البُعد الإلهيّ:
التربيـة الإسلاميّة تربية إلهيّة، وقد ورد في الحديث المشهور، قوله (صلّى الله
عليه وآلـه): "أدّبني ربّي فأحسن تأديبي". والتربية الإِلهيّة ـ كما جاءت في القرآن
الكريم ـ صالحة للتّطبيق بالنّسبة إلى جميع أفراد النّوع الإنساني، سواء الأنبياء
منهم أو النّاس العاديّون.
وفيما يلي عدد من الآيات القرآنية الكريمة التي تخصّ الموضوع، فإلى تلاوتها
ودراستها قال تعالى: {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ}(البقرة: 31).
وقال (جلّ من قائل): {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ
عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبـّكَ الأكْرَمُ * الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ
الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ}(العلق: 1 ـ 5).
ويخبرنا الباري تعالى في الآية الكريمة التالية عن بلوغ الصّالحين من أولاد إبراهيم
الخليل (عليه السلام) منصب الإمامة، بعد خضوعهم لتربية إلهيَّة مركّزة، فيقول :{وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ *
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ
الْخَيْرَاتِ وَإِقَـامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا
عَابـِدِينَ}(الأنبياء: 72- 73). وحول اصطفاء طالوت، يقول جلّ شأنه: {إِنّ اللهَ
اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة: 247).
وفيما يرتبط بالتربية الإلهيّة التي خصّها الله نبيّه الكريم (صلّى الله عليه وآله)،
جاء في القرآن قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عليك عظيم}(النساء:
113).
وذُكرت التربية الإلهيَّة التي تخصّ العباد في الآيات التي تتحدَّث حول المبعث
النبوي الشريف، فقال (عزَّ من قائل): {لَقَدْ مَنّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ
لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (آل عمران: 164).
خصائص التّربية الإلهيَّة:
وردت خصائص التربية الإلهيّة في القرآن الكريم، والأخبار والأحاديث، وسيرة
المعصومين، والأدعية المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام)، على نحو التفصيل. وها
نحن نتحدّث بإيجاز عن قسم من هذه الخصائص:
الكمال:
تمتاز التربية الإلهيّة بميزة الكمال المطلق. وبالموازنة بين التربية الإلهيّة،
وضروب التربية العاديّة، تظهر لنا بعض الحقائق: الأُولى: لا تتمتَّع ضروب التربية
العاديّة بالشموليَّة المطلوبة. بكلمة بديلة، إنَّ التربية العادية أو النظم
التربويّة العلمانيّة مبتورة ـ غالباً ـ حيث تعالج بعداً واحداً، أو عدداً من
الأبعاد في شخصيَّة الإنسان، في حين أنّ التربية الإلهيّة، تربية شاملة تُعنى بجميع
جوانب الشخصيَّة الإنسانيّة. على سبيل المثال: في التربية الإلهيَّة، يغطّي العمل
التربوي البُعد المعنوي أو الإيماني بمعيَّة الأبعاد العقليّة، والاجتماعيّة،
والعاطفيّة، والأخلاقيّة.
بعامّة، بعض المدارس التربويّة العلمانيّة تهتمّ بالجانب الفردي فقط، وبعضها يُعنى
بالجانب الاجتماعي دون غيره، ولكن في نطاق محدود، أو في قالب خاصّ. وثمّة مدارس
تقصر اهتمامها على تربية الجانب العاطفي، وأُخرى تركِّز على الجانب العقليّ.
الثانية: تهمل النّظُم التربوية العادية ـ غالباً ـ البعد المعنوي.
يمكن التركيز على الكمال من ناحية أُخرى، وهي أنّ التعاليم الدينيّة لا تتأثّر
بالعامل الزماني، أو المكاني، أو الاجتماعي، وبعامّة، لا تتأثّر بعامل واحد أو عدد
من العوامل، ولا يمكن أن نتصوّر وجود أيّ نوع من التقييد يطبعها، كل ذلك يعود إلى
انبثاقها عن السماء. أمّا التعاليم التربوية التي تطبع المدارس العلمانية، فهي
محدودة ـ غالباً ـ وتسير في اتّجاه واحد أو اتّجاهين خاصّين.
