ويبقى لنا في كلِّ موقع من مواقع القرآن حديثٌ جديد، يتحدَّث به الله سبحانه
وتعالى عن الشّيطان، وعن إبليس بالذات، فنلاحظ أنّه تعالى كرَّر الحديث في القرآن
عن الشيطان بمختلف الأساليب، لأنّه يريد أن يوحي للإنسان دائماً أن يكون حَذِراً
واعياً لوساوس الشيطان كلِّها ولحبائله وغروره، فيقول تعالى عنه: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}[الأعراف: 27]. فالإنسان مكشوفٌ
أمام الشّيطان، وهو خفيٌّ عنه لا يستطيع أن يعرفه إلّا من خلال آثاره وأفكاره، فإذا
لم يكن الإنسان حَذِراً وواعياً، فإنَّ الشيطان يُزَيِّنُ له الحقَّ بصورة الباطل
ليرفضه، والباطل بصورة الحقِّ ليقبله.
ومن هنا، يجب على الإنسان أن يملك معرفة كلٍّ من الحقِّ والباطل، لأنّه إذا لم يعرف
حدودهما، فقد يُخدَع في ذلك.
ولذا، كانت ضرورة معرفة الثّقافة الإسلاميّة، فإذا أُقيم درسٌ قرآنيّ، على الإنسان
أن يعتبر ذلك فرصة كبيرة له، لأنَّ القرآن إذا دخل عقله، فإنّه ينير واقعه وإذا دخل
قلبَه، فإنّه ينير حياته.. وهكذا، على الإنسان أن يعرف أحكامه الشرعيّة، فيما هو
الواجب وما هو الحرام، وإذا لم يعرف الواجب والحرام، فإنَّ الأمور تختلط عليه، فقد
يتصوَّر الواجب حراماً والحرام واجباً. وبهذا، لا بدَّ لأيّ واحدٍ منّا من أن يعيش
مسؤوليّة ثقافة الإسلام، لأنّه كيف يكون الإنسان مسلماً إذا لم يعرف ما هو الإسلام؟
وكيف يكون قرآنياً إذا لم يتعلّم آيات القرآن ويفهم إيحاءاتها.. ومن المؤسف أنَّ
الكثيرين من النّاس يصرفون أوقاتهم في مشاهدة فيلم طويل أو قصير قد لا يحمل أيّة
ثقافة وأدنى فكرة مفيدة، ويستنكفون عن حضور جلسة أو ندوة أو درس للقرآن والفقه، حيث
لا يرون ذلك ضروريّاً.. ونحن نتساءل: هل إنَّ مسألة المصير عندهم ليست ضروريّة،
ومسألة أن تكون النّهاية، الجنّة أو النار، ليست ضروريّة؟
فإذا كنتم بحاجة إلى الجنّة، فعليكم أن تحضّروا كلَّ ما يفتح لكم أبواب الجنّة،
وإذا كنتم تخافون من النار، فعليكم أن تبتعدوا عن كلِّ ما يفتح لكم أبواب النار،
تريدون الجنّة ولا تعملون لها، وتخافون من النّار وتعملون للدخول فيها، فأيّة جنّة
هي التي تريدون، وأيّ نار هي التي تخافون؟ ولذا، علينا أن نربّيَ عقولنا بكلمات
الله، وقلوبنا بإيحاءات كتاب الله، وحياتنا بشريعة الله.
التمرّد الإبليسي وإغراءاته
ونعود إلى بحثنا في الحديث عن إبليس من خلال قصّة آدم (عليه السلام)، فبعد أن خلقه
الله أمَرَ الملائكة بالسجود له، وكان إبليس مُلْحَقاً بالملائكة وليس بِمَلَك {وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ
الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}[الكهف: 50]، فآدم (عليه السلام) يمثِّل
الإنسان الأوَّل الذي خلقه الله، والذي تجمَّعت كلّ ذرّيته في وجوده، فكانت منه
انطلاقة الوجود البشري.
ويخضع الملائكة لأمر الله، فيسجدون له على أساس ما يمثِّل هذا المخلوق من إبداع
الخالق {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}[الأعراف:
11]. فالملائكة على عكس إبليس، لا يحملون أيّة عقدة {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ*
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 ـــ
27]، فليس عند المَلَك الذي يأمره الله بأمر أيُّ اعتراض، ولا يتوانى في تنفيذ ما
يطلبه الله سبحانه {لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ}[التّحريم: 6].
