يقول سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة:
2].
ويقول سبحانه وتعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}[البقرة: 269].
عندما يتحدَّث الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى، وفي الآيات المماثلة، عن الكتاب
والحكمة، ربما يفكِّر الإنسان في ما هو الفارق بين الكتاب والحكمة. فالكتاب يمثّل
ما أنزله الله من وحيٍ على رسله، فهناك عنوان كبير تطلق عليه كلمة الكتاب، وهذا ما
عبّرت عنه الآية الكريمة {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}، وهو الوحي الإلهيّ
المنزل على رسل الله، والذي ينطلق في خطِّ واحد، وهو توحيد الله في العقيدة،
وتوحيده في العبادة، والالتزام برسله، والإيمان باليوم الآخر.
الإيمان بالكتاب كلّه
فنلاحظ أنّ هذه العناصر هي التي توحّد كلّ الرّسالات السماويّة وكلّ الكتب
السماويّة، ومن خلال هذه الخطوط العامَّة، تتفرَّع الخطوط التفصيليّة في مسألة
العدالة والحريّة، وفي تفاصيل العبادات في مسألة علاقات النّاس بعضهم ببعض، وما إلى
ذلك من المفردات التي تنوَّعت في كتب الله، تبعاً لحاجة البشريَّة في مرحلة أيّ
كتاب من هذه الكتب.
وعلى هذا الأساس، فإنَّنا كمسلمين، نؤمن بصحف إبراهيم وصحف موسى، وهي التَّوراة،
ونؤمن بالإنجيل، ونؤمن بزبور داوود، ونؤمن بالقرآن، فهذه كلّها كتب الله، وإن كان
هناك بعض الاختلافات، فهي اختلافات في بعض هذه الكتب، حيث يعتقد المسلمون أنها
حرِّفت في بعض آياتها، فيما عرّفهم الله في كتابه، أنّه أنزل على موسى البشارة
بالنبيّ(ص)، كما أنزل على عيسى البشارة بالنبيّ(ص)، وهذا لم يذكر بشكل صريح في
التّوراة والإنجيل، ويعلّل المسلمون ذلك بأنّ هذا قد حذف مما حرِّف...
ولكنَّ المسلمين لا يفقدون إيمانهم بالتّوراة ككتابٍ من كتب الله. ولهذا، كان
النبيّ(ص) يحتجّ على اليهود بالتَّوراة التي كانوا يخفونها، ولذا كان يقول لهم: {قُلْ
فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. وقد ورد في القرآن:
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ}، وليحكم أهل التّوراة بما
أنزل الله، على أساس أنَّ هذه كلّها تعبّر عن حكم الله وعن وحي الله.
الفرق بين المسلمين وأهل الكتاب
ومن هنا، كنّا، ولانزال، نقول في أحاديثنا العامّة، وأحاديثنا مع المسيحيّين من أهل
الكتاب، إنّ الفرق بين المسلمين وغير المسلمين من اليهود والنّصارى، هو أنّ المسلم
يحمل في تربيته الثقافية الدينية، وفي وعيه الإسلاميّ، احترام الأديان الأخرى، لأنه
يعترف بالأديان الأخرى، فالمسلم يؤمن بموسى(ع) ويؤمن بالتّوراة، ويؤمن بعيسى(ع)
ويؤمن بالإنجيل، كما يؤمن بالعذراء مريم(ع) ويعظّمها كما يعظّم فاطمة الزّهراء(ع)،
ويؤمن بالقرآن كما يؤمن بالنبيّ محمّد(ص)، والحوار الذي يقوم به المسلم مع الآخرين:
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ - أي الذين لا ينفتحون على الحوار، وإنما ينفتحون على
الظّلم، هؤلاء لهم لغة أخرى ولهم حساب آخر.
- وَقُولُوا – هذا محلّ الشّاهد ما هو منطق المسلم - آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ
إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ - قولوا لليهود والنصارى آمنّا بما أنزل إلينا من
القرآن، وما أنزل إليكم من التوراة والإنجيل - وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
فالمسلم، إذاً، ينفتح على الرّسالات الأخرى، ويتلقّى في تربيته الإسلاميّة ويقرأ
قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ
قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً
وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}[المائدة: 82].
