسلمين، لأنّ قضيّة القرآن أنّه كلام عربيّ مبين، والإنجيل كلام تُرجِمَ إلى العربيّة، أو هو في لغته يملك معنى، فمن تثقّف بهذه اللّغة أو تلك اللّغة، وبهذه المفاهيم وتلك المفاهيم، فلماذا لا يملك الحقّ في أن يفهم كما يشاء ويجتهد كما يشاء، من خلال أصول هذا الموضوع أو ذاك الموضوع، لأننا لا نفهم الاجتهاد المزاجي أو العشوائي.
لذلك، نحن ندعو إلى حركيّة فكريّة لا يحشر كلّ نوع منها نفسه في زاوية، لآخذ المسيحيّة من خلال المسيحيّ، فلا يكون لي حقّ أن آخذها بنفسي، أو آخذ الإسلام من المسلمين. عندما ننطلق ليجتهد المسلم في المسيحيّة، وليجتهد المسيحيّ في الإسلام، نستطيع أن نتوحّد في الفهم، وأن يصحّح المسيحي للمسلم الكثير من فهمه للإسلام، ويصحّح المسلم للمسيحي الكثير من فهمه للمسيحيّة، عندها يتحوّل الإسلام إلى حركة علم وفكر، وتتحوّل المسيحيّة إلى حركة علم وفكر.
وعند ذلك، لن تكون لنا شخصيات معلَّبة تعيش في أبراج عاجية تطلّ على الناس من فوق. إنّ المسيحيّة والإسلام عند ذلك تكونان كالهواء والماء، يتنفّس الناس كل الإسلام والمسيحية بحجم ثقافتهم، ويشرب الناس كل الإسلام والمسيحية بحجم ثقافتهم.
إننا نستطيع أن نرتاح من كل هذه التعقيدات، ولكننا ورثنا واقعاً معقّداً، وألفنا هذا التعقيد، حتّى أصبحت المسألة المشكلة هي عندما يتحدَّث إنسان أنَّه يريد أن يدخل المسلمين في المسيحيّة، أو يريد أن يدخل المسيحيّة في الإسلام، إنّ هؤلاء يعتبرون المسألة عدوانيّة من هؤلاء وأولئك، ولكنّنا لا نرى أحداً يشعر بهذه الحِدّة عندما يقول أحد إنّني أريد أن أجعل مسيحيّاً ماركسيّاً، هل تجد أنّ المسيحيّين يتعقّدون إذا صار مسيحيّ ماركسياً؟ أيّ قرابة بين المسيحية والماركسية؟! إنّ القرابة بين الإسلام والمسيحية أكثر قرباً من قرابة المسيحية والماركسية.
وهكذا، عندما يراد لمسلم أن يدخل في المسيحيّة، فهناك الويل والثّبور وعظائم الأمور، لكن أن يصير مسلم ماركسياً، تلك ليست مشكلة، هذه سياسة، ولا مانع أن تكون مسلماً ماركسياً أو مسيحياً ماركسياً أو أيّ شيء آخر، ولكن لا يمكن أن تكون مسلماً أرثوذكسياً أو مسيحياً شيعياً أو سنياً، لأنهم يعتبرون أنّ الإسلام والمسيحيّة هما معرض لكلّ التيارات العلمانية، لكنّه لا يسمح لأيّ تيار ديني أن يدخل في داخله، وهذه مسألة التعصّب الأعمى الذي لا يفقه الفكر، حتى فكره عندما يحرّكه. إنّ المسألة هي أن يبقى الانتماء حتى ولو بالطريقة الرسميّة.
إذا استطعنا أن نثير هذا النّوع من الأفكار في واقعنا، فإنّنا قد نقترب من تجربة حيّة قد تقودنا، ولو بعد خمسين سنة، إلى أن نكون مسيحيّين مسلمين موضوعيّين نعيش بسلام لأنّنا نفكّر بسلام...
*من كتاب "الإسلام والمسيحيّة بين ذهنيّة الصّراع وحركيّة اللّقاء".