كتابات
04/03/2019

الحفاظ على التّواصل والتّرابط ضرورة

الحفاظ على التّواصل والتّرابط ضرورة

هناك صلة وثيقة بين مستوى ارتباط الإنسان بمحيطه الاجتماعي، وبين استقامة السلوك ودرجة الفاعلية والإنتاج. فكلّما كانت علاقة الإنسان بمجتمعه وثيقة دافئة، كان أقرب إلى الاستقامة والصلاح في سلوكه وسيرته، وأكثر اندفاعاً للفاعليّة والإنتاج. بينما يساعد الفتور والبرود في العلاقات الاجتماعيّة على ظهور السلوكيات المنحرفة الخاطئة ونموّها.

قد تحدّث بعض المفكرين والباحثين الغربيّين عن تأثير ضعف العلاقة في مجتمعاتهم بين الفرد ومحيطه الاجتماعي، في بروز الظّواهر السلبيّة والإجرامية، كمرض الاكتئاب، والشعور بالإحباط، وشدّة القلق، وسائر الأمراض النفسية، وكذلك ظاهرة الانتحار التي يتسع مداها في المجتمعات الغربية المعاصرة مع كلّ ما يتوافر للإنسان هناك من وسائل الراحة والرفاه المادي.

إنّ بلداً مثل سويسرا التي تحظى بمركز متقدم في الاقتصاد والتقنية ومستوى المعيشة والتعليم، هي من بين أكثر الدول التي تنتشر فيها حالات الانتحار، ولا سيما بين الشباب.

وطبقاً لبيانات المكتب الفيدرالي السويسري للإحصاء، يقدم نحو 1300 شخص سنوياً على الانتحار، 900 منهم رجال، والبقيّة نساء، أي بمعدَّل 4 حالات في اليوم، وهو معدل يثير القلق في بلد ينعم بالرفاه والاستقرار السياسي، ويصل عدد سكانه إلى نحو5,7 مليون نسمة.

وقد وضع عالم الاجتماع الفرنسي (إميل دوركايم 1858-1917م) تفسيرين لمشكلة الانتحار، يؤولان إلى الجذر ذاته، وهو تأثير المحيط الاجتماعي.

يتحدث التفسير الأوّل منهما عن علاقة وثيقة بين الانتحار وعدم القدرة على التكيّف الاجتماعي، وذلك عندما تفقد المجتمعات المعايير والقيم التي تدعو إلى الترابط والتماسك، فكلّما ضعفت تلك القيم، ازداد الشّعور بالانفراد والعزلة وحبّ الذّات، فترتفع احتمالات إقدام الفرد على الانتحار عند تعرّضه لأيّ أزمة، إذ يعتقد الفرد في هذه الحالة أنّه صاحب القرار.

أمّا التفسير الثاني، فيربط بين الانتحار والمتغيّرات السريعة التي تمرّ بها المجتمعات، وعدم قدرة الشّخص على التكيّف معها، مثل الفشل في العثور على عمل، أو عدم تحقيق الأحلام والأمنيات المتعلّقة بمستقبل أفضل.

وقد درس (دوركايم) آلاف حالات الانتحار، ليثبت مصداقيّة نظريّته التي شرحها في كتابه (الانتحار).

ويؤكّد باحثون غربيّون عدم قدرة المجتمعات الأوربية على إيجاد روابط بين الناس تتماشى مع سرعة التحولات التي تمر بها، ليس من الناحية الاقتصادية فحسب، بل أيضاً على صعيد العلاقات الأسرية والشخصية، فيحدث نوع من الانفصال بين الشخص والمجتمع، ولا يعود يجد رابطاً بينه وبين الآخرين، ثم يشعر وكأنه غريب ومعزول.

إن مجتمعاتنا الإسلامية، والتي كانت تتمتع بدرجة عالية من الاستقرار والتماسك الاجتماعي، وكانت تحتضن أبناءها بدفء واهتمام، أصبحت هي الأخرى مهدَّدة بفقد هذه الميزة العظيمة، بسبب التحولات الاقتصادية والثقافية التي لم يواكبها تأهيل قيمي، وتطوير في أساليب الترابط الأسري والاجتماعي وبرامجه.

ما يجري في مجتمعاتنا يجب أن يثير القلق البالغ على المستقبل.