بينما لا يؤمن اليهوديّ بالسيّد المسيح ولا بالإنجيل ولا بالقرآن، ولا يؤمن
بالنبيّ(ص)، والمسيحيّ أيضاً لا يؤمن بالنبيّ محمّد(ص) ولا بالقرآن. ولذلك نقول، إنّ
المسلم هو الذي يستطيع أن يحتوي في مجتمعه أهل الأديان الأخرى، بحيث يعيشون مع
المسلمين وهم يشعرون بأنهم يعيشون في مجتمع يحكمه الّذين يؤمنون بالرسالات كلّها،
وبالكتاب كلّه، وبالأنبياء كلّهم، لا نفرِّق بين أحد من رسله. هذا هو خطّ القرآن في
هذا المجال.
فلو فرضنا أنّ اليهوديّ أو النّصرانيّ تهجّم على القرآن أو النّبيّ محمّد(ص)، فإنّ
المسلم لا يمكن أن يكون ردّ فعله التهجّم على النبيّ موسى أو على التّوراة أو على
الإنجيل أو على النبيّ عيسى، لا يمكن ذلك، لأنه يعتقد أنّ عيسى روح الله ونبيّ الله،
وأنّ موسى كليم الله ونبيّ الله، وأنَّ التّوراة كتاب الله، وأنّ الإنجيل كتاب الله.
لذلك، لا يستطيع المسلم أن يكون ردّ فعله هو أن يردّ على التهجّم بالتهجّم، وعلى
السّباب بالسّباب.
الزّواج بين المسلمين وأهل الكتاب
ويمكن أن يكون الأساس التشريعي في إباحة زواج المسلم بالكتابيَّة، وعدم إباحة زواج
الكتابي بالمسلمة، هو أنَّ المسلم عندما يتزوَّج كتابيّة، سواء كانت يهودية أو
نصرانية، فإنَّه لا يمكن أن يسيء إلى مقدَّساتها، لا يمكن أن يسيء إلى التّوراة ولا
إلى الإنجيل، ولا إلى عيسى ولا إلى العذراء مريم، ولا يمكن أن يسيء إلى موسى ولا
إلى أيٍّ من هذه المقدَّسات.
وإن كان الإسلام يختلف عن المسيحيّة فيما يتعلّق بعقيدة الصلب، وعن اليهوديّة ببعض
القضايا، لكنّ المرأة اليهودية أو النصرانية، عندما تعيش في داخل أسرة مسلمة مع زوج
مسلم، فإنَّ هذا الزوج يحترم ديانتها، وإن كان يختلف عنها في امتداد هذه الدّيانة.
لا يمكن أن يسبّ نبيَّها ولا الكتاب، بينما لو فرضنا أنَّ مسلمة تزوَّجت نصرانيّاً
أو توراتيّاً، فهو لا يعتقد أنَّ النبيّ محمّداً نبيّ مرسَل من الله، وحتَّى لو
أراد أن يعظِّمه، فإنَّه قد يعتبره مصلحاً اجتماعيّاً لا أكثر، ولا يعتبر أنَّ
القرآن كلام الله ووحيه. نعم، قد يحترم القرآن باعتباره كتاباً بليغاً وأدبيّاً
وعظيماً، لكن ليس باعتبار أنَّه كلام الله.
ولذلك، فالنَّصرانيّ لا يجد مشكلةً في أن يسبّ القرآن أو النّبيّ في حالة الغضب،
باعتبار أنّه يعتبر القرآن كتاباً عاديّاً كبقيَّة الكتب، ويعتبر النّبيّ شخصاً
كبقيَّة الأشخاص، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى اليهوديّ لو تزوّج مسلمةً. لذلك، المسلم
يحتوي الكتاب كلّه، ويحتوي الرّسل كلّهم، ويحترم كلّ المقدَّسات الأساسيّة في
الديانات، بينما غير المسلم لا يحترم ذلك.
وهذا الّذي ربما يكون الأساس في أنّه يجوز للمسلم أن يتزوَّج من الكتابيّة في أكثر
فتاوى العلماء، ولا يجوز للكتابيّ أن يتزوَّج من المسلمة، لأنها لا تستطيع أن تضمن
احترام دينها في الخطّ العامّ، فلربما يحترم دينها بشكل شخصيّ، لكنّه لا يحترمه على
أساس مقدَّس.