الانسجام مع الفطرة البشرية (المرونة):
تنسجم التربية الإلهية مع طبيعة الإنسان وحاجاته، نموّه وتطوّره. وكما ذكرنا ـ فيما
مضى ـ فإنّ التربية الإلهيّة تعالج الجانبين: الفردي، والاجتماعي، في شخصية الإنسان.
كما تعالج البعد المادّي بمقدار الحاجة والضّرورة، مثلما تعالج البعد المعنويّ الذي
يشعّ على جميع شؤون حياة الإنسان. فالتعاليم الإلهيّة تُلبِّي الحاجات المعنويّة
للإنسان، ولا تغفل عن حاجاته الاجتماعية والعقلية. وتثير مشاعره وعواطفه، وفي الآن
ذاته، تعمل على إشباع غريزة حبّ الاستطلاع، والبحث عن الحقيقة فيه. إنّ النظم
التربوية العادية، مع أنّها تواكب أهدافاً موسّعة، بيد أنّها تؤمن بنوع من التّقييد
في طريق كمال الإنسان ورُقِيِّه. أمّا التربية الإلهيَّة، فإنّها تُعَبِّد الطريق
أمام نموّ الإنسان، وتطوّره الدّائم اللّامحدود، ولذلك، فهي تُلبّي حاجات الإنسان
الذي ينزع نحو الرّقِي والكمال فطريّاً.
خلود الحياة البشريّة:
إنّ المدارس العلمانية الماديّة تحدِّد حياة الإنسان في المسافة الواقعة بين
الإخصاب والموت. ووفقاً لما تعتقده هذه المدارس، فإنَّ الإنسان يولد من بطن أُمِّه
في ظروف خاصَّة، وينمو في بعض المجالات طاوياً مراحل من الحياة، تؤول إلى مرحلة
الشيخوخة، وهي المحطّة الأخيرة التي تنتهي عند مَوته. هذه النّظرة لا تنسجم مع ما
يُلاحَظ في حياة الإنسان.
إنّ الحياة المؤقّتة لا تتلاءم مع الجانب العقلي، وجانب الطموح نحو الكمال في
الإنسان، وكذلك فهي لا تتماشى مع أهدافه الأخلاقية والمعنوية بالنسبة إلى الآخرين،
وإلى خالق الكون.
مضافاً إلى ذلك، فإنّ اعتبار حياة الإنسان مؤقّتة، يُقلِّص من حافز السّعي لديه،
ويصوّر الحياة عبثاً في منظاره، ويجعله يعيش في تخبُّط وضياع، مع شعور بالقلق
والتّزعزع.
أمّا الاتّصال بعالم الغيب، والاعتقاد أنّ وجودنا من الله، وأنّنا كادحون إليه
فملاقوه، فهذا يهب حياة الإنسان هويّة سرمدية خالدة. وفي ظلّ هذا التوجّه، يصبح
للحياة معناها، ويحفِّز الإنسان نحو السعي والجدّ، وتصطبغ العلاقات مع الآخرين
بصبغة خاصَّة، ويتقدّم الإنسان خطوة على طريق الكمال.
التربية الإلهيّة والسعادة الأبدية:
إنّ التربية الدينيّة لا تزيّن الإنسان في عالمنا هذا بالفضائل المعنوية والأخلاقية
فقط، ولا تصنع منه إنساناً طامحاً نحو الكمال، مُحبّاً للعلم، مضحّياً، مؤثِراً على
نفسه، ورِعاً متّقياً، ناشداً للعدالة فحسب، بل هي تكفل له السعادة السرمدية أيضاً،
من خلال شدّه إلى بارئ الوجود، وهدايته نحوه. وسنرى أنَّ الإنسان الموحِّد العابد
السّائر في جادة التكامل بصورة متواصلة، يعيش في حركة دؤوبة، وكلَّما دنا من مبدأ
الكمال، فإنَّه سيظفر بدرجات من الكمال الذي هو أمارة سعادته الحقيقيّة.