وبدأنا نعاني مما تعانيه المجتمعات الغربية من تفكّك أسري، وأمراض نفسية، وحالات إجرام، وحوادث انتحار.

إن ما يجري الآن في مجتمعاتنا، يجب أن يثير القلق البالغ في نفوسنا على مستقبل المجتمع، وخصوصاً أجياله الشابّة الصّاعدة، وأن يدفعنا للتّفكير والعمل لمواجهة هذا المشكل الاجتماعيّ الخطير، وذلك بدراسة وبحث واقع التّرابط الاجتماعي، ووضع البرامج والمعالجات لتطويره ورفع مستواه بما يتناسب مع قيم ديننا الحنيف، والأوضاع الاقتصاديّة والثقافية المستجدّة.

مستوى العلاقات الاجتماعيّة:

طبيعة حياة الإنسان البشريّة تفرض عليه التّواصل مع المجتمع الذي يعيش فيه.

أوّلاً: لأنّ الإنسان يأنس بأبناء جنسه، ولا يستطيع أن يعيش من دونهم، أو بعيداً منهم. وقد ذكر بعض اللّغويّين: أن كلمة إنسان مشتقَّة من الأنس، على اعتبار أنّ الإنسان يأنس بمثله. ولو أنك وفّرت لإنسان كلّ ما يحتاجه في حياته الماديّة، وعزلته عن الناس، فإنّ ذلك بالتأكيد لن يريحه، ولهذا فإنّ السجن الانفرادي هو من أقسى أنواع العقوبات.

فالإنسان بطبيعته يميل إلى أبناء جنسه ويأنس بهم، لديه دافع طبيعي فطري للتواصل مع الناس.

ثانياً: حاجات الإنسان الحياتيّة تفرض عليه أن يتواصل مع الآخرين، فهو لا يستطيع أن يوفّر كل حاجاته بنفسه، فقد يمرض فيحتاج إلى الطبيب، وهو بحاجة إلى العامل في البناء وغيره، وهو يشتري من السوق، ويبيع إنتاجه، وقد يعمل لدى أحد، أو يعمل لديه أحد، وبالتالي، فإن طبيعة الحياة تجعل المصالح مشتركة، والحاجات متداخلة بين النّاس، وهذا يفرض على الإنسان حالة التواصل مع محيطه الاجتماعي.

لكنّ هذا التواصل يبقى في مستواه الأدنى، وفي حالته البسيطة الساذجة، إذ إن المجتمع يحتاج إلى نوع من التواصل بشكلٍ أرقى، وهذا يختلف من مجتمع إلى آخر.

وقد كنّا نعيش تواصلاً مكثَّفاً في مجتمعنا، حينما كانت الحياة على بساطتها، وكان الناس يعيشون في مناطق جغرافيّة محدودة، وضمن اهتمامات بسيطة، لكنّنا الآن، ومع التطوّر الذي حصل على واقع حياتنا، لم نعد نعيش درجة التواصل الاجتماعي السابقة. ولعلّ من أبرز الأسباب :

ـ انتشار الناس جغرافياً، فما عاد الإنسان مقيماً في الحيّ نفسه الذي نشأ فيه.

ـ انشغالات الناس واهتماماتهم تشعّبت في هذا العصر، بعكس ما كانت عليه حياتهم في الماضي، إذ إنهم كانوا بمجرّد أن يحلّ الظلام، تنتهي جميع أعمالهم، ويُصبح الوقت متاحاً للتواصل، وحتى في النهار، فإنّ دائرة الاهتمامات عندهم كانت محدودة. أمّا في زمننا المعاصر، فقد انشغل الإنسان باهتمامات مختلفة، معرفيّة وعمليّة، ما قلّل من حصة العلاقات الاجتماعية.

ـ انخفاض الروح الاجتماعية عند أكثر الناس لصالح الاهتمام الفردي، حيث أصبح كلّ واحدٍ مشغولاً بنفسه، وفي بعض الأحيان، حتى عن عائلته وأسرته.

هذه الاهتمامات بعضها صحيح وبعضها غير صحيح، لكنّها أصبحت على حساب التوجّه الاجتماعي، وإن كنّا مازلنا نحتفظ بدرجة من التواصل، هو في الغالب تواصل مناسباتي شكلي، كمناسبة الزواج ومناسبة العزاء. وما نحتاج إليه، هو التفكير في التواصل ذي المضمون.