إذاً، الكتاب عندنا يمثّل الخطوط العامّة للتشريع وللمنهج الّذي يراد للإنسان أن
يعتبره منهجه في الحياة.
المراد من الحكمة
فما المراد من الحكمة إذاً؟
الحكمة تمثّل المنهج التطبيقي للخطّ العام، فالله سبحانه وتعالى يعطينا الفكرة
العامّة الأخلاقيّة؛ يعطينا فكرة الصّدق، العفّة، الأمانة... هذه الأفكار العامّة
في التشريع، أو المفاهيم الإسلاميّة العامّة، أمّا الحكمة، فهي حركة تطبيق هذه
المفاهيم في الواقع.
في كثيرٍ من الحالات، يمكن أن يكون عمل واحد مباحاً في وقت، وحراماً في وقت آخر.
مثلاً، إذا كان عندنا يتيم، فقد نضرب هذا اليتيم أحياناً، ويكون الضّرب واجباً إذا
توقّفت تربيته عليه، أمّا عندما لا تتوقَّف التّربية عليه، ويكون من باب التشفّي
والانتقام، فيكون حراماً.
مثل آخر، كلمة الصّدق، قد تكون في حالة نافعة للمجتمع، فتكون واجبة، وقد تكون في
حالة ضارّة للمجتمع، فتكون محرَّمة، ففي الحالات التي يثبّت الصّدق قواعد الحقّ،
ومواقع القوّة للمجتمع، تكون واجبة، ولكن عندما يتضمّن الصّدق بعض المعلومات وبعض
الأفكار الحقيقيّة التي يستفيد منها العدوّ، بحيث تساعده ليتعرّف إلى أسرارنا
الاقتصادية أو السياسية الأمنيّة، فإنّه يكون حراماً. لماذا؟ باعتبار أنَّ الله
أراد الصّدق من أجل منفعة البشريّة، فإذا تحوَّل الصّدق إلى ضرر، فإنّه يحرم حينئذٍ.
وهكذا الأمر في مسألة الكذب، فهو حرام، ولكنّه قد يكون واجباً في بعض الحالات.
الكلمة قد تكون مباحة في بعض الحالات، وقد لا تكون كذلك في حالات أخرى. فالكلمة
التي نتكلّمها، ربما تثير في بعض الحالات فتنة، وفي حالات أخرى قد لا تثير شيئاً
كليّاً.
في الحالات التي يكون المجتمع ملتهباً بالعصبيات العائلية أو الحزبية أو الطائفية
وما إلى ذلك، ربما تؤدّي الكلمة التي يتكلّم بها الإنسان وهو على غفلة، إلى إشعال
الفتنة والحرب.
لذلك، وإن كانت الكلمة عادية، فإنّه يحرم أن يقولها الإنسان إذا لم تكن في موقعها.
فإذا كانت الحكمة هي وضع الشّيء في موضعه، فإنّ عليه أن يقول الكلمة في الجوّ الذي
يكون مناسباً لها، كما عندما ننتقل إلى بيت جديد ونضع كلّ شيء في محلّه. الآن مثلاً،
إذا كان لدينا مجوهرات أو تحف فنيّة، فهل نضعها في المطبخ، ونضع الطناجر في غرفة
الصّالون؟! ليس ممكناً أن نقوم بذلك، باعتبار أنَّ كلّ شيء له مكانه؛ فالمطبخ نضع
فيه كلّ الأدوات التي تتناسب مع دور المطبخ في عمليّة التغذية، وغرفة الصّالون نضع
فيها التحف التي يمكن أن نظهرها أمام الناس، والمجوهرات نضعها في الخزانة وليس أمام
الناس... وهكذا. وكما الفرق، مثلاً، بين أن ندخل بيت فلانة، فنجده منظّماً، وكلّ
شيء في محلّه، وأن ندخل إلى بيت واحدة أخرى، فنرى كلّ شيء مخرّباً وليس هناك من
تنظيم، فإنّ الكلام نفسه يقال عن الكلمة، ففي بعض الحالات، ربما تخرّب الكلمة بيتاً،
وربما تشعل حرباً، أو تخلق فتنة، أو تثير حساسيات. ولهذا، على الإنسان دائماً،
عندما يريد أن يتكلّم، أن يفهم محلّ الكلمة. عندما نتحدَّث مع بعضنا البعض، ألا
نقول عندما نعاتب بعضنا بعضاً: يا فلانة، الكلمة التي تحدّثت بها ما كانت في محلّها؟!