إنّ المدارس العلمانية تعمل على ضمان السعادة المؤقتة للإنسان عادة. على سبيل
المثال: وجود الإنسان كعضو مفيد في البيت، تَكيّفُه مع المجتمع، ووجوده كطالب منضبط
منظّم في المدرسة، أو كفرد ناجح في مهنته ومحلّ عمله... كل هذه الأشياء هي الأهداف
الجوهريَّة لحياة الإنسان، وهي التي تعكس سعادته.
الثانية: البعد الإرشادي (التوجيهي):
جاء في القرآن الكريم، وسائر النصوص الإسلامية، أنّ الله ـ تعالى ـ هو الهادي
والمرشد. وفي الآية المباركة التالية، يشير الباري ـ جلّ شأنه ـ إلى دوره في هداية
الإنسان، وذلك في طيّات تبيان قضيّة الوحي، فيخاطب نبيَّه العظيم (صلّى الله عليه
وآله)، مذكِّراً إيّاه بأنّه ـ هو أيضاًـ هُدي إلى صراطٍ مستقيم.
{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نّشَاءُ
مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ
الّذِي لَهُ مَا فِي السَّموات وَمَا فِي الإرْضِ أَلاَ إلى اللهِ تَصِيرُ
الْأُمُورُ}. وتنقسم الهداية الإلهيَّة إلى: هداية تكوينيَّة، وهداية تشريعيَّة.
هداية الإنسان:
تتحقَّق هداية الله ـ تبارك وتعالى ـ للإنسان عن طريقين: الأوَّل: عن طريق القوى
التي أودعَها فيه. الثّاني: عن طريق الأنبياءِ الكرام. إنّ قوَّة الإنسان العقلية،
ونزعته الطبيعيّة لطلب الحقّ، والبحث عنه، هيّأت الظروف اللّازمة لتحرّك الإنسان في
طريق الحق، جاء في الجزء الأوّل من كتاب الكافي: أنّ الإمام موسى الكاظم (عليه
السلام) خاطب هشام بن الحكم قائلاً: "يا هشام، إنّ للهِ على الناسِ حُجَّتينِ:
حُجّةً ظاهرة، وحجّةً باطنة. فأمّا الظاهرةُ فالرسلُ والأنبياءُ والأئمّة (عليهم
السلام)، وأَمّا الباطنة فالعقول". [الحديث 12 من كتاب العقل والجهل]. وقال ـ تعالى
ـ في سورة البلد: {أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ *
وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ}(البلد، 8 ـ 10).
وقال ـ جلّ شأنه ـ :{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ}(الرّوم: 30).
ويدلّ الحديث المشهور عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، على انسجام النظام
الإلهيّ مع الفطرة البشريّة، والحديث هو: "كلّ مولود يولد على الفطرة، حتى يكون
أبواه: يمجِّسانه، أو ينصِّرانه، أو يهوِّدانه". كما قلنا فيما تقدّم، فإنّ الهدف
المتوخّى من وراء بعثة الأنبياء، هو: هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم.
إنّ الإنسان ـ وهو مشمول بالهداية الإلهيّة ـ حرٌّ في انتخاب طريقه. ولقد تحقَّقت
هداية الله للإنسان عن طريق الأنبياء. وهو الذي حثَّه على التفكّر، والتعقّل في خلق
العالم، وما هو إلّا الإنسان نفسه، حيث يجب عليه أن يستفيد من التعاليم الإلهيَّة،
وقوّته العقليَّة، فيختار الصّراط المستقيم، ويمهِّد بذلك مستلزمات نموّه، وتكامله،
وسعادته. قال تعالى :{إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا
كَفُور}(الإنسان: 3).
*من كتاب "التربية والتعليم في الإسلام".