مضامين التواصل الاجتماعي:

وأشير هنا إلى أبرز مضامين التواصل الاجتماعي المطلوب :

أوّلاً ـ التقارب النفسي الروحي.

الحياة بطبيعتها فيها ضغوط ومشاكل، وخصوصاً في هذا العصر، فيحتاج الإنسان إلى من يتضامن معه نفسياً، وإلى من يقترب منه روحياً، ليخفّف عنه الآلام، ويرفع من معنوياته.

ويحتاج الإنسان إلى من يستشيره ليستفيد من رأيه. وتُشير النصوص إلى هذا المضمون، وتُعبِّر عنه بإدخال السرور إلى قلب الأخ المؤمن، ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «من لقي أخاه بما يسرّه، سرّه الله يوم القيامة»، وعنه (صلى الله عليه وآله): «من أحبّ الأعمال إلى الله، إدخال السّرور على المسلم، أو أن تفرّج عنه غمّاً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه من جوع»، وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «من سرّ مسلماً، سرّه الله يوم القيامة»، وعنه قال: «لا يرى أحدكم إذا أدخل على مؤمن سروراً، أنه عليه أدخله فقط، بل والله علينا، بل والله على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)».

الروح الاجتماعية عند الكثير من الناس انخفضت لصالح الاهتمام الفردي.

ثانياً ـ التعاون في تيسير شؤون الحياة.

كلّ مجتمع يواجه مشاكل، ولكلّ قوم في منطقتهم احتياجات، ولا يستطيع الإنسان بمفرده أن يحلّها ويعالجها، إنما يحتاج أن يتعاون مع الآخرين. وكمثال تقريبيّ: تربية الأبناء في العصر الحاضر عمليّة شاقّة، إذا أراد الأب أو الأمّ وحدهما القيام بهذا الدور، ولكن عندما تكون هناك برامج ولجان تخلق الأجواء الصّالحة، وتسعى من أجل بناء الجيل الجديد بناءً سليماً، فهذا يقدّم أكبر عون للأسرة على تربية أبنائها. ويؤكّد القرآن الكريم هذا المضمون في قوله تعالى: ﴿... وتَعَاونُواْ عَلَى الْبرِّ والتَّقْوى...﴾.

ثالثاً ـ خدمه الأهداف المشتركة.

للمجتمع تطلعات وأهداف مشتركة، دينية أو سياسية أو اجتماعية، هذه الأهداف المشتركة تحتاج إلى تعاون وتواصل يساعد على تحقيقها. والإمام عليّ (عليه السلام) يُوصي بهذا المضمون في آخر وصيّةٍ له، فيقول: «وعَلَيْكُمْ بِالتَّواصُلِ والتَّبَاذُلِ، وإِيَّاكُمْ والتَّدَابُرَ والتَّقَاطُعَ»، والتباذل هنا بمعنى البذل والعطاء.

التّأكيد الديني على التّواصل:

التواصل بين الناس محور أساس في التعاليم والتوجيهات الإسلامية، حيث يذمّ الإسلام الرهبنة والعزلة، ويدعو إلى أن يتعرف الناس على بعضهم بعضاً، يقول تعالى: ﴿وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...﴾، ويجعل خدمة الناس ونفعهم من أفضل وسائل التقرّب إلى الله تعالى، كما ورد عنه (عليه السلام): «خير الناس أنفعهم للنّاس».

وإذا كان التواصل الاجتماعي محبوباً عند الله تعالى، ومطلوباً في كل وقت وآن، فإن هناك ما يدلّ على خصوصية ليوم الجمعة في هذا المجال، فهو يوم يفرغ فيه الإنسان لما انشغل عنه أيام الاسبوع.

إنّ ساعات يوم الجمعة غالية ثمينة، وحينما يأتي التوجيه الديني بصرف بعضها في التواصل الاجتماعي، فهذا دليل على أهمية هذا الجانب، وأنّه يستحقّ أن تصرف فيه أغلى الأوقات.

وحسب تأكيدات النصوص الدينية، فإنّ أبواب قبول الأعمال عند الله مشرَّعة يوم الجمعة أكثر من أيّ يوم آخر، وثواب الأعمال فيه مضاعف، لذلك، فإنّ أجر التواصل الاجتماعي فيه عظيم كبير.