بينما نقول إنّ الكلمة الّتي تحدّثت بها فلانة كانت في محلّها، لأنّ الجوّ مناسب
لها.
الكلام ليس عبثاً، وليس تسلية نتسلّى بها؛ الكلام إنما يراد له أن يعبّر عن القضايا
التي يمكن أن تحقّق لنا الخير في حياتنا، والّتي تبعد عنّا الشرّ.
لهذا، نلاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى عندما ركّز على الكلمة، ركّز على القول بالتي
هي أحسن: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، {وَقُولُواْ
لِلنَّاسِ حُسْناً}. قولوا للناس الكلام الطيّب الحسن الذي تحبّون أن يقال لكم.
كيف يعرّف علماء اللّغة العربيّة البلاغة في الكلام؟ ما هي؟
يقولون إنّها مطابقة الكلام لمقتضى الحال، بحيث ندرس ما هو مقتضى الحال، ماذا تحتاج
طبيعة الجوّ وطبيعة الشخص وطبيعة الواقع، ندرس كلّ المقتضيات، ونجيب بالكلمات
المطابقة لمقتضى الحال. قد يتكلّم الشخص مع آخر كلمةً لا يتحمّلها عقله، بينما
يتكلّم مع شخص آخر عقله أكبر، فيقول له كلمة يتحمّلها عقله.
ليس من الحكمة أن نتحدَّث مع الصغار كما نتحدَّث مع الكبار، ولذا يقال إنَّ من أصعب
الاختصاصات اختصاص التعليم أو التربية في صفوف الرّوضة.
قد يكون من السهل أن يصبح الإنسان أستاذاً ثانوياً أو أستاذاً للمرحلة المتوسطة،
لكن مسألة أن يصبح أستاذ روضة أو أن تصبح معلّمة روضة، من أصعب المهام، باعتبار
أنَّ ذهنية الطفل محدودة، وقاموس الطفل من الكلمات محدود.. أمّا الكبير، فيختلف
الوضع عنده، ولديه قاموس بالكثير من الكلمات، فإذا لم يفهم بهذه الطريقة، فإنّه
يفهم بطريقة ثانية وثالثة، فالفرص أمامه واسعة، بينما الذي عمره سنتان أو ثلاث
سنوات أو أربع، يكون لديه عدد محدود من الكلمات؛ 50 كلمة أو 100 كلمة، وأريد أن
أدخل له أفكاراً جديدة، ولذلك تعتبر تربية الأطفال وتثقيفهم أكثر صعوبة من تربية
الكبار.
ولذا، نحتاج في التربية الحديثة - وقد اعتمدت التربية على وسائل حسيّة للإيضاح - أن
نقدّم للطّفل الصورة، فإذا أردنا أن نعرِّفه ما هو الذئب، نأتي بصورة له، أردنا أن
نتحدَّث عن السيارة، نأتي بصورةٍ للسيارة أمامه، بينما الكبير نعطيه الفكرة
ونتحدَّث من دون وسائل إيضاح. وهكذا في كلّ المجالات، وما أكثرها!
في البيت، وفي الكثير من المواقف بين الزَّوج والزَّوجة، بين الأولاد وآبائهم
وأمَّهاتهم، على الزوجة أن تتحلَّى ببلاغةٍ في الكلام وحكمةٍ في الموقف، وكذلك
الزوج.
بعض الكلمات التي تتحدّث بها الزوجة، وخصوصاً التي تتصل بحساسيّات زوجها وعصبياته
الذاتية أو العائلية، يمكن لها أن تثير الزّوج، وأن تحوِّل البيت إلى جحيمٍ لا
يطاق، وقد تهدّم البيت. والزوج أيضاً، ربما يتكلَّم بما يثير حساسيّة زوجته
وعصبيَّتها، فيخرّب البيت. لهذا، على الإنسان أن يكون حكيماً، وأن يضع الشّيء في
موضعه.
