إنّ الحاجة إلى الدّعم النفسي هي ضرورة لجميع المراحل؛ مرحلة الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة والشيخوخة. فطالما أنّ الإنسان في حالة حياةٍ وتجارب، فسيكون بحاجة إلى دعم، ولكنَّ أسلوب هذا الدعم يختلف من مرحلةٍ إلى مرحلة.
بدايةً، أوجِّه الموضوع أو الحديث إلى المحيطين بالمسنّ، لأقول لهم إنَّ الشيخوخة ليست عارضاً أو مرضاً أو حالة نفسيّة أو مرضيّة أو اجتماعيّة، نحن جميعنا مسنّون مع وقف التّنفيذ، نحن سائرون وصائرون إلى الشيخوخة.
هذه المرحلة لها مواصفاتها الخاصَّة نتيجة الضعف، ونتيجة الخوف والقلق مما هو أصعب من ذلك، فكلّما تقدّم العمر بالمسنّ، شعر بالخوف والقلق أكثر، وبالضّعف أكثر...
هذه المكوّنات كلّها توحي بالتّشاؤم، فمن أجل ذلك، يقتضي على المحيطين بالمسنّ؛ الأولاد والإخوة والأخوات والمجتمع، أن يعطوا هذا المسنّ تعويضاً عن هذا الضّعف وعن هذا الشّعور بالإحباط الذي يعتريه.
ما هو هذا التّعويض؟
إنّه الحبّ، العطف، التّقدير، والرّعاية، ولا يجب أن يشعر هذا المسنّ بأنّه مريض ومهمل.
عندما قدَّمْتُ لسماحة السيّد(رض) كتاباً عن المسنّين، أشاد باختيار الموضوع حتّى قبل أن يفتحه، لأنَّ موضوع المسنّين لم يلق حتى تاريخه العناية اللازمة، فحتى المثقّفون ـ بكلّ أسف ـ إذا ما تحدّثوا عن الشيخوخة أو عن المسنّين، يتحدّثون عن شريحة من الناس هي أشبه بشريحة المعوَّقين أو المرضى، والواقع ليس كذلك.
وقلت وأكرِّر، نحن جميعاً مسنّون مع وقف التّنفيذ.
إذاً، هذا الدَّعم هو حقّ لهم. إضافةً إلى ذلك، هذه الخبرة التراكميّة الموجودة عندهم، من تجارب العمر والاختبارات، ومنها ما نجح، ومنها ما أخفق، يجب أن يستثمرها الأبناء والأجيال القادمة.
بكلّ أسف، نحن أمام أمرين خطيرين نحذِّر منهما، وهما: النّظر إلى المسنّ على أنّه حالة مرضيَّة، والأمر ليس كذلك، بل هي مرحلة عمريَّة، والأمر الثاني، النّظرة التي تعتري شبابنا اليوم، وهي النَّظر إلى كلِّ ما هو قديم على أنَّه ـ بين قوسين ـ "دقَّة قديمة أو موضة باطلة أو عملة باطلة".
الواقع ليس كذلك. أناشدهم بكتاب الله والأخلاق وبالمجتمع والوطنيّة، أن لا يتعاملوا مع كلّ ما هو قديم بهذه العقليّة. أوروبَّا عندما نهضت لم تلغ القديم، أبقت على الأدب اللاتيني وعلى العمارة كذخيرة لتنطلق من خلالهما من جديد.
نحن لا ندعو الشّباب إلى العودة إلى الوراء، وأن يتركوا التّكنولوجيا أبداً، ولكن نحذِّر من إلغاء القديم، لأنَّ هذا الإلغاء قد يشمل الأخلاق والقيم والاجتماعيَّات والدّين، وهذا ما بدأنا نشهده اليوم في منازلنا جميعاً، هذا ما نحذِّر منه وما نرجو استثماره من المسنّين.
أمَّا لماذا تغيَّرت النَّظرة إلى المسنّ، فإنَّ الأمر مرتبط بالعولمة، فبعد أن زيِّن لنا الكثير من مباهجها ومن إيجابيَّاتها، ومن أنها ستدخلنا جنَّة الفردوس، ثبت لنا أنَّ فيها من المخاطر ما يشيب له رأس الغلام.
من هذه المخاطر الّتي حملتها العولمة أو النّظام العالميّ الجديد، النَّظرة إلى الأسرة، إذ لم تعد أسرتنا التي كنَّا نحسد من قبل الغربيِّين عليها، كما كانت عليه من قبل، فنحن اليوم نخسر هذه الأسرة، ولم نعد نلتفت إلى المسنّين، فالقول الذي كان يقال في الماضي يقال اليوم عكسه، كان يقال إنَّ الكبار هم ذخيرة وبركة، هم الخير والعطاء، أصبح يُنظَر إليهم اليوم على أنهم عملة بطل التَّداول بها، وهذا أمر مخيف.
يجب الالتفات إلى نوادٍ، وينبغي أن لا نقول المصحَّات أو دار العجزة أو دار المسنّين، لأنّه مهما جمِّلت هذه الأسماء، فهي تترك أثراً كبيراً في نفس المسنّ... وقد ثبت أنها تترك في نفوس المسنّين آلاماً مبرِّحة، بحيث يغادرون هذه الحياة، وجراحات هذه الحالة ترافقهم حتَّى الموت.
في أوروبَّا، المعروف أنَّه أصبح أمراً عاديّاً أنَّ الأب والأمَّ عندما يصيران في عمر معيَّن، أن يرسلهما أولادهما إلى دار المسنّين، حيث يقدَّم للمسنّين كلّ ما يريدون وأكثر، من المأكل والمشرب والعلاج الطبي والرّحلات، وأكثر مما يريدون.
ولكنّ علماء النفس قدَّموا دراسة على هذه الفئة من النَّاس، ووجدوا أنّ الأكثريّة العظمى منهم مصابون بالخواء النفسي (يائسون، حزينون، مقهورون، باكون). قالوا نحن عملنا كلّ ذلك لإسعاد هذه الشَّريحة، فما الذي يحدث؟ اتّضح عند علماء النفس أنَّ الحياة الأسريَّة لا بديل لها.
فما كانوا إلّا أن قدَّموا عرضاً للعائلات بتبنّي المسنّ، على أن يقدَّم للعائلة المتبنّية ألف دولار مثلاً أو ألف يورو، ووزِّع قسم من هؤلاء نزلاء على العائلات، وأجري بعد ذلك اختبار آخر، فوجِد أنَّ منسوب التّفاؤل ارتفع إلى حدٍّ بعيدٍ فيما يخصّ المسنّ الذي ليس لديه ولد. أمَّا المسنّ الذي وضع مع عائلته، فقد دعمت الدّولة عائلته لقاء خدمته في أسرته، فارتفعت أيضاً نسبة التَّفاؤل.
هذا يذكِّرنا بآيات القرآن الكريم، وهي كثيرة جدّاً، ومنها قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَان}، وقوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِير}...
إنّها دفق من الآيات الرائعات التي توصي بالمسنّين.
إذاً، احتضان المسنّ في بيته ورعايته أمر مهمّ، وهذا لا يحجب دور الدّولة أيضاً، حيث إنّ هناك حالات لا يمكن احتواؤها في الأسر.
*باحث اجتماعي. مقابلة له مع موقع بيّنات.