*جريدة الوطن القطريّة، 4 / 5 / 2008م ـ العدد 4626.

هناك صلة وثيقة بين مستوى ارتباط الإنسان بمحيطه الاجتماعي، وبين استقامة السلوك ودرجة الفاعلية والإنتاج. فكلّما كانت علاقة الإنسان بمجتمعه وثيقة دافئة، كان أقرب إلى الاستقامة والصلاح في سلوكه وسيرته، وأكثر اندفاعاً للفاعليّة والإنتاج. بينما يساعد الفتور والبرود في العلاقات الاجتماعيّة على ظهور السلوكيات المنحرفة الخاطئة ونموّها.

قد تحدّث بعض المفكرين والباحثين الغربيّين عن تأثير ضعف العلاقة في مجتمعاتهم بين الفرد ومحيطه الاجتماعي، في بروز الظّواهر السلبيّة والإجرامية، كمرض الاكتئاب، والشعور بالإحباط، وشدّة القلق، وسائر الأمراض النفسية، وكذلك ظاهرة الانتحار التي يتسع مداها في المجتمعات الغربية المعاصرة مع كلّ ما يتوافر للإنسان هناك من وسائل الراحة والرفاه المادي.

إنّ بلداً مثل سويسرا التي تحظى بمركز متقدم في الاقتصاد والتقنية ومستوى المعيشة والتعليم، هي من بين أكثر الدول التي تنتشر فيها حالات الانتحار، ولا سيما بين الشباب.

وطبقاً لبيانات المكتب الفيدرالي السويسري للإحصاء، يقدم نحو 1300 شخص سنوياً على الانتحار، 900 منهم رجال، والبقيّة نساء، أي بمعدَّل 4 حالات في اليوم، وهو معدل يثير القلق في بلد ينعم بالرفاه والاستقرار السياسي، ويصل عدد سكانه إلى نحو5,7 مليون نسمة.

وقد وضع عالم الاجتماع الفرنسي (إميل دوركايم 1858-1917م) تفسيرين لمشكلة الانتحار، يؤولان إلى الجذر ذاته، وهو تأثير المحيط الاجتماعي.

يتحدث التفسير الأوّل منهما عن علاقة وثيقة بين الانتحار وعدم القدرة على التكيّف الاجتماعي، وذلك عندما تفقد المجتمعات المعايير والقيم التي تدعو إلى الترابط والتماسك، فكلّما ضعفت تلك القيم، ازداد الشّعور بالانفراد والعزلة وحبّ الذّات، فترتفع احتمالات إقدام الفرد على الانتحار عند تعرّضه لأيّ أزمة، إذ يعتقد الفرد في هذه الحالة أنّه صاحب القرار.

أمّا التفسير الثاني، فيربط بين الانتحار والمتغيّرات السريعة التي تمرّ بها المجتمعات، وعدم قدرة الشّخص على التكيّف معها، مثل الفشل في العثور على عمل، أو عدم تحقيق الأحلام والأمنيات المتعلّقة بمستقبل أفضل.

وقد درس (دوركايم) آلاف حالات الانتحار، ليثبت مصداقيّة نظريّته التي شرحها في كتابه (الانتحار).

ويؤكّد باحثون غربيّون عدم قدرة المجتمعات الأوربية على إيجاد روابط بين الناس تتماشى مع سرعة التحولات التي تمر بها، ليس من الناحية الاقتصادية فحسب، بل أيضاً على صعيد العلاقات الأسرية والشخصية، فيحدث نوع من الانفصال بين الشخص والمجتمع، ولا يعود يجد رابطاً بينه وبين الآخرين، ثم يشعر وكأنه غريب ومعزول.

إن مجتمعاتنا الإسلامية، والتي كانت تتمتع بدرجة عالية من الاستقرار والتماسك الاجتماعي، وكانت تحتضن أبناءها بدفء واهتمام، أصبحت هي الأخرى مهدَّدة بفقد هذه الميزة العظيمة، بسبب التحولات الاقتصادية والثقافية التي لم يواكبها تأهيل قيمي، وتطوير في أساليب الترابط الأسري والاجتماعي وبرامجه.

ما يجري في مجتمعاتنا يجب أن يثير القلق البالغ على المستقبل.

وبدأنا نعاني مما تعانيه المجتمعات الغربية من تفكّك أسري، وأمراض نفسية، وحالات إجرام، وحوادث انتحار.