الزوج في بعض الحالات يأت إلى البيت غضبان، فلا يتحمَّل كلمة، ولا يطيق أن تذكر
أمامه بعض الأشياء، ومن المفروض في هذه الحال، أن نتركه ونتحدَّث بالكلمات التي
تلطّف الجوّ وتهدّئ أعصابه، وقد يحتاج إلى شعور بالحنان والعاطفة. وهكذا المرأة في
البيت، قد تعيش حالات صحيّة صعبة، أو حالات نفسيّة أو جسديّة صعبة، أو ما إلى ذلك،
وعلى الزّوج أيضاً أن يكون حكيماً في الحديث معها، فقد لا يكون من المصلحة أن يثير
أمامها، مثلاً، سلبية موجودة في البيت، أو أشياء سلبية في علاقتها بأهله أو أهلها،
فقد لا يكون الوقت مناسباً لمثل هذا الكلام، ولذا فإنَّ الكلام الشعبي الّذي يقال:
"مش قادر اسمع شي، بعدين بحكي"... هذه هي الحكمة في هذه الحال.
الحكمة تعني أن يفكّر الإنسان في الجوِّ الذي هو فيه، وفي تأثير الكلمة التي
يتكلَّمها، أو في تأثير العمل الذي يعمله في الطّرف الآخر، سلباً أو إيجاباً. هذا
هو الإنسان الحكيم، الّذي يدرس الأمور من خلال طبيعتها، وهذا الأمر أيضاً لا يقتصر
على العمل الفرديّ، بل حتى بالنِّسبة إلى العمل الاجتماعي، الآن ربما يكون هناك بلد
يخضع لتوتّرات مذهبيّة؛ سنّة وشيعة، لتوتّرات سياسية، كما عندما كان عندنا حزب
وحركة أو حزب وحزب، أو لتوترات طائفية؛ إسلاميّة مسيحيّة... في حالات كهذه، ليس من
المصلحة أن نثير الأحاديث في الجوّ العام بالطريقة التي تثير الحساسيّات
والعصبيّات. بالعكس، فعندما يهمّنا سلام مجتمعنا، نحاول أينما كنَّا؛ في الخطابات
العامَّة، في الأسابيع، في الحفلات أو السّهرات... أن لا نثير الكلمات التي تؤدّي
إلى توتّر الأعصاب وتثير الحساسيّات وتؤدّي إلى الأحقاد.
متى نقول كلمة الحقّ؟!
بعض الناس يقول: سنتكلّم كلمة الحقّ وليحدث ما يحدث. لا، نحن علينا أن نتكلّم بكلمة
الحقّ لنثبّت الحقّ، أمّا أن نتكلّم بالحقّ ليستفيد منه أهل الباطل، فما الّذي نكون
قد استفدناه من ذلك؟
متى نتحدّث بكلمة الحقّ؟ نتحدّث بكلمة الحقّ عندما تؤدّي إلى أن تتغيّر أفكار بعض
الناس، تؤدّي إلى أن تصحّح بعض المعلومات، تهدّئ بعض الأجواء... أمّا إذا رأيت أنَّ
هذا الحقّ الذي أقوله سوف يؤدّي إلى باطل، فليس عليَّ أن أقوله الآن، بل أنتظر إلى
وقت آخر، أنتظر الوقت الذي تكون كلمة الحقّ في جوّ يمكن أن يؤدّي إلى قوَّة الحقّ.
في بعض الحالات، قد تهدِّم الكلمة وضعاً سياسيّاً. مثلاً الآن في أجواء الفتن، يمكن
للعدوّ في بعض الحالات أن يستفيد منها. الآن، قد يثير بعض النَّاس في مناطق
المقاومة، سواء في البقاع الغربي أو في جبل عامل، بعض الكلمات، ربما بنيّة طيّبة،
عندما يتألمون من بعض ردود فعل إسرائيل على المقاومة، فيتحدثون عن المقاومة أو ما
أشبه ذلك، ليس بغضاً بالمقاومة، ولكن تألماً لما هم فيه. ولكنّ هذا لا يُتَحدَّث به
في الهواء الطلق، لأنّ إسرائيل هي الّتي ستستفيد منه، وسيستفيد منه كلّ أعداء
المقاومة. مع من نتحدّث هذا الكلام؟ نتحدَّث مع الناس المسؤولين عن المقاومة، نقول
لهم يا جماعة، يمكن هذه العمليَّة في هذا الوقت ليست فيها مصلحة، عندنا وجهة نظر قد
تكون صحيحة أو لا. هذا لا يُتكلَّم عنه في الهواء الطلق، باعتبار أنَّ العدوَّ
يستفيد من هذا الجوّ.
لذلك، قبل أن نتكلَّم الكلام، أو نقوم بعمل، لا بدَّ من أن ندرس الجوَّ والأرضيَّة
والنّاس والخطوط الموجودة عندنا، حتّى نطلق الكلمة في المكان المناسب، أو عندما
نريد أن نتحرّك بحركة أو أن نعمل عملاً ما، أن نفكّر من الأساس كيف نتصرّف، وماذا
نفعل.
أهميّة التّجربة
والثقافة وحدها الآن لا تكفي، نحتاج إلى ثقافة في الخطوط العامَّة، ونحتاج إلى حسّ
اجتماعي وحسّ سياسيّ. هناك فرق بين عالم الإحساس وعالم الثَّقافة، الثقافة تعطي
فكرة. الفرق بينهما مثل الفرق بين الإنسان الّذي يقرأ كتاباً يتحدّث عن عطر الورد
وعن جمال الطبيعة، وبين الإنسان الّذي يشمّ الورد ويسرح نظره في الطبيعة.
في كثير من الحالات، يمكن للشخص أن يقرأ ألف قصيدة في التغزّل بجمال الطبيعة، أن
يقرأ ألف صفحة في الحديث عن عطر الورد وجمال الورد، ولكنَّه لا يفهم الورد وعطر
الورد، ولا يفهم الجمال في الطّبيعة كما لو شاهده وأحسَّ به، كما لو شمّ الورد
وأحسّ به.
بعض النّاس عندهم إحساس بالمجتمع، وهم بإحساسهم يعرفون إذا ما كان الوضع الاجتماعيّ
يساعد على هذه الكلمة أو لا يساعد، يعرفون بإحساسهم إذا ما كانت المصلحة تقتضي
الذهاب إلى فلان أو لا، هل من المصلحة أن نستقبل فلاناً الذي نختلف معه أو ليس هناك
مصلحة في استقباله؟! وهكذا، هل هناك مصلحة أن نحارب أو أن نسالم؟!... أن يكون عندنا
حسّ اجتماعيّ، بحيث تمتصّ مشاعرنا الواقع الذي نعيشه، لنفهم بالإحساس أكثر مما نفهم
بالفكرة.
وهذه المسألة تحصل من خلال التأمّل في الواقع، بأن نعيش دوماً الواقع، ونحاول أن
ندقّق فيه ونفهمه، وأن ندرس تفاصيل تجارب الناس وتجاربنا في هذه المسألة.
غالباً ما نقول "أكبر منك بشهر أعرف منك بدهر"، "اسأل مجرّباً ولا تسأل حكيماً".
لماذا نقول ذلك؟ لأنَّ الّذي يكبرك بشهر، يكون قد شاهد الأشياء قبل أن تشاهدها
مثلاً، ولو بمقدار شهر، فصار عنده معرفة وإحساس أكثر منك. بينما لو كانت قضيّة
ثقافة، فيمكن أن يكون شخص خلق قبلنا، ولكن نحن درسنا أكثر ممّا درس. المقصود في هذا
الجانب، أن يعيش الإنسان امتصاص الواقع.
والكثير من النّاس قد يجرّبون، ولكنّهم لا يدرسون تجربتهم، يشاهدون تجارب الآخرين،
ولكنّهم لا يدرسونها، عندما يتطلّعون إلى الأشياء، لا يتطلّعون إليها باعتبار أنّ
النظرة تتركّز على أساس دراسة، لذلك نلاحظ بعض النّاس قد يكونون مثقّفين، ولكنّهم
لا يعرفون تدبير أمورهم، عندهم مكتبة في عقلهم، ولكن ليس عندهم إحساس في وجدانهم،
ولا عندهم وعي في مشاعرهم وفي أحاسيسهم.