أمّا إبليس، فقد كان يعيش غريزة الشّهوة {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن
طِينٍ}[الأعراف: 12]، ويعلن إبليس تمرّده، ولسان حاله يقول: أنا لم أرَ مبرّراً
للسجود لهذا الإنسان، سواءً كان السجود تحيّة له، أو كان السجود احتراماً لما
أبدعتَه فيه، فإذا كان يمثّل العظمة في خِلْقَتِه، فأنا أمثِّل العظمة أكثرَ منه،
لأنّي أقوى منه، فعنصري أعظم من عنصره، فهو مخلوقٌ من التّراب، وأنا مخلوقٌ من
النّار، والنار تُفني التّراب وتحرقه، ولهذا، فلا بدَّ من أن تأمر الملائكة بالسجود
لي، لا أن تأمرني بأن أسجد لهذا المخلوق الطينيّ.
هكذا طغى عليه إحساسُه بالكبرياء نتيجة اعتداده بقوَّة عنصره، فعمل على إضلال آدم (عليه
السلام).
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَ} اهبط من الجنّة {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ
فِيهَ} ليس لك ذلك، لأنَّ الذين يعيشون في الجنَّة، يعيشون العبوديّة المطلقة لله،
فليس لهم أمام الله أيّ موقف أو كلمة {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا
فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}[الأعراف: 13]، إنَّ تكبّرك الذي انتفخت فيه
شخصيّتك، وصوّر لك هذا الانتفاخ بأنّك تملك الموقع الأكبر أمام آدم وأمام الآخرين،
حوّلك إلى مخلوق ذليل حقير، ولذا، لا بدّ لك من أن تهبط من عليائك، لأنّ الإنسان
كلّما تكبَّر أكثر، سقط أكثر، وكلّما تواضع أكثر، علا أكثر، فالمتواضع عندما يتواضع،
فإنّه يتواضع لربِّه، والمتكبِّر عندما يتكبَّر، يتكبَّر على ربّه، لأنَّ الله
سبحانه هو الذي خلق للآخرين خصائصهم، وأودع فيهم عناصرهم، وميَّز بينهم، وخالف بين
خلقتهم، فإذا رأيت نفسك أكبر من حجمك لأنَّ عنصرك أقوى، لا تنسَ أنَّ الله تعالى هو
الذي خلقك وأراد لكَ أن تخضع.
ويردّ إبليس على ذلك {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الأعراف: 14]،
سآخذ بثأري من آدم، أعطني مهلة إلى يوم يُبعثون أرافق آدم وَوِلْدَه {قَالَ إِنَّكَ
مِنَ المُنظَرِينَ}[الأعراف: 15]. ولحكمة من الله تعالى يُمهله، وذلك ليعرّف الله
تعالى الإنسان كيف يعيش الصراع بين الخير الّذي هو في فطرته، وبين الشرّ الذي يوسوس
به الشّيطان، حتّى يختار الإنسان طريق الحقّ من موقع إرادته {قَالَ فَبِمَا
أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: 16].
الإغواء هنا، أي الابتعاد عن رحمة الله تعالى، ولأنّه خرج من جنّة الله، فإنّه
يتوعّد آدم وذرّيته، بأنّه سيأخذ بثأره، لأنَّ آدم كان السبب بإخراجه من الجنَّة،
وعلى هذا، سيعمل على إضلال أولاد آدم ليحرم منهم مَن ينساق وراء ضلاله من الدّخول
إلى الجنّة، وسينصب لهم الحواجز ليصدّهم عن السّير في الطريق المستقيم {ثُمَّ
لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 17]، لن أدع
لهم فرصة للتّفكير والاختيار، وسأطوّقهم من كلِّ الجهات بالطوق الشّيطاني الإبليسي،
سأطوّقهم بغرائزهم الّتي أوجّهها للشرّ، وبأطماعهم التي أحرّكها نحو الباطل،
وبأنانيّتهم وعصبيَّاتهم، حتّى لا يجدوا مجالاً ليشكروك بطاعتهم وعبادتهم
واستقامتهم.
ويأتيه الردّ الإلهيّ: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن
تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف: 18]، اخرج
من الجنّة مطروداً ذليلاً بسبب نواياك وخططك، وهذه جهنَّم حاضرة أمامك، ولكلّ مَن
يتّبعك في كفرك وضلالك وانحرافك.
*من كتاب "من عرفان القرآن".