إن ما يجري الآن في مجتمعاتنا، يجب أن يثير القلق البالغ في نفوسنا على مستقبل المجتمع، وخصوصاً أجياله الشابّة الصّاعدة، وأن يدفعنا للتّفكير والعمل لمواجهة هذا المشكل الاجتماعيّ الخطير، وذلك بدراسة وبحث واقع التّرابط الاجتماعي، ووضع البرامج والمعالجات لتطويره ورفع مستواه بما يتناسب مع قيم ديننا الحنيف، والأوضاع الاقتصاديّة والثقافية المستجدّة.

مستوى العلاقات الاجتماعيّة:

طبيعة حياة الإنسان البشريّة تفرض عليه التّواصل مع المجتمع الذي يعيش فيه.

أوّلاً: لأنّ الإنسان يأنس بأبناء جنسه، ولا يستطيع أن يعيش من دونهم، أو بعيداً منهم. وقد ذكر بعض اللّغويّين: أن كلمة إنسان مشتقَّة من الأنس، على اعتبار أنّ الإنسان يأنس بمثله. ولو أنك وفّرت لإنسان كلّ ما يحتاجه في حياته الماديّة، وعزلته عن الناس، فإنّ ذلك بالتأكيد لن يريحه، ولهذا فإنّ السجن الانفرادي هو من أقسى أنواع العقوبات.

فالإنسان بطبيعته يميل إلى أبناء جنسه ويأنس بهم، لديه دافع طبيعي فطري للتواصل مع الناس.

ثانياً: حاجات الإنسان الحياتيّة تفرض عليه أن يتواصل مع الآخرين، فهو لا يستطيع أن يوفّر كل حاجاته بنفسه، فقد يمرض فيحتاج إلى الطبيب، وهو بحاجة إلى العامل في البناء وغيره، وهو يشتري من السوق، ويبيع إنتاجه، وقد يعمل لدى أحد، أو يعمل لديه أحد، وبالتالي، فإن طبيعة الحياة تجعل المصالح مشتركة، والحاجات متداخلة بين النّاس، وهذا يفرض على الإنسان حالة التواصل مع محيطه الاجتماعي.

لكنّ هذا التواصل يبقى في مستواه الأدنى، وفي حالته البسيطة الساذجة، إذ إن المجتمع يحتاج إلى نوع من التواصل بشكلٍ أرقى، وهذا يختلف من مجتمع إلى آخر.

وقد كنّا نعيش تواصلاً مكثَّفاً في مجتمعنا، حينما كانت الحياة على بساطتها، وكان الناس يعيشون في مناطق جغرافيّة محدودة، وضمن اهتمامات بسيطة، لكنّنا الآن، ومع التطوّر الذي حصل على واقع حياتنا، لم نعد نعيش درجة التواصل الاجتماعي السابقة. ولعلّ من أبرز الأسباب :

ـ انتشار الناس جغرافياً، فما عاد الإنسان مقيماً في الحيّ نفسه الذي نشأ فيه.

ـ انشغالات الناس واهتماماتهم تشعّبت في هذا العصر، بعكس ما كانت عليه حياتهم في الماضي، إذ إنهم كانوا بمجرّد أن يحلّ الظلام، تنتهي جميع أعمالهم، ويُصبح الوقت متاحاً للتواصل، وحتى في النهار، فإنّ دائرة الاهتمامات عندهم كانت محدودة. أمّا في زمننا المعاصر، فقد انشغل الإنسان باهتمامات مختلفة، معرفيّة وعمليّة، ما قلّل من حصة العلاقات الاجتماعية.

ـ انخفاض الروح الاجتماعية عند أكثر الناس لصالح الاهتمام الفردي، حيث أصبح كلّ واحدٍ مشغولاً بنفسه، وفي بعض الأحيان، حتى عن عائلته وأسرته.

هذه الاهتمامات بعضها صحيح وبعضها غير صحيح، لكنّها أصبحت على حساب التوجّه الاجتماعي، وإن كنّا مازلنا نحتفظ بدرجة من التواصل، هو في الغالب تواصل مناسباتي شكلي، كمناسبة الزواج ومناسبة العزاء. وما نحتاج إليه، هو التفكير في التواصل ذي المضمون.