ليس المهمّ فقط أن نشحن عقولنا بالنظريّات الاجتماعيّة أو السياسيّة، المهمّ أن
نشحن مشاعرنا بالإحساس بالمسألة الاجتماعيّة وبالمسألة السياسيّة، بحيث عندما نعيش
في المجتمع، يكون بإمكاننا أن نفهم طبيعة المجتمع بالإحساس. وهذا أمر يحتاج الإنسان
أن يتعلَّمه في مدرسة الحياة، لأنَّ قصَّة أنّ الإنسان يتعلّم من الحياة ومن
النَّاس الذين يعيش معهم يومياً، ربما تعطيه ارتفاعاً في مستوى الوعي أكثر مما لو
تخرَّج من الجامعة.
صحيح أنَّ الجامعة تهيِّئ للإنسان أن يفجِّر طاقاته بشكل منفتح، ولكنَّه عندما يصبح
تلميذ الحياة، عندما يعيش مع النَّاس الآخرين، فإنّه قد يتلمَّذ على أيدي هؤلاء،
إنّ الإنسان في بعض الحالات قد يجلس مع طفل عمره خمس سنوات أو سبع سنوات، ويلتقط
منه بعض الأفكار التي لا تطرأ بذهنه.
شيء واحد ينبغي أن نتبعد عنه، وهو أن نفكّر على طريقة بعض النَّاس: أنا عندي عقل،
أنا أعلّم الناس ولا أحد يعلّمني، أنا أفكّر للناس ولا أحد يفكّر لي، أنا لديّ عقل
أوزّعه على كلّ الناس، أنا غير مستعدّ أبداً عندما أريد شيئاً أن أقتنع بأيّ شيء
آخر، أو أن أفكِّر معكم، ولست مستعدّاً أن أسمع أو أن أرى.
هذا معناه أنّ هذا الإنسان مهما ملك من ثقافة، فقد بدأ بالخطّ التراجعي. لكن أن
يفكّر الإنسان، أنّه كلّما انطلق في أيّ موقع من مواقع المعرفة، أنَّ هناك من يعرف
ما لا يعرفه.. أنا أعرف ما لا يعرفه بعض الناس، ولكنّ بعض الناس يعرفون ما لا
أعرفه.
عندما يسخر المهندس من البنّاء الّذي مضى على عمله عشرون عاماً مثلاً، فإنّه يكون
جاهلاً وليس مهندساً، لأنّ دروس الهندسة التي تعلَّمها ودرسها، إنّما كانت من ناس
جرّبوا مثل هذا العمّار، هذا العمّار يمكن أن يفهم بالهندسة ويصحّح للمهندس،
باعتبار عنده تجربة وذاك عنده ثقافة.
الاستفادة من تجارب السابقين
لذلك أقول، إنَّ الجيل الجديد عليه أن يتعلَّم من الجيل القديم، أن يتعلَّم من
تجربته وحكمته. قد تكون هناك فتاة أمّها عمرها خمسون سنة أميّة، لا تعرف كيف تفكّ
الحرف، ولكن عليها أن لا تقول إنَّ أمّي أميّة وليست مثقَّفة، وأنا طالبة جامعيَّة
تخرّجت من الجامعة، وأمّي لا تستطيع أن تعطيني شيئاً لأنها لم تدرس ولا تفهم
شيئاً... هذا خطأ، فالأمّ الّتي قضت خمسين عاماً من عمرها، ولم تقرأ في كتاب
المدرسة والجامعة، إلّا أنَّها قرأت في كتاب الحياة الكبير، وقعت في مشاكل كثيرة
وحلّتها، عاشت أزمات كثيرة وخرجت منها.
لذلك، علينا أن لا نستهين بتجارب الّذين تقدَّمونا. أنا لا أقول إنَّ كلَّ نظريّات
الناس المتقدّمين في السنّ عندنا صائبة، قد يكونون مخطئين حتى في تجاربهم، لكن أقول
إنَّ علينا أن لا نستهين بتجاربهم، أن ندرسها، لأنّه في كثير من الحالات، قد توفّر
علينا التجربة التي عاشتها الأمّ أو الأب، أو ذاك الإنسان، أخطاء حياتيّة كثيرة،
وتساعدنا في حلّ مشاكل نفسيّة كثيرة.
لهذا، نحن نرى أنّ كثيراً من الأمّهات الأميّات اللاتي لم يقرأن أيّ درس في تربية
الأطفال، قد يكنّ من الأمّهات اللاتي يعرفن أصول التّربية أكثر من المتخرّجات من
كليّة التربية، على أساس أنّهن تعلّمن أصول التربية من خلال التجربة، أخذت الواحدة
منهنّ تجربة أمّها وعاشت هي التّجربة، أخطأت وصحّحت وما إلى ذلك.
لذلك، هي أخذت نظريات التربية من خلال تجربتها. هذه هي الحكمة، والله يقول: {يُؤتِي
الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ – أي هذه القابلية لفهم الواقع والحركة في خطّ الواقع -
وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}، أي أوتي درجةً من
الوعي التي يستطيع من خلالها أن يحقّق الكثير من الخير في نفسه وفي حياة الآخرين.
الشّكر لله حكمة
إنَّ الله سبحانه وتعالى عندما يتحدّث عن لقمان الحكيم، يقول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا
لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. ما هي هذه الحكمة؟ هي
حركة الإنسان في الحياة مع الله سبحانه وتعالى. الشّكر لله هو مقتضى الحكمة، لأنَّ
لله حقّاً علينا، لأنَّه أوجدنا ورزقنا وفتح لنا أبواب الحياة في كلّ مجالاتها.
لذلك، الشّكر لله هو حركة إنسانيّة تصادف محلّها، لأنّ الله هو الأكثر إحساناً
علينا في كلّ أمورنا، كما أن الشكر لله يحقِّق لنا نتائج في الدنيا والآخرة، لأنّ
الله يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}، {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، لا يحتاج إلى
أحد.
لاحظوا أنّ الحكمة نفسها كانت أن يشكر الإنسان ربَّه، باعتبار أنّ شكره لربّه هو
عمل يصادف موقعه، وفي الوقت نفسه، هو عمل يؤدِّي إلى النتائج الإيجابيّة على مستوى
الدنيا وعلى مستوى الآخرة.
وهكذا، ينبغي أن يفكّر الإنسان في حركته العمليّة في الحياة، في النتائج الإيجابيّة
التي تحدث من عمله تجاهه وتجاه الآخرين، أو النتائج السلبية التي تحدث من عمله تجاه
نفسه وتجاه الآخرين.
التّوازن بين الفكر والعمل
الحكمة هي هذا النّوع من التوازن بين العمل والنتائج، بين الكلمة والنتائج. ومن
خلال ذلك، نحتاج حتى نكون حكماء أوّلاً، إلى المزيد من الصَّبر الذي يجعلنا نمسك
مشاعرنا وأحاسيسنا وكلماتنا وحركاتنا عن أن تندفع في خطّ الانفعال بالطريقة التي لا
نستطيع أن نضمن فيها حكمة التصرّف، ثم نحتاج دقّة الملاحظة، وحركة الوعي التي
تجعلنا نفهم حركة الواقع من حولنا، إلى جانب حركة الفكر في مبادئنا.
هذا النوع من التوازن بين حركة الخطوط الفكريّة في العقل وحركة الخطوط العمليّة في
الواقع، إذا استطعنا أن نربط فيما بينها، ونجعل هناك تكاملاً فيما بينها، عند ذلك،
نكون العلماء الحكماء، وإذا لم نستطع ذلك، فنكون من قبيل العالم الذي لا يعرف أن
يدير علمه في حركة حياته وحياة الآخرين، والمثقَّف الّذي لا يستطيع أن يدير ثقافته
في حياته وحياة الآخرين: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً
كَثِيراً}.
* محاضرة ألقاها سماحته في مسجد بئر العبد، بتاريخ: 4 -12 -1992.