مضامين التواصل الاجتماعي:

وأشير هنا إلى أبرز مضامين التواصل الاجتماعي المطلوب :

أوّلاً ـ التقارب النفسي الروحي.

الحياة بطبيعتها فيها ضغوط ومشاكل، وخصوصاً في هذا العصر، فيحتاج الإنسان إلى من يتضامن معه نفسياً، وإلى من يقترب منه روحياً، ليخفّف عنه الآلام، ويرفع من معنوياته.

ويحتاج الإنسان إلى من يستشيره ليستفيد من رأيه. وتُشير النصوص إلى هذا المضمون، وتُعبِّر عنه بإدخال السرور إلى قلب الأخ المؤمن، ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «من لقي أخاه بما يسرّه، سرّه الله يوم القيامة»، وعنه (صلى الله عليه وآله): «من أحبّ الأعمال إلى الله، إدخال السّرور على المسلم، أو أن تفرّج عنه غمّاً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه من جوع»، وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «من سرّ مسلماً، سرّه الله يوم القيامة»، وعنه قال: «لا يرى أحدكم إذا أدخل على مؤمن سروراً، أنه عليه أدخله فقط، بل والله علينا، بل والله على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)».

الروح الاجتماعية عند الكثير من الناس انخفضت لصالح الاهتمام الفردي.

ثانياً ـ التعاون في تيسير شؤون الحياة.

كلّ مجتمع يواجه مشاكل، ولكلّ قوم في منطقتهم احتياجات، ولا يستطيع الإنسان بمفرده أن يحلّها ويعالجها، إنما يحتاج أن يتعاون مع الآخرين. وكمثال تقريبيّ: تربية الأبناء في العصر الحاضر عمليّة شاقّة، إذا أراد الأب أو الأمّ وحدهما القيام بهذا الدور، ولكن عندما تكون هناك برامج ولجان تخلق الأجواء الصّالحة، وتسعى من أجل بناء الجيل الجديد بناءً سليماً، فهذا يقدّم أكبر عون للأسرة على تربية أبنائها. ويؤكّد القرآن الكريم هذا المضمون في قوله تعالى: ﴿... وتَعَاونُواْ عَلَى الْبرِّ والتَّقْوى...﴾.

ثالثاً ـ خدمه الأهداف المشتركة.

للمجتمع تطلعات وأهداف مشتركة، دينية أو سياسية أو اجتماعية، هذه الأهداف المشتركة تحتاج إلى تعاون وتواصل يساعد على تحقيقها. والإمام عليّ (عليه السلام) يُوصي بهذا المضمون في آخر وصيّةٍ له، فيقول: «وعَلَيْكُمْ بِالتَّواصُلِ والتَّبَاذُلِ، وإِيَّاكُمْ والتَّدَابُرَ والتَّقَاطُعَ»، والتباذل هنا بمعنى البذل والعطاء.

التّأكيد الديني على التّواصل:

التواصل بين الناس محور أساس في التعاليم والتوجيهات الإسلامية، حيث يذمّ الإسلام الرهبنة والعزلة، ويدعو إلى أن يتعرف الناس على بعضهم بعضاً، يقول تعالى: ﴿وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...﴾، ويجعل خدمة الناس ونفعهم من أفضل وسائل التقرّب إلى الله تعالى، كما ورد عنه (عليه السلام): «خير الناس أنفعهم للنّاس».

وإذا كان التواصل الاجتماعي محبوباً عند الله تعالى، ومطلوباً في كل وقت وآن، فإن هناك ما يدلّ على خصوصية ليوم الجمعة في هذا المجال، فهو يوم يفرغ فيه الإنسان لما انشغل عنه أيام الاسبوع.

إنّ ساعات يوم الجمعة غالية ثمينة، وحينما يأتي التوجيه الديني بصرف بعضها في التواصل الاجتماعي، فهذا دليل على أهمية هذا الجانب، وأنّه يستحقّ أن تصرف فيه أغلى الأوقات.

وحسب تأكيدات النصوص الدينية، فإنّ أبواب قبول الأعمال عند الله مشرَّعة يوم الجمعة أكثر من أيّ يوم آخر، وثواب الأعمال فيه مضاعف، لذلك، فإنّ أجر التواصل الاجتماعي فيه عظيم كبير.

*جريدة الوطن القطريّة، 4 / 5 / 2008م ـ العدد 4626.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية